المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : القرآنيون .. دراسة نقدية



أبو أسيد
31-01-2015, 11:17 PM
القرآنيون
أولاً : قراءة سياسية موجزة
يجري في أوساط الأمة الإسلامية تيار فكري يُدعى "القرآنيون" ينفي حجية السنة النبوية ويعمل على نزع الصفة السياسية عن الإسلام لتقويضه وقطع صلته بالحياة وتحويله إلى عقيدة روحية كالنصرانية واليهودية، فيعتقد القرآنيون أن الإسلام علماني ويقسمونه إلى إسلام ظاهر وهو السلوك المجتمعي للفرد وأساسه السلم والسلام مع الآخرين، وإلى إسلام باطن هو علاقة الإنسان مع الله في العبادات والعقائد. ويعرّفون الإيمان بالأمن والأمان بين الناس، وفي الباطن هو الاعتقاد بالله وعدم الشرك به. وطبقاً لهذا الفهم فإن الحكم على المسلم المؤمن يكون بمدى ارتباط سلوكه بالأمن والسلم مع الآخرين وليس بما تمليه الأحكام الشرعية، وبهذا المعنى يستوي المسلم مع غير المسلم في الحياة؛ لأن معيارهم للدين مجتمعي وليس عقدياً. وتنطلق نظرتهم إلى الإسلام من زاوية علمانية لا يُخفونها في كتبهم ونشراتهم، وغايتهم من هذه الفلسفة الجديدة واضحة وهي الوصول بالمجتمع الإسلامي إلى فصل الدين عن الحياة، ويبرز ذلك في توظيف الفصل بين النبي والرسول والهجوم على ما يسمونه "التراث التشريعي" في إنكار السنة وتطويع الدين للواقع، وقد سلكوا لتحقيق ذلك نفس الطريقة التي سلكها أرباب العلمانية الغربية في فصل الدين عن الحياة وهي إنكار الوحي، غير أن تميّز القرآن عن كتب النصارى واليهود بثبوته اليقيني عن الوحي دعاهم لإنكار وحي السنة دون الكتاب ظناً منهم أن السنة هي الخاصرة الضعيفة للإسلام. ومن أجل تمرير فلسفتهم وطريقتهم في فهم الدين عطلوا معايير الفهم المنضبط وحرروا أنفسهم من قيد اللغة وأسباب النزول وقواعد الفقه والأصول وأدوات التفسير وزعموا أن القرآن لا يحتاج إلى بيان لكي يتسنى لهم تفسير القرآن بالعقل تحت ستار التدبر. وفي ضوء هذا المنهج في الفهم غيروا الأحكام الشرعية الثابتة عن الوحي فعدّوا الجهاد حرباً دفاعية، وأباحوا الربا وخلع الحجاب، وعطلوا الحدود، وبدلوا دين الله، واعتبروا أقباط مصر هم الأحق بصفة المسلم المؤمن من غيرهم. ويدعم النظام المصري تصوراتهم للدين وينفذها في الواقع، إذ لم يُخفِ الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ذلك حيث دعا الهيئات الإسلامية إلى ثورة دينية واتهم المسلمين بالإرهاب والسعي لقتل العالم بأسره فيما أثنى على الأقباط ووصفهم بأنهم علّموا شعوب العالم الحضارة. وقد تصدى للقرآنيين كثيرٌ من عوام المسلمين الذين لا يملكون العلم الشرعي مما ساعد على انتشار أفكارهم وزاد من ثقتهم بأنفسهم. وصار من الواجب التنبيه على خطر تلك الطائفة المارقة والتعرض لمفاصل الفكرة التي يقومون عليها دون الخوض بالتفاصيل الجزئية؛ لأن إسقاط الأساس الذي يرتكزون إليه كفيل بهدم ما بني عليه. وإنكار السنة هي الفكرة الأساسية وحجر الزاوية لفلسفتهم وهو ما ينبغي العناية به من خلال إثبات حجية السنة بالأدلة لدحض أباطيلهم.
وترتكز عقيدتهم على أن القرآن قد حوى بين دفتيه ما يُغني عن السنة النبوية، وسوف نتعرض لما يتصل بهذا الزعم دون ذكر أفكارهم بالنص؛ لأنها منشورة في مواقعهم على الانترنت، علاوة على ترويجها عبر الفضائيات . فقد نبش القرآنيون في التاريخ عن فضلات الفرق المنحرفة كالخوارج والزنادقة وغلاة الشيعة الذين أنكروا السنة في القرن الثاني الهجري ثم نقلوا تلك الفضلات إلى الحاضر لمؤازرة أعداء الإسلام في حملتهم لفصل الدين عن الحياة كي تستقر لهم السيادة على المسلمين وصرفهم عن دينهم ونهب خيراتهم.
وفلسفة "القرآنيين" تتصل بالفِرق الضالة قديماً وبالاستعمار البريطاني في الهند وعملائه كأحمد خان الذي ادعى النبوة وعبدالله الجكر الوي زعيم طائفة "القرآنيين" في لاهور بحسب ما ذكر الشيخ حبيب الرحمن الأعظمي في كتابه ( نصرة الحديث ص 17) حيث قال: "إن فتنة إنكار الحديث في الهند قد أثارها_ظاهر الأمر_ عبد الله الجكر الوي البنجابي، لكن الحق أنه قد غرس بذرتها قبله بكثير طائفة الطبيعيين، أما عبد الله الجكر الوي فإنه قد سقى تلك الشجرة الملعونة، فنمت وازدهرت، حتى رأى الناس _بوجه عام_ أنه هو الذي أحدث هذه الفتنة". وسوف نتعرض لأهم الأفكار التي تقوم عليها "طائفة القرآنيين" خصوصاً أن ارتباط عقيدتهم بالواقع السياسي أمر ظاهر تؤكده المشاريع الغربية في بلاد المسلمين، فبالرغم من اتهامهم أهل السنة بتلوين الدين باللون السياسي في العصر العباسي نجدهم ينادون بالديمقراطية وفصل الدين عن الحياة لتلوين الدين بالصبغة السياسية القائمة في بلاد الإسلام والنظام الدولي وهو ما يؤكد أنهم طائفة موجهة لضرب الإسلام وتقويض أركانه .

أبو أسيد
31-01-2015, 11:20 PM
ثانياً: الناحية العقدية والأفكار الأساسية للقرآنيين
من الأفكار الأساسية التي تقوم عليها فلسفة "القرآنيين" الفصل بين العقيدة الإسلامية وبين سلوك المسلم وحصر العقيدة في العلاقة بين الإنسان وربه، وأن الرادع للسلوك هو الضمير وأن الناس يُحاسبون على معتقداتهم يوم القيامة، ومن أفكارهم أيضاً الفصل بين صفتي النبي والرسول صلى الله عليه وسلم وإخضاع التشريع في الإسلام لحركة التاريخ والزمان والمكان، مما يعني أن الدولة الإسلامية تاريخ تراثي للموعظة والعبرة فقط، وأن القرآن مستغنٍ عن السنة وأن له لغته الخاصة التي يُفهم بها ولا يجوز تفسيره من خارجها؛ لأن فيه تفصيل لكل شيء ولأن السنة اعتراها الغث والسمين والخلاف والتلون بحسب الواقع السياسي فضلا عن كونها دين بشري لا يمت للوحي بصلة. هذه هي أهم الركائز التي تفرعت عنها تصورات القرآنيين التشريعية التي ملأت الأجواء ضجيجاً كإباحة الربا وإنكار الرجم وإنكار قطع يد السارق وإنكار قتل المرتد وتغيير هيئة الصلاة وإباحة الجمع بين الزوجة وعمتها وإبطال حجاب المرأة وتبديل مفهوم الجهاد وغير ذلك من الأحكام التي اشتهروا وتميزوا بها. ومن العبث مناقشتهم بالفروع ما دامت تلك الأسس قيداً على الفهم وما دام إسقاط الأسس يطيح بالبناء كله؛ لذلك لا بد من التركيز على الأفكار الأساسية لأنها الأصل الذي بنيت عليه كل الفروع. وإذا بَطل منهجهم في الفهم وثبتت حجية السنة بطلت عقيدة فصل الإسلام عن الحياة التي ينادون بها وبطل كل ما ذهبوا إليه من أحكام منحرفة.

ثالثاً: الرد على فلسفة "القرآنيين"
1_ منهج القرآنيين في التفسير .
