المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : دردشات سياسية حول الطائرة الروسية وهجمات باريس واجتماع فيينا



عبد الواحد جعفر
18-11-2015, 10:09 AM
بسم الله الرحمن الرحيم

دردشات سياسية
أولاً: هجمات باريس
قبل أن تبدأ التحقيقات الجنائية اتهم الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند تنظيم الدولة الإسلامية بالوقوف وراء سلسلة الهجمات. وقال هولاند إن "ما حصل هو عمل حربي.. ارتكبته داعش ودُبِّر من الخارج بتواطؤ داخلي، على التحقيق إثبات ذلك".
ولم يكد فرنسوا هولاند ينتهي من اتهامه تنظيم "داعش" بتنفيذ الهجمات، حتى خرج التنظيم بعد ساعات قليلة من ذلك ليعلن تبنيه لتلك الهجمات في بيان حمل عنوان "غزوة باريس المباركة".
وقد ربط التنظيم الهجمات بمشاركة فرنسا في الحملة العسكرية على مواقعه في سوريا والعراق، وبررها بقوله: "إن هجماتنا في باريس ما هي إلا ردٌّ على حملة فرنسا على مقاتلينا وسب الرسول محمد". وفي الختام توعد التنظيم فرنسا بالمزيد من الهجمات لأنها على "رأس قائمة أهدافه".
وبسرعة شديدة تداعى حكام وزعماء العالم إلى إدانة هذه الهجمات والإعراب عن تضامنهم مع فرنسا والرئيس هولاند.
إن التوقيت المشبوه لهجمات باريس عشية اجتماع فيينا لبحث الأزمة السورية قد وجه نقاشات المجتمعين في اتجاه جعل أولوية "الحرب على الإرهاب" تسبق البحث في أي شيء آخر، وهو يخدم ما تسعى إليه روسيا فيما تتخذه مبرراً في دعمها الظاهر لنظام بشار، ويحشد الموقف الشعبي الأوروبي خلف زعماء أوروبا في تدخلهم بقوة في المنطقة الإسلامية لمحاربة "الإرهاب" الذي أخذ يضرب في عقر دارهم. وتحقيقُ ما تسعى إليه السياسة الروسية من إظهار مصداقية ما تتذرع به هو عينُ ما تطلبه سياسة واشنطن في مضيها لتنفيذ مشروعها في منطقتنا، الذي يتطلب تسخير قوى دول أوروبا وروسيا بدعوى (تنسيق الجهود لمكافحة الإرهاب) للمساعدة في الإمعان بإضعاف الأمة الإسلامية من خلال زيادة تفكيكها وتمزيقها وإنهاك طاقاتها البشرية والمادية، فضلاً عن إبعادها عن مصدر قوتها المتمثل في عقيدتها الإسلامية. ومن هنا جاء تصريح وزير الخارجية الفرنسي لوران فابيوس موافقاً لما تحدث به كيري ولافروف، والذي دعا فيه إلى "تنسيق المكافحة الدولية للإرهاب"، مضيفاً أنه "من الضروري أكثر من أي وقت مضى في الظروف التي نعيشها تنسيق المكافحة الدولية للإرهاب".
إنه من الواضح أن طبيعة الهجمات وتوقيتها سوف تكون لها تداعيات على السياسة الخارجية الفرنسية المتماهية مع المخططات الأميركية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وبقية القضايا الدولية. كما أنها سوف ترفع من أمام الحكومة الفرنسية كل الموانع القانونية وضغط جمعيات "حقوق الإنسان" فيما يتعلق بسياسة الهجرة والتعاطي مع شؤون المسلمين المقيمين في فرنسا.
وعليه فقد وفَّرت هجمات باريس الأخيرة مزيداً من الدعم والتبرير لسياسة فرنسا الخارجية من أجل الإنخراط في الأعمال العسكرية التي تخطط لها أميركا في الشرق الأوسط وإفريقيا.
