حبيبي محمد
01-10-2014, 10:58 PM
فى كتابنا «نذر العولمة» الذى صدر سنة 1998 تساءلنا: «هل يستطيع العالم أن يقول: «لا للرأسمالية المعلومالية». فى هذا الكتاب نبين أن العالم قد قال: «لا» بالقلم العريض.
الأزمات الاقتصادية المتعاقبة اعتمدت على مبدأ أن هناك أحمق يولد كل دقيقة. أما العولمة فاعتمدت على مبدأ أن العالم قد أصبح مسرحا للتفتيش عن هؤلاء الحمقى، وقد وجدتهم فى كل مكان.
قال صمويل هنتجتنون: «لم يربح الغرب العالم بسبب تفوق أفكاره أو قيمه أو ديانته، وإنما ربحه بسبب تفوّقه فى استعماله العنف المنظم. والغربيون غالبا ما ينسون هذه الحقيقة. أما غير الغربيين فلا ينسونها أبدا».
الأزمة الاقتصادية الأخيرة وحروب الإرهاب الغربى فى العالم الإسلامى مباشرة أو عن طريق الوكلاء، كما فى فلسطين والعراق وأفغانستان وباكستان وغيرها؛ هى مسامير فى نعش المشروع الإمبراطورى الأمريكى الذى جعل «العولمة» حصان طروادته.
عندما قرّرت شبكة تلفزيون «الجزيرة» المعروفة، عمل حلقتين وثائقيتين مدة كل منهما ساعة حول كتابى «حروب البترول الصليبية.. أمريكا بعيون عربية»، وضعت أنا ومخرج الحلقات قائمة بالشخصيات التى ستجرى مقابلتها، استنادا إلى من استُشهد بأقواله من تلك الشخصيات فى كتابى، ومن هؤلاء كان جيمس إيكنز، وهو سفير سابق للولايات المتحدة لدى المملكة العربية السعودية أوائل سبعينيات القرن الماضى، خلال الصدمة النفطية الأولى.
وفى كتابى ذاك استشهدت أيضا بدراسة لكلية الدراسات العليا لإدارة الأعمال فى جامعة هارفارد، ورد فيها أن احتلال حقول النفط العربية كان بديلا سياسيا مطروحا فى أوائل السبعينيات، وذكرت قصة كان إيكنز رواها حول الموضوع نفسه، وكان أن قابلت «الجزيرة» إيكنز لغرض المسلسل الوثائقى. وفيما يلى النص الدقيق لما قاله السفير إيكنز، كما بثته قناة الجزيرة: «عندما طلع علينا كسنجر بخطته لاحتلال حقول نفط الشرق الأوسط، سُئلتُ عمّا كان
قد نُشر فى مقالة بمجلّة (هاربر) كتبتها كاتب مجهول دعا نفسه (الجندى المجهول)، ولم يعرف أحد حقيقة هويته إلا بعد ردح من الزمن. وكان كاتب المقالة اقترح على الولايات المتحدة احتلال حقول النفط العربية من الكويت وحتى دبى، مع إحضار موظفين من تكساس وأوكلاهوما لتشغيل هذه الحقول، وترحيل جميع مواطنى هذه البلدان إلى نجد (فى السعودية)، بحيث تخلو المنطقة بكاملها من مواطنيها العرب، وننتج نحن النفط لمدة خمسين أو سبعين سنة قادمة إلى أن تجف حقول النفط.
بحثت الخطة مع أرامكو (شركة النفط الأمريكية السعودية) فارتعبت؛ إذ من السذاجة بمكان أن يجول بخاطر المرء مثل هذا الحلم. وقد سألتنى وسائل الإعلام الأمريكية عن هذه الخطة، وكنت حينها سفير أمريكا لدى السعودية، فأبلغت وسائل الإعلام الأمريكية بأن من يفكر فى حل أزمة الطاقة الأمريكية بهذه الطريقة، إما أن يكون مجنونا أو مجرما أو عميلا للاتحاد السوفييتى. ويبدو أن هذه الكلمات لم تسر ذاك الذى كتب مقالة (هاربر)، وكنت أعتقده أحد حمقى وكالة الاستخبارات المركزية أو البنتاجون، فلم أكن أعرف بعد من قد يكون، وأخيرا عرفت: لقد كان رئيسى (كسنجر)، فلم ألبث بعدها أن طُردتُ.