يرفض القرآنيون مفهوم التفسير عند المسلمين بحجة أن القرآن لا يحتاج إلى تفسير متأثرين في ذلك بالحركة الإصلاحية البروتستانتية التي أنكرت كهنوت الكنيسة والتفسير الرمزي للكتاب "المقدس" واتاحت تفسيره للعوام فنجم عن ذلك تشظي الحركة البروتستانتية ذاتها، حيث خرجت "الكلفنية" من رحم فلسفة حصر الدين بالكتاب المقدس وكسر احتكار رجال الدين لتفسيره، وبدل أن تحررهم تلك الفلسفة من الكهنوت رسّخته وزادت الفُرقة، والاختلاف والتمزق بينهم وصارت الكهانة طابعاً عاماً بدل اختصاصها في الكنيسة ورجال الدين، وهذا بالضبط ما يدعو إليه الكهنة الجدد أدعياء التمسك بالقرآن. فترك القرآن للتفسير من غير ضوابط ومعايير خاصة للفهم يفتح الباب واسعاً لتناسل الخلافات وتكاثر الكهنوت الذي تذرع القرآنيون بإنكار السنة لأجله، بل ربما كان تعميق الخلافات وتشتيت المسلمين في الأفهام والآراء الشرعية هو الهدف من تحرير القرآن من قيود اللغة وقرائن الأحاديث وآراء الصحابة والعلماء. ومنهج "القرآنيين" في فهم القرآن يتلخص في التدبر أو الاجتهاد في التفسير من خلال جمع الآيات المحكمة والمتشابهة المتعلقة بالمسألة وتفسير القرآن بنصوصه لا من خارجه باعتبار أن للقرآن لغته الخاصة، وبرغم أن جمع الأدلة في المسألة هو جزء من الاجتهاد إلا أن إخضاعه لحكم العقل يعكس مفهوم التفسير فيجعل القرآن مفسراً للّغة وليس العكس. وهذا المنهج في التفسير لا يمكن معه فهم القرآن لأنه يجعل العقل وليس اللغة هو المقياس والمقرِر لدلالة النصوص على الأحكام، وهذا هو الشرك الذي يرمون به غيرهم لأن الأحكام دليلها الشرع وليس العقل، والتفسير هو من المعارف الشرعية ويقتضي الوقوف على واقع القرآن لأنه نزل باللغة العربية "إنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون" يوسف 2، كما يقتضي دراسة الواقع الذي ينطبق عليه وأسباب النزول. والرأي أو الاجتهاد في التفسير لا يعني أن يقول المفسر ما يشاء، بل يجب أن يمضي التفسير بحسب اللغة العربية وأصولها وبحسب تصرف القرآن في اللغة مع إدراك الذوق الأدبي القرآني والذوق العربي وربط المعلومات بالواقع بالإضافة إلى فهمه باعتبار أنه رسالة إلى الناس كافة. والمتدبر لواقع القرآن يجده قد تصرف في المفردات على الحقيقة والمجاز وصرف معاني بعضها إلى معانٍ جديدة غير المعاني الأصيلة لها. وهذا هو المهم في الموضوع لأن نقل الألفاظ من الدلالة اللغوية إلى الدلالة الشرعية لا يتأتى معرفته لغة وعقلاً، ولا بد أن يكون وحيا من الله خصوصاً في العبادات لأنها علاقة بين العبد وربه إذ لا يستطيع الإنسان تحديد كيفية أدائها، فالصلاة مثلاً تعني في أصل اللغة الدعاء، لكنها استعملت للدلالة على معنى آخر في القرآن، ولو جُمعت كل النصوص القرآنية لاستنباط أحكامها لما عُرفت هيئتها، مما يدل على أن السنة بيان للقرآن ووحي من الله، وأما القول بأنها من الموروث التشريعي للرسالات السابقة فباطل لأن هيئة الصلاة عند اليهود والنصارى وعند العرب تختلف عن صلاة المسلمين: {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} الأنفال 35، كما أن صلاة العرب سابقة للقرآن ولا يمكن أداء الصلاة في الإسلام بغير القرآن، وهذا الأمر وحده كاف لدحض حجج القرآنيين لولا مكابرتهم وإصرارهم على الباطل. من هنا يتضح أن منهج القرآنيين في تفسير القرآن بالقرآن غير منتج في فهم القرآن وأحكامه.

أبو أسيد
31-01-2015, 11:22 PM
2- إن عدم إخضاع السلوك للعقيدة مناقض لصريح القرآن الكريم إذ يقول تبارك وتعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} النساء(65) وهذه الآية القطعية في الثبوت والدلالة تقرر بأن الإيمان يدعو للعمل وتُحْكِم الربط بين السلوك والإيمان لأنها علقت الإيمان بشرط التحاكم إلى النبي بصفته قاضياً بالشرع ومبلغاً عن الله، كما أن هذه الآية لم تنص على لفظ النبي أو الرسول فتبقى مطلقة في الصفتين المترادفتين؛ لأن الأصل في الألفاظ والتراكيب أنها مطلقة ما لم ترد قرينة تصرف المعنى إلى مراد بعينه، وتعليق الحكم على الشرط يفيد العمل بمفهوم المخالفة لأن الشرط يلزم من عدمه عدم المشروط؛ أي يلزم من عدم التحاكم للنبي عدم الإيمان؛ لذلك ارتبط ذكر العمل بالآيات التي تدعو للإيمان كقوله تعالى: {إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات} وقوله: {يا أيها الين أمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم} الأنفال 24، وهذا يبطل انفصال سلوك المسلم عن عقيدته ويبطل ما بني عليه من أحكام . وأما من حيث وصف أفعال الإنسان والأشياء المرتبطة بها فإنه لا يجوز الحكم عليها بالحسن والقبح لذاتها أو لميول الإنسان نحوها؛ لأن الإنسان بطبعه يميل إلى ما يحقق له مصلحة أو يدفع عنه مضرة فقد يميل إلى شيء محرم أو يمتنع عن أمر واجب وقد يكون الفعل أو الشيء حسناً عند البعض وقبيحاً عند غيره وقد يكون حسناً في زمن عند الشخص ويكون قبيحاً عنده في زمن آخر، والحكم على الأشياء والأفعال إنما هو لتعيين موقف الإنسان منها وليس للتعبير عن واقعها أو عن ميول الإنسان نحوها لذلك لا بد أن يكون التقبيح والتحسين والقدح والذم لجهة لا ترجو المنفعة لذاتها ولا يكون ذلك للإنسان الذي يُخطئ ويتأثر بالظروف وينحاز إلى ميوله وإنما يكون لله، ولهذا قال عز وجل : {كتب عليكم القتال وهو كره لكم} البقرة 216، وقال: {يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما} البقرة 219، وهذه الآيات تبين أن الحسن هو ما حسنه الشرع ولو لم يحقق مصلحة والقبيح ما قبحه الشرع ولو كان يجلب منفعة كالخمر والقمار، ولذلك لا يُترك الحكم على الأفعال والأشياء للعقل والميول ولا لواقع تلك الأفعال والأشياء، قال تعالى : {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ۗ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا} الأحزاب 36. من هنا كان تعريف المسلم المؤمن عند القرآنيين باطلاً لأن معياره مجتمعي وليس شرعياً إذ المسلم المؤمن هو من يؤمن بالعقيدة الإسلامية ولا يشرك بالله شيئاً وينطلق في سلوكه من زاوية الحلال والحرام ويقوم بالعمل وفق ما يمليه الشرع لا ما تمليه المصلحة أو الظروف الزمانية والمجتمعية لا سيما وأن الإسلام رسالة للناس كافة {وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً} سبأ 28. وأما القول بأن تجدد الحوادث يستوجب تجدد الأحكام فهو قول باطل؛ لأن الإنسان لم يتغير ولن يتغير إلى يوم القيامة، وقد عالج الإسلام سلوك الإنسان بوصفه جنساً لا بصفته فرداً؛ أي على أساس نوعه وليس على أساس لونه أو عرقه أو لغته، والأصل في سلوك الإنسان هي الطاقة الحيوية الدافعة للإشباع، وبقياس الإنسان الشاهد على الغائب فإن كل إنسان فيه الحاجات العضوية والغرائز من حيث جنسه، وما يصلح لمعالجة سلوكه في أفريقيا يصلح له في أوروبا وما يصلح له بالأمس يصلح له اليوم، فتبدل الأشخاص والأماكن لا يؤثر في صلاحية الأحكام والمعالجات، والتذرع بتجدد الحوادث لتغيير الأحكام بتغيّر الأماكن والأزمان هو مغالطة مقصودة؛ لأن هناك فرق بين تجدد الحوادث وبين تجدد النظرة إليها، فأما تجدد الحوادث فيعني زيادتها وفي هذه الحالة يُستنبط من الشرع حكم لكل أمر جديد، وأما الحوادث من حيث هي فثابتة، فواقع الخمر والقمار والربا والزنا وغير ذلك ثابت لا يتغير بتغير الزمان والمكان، والذي يتغير هو المفهوم الذي يعيّن السلوك عند الإشباع، فإما أن يكون الحكم عليها للشرع وإما أن يكون للعقل والميول، ولا شك أن الحكم عليها من زاوية العقل والميول يتغير بتغير الزمان والمكان؛ لأن عقول البشر متفاوتة وميولهم متقلبة، وهذا باطل لأن الأصل في المسلم أن يحكّم في سلوكه الشرع وليس العقل، وأما تحكيم الشرع فيستلزم إنكار تغيّر الأحكام بتغير الزمان والمكان؛ لأن الشرع ثابت لا يتغير، فالخمر محرم منذ تشريعه إلى يوم الدين، وما ينطبق على الخمر ينطبق على سائر الأحكام الشرعية لأنها هي مقياس المسلم وليس العقل ولا الميول ولا المصالح والمفاسد .
3- وأما تقسيم شخصية النبي إلى محمد النبي، ومحمد الرسول، فقد صُمم من أجل فصل القرآن عن السنة وحصر ما ينطق به محمد صلى الله عليه وسلم كرسول بالقرآن فقط، وأما ما ينطق به كنبي فغير ملزم للمسلمين، واتخذوا من تجزئة شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم سبيلاً للاحتيال على العقول وإيهامها بأن طاعة الرسول لا تُوجب طاعته كنبي من أجل تعطيل العمل بالسنة وفصل الإسلام عن الحياة؛ لأن السنة هي التجسيد العملي للشريعة في واقع الحياة. وقد عملوا على تكييف بعض المفاهيم الإسلامية لتتفق مع هذه الفلسفة، ونفي العصمة عن النبي هو أحد تلك المفاهيم إذ يترتب عليها إسقاط حجيّة السنة واعتبار عمل النبي بشرياً يتصل بزمانه ومكانه ضمن حركة التاريخ وتجدد حوادثه، مما يعني أن العمل بشريعته غير ملزم في ظروف وأزمنة مختلفة فيصبح التشريع للبشر وليس للشرع وينفصل الدين عن الحياة، وهذا يجعل للقضية بعداً سياسياً بقدر ما لها من بعد عقدي خصوصاً أن أنشطة القرآنيين تتسم بطابع مؤسسي مرتبط باللون السياسي والإيديولوجي السائد في عالم اليوم.