ومن المعلوم أن فرنسا تشارك في التحالف الدولي ضد تنظيم داعش في العراق منذ أيلول/سبتمبر 2014، وقد بدأت منذ شهر فقط في شن غارات جوية على مواقعه في سوريا. فما تريده أميركا من فرنسا وبقية الدول الأوروبية الكبرى هو المزيد من الإنغماس في أتون الحروب التي تشنها أميركا ضد المسلمين، وبخاصة بعد أن توفر لديهم الدعم السياسي والشعبي للقيام بذلك جرّاء أحداث كهجمات باريس الأخيرة.
فبعد يوم واحد من هجمات باريس صرَّح رئيس الوزراء الفرنسي مانويل فالس قائلاً: "نحن في حرب، سنتحرك ونضرب هذا العدو" الجهادي "من أجل تدميره"، ولفت فالس إلى أن "هذه الحرب تخاض على التراب الوطني وفي سوريا".
وبالفعل قام الطيران الفرنسي يوم 15 تشرين ثاني/نوفمبر بقصف كثيف على مدينة الرقة. وذكرت قناة فرانس 24 أن طائرات حربية فرنسية حلقت مساء السبت 14 تشرين ثاني/نوفمبر في أجواء مدينة سرت. ومن المتوقع أن تسند أميركا لدول حلف الأطلسي وعلى رأسها فرنسا تدخلاً عسكرياً واسعاً قد يشمل تدخلاً برياً وبحرياً في ليبيا بحجة محاربة تمدد تنظيم الدولة في شمال إفريقيا.
إن من تداعيات هجمات باريس هي أنها ستؤثر مباشرة على وضع المسلمين في فرنسا وبقية دول أوروبا، ولن يشفع لهم أن من بين الذين سقطوا في هذه الهجمات عدد كبير منهم. فهذه الهجمات سوف تزيد من مشاعر الكراهية تجاه المسلمين في أوساط شرائح المجتمع الفرنسي الذي تتفشى فيه سلفاً أفكار (الإسلاموفوبيا). وسيكون الرابح السياسي الأكبر من هذه الهجمات داخل المشهد السياسي الفرنسي ليس فقط أقصى اليمين الفرنسي الممثل في حزب "الجبهة الوطنية" برئاسة مارين لوبان، بل أيضا بقية الأحزاب بما في ذلك الحزب الإشتراكي الحاكم والحزب الجمهوري المعارض.
فبمجرد وقوع هجمات باريس بدأت تتعالى الأصوات بالدعوة لطرد المسلمين والعرب واعتبارهم "السبب الرئيسي لكوارث الإرهاب والقتل"، ومن ثم الدعوة إلى "ضرورة مكافحة العدو الداخلي" الذي يتمثل في مسلمي فرنسا. فبعد يوم واحد من هذه الهجمات شدد رئيس الوزراء الفرنسي مانويل فالس في تصريح لقناة "تي أ ف 1" على وجوب "أن نعيش قيمنا. علينا أن نقضي على أعداء الجمهورية ونطرد كل هؤلاء الأئمة المتطرفين، وهو أمر نقوم به، وننتزع الجنسية من أولئك الذين يهزأون بما تمثله الروح الفرنسيةـ وهذا ما نقوم به أيضاً".
إن المشاعر المنتشرة في كره الإسلام والمسلمين لا تقتصر على فرنسا فقط بل تشمل كثيراً من دول الإتحاد الأوروبي. حتى أن فسورن اسبرسن؛ العضو في البرلمان الدنماركي ومقرر الشؤون الخارجية عن حزب الشعب أقر ببرود ضرورة قصف المناطق التي يتواجد فيها تنظيم الدولة حتى لو أدى لقتل نساء وأطفال .
ومن تداعيات هجمات باريس توقع أن يطغى موضوعها على جدول أعمال قمة المناخ المزمع حدوثها في آخر هذا الشهر. وإذا ما حصل ذلك فإنه سوف يكون انتصاراً للدول الصناعية، وعلى رأسها أميركا وفرنسا، في الهروب من أي التزامات فعلية بخفض نسبة الإنبعاث الحراري والتلوث البيئي الناتج عن مصانعها.
