عبد الواحد جعفر
12-08-2014, 09:43 AM
العدوان على قطاع غزة: قراءة مقارنة للمبادرة المصرية 2014 مع تفاهمات 2012
مقدمة
تكاد الآراء تتوزَّع بين ادّعاء أنّ المبادرة المصرية لوقف إطلاق النار وإنهاء العدوان على قطاع غزة عام 2014 في زمن الرئيس المصري الجديد عبد الفتاح السيسي، هي نُسخة حرفية من اتفاق التهدئة الذي أوقَف حرب عام 2012، والذي تَقدَّمت به مصر خلال فترة الرئيس السابق محمد مرسي. بالمقابل، ثمة رأي مُضاد لا يرى وجه مُقارنة، بل ينسب بنودًا سلبية أو إيجابية، حاضرة في مشروع 2014، أو غائبة عن اتفاق 2012، أو العكس من ذلك. ولعلّ القاسم المشترك بين المشروعين هو المبالغة إيجابيًا عند القبول، مُقابِل المبالغة سلبيًا عند الرفض. نجد ترجمةً لذلك في تغييب نصوص المشروعين محل القبول أو الرفض، لمصلحة تحليلٍ خطابيٍ عامٍ، قلَّما التزم الدقة عند تقريظ المشاريع أو نقدها.
تسعى هذه الورقة للوقوف بدقة ما أمكن على الفروق بين المشروعين، وذلك من خلال مقارنة مبادرة 2014 انطلاقًا من نصها المنشور على موقِع وزارة الخارجية المصرية[1]، مع تفاهمات 2012، والتي أخذناها كما أوردتها عدة مصادر متطابقة، منها موقِع عزت الرشق[2]، عضو المكتب السياسي لحركة حماس.
أولًا: حجم الديباجة والآليات في المبادرة المصرية 2014 صار ضِعف حجم جسم المبادرة نفسها!
ثمة خلافٌ أولَ في الشكل بين المبادرتين يتمثل في التالي:
زاد الحجم الإجمالي للمشروع المصري لعام 2014 إلى 280 كلمة، مقابل 135 كلمة لتفاهمات عام 2012.
أضيفت ديباجة لمشروع 2014، لم تكن موجودة في تفاهمات 2012، وتقع في 61 كلمة.
زاد حجم بنود التفاهمات من 84 كلمة عام 2012، إلى 94 كلمة عام 2014.
زاد حجم آلية التنفيذ من 50 كلمة عام 2012، إلى 124 عام 2014، وصار اسمها أسلوب التنفيذ.
وتُؤشِّر المعطيات السابقة إلى:
بلغ حجم مبادرة 2014، أكثر من ضعف حجم تفاهمات 2012، أي تضاعف حجم القضايا التي تناولتها مبادرة 2014.
أما البنود؛ أي الجسم المخصص للتفاهمات، فتقع في 84 كلمة، تُشكِّل 62% من جُملة حجم تفاهمات 2012، وتقع بنود المشروع المصري 2014 في 94 كلمة، تشكِّل 33% فقط من جُملة حجم المشروع.
يفيد ما تقدم بانتقال ثِقل التناول - كمًا ونوعًا - من البنود الأساس (أي الجسم المخصص للتفاهمات، والاتفاقات) كما في 2012 حيث احتلت ثُلثي التناول، إلى الديباجة وسياسة التنفيذ التي احتلت ثُلثي التناول في مبادرة 2014، بينما اقتصر نصيب البنود فيها (الجسم المخصص للتفاهمات، والاتفاقات) على ثُلث التناول فقط.
يقتضي ما تقدم التَنَبُه إلى خلفية تَبدُّل منهجية صوغ التفاهمات أو المشاريع، التي انقلبت مع المشروع المصري، والذي ذهب بثُلثه فقط لجسم الموضوع، وبثلثيه الباقيين لما يعتبر ثانويًا بالمعنى المتعارف عليه، وعَنَينا الديباجة أو المقدِّمة، وآليات التنفيذ، إذ لم يكن دون معنى أن يسميها المشروع المصري: أسلوب تنفيذ المبادرة.
وبناء عليه، فإنه مع المشروع المصري، بل المشاريع الحساسة عامة، يجب تقصّي جميع مكوناتها، وبخاصة الجُمل الاستدراكية، والاستطرادية، والاعتراضية، والتوضيحية، التي تُعامل عادة بخفة لكنها تضمر معاني وغايات جوهرية. لذلك من المهم قراءة النص كروح وسياق، وليس مجرد بنود متفرقة، ما يجعل برأينا أهم مضامين المشروع المصري لعام 2014 وأهدافه في ما يبدو ثانوية من ديباجة وآليات تنفيذ!