وفلسفة القرآنيين في تقسيم شخصية النبي وإحلال الشريعة في الرسول تذكرنا بفلسفة بولس اليهودي الذي حرّف الدين النصراني وعَوْلَمَ رسالة المسيح بعدما كانت في بني إسرائيل كي يبعد النصرانية عن اليهود ويخرجها منهم، فقسّم شخصية المسيح عليه السلام إلى لاهوت وناسوت وجسّد الله في المسيح ليستر التناقض بين فكرته وبين النصوص الكتابية الشاخصة والناطقة بألوهية الله وآدمية المسيح، حيث زعم أن الإنسان يخلص بالإيمان وليس بالشريعة "الناموس" أي بفصل العقيدة عن السلوك وفصل الدين عن الحياة فلاقت عقيدته قبولاً واستحساناً من قسطنطين وتبناها وحظر الدعوة لغيرها، وهذا بالضبط ما قام به القرآنيون إذ قسّموا شخصية محمد صلى الله عليه وسلم إلى نبي ورسول وجسدوا الشريعة فيه لتبرير رفضهم السنة وتبرير تناقضهم مع قطعي القرآن كي يصلوا إلى غايتهم وهي فصل الإسلام عن الحياة، وهذا ديدن كل مبتدع في العقائد حتى لدى الشيوعيين الذين ابتدعوا قانون "التناقض" لتفسير حركة الكون من خلال "صراع الأضاد" بعدما عجزوا عن إثبات القِدم والأزلية للمادة بسبب احتياجها الظاهر بالحس إلى غيرها.
وحجة "القرآنيين" في الفصل بين لفظي النبي والرسول تبرز في قولهم أن الله لم يعلق الطاعة لمحمد صلى الله عليه وسلم إلا على صفته كرسول وأن الطاعة لم تقترن بلفظ النبي مطلقاً كقوله تعالى: {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر} النساء 59، ويقولون أن عتاب الله لمحمد صلى الله عليه وسلم تعلق في القرآن بصفته كنبي لا بصفته رسول كقوله تعالى: {يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك}وهذا يدل على أن ما سنه النبي من قوانين فإنها تخضع للخطأ والصواب ولا تعني الأمة بشيئ وإنما هي خاصة بشخصه وزمانه ولسنا مطالبون باتباعه وطاعته كنبي ما دام يُخطئ ويصيب، ويزعمون بأن الله استخدم لفظ الرسول كناية عن القرآن بدليل قوله: {لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلا} الفتح 9 . ويستدلون بذلك على استغناء القرآن عن السنة لقطع اتصال الشريعة بالواقع، ويؤكدون ذلك بقوله تعالى: {ما فرطنا في الكتاب من شيء} وقوله: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} النحل 89. وقوله: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ ۗ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ وَلَٰكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} يوسف 111، ويتذرعون أيضاً بأن السنة ليست محفوظة كالقرآن وأن "التراث فيه الغث والسمين" وغير ذلك من الأعذار والادلة المتوهّمة التي يسقطون بها حجية السنة النبوية ويحصرون الدين بالقرآن وحده بموجبها.

أبو أسيد
31-01-2015, 11:23 PM
فأما الفصل في الطاعة بين لفظ النبي ولفظ الرسول فلا يستقيم شرعاً؛ لأن النبي والرسول هما صفتان لازمتان لذات واحدة هي محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه تلقى رسالة وأمر بتبليغها، فهو نبي ورسول كما وصفه الله في كتابه: {الذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ..} الأعراف (157)، فالآية لم تفرق في الاتّباع بين صفتي النبي صلى الله عليه وسلم بل قررت اتباعه بصفته "الرسول النبي" دون أن تعلق الاتباع على لفظ دون آخر ودون أن تفرق بين ما يقوله كنبي أو يقوله كرسول، والاتباع يتضمن في معناه الخضوع والانقياد ويلزم منه الطاعة لأنه يحتوي تكاليف شرعية، وهذا يجعل الطاعة واجبة له في التبليغ كنبي ورسول دون الفصل أو التمييز بين الصفتين. ويتضح ذلك أكثر إذا علمنا أن وظيفة الأنبياء والرسل واحدة وهي التبليغ عن الله وأن ميزة الرسول عن النبي ليست في التبليغ وإنما في الرسالة التي يبلغها عن الله، بدليل قوله تعالى : {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ} البقرة – 213 وقوله أيضاً: {رُسُلا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} النساء 165، فهذه الآيات دليل على أن مهمة الأنبياء والرسل هي التبليغ عن الله بلا تمييز بين نبي ورسول حيث قال: {النبيين مبشرين ومنذرين} وقال: {رسلاً مبشرين ومنذرين}، فمهمة الأنبياء والرسل واحدة وهي التبليغ عن الله والآيات واضحة في ذلك ودلالتها شاخصة لا تحتاج إلى بيان، وأما الفرق بين النبي والرسول: أن الرسول هو من أوحي إليه بشرع وأُمِرَ بتبليغه، وأما النبي فهو من أُوحي إليه بشرع غيره وأُمِرَ بتبليغه، فالرسول هو من يُبلِغ شرع نفسه الذي أُوحاه الله إليه والنبي هو من يُبلِغ شرع غيره من الرسل، ويبرز ذلك في قوله تعالى: {إنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء} المائدة– 44. فهذه الآية تفيد بأن النبيين يبلغون ويحكمون بشرع غيرهم؛ لأن التوراة لم تنزل عليهم ابتداء وإنما نزلت على موسى عليه السلام وأمروا أن يبلغوها وأن يحكموا بها، فإذا علمنا أن من يبلغ الشريعة التي نزلت عليه ابتداءً قد سماه الله رسولاً كموسى صاحب التوراة: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَىٰ ۚ إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا} مريم 51، فإنّ من أُمِرَ بتبليغ شريعة غيره هو نبي كهارون الذي بلغ رسالة أخيه وكالأنبياء الذين ذكرتهم آية المائدة 44 . لذلك كان محمد صلى الله عليه وسلم رسولاً من جهة تلقيه شريعة لم تنزل على أحد قبله وكان نبياً لأنه أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه. ويمكن الاستئناس بدلالة الآيات القرآنية التي خصّت "القتل" في الأنبياء لا في الرسل لأنها تشير إلى تمحور صفة الرسول حول رسالته؛ لأن قتل الرسول قبل اكتمال رسالته قد يُذهِب الرسالة مع رحيله، أما قتل النبي فيُذهِبُ النبي وتبقى الرسالة لعدم ارتباطها ببقائه، ولهذا نجّى الله سبحانه وتعالى الرسل كإبراهيم عليه السلام ولم ينجِّ الأنبياء، حيث قال : {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} الأنبياء 69، ونجى عيسى عليه السلام فقال: {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ} النساء : 157، كما نجى محمداً صلى الله عليه وسلم فقال: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ} الأنفال : 30. ومن تدبر هذه الآيات يبرز تمحور صفة الرسول حول الرسالة وما تقتضيه نواميس الكون من أسبابٍ لاكتمالها، ولهذا تكفل الله بسلامة الرسل وحمايتهم من القتل من دون الأنبياء، وهو ما أكده الله لرسوله صلى الله عليه وسلم في قوله: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ۖ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ۚ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} المائدة 67. هذا هو الفرق بين النبي والرسول ويتلخص في واقع الرسالة التي يبلغونها وليس في مهمتهم لأنهم يشتركون بها، وبالتالي لا فرق بين النبي والرسول في التبليغ عن الله ووجوب طاعته؛ لأن الفرق بين اللفظين يكمن في دلالتهما على الشريعة وليس على المهمة التي جاءوا بها، فمن كلفه الله بتبليغ الرسالة الموحى إليه بها ابتداءً يكون رسولاً نبياً ومن كلفه بتبليغ رسالة غيره يكون نبياً، وبهذه الإضاءة القرآنية ندرك بأن الطاعة ليست متعلقة بالألقاب وإنما بكون الأنبياء والرسل كُلّفوا بأمر يقتضي الطاعة وهو التبليغ الذي يشتركون فيه. ولذلك لا يقال بأن ما ينطق به كرسول فهو مطاع وما ينطق به كنبي لا يطاع فيه. وهذا ينقض فلسفة الفصل بين النبي والرسول في التبليغ والطاعة وينسف ما بني عليها من فَدْرَلَةٍ لشخصية النبي صلى الله عليه وسلم وعَلمَنةٍ لرسالته ويُبطل تخصيص الطاعة بصفة الرسول أو حصر العمل بالشريعة في النبي وحده من دون أمته؛ لأن النبي هو ذاته الرسول المبلغ عن الله والخطاب له هو خطاب لأمته. أما الدليل على أن تطبيق الشريعة يتعلق بالأنبياء لا بالرسل وحدهم وأن الشريعة للحياة وليست لهم من دون أمتهم فهو قوله تعالى: {فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ}، فقد نصّت هذه الآية على الأنبياء لا على الرسل وبيّنت أن الرسالة هي للحكم والمجتمع وليست لسلوك الأنبياء بمفردهم لأنه قال: {ليحكم بين الناس}، وهذا ينفي مفهوم استقلال النبي في سن القوانين والتشريع بوحي ذاته أو بوحي الواقع والزمان والمكان بمعزل عن الوحي الإلهي؛ لأن الضمير يعود على الكتاب وما يتضمن من تشريع، كما ينفي الزعم بأن الرسول هو الشريعة؛ لأن من البديهي أن من يحكم هو النبي وليس صفحات الكتاب لوجود قرائن تبين أن من يحكم هم الأنبياء: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ ۚ وَلَا تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} النساء 105 وقوله {بما أراك الله} أعم من الحكم بالكتاب فتشمل السنة. وأما قوله تعالى: {لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلاً} الفتح 9 . فلا يعني أن الرسول هو الرسالة ذاتها؛ لأن القرينة هي التي تعيّن المراد من الآية سواء من تركيب الجملة أو من الألفاظ أو من آيات أخرى وذلك مثل قوله {وأقيموا الصلاة} البقرة 43، والقرينة التي تصرفها للوجوب قوله تعالى: {ما سلككم في سقر قالو لم نكُ من المصلين} المدثر 42- 43، وتركيب الجملة في الآية والألفاظ والقرائن في الآيات الأخرى تنفي أن يعود الضمير في قوله وتسبحوه على الرسول؛ لأن التسبيح عبادة والعبادة لله وحده وهذه قرينة تجعل التسبيح لله والتعزير والتوقير للرسول. صحيح أن القاعدة اللغوية تقول "إذا تعددت الأسماء في الجملة فالضمير يعود على أقرب أو آخر اسم ورد قبل الضمير مباشرة"، ولكن ذلك لا يمنع من عودة الضمير على ما قبل الاسم الأخير بقرينة صارفة للمعنى، وهذا دارج في القرآن مثل قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا}، ولم يقل إليهما فالضمير يعود هنا على التجارة وليس على اللهو. وبالتالي فإن كل ضمير يرجع لمن يليق به الفعل وحسب القرائن، والتسبيح يليق بالله سبحانه وتعالى وليس برسوله. على أن إعادة الضمير على الرسول صلى الله عليه وسلم يفيد عصمته؛ لأن التسبيح مأخوذ من السبح أي البعد بمعنى التنزيه.