إن من الحقائق التي ينبغي الإقرار بها، ان ما جرى من هجمات في باريس يفوق قدرات تنظيم بحجم "تنظيم الدولة"؛ لأن سلسلة تلك الهجمات اختارت التوقيت السياسي المرتبط بالتحركات السياسية والعسكرية في سوريا، واختارت كذلك أهدافها بدقة، وبخاصة مع حضور الرئيس الفرنسي في "ستاد دي فرانس" لمشاهدة مباراة في كرة القدم. وإن مثل هذه الاختيارات لتدل على قدرة عالية في جمع المعلومات الدقيقة، لا يقدر عليها إلا أجهزة استخبارات دولية متمرسة ولها كل الإمكانيات اللوجستية للقيام بهكذا هجمات وتفجيرات في أكبر العواصم الغربية حراسة بالجيش والشرطة وكاميرات المراقبة. فضلاً عن إدراك كبير بشؤون السياسة الدولية ومدى القدرة على الإستفادة من هذه الهجمات في تمرير المخططات الأميركية في مكانها وزمانها.
وإن من الحقائق التي ينبغي تعيين موقف تجاهها هو نجاح أميركا بالفعل في تشويه مفهوم الدولة الإسلامية وتجييش الوعي الجمعي عند شعوب أوروبا وأميركا ضد "خطر الإسلام والمسلمين" على الحضارة الغربية ونمط عيشهم الديمقراطي الرأسمالي. وهذا ما عبر عنه باراك أوباما بالقول أن ما شهدته باريس من هجمات مساء الجمعة "ليست فقط اعتداءات ضد باريس" بل "اعتداء ضد الإنسانية جمعاء وقيمنا العالمية".
وبهذا الشكل تمضي الدول الغربية وفي مقدمتها أميركا وفرنسا وبريطانيا ولحقت بهم روسيا مؤخراً في قتل المسلمين بالجملة نساءً ورجالاً وأطفالاً دون أن تتحرك في شعوب أميركا وأوروبا وروسيا أي أحاسيس بالذنب أو العار مما تفعله حكوماتهم، بعد أن نجحت وسائل الإعلام والتواصل الإجتماعي مع المدارس والجامعات في غسل أدمغة تلك الشعوب وزرع (الإسلاموفوبيا) بينها بشكل لم يسبق له مثيل حتى أيام الحروب الصليبية القديمة.

عبد الواحد جعفر
18-11-2015, 10:10 AM
ثانياً: تداعيات مؤتمر فيينا على حل الأزمة السورية
انتهت اجتماعات فيينا حول الحرب السورية مساء الجمعة 30 تشرين أول/أكتوبر 2015 بالتوقيع على اتفاق يضم تسعة بنود تعتبر محل اجماع بين الأطراف الدولية والإقليمية الحاضرة. وقد ضم الإجتماع الأخير كلاً من الولايات المتحدة وروسيا وبريطانيا والصين وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وإيران والعراق ومصر والأردن ولبنان وعُمان وقطر والسعودية وتركيا والإمارات، بالإضافة إلى الأمم المتحدة، ممثلة بالمبعوث الأممي إلى سورية ستيفان دي ميستورا.
ولعل أهم البنود التي تم الإتفاق عليها في فيينا هي أن: "وحدة سورية واستقلالها وسلامة أراضيها وهويتها العلمانية أمور أساسية"، و"مؤسسات الدولة ستظلّ قائمة"، و"حقوق كل السوريين يجب حمايتها بصرف النظر عن العرق أو الانتماء الديني"، و"ضرورة تسريع كل الجهود الدبلوماسية لإنهاء الحرب"، و"الاتفاق على ضرورة هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وغيرها من الجماعات الإرهابية كما صنفها مجلس الأمن الدولي واتفق عليه المشاركون".
كما تم الإتفاق على أنه و"في إطار العمل ببيان جنيف 2012 وقرار مجلس الأمن الدولي 2118، فإن المشاركين وجّهوا الدعوة للأمم المتحدة إلى جمع ممثلي الحكومة والمعارضة في سورية في عملية سياسية تفضي إلى تشكيل حكومة ذات مصداقية وشاملة وغير طائفية، على أن يعقب تشكيلها وضع دستور جديد وإجراء انتخابات. وينبغي إجراء هذه الانتخابات تحت إشراف الأمم المتحدة بموافقة الحكومة ".