ثانيًا: ديباجة المبادرة المصرية تُطالِب المنظمات الفلسطينية الاعتراف بأنّ عملها عُنف اقتضى "عُنفًا مُضادًا"!
تضمَّن تفاهم 2012، عدة بنود من دون ديباجة، بخلاف مبادرة 2014 الذي تَضمَّن ديباجة هي جزء منها، بل أساسها الناظم، إذ ورد: "ومن هذا المنطلق يلتزم الطرفان خلال فترة وقف إطلاق النار بالآتي"؛ أي أنّ الديباجة تُشكِّل مرجعية فقهية تُفسَّر بناء عليها بقية بنود مبادرة 2014 وتُشكِّل أساس التزامها.
بين المنطلقات التي يجب التزامها: "تحقيق السلام في المنطقة"، و"تصعيد المواقف والعُنف والعُنف المضاد وما سيسفر عنه من ضحايا لن يكون في صالح أي من الطرفين". هذه الديباجة أو الإطار أو المـُنطلَق، تعني التزام المنظمات الفلسطينية "تحقيق السلام" مع إسرائيل، وأنّ ما تفعله ضدها عُنف اقتضى "عُنفًا مُضادًا"، علاجه وقف العُنف؛ ليتوقف العُنف المضاد، كما أنّ جميع بنود تنفيذ المبادرة المصرية وآلياتها يجب أن تُفسّر انطلاقًا من ذلك.
لا شك في أنّ مصر، بما هي مُلتزمة السلام مع إسرائيل ويربطهما اتفاق كامب ديفيد، مُلزَمة بتأكيدها على "أهمية تحقيق السلام في المنطقة"، لكنّ هذا الالتزام لا يمنع مصر، ويجب ألا يمنعها، حفظًا لدورها القيادي، من التأكيد على مبادئ السلام الشامل، ومن مقتضياته التزام العدالة كما تُقرِّرها الشرعية الدولية التي تلتزمها مصر.
إذًا، نحن لسنا أمام ديباجة أو مُقدِّمة، تُمهِّد لتفاهم أمني بشأن "وقف فوري لإطلاق النار"، كما يبدو ظاهرًا، بل أمام توريط، على نحو غير مباشِر، في تفاهم سياسي إستراتيجي يمسّ: (أ) طبيعة الصراع، بما هو: "عُنف وعُنف مُضاد"، أي لا مطالبات أو مضامين سياسية تاريخية، تتجاوز قطاع غزة إلى عموم القضية الفلسطينية. (ب) سُبل حل الصراع؛ أي "تحقيق السلام" بين الطرفين، عبر وقف "تصعيد المواقف والعُنف والعُنف المضاد"!
ثالثًا: مِن "وَقف استهداف الأشخاص" عامة في 2012، إلى "وَقف استهداف المدنيين" الفلسطينيين حصرًا في 2014!
ثمة بند (أ) مشترك بين تفاهم 2012، ومبادرة 2014، يتعلَّق بإسرائيل؛ مِثل البند (ب) الذي يتعلَّق بـــــ "الفصائل الفلسطينية" عام 2012، و"كل الفصائل الفلسطينية" عام 2014، يدعو إسرائيل والفصائل إلى "وقف جميع الأعمال العدائية". إنّ عبارة "الأعمال العدائية" المُكرَّرة في 2012 و2014، هي مُصطلح تقني، لا يُدين أي من الطرفين، ولولا ذلك لما وافقت إسرائيل على وضع عبارة "العدائية"، عند وصف ما تقوم به، مِثل وصف ما يقوم به الفلسطينيون عام 2012.
وَقَع بعض الكُتَّاب في خطأ لغوي فادح حين خَلَطوا بين أعمال "حربية" أو "عدائية" Hostilities؛ أي كل ما يُفعل ضد مصالح العدو، فالطبيعة العدائية للعمل هي من طبيعة الطرف الموجَّه ضده العمل وهو هنا العدو، وبين صفة أعمال "عدوانية"؛ Aggressive؛ أي أنّ العداء أو العدوانية هي من طبيعة الطرف الذي يقترفها.