أبو أسيد
31-01-2015, 11:24 PM
2- الخطاب للرسول هو خطاب له كنبي دون تمييز بين الصفتين
وعلاوة على ما تقدم، فإن بعض الآيات القرآنية خاطبت محمداً صلى الله عليه وسلم بصفته نبياً رسولاً دون الفصل بين اللفظين كقوله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} الأعراف (157) وقوله: {قل يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} الأعراف 158، وهذه الآيات لا تدعو للشك بأن محمداً النبي صلى الله عليه وسلم هو ذاته محمد الرسول لقوله: {ورسوله النبي}، ولا فصل بينهما إلا في مخيلة القرآنيين. والآيتان توضحان بأنه يبلغ الناس ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث وكل ذلك يقتضي الطاعة والاتباع : {واتبعوه لعلكم تهتدون}.
كما أن هناك آيات جاءت تخاطب محمداً صلى الله عليه وسلم دون أن تتصل بلفظ النبي أو الرسول، مما يجعلها عامة بصفتي النبي والرسول كما في الآيات التالية: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ} الشعراء : 215 و 216 . وفي هاتين الآيتين ذكر عصيانه {فإن عصوك} مما يفيد بوجوب طاعته، والآية {لمن اتبعك} لم تعلق الحكم على صفة من صفتيه فتبقى عامة وتخصيصها بصفة يحتاج إلى دليل. وقوله أيضاً {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} النساء(65)، وقوله: {إن الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} الفتح(10)، وفي هاتين الآيتين لم يعلق الحكم على أي من اللفظين، مما يوجب إعمال الحكم المستفاد منهما في الصفتين، والآيتان توجبان الرجوع في الحكم والطاعة إلى محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن نصوص البيعة تضمنت التزام المبايعين بالطاعة في المنشط والمكره، وبما أن الله لم يعلق الحكم على أحد اللفظين فيبقى مطلقاً فيهما؛ لأن تخصيص الخطاب بأحد الصفتين يستلزم دليلاً للتخصيص ولم يرد أي دليل يخصص الخطاب بصفة دون غيرها. على أن الآية في بيعة النساء جاءت تخاطبه بلفظ النبي: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} الصف(12) وموضوع الآية يتعلق بعقد البيعة على الحكم وأنظمته وتشريعاته لا على النبوة وهو ما يستوجب طاعة النبي في الحكم، كما نصت على عدم عصيانه بصراحةٍ ووضوح مع تعلقها بصفته كنبي {ولا يعصينك}. ونصّت كذلك على عدم الإشراك بالله أي بجعل الحاكمية لله وليس للنبي، وهو ما ينفي الزعم بتشريع النبي القوانين بحسب الظروف والأحوال أو خضوع الأحكام لحركة التاريخ والزمان والمكان؛ لأن البيعة هي عقد على تطبيق الشريعة مشروط بعدم الإشراك، وما دام عدم الإشراك بالله بند من بنود البيعة فيعني أن النبي يحكم بالوحي قرآناً وسنة؛ لأن حكم العقل هو تشريع بشري وشرك بالله، وقد نصت البيعة على نبذ الإشراك فكيف يكون قد حكم برأيه؟! وهذا ما أدركه الصحابة وجعلهم يأخذون عنه السنة كما يأخذون القرآن، ولو شرّع بوحي ذاته وليس بوحي الله لنقضوا البيعة وخلعوا أيديهم من طاعته، وقد كان التزام النبي بالوحي بارزاً للصحابة عندما كانوا يسألونه عن أمر ولا يجيبهم إلا بعد أن ياتيه الوحي وما ورد في سورة الضحى دليل على ذلك {ما ودعك ربك وما قلى}.
ومن الآيات التي علّقت الرسالة والدعوة على لفظ النبي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شاهدا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} الأحزاب 45-46، وموضوع الرسالة والشهادة هي الشريعة وهو ما يوجب الطاعة؛ لأن الحكم بالشريعة يوجب طاعة أولي الأمر، قال تعالى: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} وهذه الآية توجب طاعة الرسول؛ لأنه مبلغ عن الله، وتوجب طاعته؛ لأنه من أولي الأمر الذين بويعوا على الحكم بشهادة القرآن، ولا يقال أن الحكم تعلق بلفظ الرسول لأننا أثبتنا عدم انفصال لفظي النبي والرسول وأبطلنا بدعة الإتحاد الإقنومي الكنسي التي ألصقت به، ولأن آيات البيعة التي خاطبته بصفة النبي أفادت بأنه ولي أمر، وبهذه الصفة فإنه مشمول في عموم وجوب الطاعة، بل إن الطاعة تجب له أيضاً بحسب تعريف القرآنيين لأولي الأمر إذ يُعرِّفون أولي الأمر بأنهم "أصحاب الاختصاص والعالِمين بالقرآن" والنبي هو أكثر الناس علماً بالقرآن ولا يُتصور أن يدعو الله المؤمنين إلى طاعة أولي الأمر الذين هم دون النبي مكانة ويستثني منها النبي؟. ولعل من أوضح البراهين على وجوب تسييد الشريعة وعدم تعلقها بلفظ الرسول أو النبي تحديداً قوله تعالى: {ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون} الجاثية 18، فلم يحدد الخطاب في هذه الآية لفظ النبي أو الرسول ودعاه بشكل مطلق دون تقييد لاتباع الشريعة وعدم اتباع أهواء الذين لا يعلمون، والاتباع هنا يعني الخضوع والانقياد، والذين لا يعلمون هم الذين يحكّمون العقل المحدود ويُشركونه مع الله في التشريع، والخطاب للنبي هو خطاب لأمته ما لم يرد دليل يخصص الخطاب به لأنه مخاطب كحامل رسالة وليس كأي إنسان: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً} الأعراف 28.
وتعليق الطاعة على صفة "الرسول" ونفيها عن "النبي" باطل أيضاً من جهة مفهوم المخالفة، فلا يصح نفي الحكم عن صفة من صفات الذات لتعلقه بصفة أخرى إلا إذا كان اللفظ وصفاً مفهماً أي مفيداً للعليّة وما لم يرد نصاً يعطل العمل به، وللرسول محمد صلى الله عليه وسلم صفتان: نبي، ورسول، ولكي نعلق الحكم على صفة وننفيه عن الأخرى لا بد أن يكون مدلول اللفظ في محل السكوت مخالفاً لمدلوله في محل النطق، بمعنى أن يكون مدلول لفظ النبي مخالفاً لمدلول لفظ الرسول، وهذا لا ينطبق على صفتي النبي والرسول لأنهما مترادفتان في المعنى وهو التبليغ عن الله، فلو قلنا بوجوب طاعة الرسول لأنه مبلغ عن الله فالنبي مبلغ عن الله أيضاً فلا يصح نفي طاعته، فترادف اللفظين في المعنى ينفي العمل بمفهوم المخالفة ويُثبت الطاعة في الصفتين. وعلاوة على ذلك فإن شرط عدم ورود نص معطل للحكم المستفاد من مفهوم المخالفة ليس متحققاً في مفهوم الرسول؛ لأن آيات البيعة وآيات طاعة أولي الأمر تمنع العمل بمفهوم المخالفة؛ لأن الآيات توجب طاعة النبي أيضاً. ولذلك لا يستفاد من تعلق الطاعة بالرسول نفيها عن النبي فيسقط الفصل بين الصفتين.