وانتهى بيان فيينا بالقول أن "المشاركين سيعكفون في الأيام المقبلة على تضييق هوّة الخلافات المتبقية والبناء على نقاط الاتفاق. ويجتمع الوزراء خلال أسبوعين لمواصلة هذه المباحثات". وهذا يعني أن هناك اجماعاً على أن الحل في سوريا هو فقط عبر عملية سياسية قوامها تنظيم مرحلة انتقالية بهيئة حكم ذات صلاحيات تنفيذية. ويبقى الخلاف الجوهري الذي يستدعي مواصلة المباحثات ودخول الأمم المتحدة بمبادرة دي ميستورا يتركز حول مشاركة بشار الأسد في هذه المرحلة الإنتقالية ومدة هذه المرحلة، وهل يحق لبشار الأسد أن يترشح في المرحلة اللاحقة؟
وهنا نجد روسيا تصر على أن تمتد المرحلة الإنتقالية حتى انتهاء ولاية بشار في العام 2021 مع حقه في الترشح ثانية، فيما تصر بقية الأطراف على ألا يتجاوز وجوده مدة ستة أشهر في المرحلة الإنتقالية من دون أن يكون له أي دور في المرحلة اللاحقة.
وبسبب هذا التناقض في تحديد ماهية المرحلة الانتقالية المشتركة بين النظام والمعارضة فإنه لا يمكن تطبيق أي حل سياسي متفق عليه بين روسيا وأميركا إلا إذا تغيرت الظروف العسكرية على الأرض لصالح طرف ليقبل بشروط الطرف الآخر.
وهذا هو عينه ما تعمل عليه أميركا وروسيا من توفير أسباب النجاح للحل السياسي وشروط التوافق للجلوس على طاولة المفاوضات بغرض الوصول إلى اتفاق ممكن حول المرحلة الإنتقالية.
لقد عملت أميركا على إدامة الصراع بين النظام وكل أطراف المعارضة لعدة سنوات حتى استطاعت تثبيت التقسيم المذهبي والعِرقي عملياً، ووصلت بمختلف الأطراف إلى قناعة مفادها أن لا سبيل إلى أي حل عسكري حاسم في سوريا. بل إنها أوضحت على لسان وزير خارجيتها خلال زيارته لمدريد منتصف الشهر الماضي أن القوى الداعمة لأطراف النزاع أقرَّت عدم إمكانية الحل العسكري لإنهاء النزاع في سوريا، فقد صرَّح قائلاً إن "الجميع، بمن في ذلك روسيا وإيران، متفقون على أن الحل العسكري غير ممكن في سورية". ونفس المعنى أكده الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال لقائه مع بشار الأسد في موسكو، قائلاً إنه "في نهاية المطاف، فإنّ الحل البعيد للأزمة سيكون على أساس التسوية السياسية بمشاركة جميع القوى ومختلف الأطياف العرقية والدينية".
ومن هنا جاء التدخل العسكري الروسي بالتنسيق مع أميركا من أجل منع سقوط النظام وتعديل موازين قواه على الأرض مع المعارضة. والسير في الحل السياسي باستنبات قوى تمثل المعارضة بعد شل قدرات قوى المعارضة الأخرى التي سبق أن حسمت موقفها بعدم التفاوض بوجود بشار على رأس النظام، أو التي ترفض التفاوض أصلاً وتريد استئصال النظام.
أما الجماعات الإسلامية التي تريد استئصال النظام فقد جاء اتفاق فيينا ليؤكد على "علمانية الدولة" بشكل واضح، حتى يتم وضع الفصائل والتنظيمات الإسلامية أمام خيارين لا ثالث لهما؛ إما إعلان الحرب عليها من قبل دول التحالف إضافة لروسيا، أو تغيير توجهها الفكري والسياسي والإنخراط في العملية السياسية على أساس علمانية الدولة والتبعية للكفار.