إن كُهّان الرأسمالية وإعلام شركاتها، استخدموا منهج (الضربة الإجهاضية) أبكر كثيرا من الوقت الذى أصبحت فيه هذه الكلمة مشهورة بعد عقيدة بوش فى الحروب الإجهاضية؛ إذ إن ابتداعهم «نظرية المؤامرة» -كما يبدو- أرادوا به إجهاض أى فكر حر فى مهده وإبعاده عن التحقيق فى مؤامراتهم الحقيقية؛ لهذا تغدو (نظرية المؤامرة) فى حدّ ذاتها مؤامرة!.
قال الرئيس الأمريكى وودرو ويلسون سنة 1913: (منذ دخلت معترك السياسة، عملت وبشكل رئيس على أن يفضى الرجال إلىّ بوجهات نظرهم على انفراد؛ إذ إن بعضا من أكبر رجالات الولايات المتحدة فى مجالات التجارة والصناعة كانوا يخشون شيئا ما؛ فقد كانوا يعرفون أن فى مكان ما، قوة ما، بالغة التنظيم، شديدة الدهاء والمكر، شديدة اليقظة، شديدة الترابط وشديدة الفساد، بحيث إن من الأفضل لهم ألا يتحدثوا عنها إلا همسا عندما يشجبونها).
فى (الديمقراطية) الأمريكية قاد رئيس مكتب التحقيقات الفيدرالى FBI إدجار هوفر، سياسيى واشنطن ومنهم رؤساء الجمهورية، لأكثر من خمسين عاما. دعنا نعط مثالا لما ورد فى تسجيل فى البيت الأبيض بين الرئيس رتشارد نيكسون ووزير العدل متشل.
الرئيس نيكسون: (لعدة أسباب يجب أن يستقيل -كان يتحدث عن هوفر- يجب أن ينصرف ويكفينا شره. أستطيع الآن -وأشك فى ذلك- أن أتصل به على الهاتف وأتحدث إليه بشأن استقالته. إن هناك بعض المشكلات؛ فإذا استقال فيجب أن يكون قد استقال بمحض إرادته، ولهذا فنحن فى مشكلة عويصة. أعتقد أنه سيظل رابضا على صدورنا إلى أن يبلغ المائة من عمره).
وزير العدل: (إنه سيظل فى منصبه إلى أن يدفن هناك.. فى الخلود).
الرئيس نيكسون: (أعتقد أنه يتعين علينا أن نتحاشى الموقف الذى يجعله ينصرف مفجرا وراءه قنبلة كبيرة؛ فربما يكون هذا الرجل قادرا على جر الجميع معه إذا سقط، حتى أنا، وستكون مشكلة عويصة).
كان تقدير الرئيس ووزير العدل للموقف صحيحا؛ لأن رئيس جهاز FBI بقى فى منصبه إلى أن رحل عن هذه الدنيا. وعندما سمع الرئيس نيكسون الأنباء قال: (يا إلهى.. يا إلهى.. هذا الفاسق العجوز).
ولقد تصور البعض أن رؤساء الدول الأجنبية يخشون مؤسسة الأمن القومى الأمريكية، لكن لم يخطر ببال أحد أن الرؤساء الأمريكيين أنفسهم -ومنهم نيكسون Nixon وكذلك قادة آخرون كثر، ومسئولون كبار ومشرعون منتخبون- كلهم أعربوا حرفيا عن تخوفهم من منظمة الأمن القومى الأمريكية؛ تلك المنظمة التى يفترض أنها معنية بالأمن لا بترويع القادة والرؤساء.
أحد نوّاب «هوفر» اعترف قبل موته بأنه كان الموجّه لصحيفة «واشنطن بوست» فى قضية «ووترجيت» التى أطاحت بالرئيس نيكسون!.
لإعطاء صدقية على لجنة تحقيق فى اغتيال الرئيس «كنيدى»، طلب الرئيس الأمريكى «جونسون» من رئيس المحكمة العليا القاضى «إيرل وارن» رئاسة التحقيق، لكنه رفض بشدة. وفجأة تغير موقف وارن، وتعجب الناس عن سبب هذا التغيير المفاجئ.