وبناءً على ما تقدم، يمكن تلخيص المسألة بعدم انفصال لفظ النبي عن لفظ الرسول إلا في ذهن القرآنيين وفي أجندة أعداء الإسلام والمسلمين، فقد كان لزوم طاعة النبي معلوماً من الدين بالضرورة عند الصحابة وهم أكثر الناس فهماً للدين، ولذلك لم يبحثه أهل العلم لبداهته، فلا فرق في طاعة الرسول واتّباعه سواءٌ تعلق الحكم بلفظ النبي أو بلفظ الرسول، ولذلك فإن الخطاب للنبي والرسول هو خطاب لأمته لأنه مبلغ عن الله وهو تشريع للمسلمين إلى آخر الزمان وليس للنبي وحده أو للمسلمين في مكة . ونَخْلص من ذلك كلّه إلى أن الفصل بين اللفظين إنما ابتُدع بهدف علْمَنَة شخصية النبي وفدْرَلتها في اتحاد أقنومي يشبه الفصل بين ناسوت المسيح ولاهوته المزعوم من قبل النصارى من أجل تكييف الإسلام مع عقيدة فصل الدين عن الحياة، وهذه هي الغاية التي طُوّرت فكرة الفصل بين لفظي النبي والرسول من أجل تحقيقها؛ لأن السنة النبوية من قول أو فعل أو تقرير هي التجسيد العملي للإسلام في الواقع وإسقاط حجية السنة يلغي الإسلام من الوجود السياسي في الحياة.

أبو أسيد
31-01-2015, 11:25 PM
ثالثاً: حجية السنة وموقف القرآنيين منها
1- الاستدلال بالقرآن على حجية السنة:
بعد أن أثبتنا بطلان تعلق الطاعة بصفة الرسول دون النبي صلى الله عليه وسلم يمكننا الاستدلال على حجية السنة النبوية من الآيات الداعية لاتباعه وطاعته سواء تعلقت بصفته كنبي أو رسول. فيقول تبارك وتعالى: {وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحي} النجم 3، ويقول: {إن أتبع إلا ما يوحى إلي}، والعبرة هنا في عموم ما ينطق به وهو القرآن والسنة، وأنهما وحي من الله بصرف النظر عن هيئة الوحي؛ لأن الوحي هو إعلام الله لأنبيائه ورسله بكيفية معينة بنبوتهم لحمل رسالته إلى عباده. والمطلوب هو الإيمان بالوحي قرآناً وسنة باعتبار أنهما رسالة الله إلى عباده، أما طرق الوحي فجاءت في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ ۚ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} الشورى 51، فقد يكون الوحي إلهاماً أو تكليماً من وراء حجاب أو بإرسال مَلَاك، وهذه الحالات تبين طرق الوحي وليس هيئته، وأما هيئة الوحي فلا تقع تحت الحس ولا يمكن الحكم عليها بالعقل، وما جاء فيها من أحاديث فقد بيّنت آثار الوحي وليس هيئته كصلصلة الجرس والتعب والإرهاق وغيرها، وكل تلك الأحاديث ظنية والظني لا يؤخذ في العقائد، والمهم في الأمر هو أن ما ينطق به النبي وحياً من الله وأن السنة تدخل في عموم ما ينطق به عن الوحي، لذلك أخذ الصحابة السنة وعملوا بها كما أخذوا القرآن . قال تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ " وهذه دعوة صريحة للالتزام بكتاب الله وسنة نبيه والحكم بما جاء فيهما، وقال أيضاً: {قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُم بِالْوَحْيِ ۚ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ} الأنبياء 45، والسنة هي مما أنذرهم به النبي صلى الله عليه وسلم لأنها من الوحي {وما ينطق عن الهوى} ولأنها تدخل في عموم قوله تعالى: {وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} الحشر 7، أي كل ما أتاكم به الرسول فخذوه وكل ما نهاكم عنه فانتهوا. ولعل الفصل بين النبي والرسول قد صُمم لتعطيل الحكم في هذه الآيات التي تفيد العموم وتشمل أقوال النبي وأفعاله وتقريراته، فكان الفصل بين لفظي النبي والرسول هو السبيل لحصر الوحي والطاعة في الرسول باعتبار أنه يعبر عن القرآن دون السنة لإخراج السنة من عموم الخطاب.

1- عصمة النبي
يعتقد القرآنيون بأن الطاعة مرتبطة بلفظ الرسول لتعلق الخطأ والعتاب في القرآن بلفظ النبي لا بلفظ الرسول، ومن يجوز عليه الخطأ لا تجب طاعته واتباعه. وهذا باطل لأنه لا فصل بين النبي والرسول كما تقدم ولو جاز عليه الخطأ في التبليغ كنبي لجاز عليه الخطأ كرسول؛ لأن العصمة إنما تكون في التبليغ والنبي والرسول يشتركان في التبليغ عن الله دون فرق، ثم إن عتاب الله للنبي لا يقدح بعصمته؛ لأن العتاب لا يفيد المعصية أو يفيد بأن النبي مجتهد يصيب ويُخطأ في التبليغ، وإنما يعني أنه خالف الأولى في المباح علاوة على أن العتاب ليس تشريعاً بحد ذاته ولم يثبت أن العتاب قد ألغى تشريعاً قديماً وصاحبه تشريع بديل. بل إن العتاب يُثبت حجية السنة؛ لأنه جاء على بعض مواقف النبي ولم يأت على كل مواقفه. كما أن العتاب لم يرد إلا على فعل كان قد تم تشريع حكمه من قبل ولم يكن تشريعاً جديداً أو استدراكاً لخطأ فعله النبي إذ يستحيل الخطأ في التبليغ؛ لأن الحجة لا تقوم على الناس وهم في شك مما يبلغهم به. كما أن الآيات التي عاتب الله فيها النبي لم تنحصر بلفظ النبي كما يزعمون؛ لأن هناك آيات لم تعيّن أيٍّ من اللفظين ما يجعلها عامة في اللفظين دون تخصيص.
وأما العتاب بشأن ما حَرَم نفسه منه في الآية {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} التحريم 1، فلم يكن لارتكابه معصية، وبصرف النظر عن الشيء الذي حَرَم منه نفسه أكان "وصال نسائه أم العسل" فإنه لم يكن تشريعاً بل كان عملاً بحكم شرعي سابق وخالف فيه الأولى مما أُبيح له ولأمته كأكل العسل أو الامتناع عنه، أو معاقبة الزوجة بالهجران أو وصالها، فلم يكن فعله تحريماً بمعنى تبديلاً للحكم على نحو قوله: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها" أخرجه الحاكم وأبو داود. وإنما كان حرماناً لنفسه من أمر مباح كامتناعه عن أكل الضب دون أن يحرّمه على أمته كقوله: "الضب لست آكله ولا أحرمه"، وهذا ليس مما يقدح بعصمته؛ لأن ترك المباح ليس ذنباً ولأن فعله لم يكن تبديلاً لحكم الله بشأن العسل أو وصال نسائه؛ لأنه قال في العسل: "لا حاجة لي به" أو "لن أعود له" على نحو قوله عن الضب "لست آكله ولا أحرمه" رواه البخاري، وكذلك إذا قال لزوجته: "أنت عليَّ حرام" فلا يفيد تغيير حكم سابق أو تشريع جديد لأمته؛ لأنه قال "عليَّ" ولم يقل على أمتي، وكل ذلك يستفاد منه عدم تحريمه لشيء على أمته ولا قيامه بفعل محرّم وإنما هو امتناع عن حلالٍ حَرَم منه نفسه وهو مباح، ولذلك عاتبه الله وقال: {لم تحرم ما أحل الله لك}. وأفعال النبي صلى الله عليه وسلم إما أن تكون بياناً لخطاب سابق كتفصيل المجمل أو تقييد المطلق أو تخصيص العام أو إلحاق فرع بأصل، وإما أن لا تكون بياناً لخطاب سابق وهي: إما أن تكون أفعالاً جِبِليّة كالأكل والنوم وهي ليست موضع تأسٍ واتباعٍ؛ لأنها ليست مما يُتَقرب به إلى الله وشأنها في ذلك شأن الأشكال المدنية كاللباس والعمران ووسائل النقل وغيرها مما يدخل في عموم أدلة الإباحة ما لم يرد دليل التحريم، وإما أن تكون أفعال خاصة به من دون أمته كجمعه في الزواج أكثر من أربع ومواصلة الصيام، وإما أن تكون تشريعاً لأمته وهي موضع الاتباع والطاعة كطريقته في إقامة الدولة بالتثقيف والتفاعل مع المجتمع وتسلم الحكم بالبيعة، وآية التحريم تتعلق بفعل مباح خوطب به كسائر المسلمين لكنه خالف به الأولى فعاتبه الله، والفرق بين مخالفة الأولى وبين المعصية هو أن مخالفة الأولى يقع في أمر مباح كالسفر بالطائرة أو بالمركبة أو يقع في مندوب كالتصدق في السر أو في العلانية، وما دامت المخالفة لم تقع في محظور شرعي فلا تعتبر معصية ولا تقدح بالعصمة.