وفي هذا السياق قال وزير الخارجية البريطاني، فيليب هاموند، إن الأطراف الدولية المدعوة إلى إجتماع فيينا تعكف حالياً على وضع لائحة بالجماعات "الإرهابية" التي لن يكون لها مقعدٌ على طاولة المفاوضات مع النظام السوري، بل ستكون هدفاً عسكرياً للتحالف الدولي، محذراً من أن بعض الدول قد تضطر إلى التخلي عن دعم حلفائها على الأرض.
إن كل اتفاقات جنيف واتفاق فيينا الأخير، وكذلك مبادرة دي ميستورا، وإشراك أكثر الدول الإقليمية التي لها علاقة بالحرب في سوريا، ارتكزت على سياسة التوافق الأميركي مع روسيا، والتي هي في حقيقتها تسخير أميركي لروسيا بإعطاء أميركا لروسيا دوراً أكبر في الملف السوري. ويكفي الإشارة هنا إلى ما صرَّح به نائب وزير الخارجية الأميركي، توني بلينكن، في مؤتمر حوار المنامة مؤخراً عندما قال: إن "التدخل العسكري الروسي في سورية، على الرغم من أنه يُنظر إليه على نطاق واسع على أنه دعم للأسد، يمكن أن ينتهي بتحفيز موسكو على العمل نحو انتقال سياسي يزيحه من السلطة". وقال بلينكن "روسيا لا يمكنها أن تستمر في هجومها العسكري ضد أي شخص يعارض حكم الأسد الوحشي. الكلفة سوف تزداد كل يوم على المستوى الاقتصادي والسياسي والأمني - لكنه في أفضل الأحوال سوف يمنع فقط خسارة الأسد".
ورغم كل الصخب الإعلامي الذي يُروَّجُ لخلاف روسي أميركي حول سوريا فإن بيان فيينا الأخير وتصريحات الأطراف المشاركة فيه لم تتعرض البتة إلى مسألة التدخل العسكري الروسي في سوريا وتركيز ضرباته الجوية على مناطق المعارضة المحسوبة على أميركا حتى تبقي على مظهر سياسة التوافق التي برزت مؤخراً من جهة، وتتخلص من تقليص أو شلِّ قدرات قوى كانت تدعمها هي أو أذنابها من الدول الإقليمية عن طريق استخدام آلة الحرب الروسية لصالح الحل السياسي الذي رتبته أميركا متوافقاً مع مصالحها وأهدافها في إعادة صياغة المنطقة. أما مسألة الخلاف على بقاء بشار الأسد خلال المرحلة الإنتقالية، فإن هذا الأمر الذي تتمسك به روسيا هو في مصلحة أميركا أيضاً لأنها تريد بقاء بشار الأسد في المرحلة الإنتقالية من أجل الحصول على وقت كاف لتهيئة عناصر موالية لها ضمن هيئة الحكم الإنتقالي ليس من المعارضة فقط، وإنما أيضاً من داخل النظام السوري ذاته على مستوى الجهاز السياسي والبرلمان والمؤسسة العسكرية التي سوف يجري انشاؤها لاحقاً.
وفي مقابل هذا الدور الذي حصلت عليه روسيا في الملف السوري، وبخاصة بعد تدخلها العسكري المباشر، فإنها قد حصلت على حضور دولي وعلى قاعدة جوية كبيرة ومجهزة بشكل كامل في مطار حميميم في اللاذقية، بعد القاعدة البحرية في ميناء طرطوس مع إمكانية الحصول على مكاسب اقتصادية. ونؤكد هنا أنه لا ينبغي للخيال السياسي أن يذهب بعيداً بالقول أن روسيا تزاحم أميركا على النفوذ في الشرق الأوسط أو أنها تنافسها على مركز الدولة المتفردة به أميركا في الموقف الدولي، فهذا الكلام هو منتهى الخرف السياسي الذي يصيب صاحبه بالشلل في الربط الصحيح بين الأحداث الجارية ويؤدي إلى تضليل الأمة في إدراك خطورة المخططات الأميركية.