إذًا، ليست هناك مشكلة في ما تضمَّنه بندا (أ) و(ب) من عبارة الأعمال "العدائية" أو "الحربية"، بل في مُطالبة إسرائيل وِفق البند (أ) وقف "استهداف الأشخاص"، أي الجميع من دون استثناء، من مدنيين وغير مَدَنيين، كما في تفاهمات 2012. لكنها اقتصرت في مشروع 2014 على وقف "استهداف المدنيين"؛ أي إعطاء إسرائيل حق الاستمرار في تصفية كل من تعتبره "غير مدني"، مع احتفاظها لنفسها بحق تعريف ما هو مدني وغير مدني!
رابعًا: توسيع مفهوم الأعمال العدائية ضد إسرائيل لتشمل: تحت الأرض أو الأنفاق، وإلى ومِن غزة بالاتجاهين!
يقع في السياق ذاته ما شهده بند (ب) من تعديل لناحية: (1) إضافة "كافة" إلى الفصائل الفلسطينية المطالَبة بوقف جميع الأعمال العدائية؛ ما يعني مسؤولية حركة حماس عن أي عمل فردي أو محدود، بل محاولة تحويل حماس إلى حرس حدود لإسرائيل. (ب) إعادة تعريف "الأعمال العدائية من قطاع غزة"، التي حدَّدها المشروع المصري 2014 بأربعة مجالات: جوًا، وبحرًا، وبرًا، وتحت الأرض، ولم تكن محددة عام 2012.
ينصرف الذهن نحو أن المقصود بالأعمال العدائية هو المباشر منها؛ أي المتِّجه من الخارج: غزة، إلى: ضد إسرائيل. لكن، مع تحديد أربعة مجالات: "جوًا، وبحرًا، وبرًا، وتحت الأرض"، أي إضافة الأنفاق، صارت الأعمال العدائية تتسع لغير المباشرة منها، المتِّجهة من الخارج إلى غزة، كتهريب السلاح والبضائع والأشخاص.
وبناء عليه، صار مصطلح الأعمال العدائية ضد إسرائيل، يشمل ما يجري عبر الأنفاق، وصار معناها مزدوجًا: (أ) الأنفاق التي تربط غزة بالأرض الفلسطينية المحتَلة عام 1948. (ب) الأنفاق التي تربط غزة بمصر ومن خَلْفَها، إذ يتدفق السلاح الذي تعتبره إسرائيل عملًا عدائيًا، كما الأفراد والبضائع، التي تسعى إسرائيل ليكون لها وحدها حق تفسير إذا كانت تُشكِّل مصدرًا لجهد عدائي ضد إسرائيل أم لا، مثل الإسمنت والحديد.
لعلنا لا نضيف شيئًا عمليًا جديدًا لنظرة إسرائيل تجاه موضوع الأنفاق بشقيه: (أ) تمكين المقاومين من قطاع غزة من الوصول والضرب في العمق الإسرائيلي، في تكرار لسابقة شاليط، أو ما شهدته الحرب الراهنة من وصول المقاومين وقتالهم خلف خطوط العدو. (ب) موضوع الأنفاق بما هو شريان حياة قطاع غزة مع الخارج!
الجديد في موضوع الأنفاق، ارتباطًا بالمشروع المصري 2014، أنه يُوفِّر حلًا عمليًا لمشكلة الأنفاق من وجهة نظر إسرائيل بشقَّيها: المرور من الخارج إلى قطاع غزة، والعبور من غزة إلى إسرائيل، كما سنُوضِّح بعد استكمال تناول المشروع المصري، وما أضافه أو حذفه على صعيد الأنفاق، قياسًا بالوضع السائد منذ عام 2012.
خامسًا: المشروع المصري أسقط "عدم تقييد حركة السكان"، وأضاف ربط فتح المعابِر بالاستقرار الأمني؟
ننتقل على أرضية ما تقدم للتعديل الذي طرأ على بند (ج)، الذي كان عام 2012 على صيغة غير تلك المقترحة بموجب المشروع المصري الحالي 2014. وللمقارنة سنثبت صيغة 2012، ثم صيغة 2014:
"فتح المعابر وتسهيل حركة الأشخاص والبضائع وعدم تقييد حركة السكان أو استهدافهم في المناطق الحدودية والتعامل مع إجراءات تنفيذ ذلك بعد 24 ساعة من دخول الاتفاق حيز التنفيذ".