وأما المعصية فتكون في ترك واجب أو فعل حرام، والقرينة هي التي تبين إن كان الفعل معصية أم ليس بمعصية، ومثال ذلك إذا ترتب على الفعل عقوبة أو ذمٌ فإنه يدلّ على أن الفعل معصية وليس مخالفة للأولى. ومن الأمثلة على خلاف الأولى هو عتاب الله للنبي بشأن عبد الله بن أم مكتوم في قوله: {عبس وتولى أن جاءه الأعمى وما يدريك لعله يزكى} سورة عبس 1-3، حيث خالف النبي الأولى في التبليغ ولم يرتكب معصية؛ لأنه كان يبلغ قادة قريش، والعتاب كان على تقديمه دعوة قادة قريش على تعليم الأعمى وليس على القعود عن التبليغ، والعتاب هنا لم يتعلق بلفظ النبي أصلاً وإنما عبر بصيغة الغائب {جاءه} وتخصيص الخطاب بلفظ النبي ونفيه عن لفظ الرسول يحتاج إلى دليل. وكذلك في عتاب الله للنبي بعدم الإثخان قبل الأسر في قوله: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} الأنفال 67، فلم يدل الفعل على عصيان النبي لله ومخالفة أمره، وإنما دل على مخالفة الأوْلى في الإثخان إذ لم يَرِد في الشرع وصفٌ يحدد قدر الإثخان مثلما ورد في تحديد صفة الوضوء، وما دام لم يحدد الشرع قدْراً للإثخان فيُعمل بمعناه اللغوي وهو القتل والتخويف الشديد، ويرجع تقدير ذلك للقادة؛ لأنه من الوسائل والأساليب المباحة، وما فعله النبي صلى الله عليه وسلم أنه اختار قدْراً من الإثخان فعاتبه الله على ذلك القدْر المباح فقال: {ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يُثخن في الأرض}، وكون الخطاب لم يصحبه تشريع بديل أو عقوبة أو ذم دلّ على مخالفة الأولى وليس على معصية. أما قوله: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ}" التوبة 49، فلم يكن معصية؛ لأن الإذن كان قد شرع من قبل في قوله تعالى: {فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم} النور 62، وهذا يدل على أنه خالف الأوْلى؛ لأن إذن النبي للمنافقين مباح قبل نزول آية التوبة، وكان الأوْلى أن لا يأذن لهم في غزوة تبوك بالذات وعاتبه الله على ذلك. وأما نفي عصمة النبي بقوله: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} الفتح 2 فقد فُسِّر قوله: {ما تقدم من ذنبك} باالذنب السابق للتكليف بالرسالة، والعصمة إنما تأتي بعد التكليف بها كما حصل لآدم عليه السلام، وأما قوله {وما تأخر} فتُحمل للتأكيد على خلو النبي من الذنوب، نحو قولهم: "أعطى من رآه ومن لم يره، وضرب من لقيه ومن لم يلقه"، وهو في الواقع لم يعطِ من لم يلقه ولم يضرب من لم يره، وأما الآيات التي خاطبت النبي ليستغفر لذنبه كقوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} محمد :19 فلا دليل فيها على وقوع النبي في الذنب؛ لأنها لم ترتبط بفعل من أفعاله، ولو كان قد أذنب لذكرت الآية الذنب واستدركت على فعله؛ لأن أفعال النبي تشريع للناس، وعدم استدراك الوحي على أفعاله دليل قاطع على عدم قيامه بمعصية، حيث لم يثبت في القرآن أن الله قد استدرك من فعل رسوله تشريعاً واحداً إلا بنسخ الحكم دون عتاب، وذلك كنسخ حكم القبلة لبيت المقدس بقوله تعالى: {فول وجهك شطر المسجد الحرام} البقرة 149. فقوله تعالى: {فاستغفر لذنبك} لا تدل على ارتكابه ذنباً إلا إذا ارتبط بمعصية اقترفها النبي وهذا لم يثبت لأن المعصية تبرز في الاستدراك على فعل النبي وإلغاء تشريعه أو بذم فعله أو معاقبته عليه وهو ما لم يحصل أبداً، بدليل قوله تعالى: {ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين} الحاقة 44 - 46.
ومهما كان التأويل فلا بد من نفي الذنب عن النبي؛ لأن الآيات التي يُشتبه بنفيها العصمة عن النبي ظنية الدلالة والعصمة قطعية بالدليل العقلي، إذ لو جاز عليه الذنب والمعصية لما قامت الحجة على الناس في التبليغ لدواعي الشك فيما ينقله عن الله، ولا يقال أن العقل ليس حجة في الدين؛ لأن العقل حجة في العقائد لا في الأحكام وعصمة الأنبياء هي من العقائد ويجوز الاستدلال عليها بالعقل. وخلاصة الأمر أن الأصل في التبليغ هو العصمة لثبوتها بالدليل القاطع ولا بد أن تكون هي المعيار في تفسير الآيات الظنية، فما ورد من الآيات منافياً للعصمة في الظاهر يُؤوّل بحمل مظنة المعصية على العصمة المقطوع بها، ومثل ذلك أيضاً إذا تعارضت العلوم الظنية مع المقطوع به عقلاً كالقرآن فيحمل الظني على القطعي، وإذا كانت دلالة القرآن ظنية والعلوم قطعية تكون العلوم قرينة لترجيح دلالة المعاني الظنية في القرآن؛ لأن مقياس صحة الفكر هو انطباقه على الواقع. وعصمة النبي في التبليغ منطبقة على الواقع وما يخالفها يؤوّل بما يتفق مع مدلولها، والعصمة وحدها تكفي بأن تكون دليلاً قاطعاً على حجية السنة.

أبو أسيد
31-01-2015, 11:27 PM
ومن الآيات الدالة على حجية السنة قوله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} النساء(65)، والشاهد في هذه الآية أنها تتعلق بحكم قضى به النبي صلى الله عليه وسلم من السنة وليس من القرآن، وعندما اعترض ذلك الرجل على حكم النبي نزلت الآية تهدد بنفي الإيمان عمّن لا يقبل بحكم النبي؛ لأن النبي مأذون له بالتشريع ممن له الحاكمية: {وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى}، ولو كان اعتراض الرجل على حكم القرآن لكان الحكم منصوصاً عليه في القرآن ولقضت الآية بكفره وليس برده إلى الله ورسوله، فمفهوم الآية يدل على أن الاعتراض كان على حكم النبي وليس على القرآن لأنها علقت تمام الإيمان بالرجوع إلى النبي وتحكيمه. والآية لم تتصل بلفظ الرسول أصلاً، فقال: {حتى يحكّموك} مما يفيد عمومها في صفتيه كنبي ورسول.

2- الاستدلال بالسنة وإجماع الصحابة على حجية السنة
يمكننا الاستدلال بالسنة على حجيتها لثبوت أنها وحي من الله {وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى} {وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا}، يقول عليه الصلاة السلام: "ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، لا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه وما وجدتم فيه من حرام فحرموه. وفي لفظ الترمذي وابن ماجه: ألا وإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما حرم الله". وهذا دليل على أن ما اصطلح عليه بالسنة هي وحي من الله وحجة يُستدل بالصحيح منها على الأحكام وبالقطعي منها على العقائد بصرف النظر عن الخلاف فيما يفيد الظن وما يفيد اليقين؛ لأن الخلاف على دلالة الأحاديث ليس خلافاً على حجية السنة وإنما هو خلاف في دلالتها على الأحكام والعقائد وعلى اتصال سندها بالنبي، فالأحاديث منها خبر الآحاد ومنها المتواتر، والخلاف بين العلماء وقع في إفادة خبر الآحاد وفي شروط اعتبار الحديث، لكنهم لم يختلفوا في حجية السنة والعمل بمقتضاها، ولو لم تكن السنة حجة لما أخذنا القرآن عن النبي؛ لأن أقواله هي التي أرشدت بأن ما يتلوه هو قرآن من عند الله؛ لأن الآيات المنجمة وترتيبها في السور لا يظهر فيها الإعجاز قبل اكتمال السور؛ ولأن ترتيب الآيات في السور ليس مما يستقل العقل بمعرفته، فقول النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة: "ضعوا هذه الآيات في السورة كذا" هو من السنة وليس من القرآن، فالإرشاد إلى آيات القرآن وترتيبها هو وحي من الله مثلما أن الآيات ذاتها وحي، ولو لم يكن ترتيب الآيات وحياً لما علم النبي بموقعها في السور لأنها ليست من تأليفه. ولهذا فإن ما ينطق به النبي من قرآن هو وحي وما يتصل بذلك من إرشاد عن الآيات وترتيبها هو وحي مستقل عن القرآن . وقد يقول قائل أن القرآن دل عليه إعجازه ولا حاجة للسنة لتدل عليه وهذا صحيح في إثبات حجة القرآن أنه كلام الله وليس في إثبات ما بين دفتي الكتاب ولا بترتيب آياته التي كانت تنزل منجمة على الأحداث والوقائع، إذ لم يكن يُعلم بترتيب الآيات إلا من خبر الرسول أي من السنة، كما أن الإعجاز لا يَبْرز في الآيات المنجمة في القرآن عند نزولها فلا يتأتى معرفة الآية غير المعجزة بأنها من القرآن قبل أن تكتمل في السورة وتدل على أنها كلام الله بالإعجاز إلا بشهادة النبي، ولعل قائل يقول أن النبوة ذاتها لم تثبت له إلا بعد ثبوت إعجاز الكتاب وهذا صحيح، ولكن النبوة قد ثبتت بإعجاز سورة واحدة، وأما ثبوت الآيات المنجمة قبل اكتمال السور فلا بد له من دليل غير الإعجاز وهي شهادة النبي الذي لا ينطق عن الهوى. وبمعنى آخر، فإن حجة النقل هي غير حجة المنقول، فنقل القرآن عن الوحي دليله النبوة، وأما المنقول فمنه ما كان معجزاً كالسور وبعض الآيات ومنه غير المعجز ككثير من الآيات المنجمة عند التنزيل قبل أن تكتمل السور، وصِدق ما اكتمل من السور بعد التنزيل دليله الإعجاز، وأما صدق ما لم يثبت بالإعجاز من الآيات المنجمة وترتيبها فدليله قوله تعالى: {وما ينطق عن الهوى} . ومثال ذلك قوله تعالى: {القارعة}، فهي آية، لكنها ليست معجزة بمفردها، ولا يمكن معرفة أنها من القرآن أم من غيره إذا نزلت بمفردها إلا بشهادة النبي الذي لا ينطق عن الهوى. ولهذا لا يقال بأن الإعجاز قد دلّ على القرآن بمفرده؛ لأن القرآن بحاجة إلى من يُعرّف به وبترتيب آياته، فحجة "ضعوا هذه الآية في السورة كذا" هي أن أقواله وحي؛ لأن الآية بمفردها لا تدل على أنها كلام الله، وحتى تعتبر وحياً لا بد أن يدل عليها إعجازها أو يخبر الله بأن ما يقوله النبي هو من عند الله وأن عليهم أن يأخذوا به، ولهذا أقسم الله بأن النبي لا ينطق عن الهوى، وقال: {والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى} النجم 1 - 4، وقال: {وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا}، وإنكار الكفار لآيات القرآن قد صاحَبَ التنزيل منذ بدايته، فقد اتهمت قريش القرآن بأنه قول بشر {إن هذا إلا قول البشر} المدثر 25؛ لأن ما نزل من القرآن من آيات متفرقة قبل سورة المدثر لا يظهر فيه ما يدل على أنه كلام الله، ولذلك نزلت سورة المدثّر كاملة لتبرز الإعجاز وتبرهن على صدق النبوة، ثم تبعتها آيات تشهد للنبي بأنه لا ينطق عن الهوى حتى يؤمنوا بما يتنزل عليه.