ويكفي الإشارة هنا إلى أن منطقة الخليج والعراق والأردن وتركيا فضلاً عن بلدان شمال وشرق إفريقيا تعج بالقواعد العسكرية الأميركية. وفوق ذلك فإن روسيا باتت بمنزلة شرطي يقوم بالنيابة عن أميركا في حماية أمن "إسرائيل" سواء عبر تنسيق الطيران المشترك أو عبر تكفل روسيا بضرب أي جهة عسكرية تهدد حدود "إسرائيل" من جهة الجولان.
ولا يفوتنا ان ننوه إلى الحذر الشديد الظاهر على تصرفات حكومة بوتين خشية الانزلاق والتورط في المستنقع السوري، فهي لا تأمن دهاء الساسة الأميركان من فعل ما يورطها رغم الاتفاقات السرية والمعلنة، وتكفي الإشارة إلى مسارعة روسيا للسعي لحل سياسي دون أي تأخير، فقد امتنعت عن التدخل العسكري البري، واستدعت الأسد لموسكو وتم تسريب أنها بحثت معه التخلي عن السلطة ، وتخلت عن وصفها السابق لكل معارضي الأسد بالإرهاب، بل وأجرت مباحثات مع مَنْ قَبِلَ من أطراف المعارضة، إلى غير ذلك من الخطوات التي أظهرت سعيها الحثيث للتوصل إلى حل سياسي للأزمة قبل تورطها فيها.

عبد الواحد جعفر
18-11-2015, 10:11 AM
ثالثاً: سقوط الطائرة الروسية
بمجرد أن تحطمت الطائرة الروسية في سماء سيناء وقبل أن ينتهيَ التحقيق سارعت بريطانيا وأميركا بتصريحات تؤكد أن "عملاً إرهابياً" هو الذي يقف وراء الحادث. ولم يتأخر تنظيم الدولة كثيراً ليدعم هذا التوجه الأنجلوأميركي بإعلان تبنيه لعملية سقوط الطائرة الروسية. هذا بالرغم من أن وزير النقل الروسي، مكسيم سوكلوف، شكك في قدرة تنظيم داعش على القيام بذلك وقال في تصريحات لوكالة أنباء انترفاكس الروسية، إن "الادعاء بأن الإرهابيين هم سبب تحطم الطائرة الروسية لا يمكن اعتباره دقيقاً".
وبسرعة أعلنت بريطانيا أنها سوف تقوم بسحب رعاياها من مصر، ولم تجد روسيا مفراً من مجاراتها خوفاً من أن يظهر فلاديمير بوتين وكأنه غير مبال بأرواح الروس. ثم بعد ذلك أعلن ديوان الرئاسة في روسيا أن حركة النقل الجوي مع مصر "لن تستأنف إلا بعد تلبية إجراءات الأمان بالمطارات المصرية لكل المعايير الدولية، وتأكيدات الأجهزة المعنية بذلك". وقد جاء هذا القرار بعد أن أعلنت عدة شركات أوروبية على رأسها شركات بريطانية وألمانية إيقاف رحلاتها إلى شرم الشيخ.
إن تصريحات حكام بريطانيا وأميركا هي تصريحات سياسية لا علاقة لها بالبحث الجنائي وهي مقصودة في توقيتها وغاياتها.
فمن حيث التوقيت تزامنت هذه التصريحات مع زيارة عبد الفتاح السيسي إلى بريطانيا، ومع ما نشرته صحيفة "ديلي ميل" البريطانية نقلاً عن وزارة النقل البريطانية زعمت فيه أن طائرة بريطانية تقل 189 راكباً نجت من من صاروخ إرهابي استطاعت تفاديه في اللحظة الأخيرة، في واقعة تعود إلى تاريخ 23 آب/أغسطس الماضي؛ أي قبل شهرين فقط من حادثة تحطم الطائرة الروسية فوق شبه جزيرة سيناء.