حسب تسجيل صوتى بين الرئيس جونسون والسناتور «ريتشارد رسل»، كما هو فى مكتبة الرئيس جونسون، وكما ورد فى كتاب «عائلة الأسرار»، ورد ما يلى: (رفض وارن طلبى لرئاسة اللجنة تماما.. جاء إلى مكتبى مرتين وأخبرنى ذلك عندما أعلمته بحادثة حصلت معه فى مدينة نيو مكسيكو كان قد أطلعنى عليها هوفر مدير مكتب التحقيقات الفيدرالى)، عندها بدأ وارن يرن فى البكاء وقال لى: (لن أخذلك، سأفعل أى شى تريده منى).
عندما دقق عميل (إف بى آى) آندى كورينز فى الدفعات التى يتلقاها مستشار كاستيلاّنو زعيم إحدى عصابات المافيا دون أن يبدو أنه يؤدى عملا مقابل ذلك؛ أظهر الأخير بوضوح معاداته النفاق الذى يتمتع به النظام؛ إذ أخبر عميل (إف بى آى): (إذا كنت تعتبر هذه جريمة يا آندى فإنه من الأجدر بكم إذن أن تبنوا سجونا أكثر مما لديكم بكثير؛ لأنه سيتعين عليكم سجن أكثر من نصف سكان هذا البلد البائس، بدءا بعصبة الزنابير الصغيرة -كناية عن البيض الأنجلوساكسونيين البروتستانت- بصناديقها المالية، ثم وكلاء مضاربات الأسهم)، فأجابه آندى كورينز: (ولكن يا جو، أنت تتحدّث عن سُلّم رواتب. أما أنا فأتحدث عن مؤامرة إجرامية)، عندها أجاب رجل المافيا ذو الشعر الأبيض بصوت كالفحيح: (مؤامرة؟! تقول: مؤامرة؟! تلك هى كلمتكم السحرية أيها الفتيان!، لكن دعنى أسألك شيئا: ما الذى ليس مؤامرة؟! السياسة؟! دعنى من هذا! شارع المال «وول ستريت»؟! كلانا يعرف أنه ليس سوى رخصة للسرقة. لا يا آندى، إنها كلها ليست سوى مؤامرات. والفرق الوحيد فى ذلك أنكم تكشفون بعضها، فيما تتسترون على البعض الآخر).
مصداق ذلك مؤامرة رجل شارع المال وول ستريت «برنارد مادوف» الذى أصبح رئيسا لسوق أسهم «ناسداك»، دون أن يكتشف أمره لأكثر من أربعين سنة؛ إذ اختلس 64 بليون دولار دون أن يُقبض عليه!. لقد سلم هو نفسه!. أما عقوبة مادوف فكانت سجنا «خمس نجوم» فيه ملاعب للتنس وبرك سباحة وناد رياضى ومكتبة!.
لا اعتذار منّى هنا عن الاستشهاد بأقوال شخصيات مافيا بارزة؛ ذلك لأن مؤسسات الأعمال الكبرى اليوم –بعضها على الأقل- كانت بالأمس مؤسسات عمل مافيوية، ولنأخذ آل كينيدى مثالا؛ إذ يمثلون واحدة من أفضل الصور التى خلقها صنّاع الصور الاجتماعية؛ إذ لا يذيع زعيم المافيا كوستيللو سرا عندما يؤكد أن جوزيف كينيدى إنما صنع ثروته نتيجة تحالف بينه وبين الجريمة المنظمة، خلال فترة تحريم الخمر وتهريبه فى أمريكا. ولم يكن الرئيس روزفلت يعطى كثيرا من الاحترام لجو كينيدى؛ فقد وصفه بأنه «لصّ، وواحد من أكثر الرجال الأشرار المقززين الذين عرفهم»، ومع ذلك فإن هذا اللص الشرير المقزز -كما وصفه الرئيس روزفلت- قد عُيّن فى واحد من أهم المناصب فى ذلك الوقت وأكثرها حساسية: سفيرا لدى المملكة المتحدة خلال الأيام الحرجة للحرب العالمية الثانية.