"فتح المعابر وتسهيل حركة عبور الأشخاص والبضائع عبر المعابر الحدودية في ضوء استقرار الأوضاع الأمنية على الأرض".
تُظهِر المقارنة بين بند (ج) كما كان، عما صار عليه، عن فرق جوهري في مبنى ومعنى البند، الذي كان يقع عام 2012 في 28 كلمة، انخفضت إلى 17 كلمة فقط عام 2014، أي بنسبة خفض 40%.
نتج انخفاض عدد الكلمات من اختلاف مضمون البند (ج) عام 2014 عما كان عليه في عام 2012، إذ تكرر الحديث في المرتين، وبصيغ لغوية متشابهة، عن "فتح المعابر وتسهيل حركة الأشخاص والبضائع"، ولكن مع فرقين هما:
أُسقِطت عبارة "عدم تقييد حركة السكان أو استهدافهم في المناطق الحدودية" من مبادرة 2014، ما يعود بالأمور لما كانت عليه قبل تفاهمات 2012، إذ كانت إسرائيل تحتفظ بالسيطرة عمليًا على المنطقة الحدودية لغزة، بعُمق حوالي كيلومتر، مع ما يُوفِّره لها ذلك من سيطرة على الحركة فوق الأرض تجاهها من غزة. وبناء عليه، فإنّ العودة بوضعية المنطقة الحدودية إلى ما كانت عليه قبل 2012، يمنح إسرائيل فرصة السيطرة أمنيًا على المنطقة الحدودية، خاصة بعد شطب بند "عدم تقييد حركة السكان أو استهدافهم في المناطق الحدودية"، ويحرِم المقاومة الفلسطينية من امتياز حفر الأنفاق ابتداء من حدود غزة مع إسرائيل، وصار عليهم الحفر من نقطة متراجعة حوالي كيلومتر إلى الخلف، هي تلك المسافة من عُمق غزة عن الحدود المتروكة تحت السيطرة الإسرائيلية.
>> يتبع
مقدمة
تكاد الآراء تتوزَّع بين ادّعاء أنّ المبادرة المصرية لوقف إطلاق النار وإنهاء العدوان على قطاع غزة عام 2014 في زمن الرئيس المصري الجديد عبد الفتاح السيسي، هي نُسخة حرفية من اتفاق التهدئة الذي أوقَف حرب عام 2012، والذي تَقدَّمت به مصر خلال فترة الرئيس السابق محمد مرسي. بالمقابل، ثمة رأي مُضاد لا يرى وجه مُقارنة، بل ينسب بنودًا سلبية أو إيجابية، حاضرة في مشروع 2014، أو غائبة عن اتفاق 2012، أو العكس من ذلك. ولعلّ القاسم المشترك بين المشروعين هو المبالغة إيجابيًا عند القبول، مُقابِل المبالغة سلبيًا عند الرفض. نجد ترجمةً لذلك في تغييب نصوص المشروعين محل القبول أو الرفض، لمصلحة تحليلٍ خطابيٍ عامٍ، قلَّما التزم الدقة عند تقريظ المشاريع أو نقدها.
تسعى هذه الورقة للوقوف بدقة ما أمكن على الفروق بين المشروعين، وذلك من خلال مقارنة مبادرة 2014 انطلاقًا من نصها المنشور على موقِع وزارة الخارجية المصرية[1]، مع تفاهمات 2012، والتي أخذناها كما أوردتها عدة مصادر متطابقة، منها موقِع عزت الرشق[2]، عضو المكتب السياسي لحركة حماس.
أولًا: حجم الديباجة والآليات في المبادرة المصرية 2014 صار ضِعف حجم جسم المبادرة نفسها!
ثمة خلافٌ أولَ في الشكل بين المبادرتين يتمثل في التالي:
زاد الحجم الإجمالي للمشروع المصري لعام 2014 إلى 280 كلمة، مقابل 135 كلمة لتفاهمات عام 2012.
أضيفت ديباجة لمشروع 2014، لم تكن موجودة في تفاهمات 2012، وتقع في 61 كلمة.
زاد حجم بنود التفاهمات من 84 كلمة عام 2012، إلى 94 كلمة عام 2014.
زاد حجم آلية التنفيذ من 50 كلمة عام 2012، إلى 124 عام 2014، وصار اسمها أسلوب التنفيذ.