ولا يقال ما دام الله تحداهم بالإتيان بمثله بالرغم من نزوله منجماً يعني أن آياته دالة بذاتها على أنها كلام الله، لا يقال ذلك لأن التحدي ليس هو الحجة وإنما الحجة هي القرآن ذاته؛ ولأن القرآن فيه المعجز من الآيات وفيه غير المعجز، ولا شك أنهم لن يأتوا بمثله؛ لأن ما نزل من الآيات معجزاً يستعصي على المماثلة، ولأن الله عندما تحداهم بما نزل من القرآن لم يكن آيات منجمة فحسب، بل كان هناك سور قد نزلت بأكملها في بداية التكليف بالرسالة كسورة المدثر، والإتيان بمثل القدر الذي تحداهم به ممتنع لوجود سور مكتملة. والشاهد في المسألة أن هناك آيات غير معجزة بمفردها وتحتاج إلى وحي للإرشاد إليها وإلى ترتيبها في السور، ولذلك كان بيان النبي لتلك الآيات وترتيبها دليلاً قاطعاً على استقلال وحي السنة عن الكتاب؛ لأن القرآن لم ينص على ترتيب الآيات في السوَر، ولأن الآيات المنجمة لا تدل بذاتها على الإعجاز عند التنزيل، وأقوال النبي هي التي بينت كل ذلك، مما يعني أن البيان ليس لإظهار القرآن للناس فحسب وإنما للشهادة لآياته وترتيبها وتفصيل أحكامها، وهذا يبطل تفسير القرآنيين لمعنى البيان ويثبت استقلال وحي السنة عن القرآن، وأما إذا كان المقصود في البيان بيان القرآن لنفسه للزم أن ينص القرآن على ترتيب الآيات ولزم أيضاً أن تكون جميع آيات القرآن معجزة فضلاً عن لزوم بيان القرآن لكل الأحكام المتعلقة بسلوك العباد وهذا مناف لواقع القرآن.
وأما ثبوت أن القرآن من عند الله فطريقه العقل ودليله الإعجاز بعد اكتمال سوره، ولذلك فسر بعض العلماء قوله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم..} بكمال إعجازه. وأما السنة فدليلها قوله تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} وقوله: {قل إنما أنذركم بالوحي} {وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى}. وهذه الآيات هي حجة السنة التي جاءت بترتيب آيات القرآن وكل ما يحتاج إلى بيان. وما يؤكد هذا المعنى قوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} النحل 44، ففي هذه الآية بنى الفعل للمجهول، وهو من التعبير البلاغي للقرآن، إذ المجهول أحوج للبيان من الأمر الظاهر، والقرآن فيه الخفي الذي لا يستقل العقل بمعرفته كالتعريف بالآيات المنجمة وترتيبها في السور وجزئيات الشريعة وفروعها وكل ذلك يحتاج إلى بيان من خارج القرآن.
وأما إجماع الصحابة فهو من الأدلة المعتبرة شرعاً؛ لأنه يكشف عن دليل من السنة، ولأن الله قد أثنى عليهم وقال عنهم: {رضي الله عنهم ورضوا عنه} التوبة 100، {وأولئك هم الصادقون} الحشر 8، وقد أجمع الصحابة على الأخذ بالسنة والحكم بها، ومن الأمثلة على ذلك ما رواه مالك وغيره: " جاءت الجدة إلى أبي بكر - رضي الله عنه - تسأله عن ميراثها، فقال أبو بكر : ما لك في كتاب الله عز وجل شيء وما علمت لك في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئاً فارجعي حتى أسأل الناس، فقال له المغيرة بن شعبة : حضرت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعطاها السدس، فقال أبو بكر: هل معك غيرك؟ فقال: محمد بن مسلمة، فقال مثل ما قال المغيرة، فأنفذه أبو بكر لها، ثم جاءت الجدة الأخرى إلى عمر بن الخطاب تسأله ميراثها، فقال لها: ما لك في كتاب الله - عز وجل - شيء، وما كان القضاء الذي قضى به إلا لغيرك، وما أنا بزائد في الفرائض، ولكنه ذلك السدس، فإن اجتمعتما فيه فهو لكما، وأيتكما انفردت به فهو لها". وقد تضافرت الأدلة على عمل الصحابة بالسنة وهي مدونة في كتب الحديث والفقه ونقتصر على ما تقدم بشأن ميراث الجدة للاختصار، وعمل الصحابة بالسنة يدل على أنها حجّة يرجع إليها في استنباط الأحكام وليست تراثاً تشريعياً موقوفاً على مكان النبي وزمانه\ح لأن الصحابة عاصروا النبي وأدركوا أنه يتلقى عن الوحي لا سيما عندما كانوا يسألونه عن مسألة وكان ينتظر الوحي قبل أن يجيبهم وقد ثبت ذلك عنهم.

أبو أسيد
31-01-2015, 11:28 PM
رابعاً: أبرز شبهات منكري السنة
1- الاستدلال على استغناء القرآن عن السنة بالآيات القرآنية كقوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} الأنعام 38، والاستدلال بهذه الآية على ما فيه من تحريف للمعنى فإنه ينقض زعمهم بأن الشريعة تخضع لحركة التاريخ والزمان والمكان؛ لأن كونه لم يُفرِّط في الكتاب من شيء يعني بأنه يصلح لكل زمان ومكان، إلا أن المعنى المراد في الآية هو اللوح المحفوظ وليس القرآن؛ لأن سياق الآية يتحدث عن اللوح المحفوظ بقرينة قوله {وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه} ولو كان القرآن هو المراد في الآية لتناقضت مع واقع القرآن؛ لأنه لم يأت على تفصيل كل شيء وإنما جاء فيه المجمل والعام والمطلق وهذا يحتاج إلى تفصيل وتخصيص وتقييد لم يبيّنه القرآن. وأما قوله تعالى: {..وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِين} النحل 89، فلا يعني الاستغناء عن السنة؛ لأن واقع القرآن لا يُبيّن التفاصيل كما أن السنة هي مما بيّن القرآن الأخذ به بدليل قوله: {وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} الحشر 7، فلا وجه للدلالة في الآية على حصر التبيان في القرآن دون السنة طالما أن السنة هي مما أمر القرآن العمل به، وهذا هو المعنى المراد بأن القرآن جامع للإسلام. وأما قوله: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا} فلا تدل على حصر الدين بالقرآن وحده؛ لأن السنة كانت مصاحبة لنزول القرآن واكتمال الدين يعني كمال الرسالة التي نص القرآن على أن السنة جزء منها كما أسلفنا، حيث ثبتت أنها من الدين وأن الصحابة عملوا بها في زمن النبي وبعد انتقاله للرفيق الأعلى، وكمال الدين يعني تمام كليات الشريعة وما لحق بها من تفاصيل وجزئيات بينها النبي بالوحي. وأما قوله تعالى : {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} النحل 44 ، فإنها تشمل القرآن والسنة؛ لأن البيان يشمل الآيات غير المعجزة وترتيبها في السور وليس إظهار القرآن فحسب، وهذا يدل على أن السنة النبوية وحي مستقل عن الكتاب. وإذا كان ترتيب الآيات في السور ليس مما يدركه العقل وأن القرآن لم ينص على مواقع الآيات المنجمة في السور فإن السنة وحي من الله إذ يستحيل أن تحافظ السور على إعجازها لو حصل اضطراب في ترتيب آياتها وموقعها. وهذا دليل قاطع على استقلال السنة عن الكتاب وعلى حجية السنة؛ لأن قوله عليه السلام "ضعوا هذه الآية في السورة كذا" ليس قرآناً وإنما هو سنة متواترة. ومن الأدلة على وحي السنة هو اتجاه القبلة إلى بيت المقدس إذ لم يرد في القرآن دليلٌ عليها، والتوجه لبيت المقدس هو مما شُرع بالسنة وليس بالكتاب، بدليل أن حكم القبلة إلى البيت الحرام هو حكمٌ ناسخ ولم يرد الحكم المنسوخ في القرآن، واتجاه القبلة هو من العبادات، والعبادات توقيفية أي لا بد لها من نص شرعي، وكون حكمها جاء من الرسول فهو دليل على أن السنة وحي من الله. ومع أن إلحاق الفروع بالأصول يدخل في البيان لكن السنة استقلت في تشريع أحكام لم ترد في الكتاب كقوله عليه السلام: "لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ صَاحِبُ مُكْسٍ "صححه الحاكم وأبو داوود. وقوله: "المسلمون شركاء في ثلاث في الماء والكلأ والنار .." سنن ابن ماجة.