وللمرء أن يستغرب ممارسة الرئيس هذه الازدواجية، وأن يتساءل عن ماهية القوى التى جعلته يمارسها. أما «ترومان» فاعتبر جو كينيدى محتالا كبيرا، فيما عين أيزنهاور -تمشيا مع رأى أسلافه من الرؤساء- جو كينيدى عضوا فى مجلس إدارة المخابرات الأجنبية، وهى واحدة من أكثر إدارات المؤسسة الحاكمة نفوذا.
لو قلنا إن الولايات المتحدة قد أصبحت أكبر دولة بوليسية فى العالم، لقامت قائمة أنصارها ولم تقعد، لكن هذا ما أوحت به كبريات الجرائد الأمريكية «واشنطن بوست» فى تحقيق صحفى عبر 3 مقالات استغرق تحضيرها سنيين وعمل خلالها عشرون من كبار صحفييها. كانت المقالة الأولى بتاريخ 19/7/2010 وجاء فيها:
- 1271 مؤسسة حكومية تساعدها 1931 شركة تخدمها ضمن أجهزة الاستخبارات والأمن الداخلى ومكافحة الإرهاب
- و854 ألفا ضمن هذه الأجهزة ممن يحملون تصاريح بالاطلاع على التقارير «سرى جدا» وهذا العدد يزيد مرة ونصفا عن عدد سكان العاصمة واشنطن!.
- 33 مركزا فى واشنطن وحدها مخصصة لأعمال المخابرات السرية جدا مساحة أبنيتها تعادل 17 مليون قدم مربع (نحو 7.1 ملايين متر مربع).
وصل هذا التحقيق الصحفى إلى أن «سلطة رابعة قد نشأت، وهى مُغيّبة تماما عن أعين الشعب الرقابية بستار من السرية الفائقة. لقد أصبحت كبيرة جدا، وحدود مسئولياتها ضبابية، بحيث إن قادة الولايات المتحدة لا يمسكون بزمامها، وهى موجودة فى كل مكان فى أرجاء الولايات المتحدة».
الفرق بين هذه الدولة البوليسية «الديمقراطية» ودول العالم الثالث البوليسية، أن قادة هؤلاء يمسكون فى أكثر الأحيان، بأجهزة مخابراتهم التى هى متنفسهم وحبل وريدهم. ولعل قليلا من الديكورات المستعارة من الديمقراطية الأولى فى العالم تسبغ على أنظمتها شرعية السلطة الرابعة كما فى الولايات المتحدة.
يتبع ,,,,,,,,,,
الأزمات الاقتصادية المتعاقبة اعتمدت على مبدأ أن هناك أحمق يولد كل دقيقة. أما العولمة فاعتمدت على مبدأ أن العالم قد أصبح مسرحا للتفتيش عن هؤلاء الحمقى، وقد وجدتهم فى كل مكان.
قال صمويل هنتجتنون: «لم يربح الغرب العالم بسبب تفوق أفكاره أو قيمه أو ديانته، وإنما ربحه بسبب تفوّقه فى استعماله العنف المنظم. والغربيون غالبا ما ينسون هذه الحقيقة. أما غير الغربيين فلا ينسونها أبدا».
الأزمة الاقتصادية الأخيرة وحروب الإرهاب الغربى فى العالم الإسلامى مباشرة أو عن طريق الوكلاء، كما فى فلسطين والعراق وأفغانستان وباكستان وغيرها؛ هى مسامير فى نعش المشروع الإمبراطورى الأمريكى الذى جعل «العولمة» حصان طروادته.
عندما قرّرت شبكة تلفزيون «الجزيرة» المعروفة، عمل حلقتين وثائقيتين مدة كل منهما ساعة حول كتابى «حروب البترول الصليبية.. أمريكا بعيون عربية»، وضعت أنا ومخرج الحلقات قائمة بالشخصيات التى ستجرى مقابلتها، استنادا إلى من استُشهد بأقواله من تلك الشخصيات فى كتابى، ومن هؤلاء كان جيمس إيكنز، وهو سفير سابق للولايات المتحدة لدى المملكة العربية السعودية أوائل سبعينيات القرن الماضى، خلال الصدمة النفطية الأولى.