أما من حيث الغايات المقصودة من تصريحات حكام بريطانيا وأميركا فهي:
أولاً: أنها وجهت ضربة سياسية واقتصادية للسيسي عبر ضرب الموسم السياحي وإظهار فشله في إدارة شؤون البلاد وأمن المطارات. وهذا ما جعله يظهر للرأي العام بمنزلة رئيس فاشل يسافر إلى أوروبا بدل أن يسافر إلى سيناء حيث يجب أن يتفقد شؤون الرعية. وفوق ذلك فقد كانت زيارة السيسي لبريطانيا بمثابة فرصة للضغط عليه في موضوع "المصالحة الوطنية" مع حركة الإخوان المسلمين وإثارة ملفات القتل والإعتقال وغياب الأمن والفشل في حل المشاكل الإقتصادية. وقد ظهر ذلك في الحوار الذي أجري له مع قناة بي بي سي باللغتين العربية والإنكليزية وفي التحركات الشعبية والسياسية التي حفلت بها العاصمة لندن قبل وأثناء وصوله.
ثانياً: أنها وجهت ضربة نفسية لروسيا بعد تدخلها في سوريا، بل وجعلت حكومة بوتين أكثر توجُّساً من تداعيات ذلك التدخل داخلياً وخارجياً وبخاصة مع إمكانية انزلاقها في المستنقع السوري بقوة.
ثالثاً: أنها أظهرت فشل السيسي منذ انقلاب 3 تموز/يوليو في إدارة الملف الأمني والسياسي في سيناء التي اعتبر معركته فيها بمنزلة "حرب وجود". وكأن أميركا ومواليها يدفعون باتجاه تركيز رأي عام دولي بأن الدولة في مصر قد فقدت السيطرة على سيناء وأن هذه الأخيرة باتت تحت قبضة "جماعات ارهابية" تمثل تهديداً لأمن جيرانها في "إسرائيل والسعودية والأردن". وهذه هي الأرضية المطلوبة دولياً لطرح موضوع تدويل حفظ الأمن في سيناء والحد من السيطرة المصرية عليها كمقدمة لطرح مسألة استقلال سيناء من جديد.
فمن المعلوم أن تدويل سيناء قد طرح أول مرة على لسان موشي ديان في 31 تشرين أول/أكتوبر 1968 عندما عقد مؤتمر دولي في الحسنة وسط سيناء بحضور ودعم من أميركا نفسها. ورغم الرفض الذي لقيه موشي ديان في هذا المؤتمر الذي عقد بعد حوالي سنة ونصف من احتلال سيناء، لكن ما يجري في المنطقة اليوم من سعي أميركا لإعادة صياغة المنطقة جيوسياسياً على مقاس مشروع الشرق الأوسط الكبير، يؤكد أن سيناريو تدويل سيناء وانفصالها يعود بقوة منذ وصول عبدالفتاح السيسي إلى الحكم.
إن السيسي يعي جيداً ما يقوم به لمصلحة أميركا في هذا الخصوص، بدليل أنه لما كان وزيراً للدفاع في حكومة هشام قنديل، قال في جمع من الضباط: "إن انتهاج الحل الأمني في المحافظة لن يولّد سوى الثأر والعداوات، ولن يُفضي سوى إلى انفصال شبه جزيرة سيناء عن مصر، على غرار انفصال جنوب السودان عن الدولة المركزية عام 2011".
وما يجب أن يعرف هنا أن سيناء تتمتع بثروات كبيرة، لا سيما في مجالي النفط والتعدين؛ إذ يُقدّر إسهام النفط المستخرج من خليج السويس، بما نسبته 35 بالمئة من انتاج النفط المصري. ورغم أن سيناء هي شبه جزيرة صحراوية، تشكل مساحتها 6 بالمائة فقط من مساحة مصر ولا يقطنها سوى مليون ونصف المليون نسمة، إلا أنها تحتضن خمسة مطارات دولية ومحلية. وهي تزخر بعيون مائية نقية، وتحاط بالمياه من غالبية جهاتها، وتستحوذ على 30 بالمئة من سواحل مصر، وهذا هو الذي بوّأها مكانة سياحية مميزة تدرّ على البلاد أكبر نسبة من دخل السياحة مقارنة بغيرها من المحافظات.

6/صفر/1437هـ
17/11/2015م