2- رفض السنة بزعم عدم حفظها كالقرآن وما نجم عن ذلك من تحريف ووَضْع وخلاف في الآراء بين العلماء ليس حجة شرعية لتعطيل العمل بالسنة لأنها مصدر من مصادر الوحي، ولا بد من التفريق بين الموقف من حجيتها وبين الموقف مما اعتراها من دس وتحريف وخلافات، فأما حجيتها فهي ثابتة بالأدلة القطعية من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة، وهي طريق معرفة القرآن وترتيب آياته وبيان أحكامه التفصيلية. وأما الموقف مما اعتراها من تحريف ووضع وخلافات فلا يستوجب رفضها وإنما يتطلب تدقيقها والحرص على أخذ الصحيح منها، والغريب في هذه الحجة أن القرآنيين منذ نشأتهم قبل مئة عام على الأقل وهم يقدحون بالسنة وروايتها دون أن يفعلوا شيئاً لتنقيتها وهو ما يدل على أن القضية ليست في ما اعترى السنة النبوية من تحريف وإنما هي رفض السنة من حيث هي تشريع للوصول إلى فصل الدين عن الحياة وليس بسبب تبدلها وعدم حفظها، بدليل أن ما ثبت صحته من السنة لم يأخذوا به، وما أخذ منه كهيئة الصلاة أخذ باعتباره مما اتفق عليه العقل الجمعي للأمة لا باعتباره بياناً للقرآن ووحياً. والسنة الثابتة هي وحي معصوم ومحفوظ من جهة استحالة أن يدخل فيها ما ليس منها بحيث لا يتميز أبداً، واستحالة أن يضيع منها شئ فلا نجده أبداً؛ لأن من المعلوم من الدين بالضرورة أن الإسلام هو رسالة إلى الناس كافة: {وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً} سبأ 28 ، ولا يتحقق ذلك إلا بحفظ الدين كله إلى يوم القيامة، ولو كان اختلاف المسلمين في الآراء أو كان الوضع والتحريف في أحاديث النبي سيؤدي إلى ضياع الأحكام لكان القرآن كاذباً وهو أمر محال، وهذا يعني أن الوضع والتحريف في الأحاديث لن يبدل دين الله أو يزيد فيه أو يُنقص منه شيئاَ بالإضافة إلى أن الوضع والتحريف لا يمنع من إعمال ما ثبتت صحته ونسبته إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ثبوتاً يقينياً بالتواتر، أو ثبوتاً يخلو من علة قادحة. وإن حصر الدين بالقرآن هو الذي سيؤدي إلى ضياع أحكام الإسلام؛ لأن القرآن هو أصل من أصول الدين وليس الدين كله؛ لأن معنى قوله تعالى: تبيان لكل شيء وتفصيل كل شيء يتضمن السنة النبوية الواجب أخذها والعمل بها: {وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} {ما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم} {ما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله إلا أن يقولوا سمعنا وأطعنا} فالسنة والتحاكم إلى الرسول هي من أحكام الإسلام التفصيلية الواجب أخذها بنص القرآن. وإذا علمنا أن السنة بيان للقرآن وليس لإظهاره فقط: {وما ينطق عن الهوى} وإذا علمنا أيضاً أن الرواية هي شرط يلزم من عدمه عدم إيصال القرآن والسنة الى العالمين، وإذا علمنا كذلك أن الإسلام ماضٍ إلى يوم القيامة {وما أرسلناك إلا كافة للناس} لأدركنا أن العبث في السنة أثناء النقل لن يضيّع حكماً شرعياً واحداً من أحكام الدين؛ لأن الأصل هو أن يصل الدين كاملاً نقيّاً إلى الناس كافة، ولو أن الوضع والتحريف والاختلاف مانع من وصول الدين لما وجب حساب الناس يوم القيامة. وإذا اقتصرنا على القرآن وحده لما علمنا مواقيت الصلوات وهيئتها والزكاة ونصابها وأحكامها والحج ومناسكه، ولما علمنا ما حرم من اللحوم كالحمر الأهلية وكل ذي ناب وغير ذلك من أحكام الإسلام. على أن من عمل بما يغلب على ظنه من السنة أنه صحيح فلا إثم عليه ويكون فعله هو حكم الله في حقه ومن لم يصله الحكم لعذر معتبر فلا إثم عليه؛ لأن الله يقول: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً} الإسراء 15؛ أي حتى نقيم الحجة. ومن العجيب أيضاً أن ينظر القرآنيون إلى الخلافات والوضع والتحريف لأحاديث النبي بعين الذم وإغفالهم الجانب المشرق في نقلهم غثها وسمينها، فمن التضليل أن يتم التركيز على الغث من الأحاديث دون ذكر حكم العلماء على الموضوع منها بالوضع وعلى الصحيح منها بالصحة، ومن الظلم وعدم الإنصاف أن يُقال بأن نقل الغث والسمين قادح بالسنة ولا يقال بأنه دليل نزاهة وعدالة، فلو لم يكن المحدثون والمفسرون يتحلوْن بأمانة النقل والتقوى لنقلوا ما غلب على ظنهم صحته وأغفلوا ما غلب على ظنهم ضعفه ولنقلوا ما يتفق مع النظام السياسي السائد وأغفلوا ما يقوضه. هذه هي القاعدة التي يجب أن ينطلق منها كل من يؤمن بالقرآن؛ لأن صعيد المسألة هو تنقية الأحاديث والجمع بين ما يشتبه فيه التعارض وليس حجية السنة؛ لأن ثبوت الوضع أو التعارض يوجب عدم الاحتجاج بالحديث وليس إسقاط السنة لأنها مصدر للتشريع وأصل من أصول الدين. كما لا يجوز أن ينتقل الذهن إلى الشك والتشكيك في الدين لمجرد الاشتباه بتعارض أحاديث النبي أو تعارض بعض أفعاله مع أقواله؛ لأن فيها الخاص والعام والمطلق والمقيد والناسخ والمنسوخ، وحتى لو ثبت وضع بعض الأحاديث وتعارضها فإن ثبوت ذلك يستوجب إقصاءها وليس إقصاء السنة كلها. أما الاتكاء عليها للتشكيك بالدين فلا يوضع في خانة حسن النوايا مطلقاً.

أبو أسيد
31-01-2015, 11:28 PM
3- أما قولهم بأن النبي مجتهد والمجتهد يصيب ويخطئ وهو ما يدل على أن تطبيق الشريعة خاص به وليس ملزماً لأمته فهو قول خاطئ؛ لأن النبي ليس مجتهداً ولا يجوز الاجتهاد في حق الرسول لأنه مبلغ عن الله {إنما أنذركم بالوحي} الأنبياء 45، ولا فرق بين أقواله وأفعاله وسكوته؛ لأن الله أمرنا بالأخذ عنه بصيغة العموم: {وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} الحشر 7 ، وأقوال النبي وأفعاله وسكوته هي أحكام شرعية للأمة لأنها بيان وتشريع بالوحي. والاجتهاد يتنافى مع عصمة النبي في التبليغ؛ لأن الخطأ في مسألة يعني الخطأ في التشريع والتبليغ وهذا محال. وأما أخذ الرأي من الناس فكان في أمور الدنيا من وسائل وأساليب مباحة وليس في التبليغ عن الله، ومثال ذلك استشارته للصحابة في بدر بشأن الحرب والمشورة وفي مسألة تأبير النخل التي هي من أمور الدنيا وليست من أمور الرسالة. فالاجتهاد لا يجوز في حق النبي لأنه لا يقول برأيه وإنما بالوحي {إن أتبع إلا ما يوحى إلي} وهذا دليل قاطع على أن ما يصدر عنه من قول أو فعل أو تقرير إنما هو وحي من الله، كما أن النبي كان لا يعطي الرأي إلا بعد نزول الوحي، ولو كان يجتهد رأيه لأعطى الحكم قبل نزول الوحي، ولو أخطأ في الحكم لاتبعه الناس في الخطأ وهذا باطل لأنه ينقض الرسالة والنبوة. ولا يُقال بأنه يجوز عليه الاجتهاد إذ لو أخطأ لاستدرك عليه الوحي لا يقال ذلك لأن الله لا يأمر باتباعه والأخذ عنه لو جاز عليه الخطأ في التبليغ حيث قال: {واتبعوه لعلكم تهتدون} الاعراف 158.

4 - وأما حرية الرأي والعقيدة، فإن الرأي يأخذ حكم مضمونه فإذا كان مضمونه حراماً فيحرم، كسبِّ الدين والأنبياء والصحابة، فلا حرية مطلقة في الرأي كما في الديمقراطية؛ لأن الرأي مقيد بما أحله أو حرمه الشرع. وأما حرية الاعتقاد فهي محصورة في غير المسلمين إذ لا إكراه في الدين، فلا يُجبر غير المسلمين على ترك دينهم واعتناق الإسلام وإنما يُجبرون على الاحتكام لأنظمة الإسلام سواء في المجتمع الإسلامي أو في الجهاد والفتح، وعندما كان المسلمون يطبقون عليهم الإسلام يرتاح الناس لنظامه ويعتنقون عقيدته كما حصل في سمرقند وغيرها، وأما ترك الإسلام بعد اعتناقه فلا يجوز لأن من يعتنق الإسلام يخضع لأحكامه، كحد الزنا والقتل والسرقة، والردة لها حكم في الشرع وهو القتل: "من بدل دينه فاقتلوه" رواه البخاري من حديث ابن عباس. وحكم الردة يتعلق بالمسلم المفارق لدينه ولا علاقة له بالكفار قبل اعتناق الإسلام، بل أن الإسلام عصم دم الكافر وأجاز له البقاء على دينه فيما أوجب قتل المسلم المفارق لعقيدته. وحكم الردة منصوص عليه في الديانات الأخرى وليس في الإسلام وحده ولا نجد أحداً ينتقد قتل المرتد إلا عند المسلمين. وحتى الديموقراطيون قتلوا في الحروب العالمية في ظل الدمقراطية عشرات الملايين، كما أن الحملة العالمية على الإسلام بحجة "الإرهاب" هي في حقيقتها إكراه للمسلمين على ترك دينهم ونبذه والتحول إلى عقيدة فصل الدين عن الحياة.