وفى كتابى ذاك استشهدت أيضا بدراسة لكلية الدراسات العليا لإدارة الأعمال فى جامعة هارفارد، ورد فيها أن احتلال حقول النفط العربية كان بديلا سياسيا مطروحا فى أوائل السبعينيات، وذكرت قصة كان إيكنز رواها حول الموضوع نفسه، وكان أن قابلت «الجزيرة» إيكنز لغرض المسلسل الوثائقى. وفيما يلى النص الدقيق لما قاله السفير إيكنز، كما بثته قناة الجزيرة: «عندما طلع علينا كسنجر بخطته لاحتلال حقول نفط الشرق الأوسط، سُئلتُ عمّا كان
قد نُشر فى مقالة بمجلّة (هاربر) كتبتها كاتب مجهول دعا نفسه (الجندى المجهول)، ولم يعرف أحد حقيقة هويته إلا بعد ردح من الزمن. وكان كاتب المقالة اقترح على الولايات المتحدة احتلال حقول النفط العربية من الكويت وحتى دبى، مع إحضار موظفين من تكساس وأوكلاهوما لتشغيل هذه الحقول، وترحيل جميع مواطنى هذه البلدان إلى نجد (فى السعودية)، بحيث تخلو المنطقة بكاملها من مواطنيها العرب، وننتج نحن النفط لمدة خمسين أو سبعين سنة قادمة إلى أن تجف حقول النفط.
بحثت الخطة مع أرامكو (شركة النفط الأمريكية السعودية) فارتعبت؛ إذ من السذاجة بمكان أن يجول بخاطر المرء مثل هذا الحلم. وقد سألتنى وسائل الإعلام الأمريكية عن هذه الخطة، وكنت حينها سفير أمريكا لدى السعودية، فأبلغت وسائل الإعلام الأمريكية بأن من يفكر فى حل أزمة الطاقة الأمريكية بهذه الطريقة، إما أن يكون مجنونا أو مجرما أو عميلا للاتحاد السوفييتى. ويبدو أن هذه الكلمات لم تسر ذاك الذى كتب مقالة (هاربر)، وكنت أعتقده أحد حمقى وكالة الاستخبارات المركزية أو البنتاجون، فلم أكن أعرف بعد من قد يكون، وأخيرا عرفت: لقد كان رئيسى (كسنجر)، فلم ألبث بعدها أن طُردتُ.
إن كُهّان الرأسمالية وإعلام شركاتها، استخدموا منهج (الضربة الإجهاضية) أبكر كثيرا من الوقت الذى أصبحت فيه هذه الكلمة مشهورة بعد عقيدة بوش فى الحروب الإجهاضية؛ إذ إن ابتداعهم «نظرية المؤامرة» -كما يبدو- أرادوا به إجهاض أى فكر حر فى مهده وإبعاده عن التحقيق فى مؤامراتهم الحقيقية؛ لهذا تغدو (نظرية المؤامرة) فى حدّ ذاتها مؤامرة!.
قال الرئيس الأمريكى وودرو ويلسون سنة 1913: (منذ دخلت معترك السياسة، عملت وبشكل رئيس على أن يفضى الرجال إلىّ بوجهات نظرهم على انفراد؛ إذ إن بعضا من أكبر رجالات الولايات المتحدة فى مجالات التجارة والصناعة كانوا يخشون شيئا ما؛ فقد كانوا يعرفون أن فى مكان ما، قوة ما، بالغة التنظيم، شديدة الدهاء والمكر، شديدة اليقظة، شديدة الترابط وشديدة الفساد، بحيث إن من الأفضل لهم ألا يتحدثوا عنها إلا همسا عندما يشجبونها).
فى (الديمقراطية) الأمريكية قاد رئيس مكتب التحقيقات الفيدرالى FBI إدجار هوفر، سياسيى واشنطن ومنهم رؤساء الجمهورية، لأكثر من خمسين عاما. دعنا نعط مثالا لما ورد فى تسجيل فى البيت الأبيض بين الرئيس رتشارد نيكسون ووزير العدل متشل.
الرئيس نيكسون: (لعدة أسباب يجب أن يستقيل -كان يتحدث عن هوفر- يجب أن ينصرف ويكفينا شره. أستطيع الآن -وأشك فى ذلك- أن أتصل به على الهاتف وأتحدث إليه بشأن استقالته. إن هناك بعض المشكلات؛ فإذا استقال فيجب أن يكون قد استقال بمحض إرادته، ولهذا فنحن فى مشكلة عويصة. أعتقد أنه سيظل رابضا على صدورنا إلى أن يبلغ المائة من عمره).
وزير العدل: (إنه سيظل فى منصبه إلى أن يدفن هناك.. فى الخلود).
الرئيس نيكسون: (أعتقد أنه يتعين علينا أن نتحاشى الموقف الذى يجعله ينصرف مفجرا وراءه قنبلة كبيرة؛ فربما يكون هذا الرجل قادرا على جر الجميع معه إذا سقط، حتى أنا، وستكون مشكلة عويصة).
كان تقدير الرئيس ووزير العدل للموقف صحيحا؛ لأن رئيس جهاز FBI بقى فى منصبه إلى أن رحل عن هذه الدنيا. وعندما سمع الرئيس نيكسون الأنباء قال: (يا إلهى.. يا إلهى.. هذا الفاسق العجوز).
ولقد تصور البعض أن رؤساء الدول الأجنبية يخشون مؤسسة الأمن القومى الأمريكية، لكن لم يخطر ببال أحد أن الرؤساء الأمريكيين أنفسهم -ومنهم نيكسون Nixon وكذلك قادة آخرون كثر، ومسئولون كبار ومشرعون منتخبون- كلهم أعربوا حرفيا عن تخوفهم من منظمة الأمن القومى الأمريكية؛ تلك المنظمة التى يفترض أنها معنية بالأمن لا بترويع القادة والرؤساء.
أحد نوّاب «هوفر» اعترف قبل موته بأنه كان الموجّه لصحيفة «واشنطن بوست» فى قضية «ووترجيت» التى أطاحت بالرئيس نيكسون!.
لإعطاء صدقية على لجنة تحقيق فى اغتيال الرئيس «كنيدى»، طلب الرئيس الأمريكى «جونسون» من رئيس المحكمة العليا القاضى «إيرل وارن» رئاسة التحقيق، لكنه رفض بشدة. وفجأة تغير موقف وارن، وتعجب الناس عن سبب هذا التغيير المفاجئ.
حسب تسجيل صوتى بين الرئيس جونسون والسناتور «ريتشارد رسل»، كما هو فى مكتبة الرئيس جونسون، وكما ورد فى كتاب «عائلة الأسرار»، ورد ما يلى: (رفض وارن طلبى لرئاسة اللجنة تماما.. جاء إلى مكتبى مرتين وأخبرنى ذلك عندما أعلمته بحادثة حصلت معه فى مدينة نيو مكسيكو كان قد أطلعنى عليها هوفر مدير مكتب التحقيقات الفيدرالى)، عندها بدأ وارن يرن فى البكاء وقال لى: (لن أخذلك، سأفعل أى شى تريده منى).
عندما دقق عميل (إف بى آى) آندى كورينز فى الدفعات التى يتلقاها مستشار كاستيلاّنو زعيم إحدى عصابات المافيا دون أن يبدو أنه يؤدى عملا مقابل ذلك؛ أظهر الأخير بوضوح معاداته النفاق الذى يتمتع به النظام؛ إذ أخبر عميل (إف بى آى): (إذا كنت تعتبر هذه جريمة يا آندى فإنه من الأجدر بكم إذن أن تبنوا سجونا أكثر مما لديكم بكثير؛ لأنه سيتعين عليكم سجن أكثر من نصف سكان هذا البلد البائس، بدءا بعصبة الزنابير الصغيرة -كناية عن البيض الأنجلوساكسونيين البروتستانت- بصناديقها المالية، ثم وكلاء مضاربات الأسهم)، فأجابه آندى كورينز: (ولكن يا جو، أنت تتحدّث عن سُلّم رواتب. أما أنا فأتحدث عن مؤامرة إجرامية)، عندها أجاب رجل المافيا ذو الشعر الأبيض بصوت كالفحيح: (مؤامرة؟! تقول: مؤامرة؟! تلك هى كلمتكم السحرية أيها الفتيان!، لكن دعنى أسألك شيئا: ما الذى ليس مؤامرة؟! السياسة؟! دعنى من هذا! شارع المال «وول ستريت»؟! كلانا يعرف أنه ليس سوى رخصة للسرقة. لا يا آندى، إنها كلها ليست سوى مؤامرات. والفرق الوحيد فى ذلك أنكم تكشفون بعضها، فيما تتسترون على البعض الآخر).
مصداق ذلك مؤامرة رجل شارع المال وول ستريت «برنارد مادوف» الذى أصبح رئيسا لسوق أسهم «ناسداك»، دون أن يكتشف أمره لأكثر من أربعين سنة؛ إذ اختلس 64 بليون دولار دون أن يُقبض عليه!. لقد سلم هو نفسه!. أما عقوبة مادوف فكانت سجنا «خمس نجوم» فيه ملاعب للتنس وبرك سباحة وناد رياضى ومكتبة!.
لا اعتذار منّى هنا عن الاستشهاد بأقوال شخصيات مافيا بارزة؛ ذلك لأن مؤسسات الأعمال الكبرى اليوم –بعضها على الأقل- كانت بالأمس مؤسسات عمل مافيوية، ولنأخذ آل كينيدى مثالا؛ إذ يمثلون واحدة من أفضل الصور التى خلقها صنّاع الصور الاجتماعية؛ إذ لا يذيع زعيم المافيا كوستيللو سرا عندما يؤكد أن جوزيف كينيدى إنما صنع ثروته نتيجة تحالف بينه وبين الجريمة المنظمة، خلال فترة تحريم الخمر وتهريبه فى أمريكا. ولم يكن الرئيس روزفلت يعطى كثيرا من الاحترام لجو كينيدى؛ فقد وصفه بأنه «لصّ، وواحد من أكثر الرجال الأشرار المقززين الذين عرفهم»، ومع ذلك فإن هذا اللص الشرير المقزز -كما وصفه الرئيس روزفلت- قد عُيّن فى واحد من أهم المناصب فى ذلك الوقت وأكثرها حساسية: سفيرا لدى المملكة المتحدة خلال الأيام الحرجة للحرب العالمية الثانية.
وللمرء أن يستغرب ممارسة الرئيس هذه الازدواجية، وأن يتساءل عن ماهية القوى التى جعلته يمارسها. أما «ترومان» فاعتبر جو كينيدى محتالا كبيرا، فيما عين أيزنهاور -تمشيا مع رأى أسلافه من الرؤساء- جو كينيدى عضوا فى مجلس إدارة المخابرات الأجنبية، وهى واحدة من أكثر إدارات المؤسسة الحاكمة نفوذا.
لو قلنا إن الولايات المتحدة قد أصبحت أكبر دولة بوليسية فى العالم، لقامت قائمة أنصارها ولم تقعد، لكن هذا ما أوحت به كبريات الجرائد الأمريكية «واشنطن بوست» فى تحقيق صحفى عبر 3 مقالات استغرق تحضيرها سنيين وعمل خلالها عشرون من كبار صحفييها. كانت المقالة الأولى بتاريخ 19/7/2010 وجاء فيها:
- 1271 مؤسسة حكومية تساعدها 1931 شركة تخدمها ضمن أجهزة الاستخبارات والأمن الداخلى ومكافحة الإرهاب
- و854 ألفا ضمن هذه الأجهزة ممن يحملون تصاريح بالاطلاع على التقارير «سرى جدا» وهذا العدد يزيد مرة ونصفا عن عدد سكان العاصمة واشنطن!.
- 33 مركزا فى واشنطن وحدها مخصصة لأعمال المخابرات السرية جدا مساحة أبنيتها تعادل 17 مليون قدم مربع (نحو 7.1 ملايين متر مربع).
وصل هذا التحقيق الصحفى إلى أن «سلطة رابعة قد نشأت، وهى مُغيّبة تماما عن أعين الشعب الرقابية بستار من السرية الفائقة. لقد أصبحت كبيرة جدا، وحدود مسئولياتها ضبابية، بحيث إن قادة الولايات المتحدة لا يمسكون بزمامها، وهى موجودة فى كل مكان فى أرجاء الولايات المتحدة».
الفرق بين هذه الدولة البوليسية «الديمقراطية» ودول العالم الثالث البوليسية، أن قادة هؤلاء يمسكون فى أكثر الأحيان، بأجهزة مخابراتهم التى هى متنفسهم وحبل وريدهم. ولعل قليلا من الديكورات المستعارة من الديمقراطية الأولى فى العالم تسبغ على أنظمتها شرعية السلطة الرابعة كما فى الولايات المتحدة.
يتبع ,,,,,,,,,,