وتُؤشِّر المعطيات السابقة إلى:
بلغ حجم مبادرة 2014، أكثر من ضعف حجم تفاهمات 2012، أي تضاعف حجم القضايا التي تناولتها مبادرة 2014.
أما البنود؛ أي الجسم المخصص للتفاهمات، فتقع في 84 كلمة، تُشكِّل 62% من جُملة حجم تفاهمات 2012، وتقع بنود المشروع المصري 2014 في 94 كلمة، تشكِّل 33% فقط من جُملة حجم المشروع.
يفيد ما تقدم بانتقال ثِقل التناول - كمًا ونوعًا - من البنود الأساس (أي الجسم المخصص للتفاهمات، والاتفاقات) كما في 2012 حيث احتلت ثُلثي التناول، إلى الديباجة وسياسة التنفيذ التي احتلت ثُلثي التناول في مبادرة 2014، بينما اقتصر نصيب البنود فيها (الجسم المخصص للتفاهمات، والاتفاقات) على ثُلث التناول فقط.
يقتضي ما تقدم التَنَبُه إلى خلفية تَبدُّل منهجية صوغ التفاهمات أو المشاريع، التي انقلبت مع المشروع المصري، والذي ذهب بثُلثه فقط لجسم الموضوع، وبثلثيه الباقيين لما يعتبر ثانويًا بالمعنى المتعارف عليه، وعَنَينا الديباجة أو المقدِّمة، وآليات التنفيذ، إذ لم يكن دون معنى أن يسميها المشروع المصري: أسلوب تنفيذ المبادرة.
وبناء عليه، فإنه مع المشروع المصري، بل المشاريع الحساسة عامة، يجب تقصّي جميع مكوناتها، وبخاصة الجُمل الاستدراكية، والاستطرادية، والاعتراضية، والتوضيحية، التي تُعامل عادة بخفة لكنها تضمر معاني وغايات جوهرية. لذلك من المهم قراءة النص كروح وسياق، وليس مجرد بنود متفرقة، ما يجعل برأينا أهم مضامين المشروع المصري لعام 2014 وأهدافه في ما يبدو ثانوية من ديباجة وآليات تنفيذ!
ثانيًا: ديباجة المبادرة المصرية تُطالِب المنظمات الفلسطينية الاعتراف بأنّ عملها عُنف اقتضى "عُنفًا مُضادًا"!
تضمَّن تفاهم 2012، عدة بنود من دون ديباجة، بخلاف مبادرة 2014 الذي تَضمَّن ديباجة هي جزء منها، بل أساسها الناظم، إذ ورد: "ومن هذا المنطلق يلتزم الطرفان خلال فترة وقف إطلاق النار بالآتي"؛ أي أنّ الديباجة تُشكِّل مرجعية فقهية تُفسَّر بناء عليها بقية بنود مبادرة 2014 وتُشكِّل أساس التزامها.
بين المنطلقات التي يجب التزامها: "تحقيق السلام في المنطقة"، و"تصعيد المواقف والعُنف والعُنف المضاد وما سيسفر عنه من ضحايا لن يكون في صالح أي من الطرفين". هذه الديباجة أو الإطار أو المـُنطلَق، تعني التزام المنظمات الفلسطينية "تحقيق السلام" مع إسرائيل، وأنّ ما تفعله ضدها عُنف اقتضى "عُنفًا مُضادًا"، علاجه وقف العُنف؛ ليتوقف العُنف المضاد، كما أنّ جميع بنود تنفيذ المبادرة المصرية وآلياتها يجب أن تُفسّر انطلاقًا من ذلك.
لا شك في أنّ مصر، بما هي مُلتزمة السلام مع إسرائيل ويربطهما اتفاق كامب ديفيد، مُلزَمة بتأكيدها على "أهمية تحقيق السلام في المنطقة"، لكنّ هذا الالتزام لا يمنع مصر، ويجب ألا يمنعها، حفظًا لدورها القيادي، من التأكيد على مبادئ السلام الشامل، ومن مقتضياته التزام العدالة كما تُقرِّرها الشرعية الدولية التي تلتزمها مصر.
إذًا، نحن لسنا أمام ديباجة أو مُقدِّمة، تُمهِّد لتفاهم أمني بشأن "وقف فوري لإطلاق النار"، كما يبدو ظاهرًا، بل أمام توريط، على نحو غير مباشِر، في تفاهم سياسي إستراتيجي يمسّ: (أ) طبيعة الصراع، بما هو: "عُنف وعُنف مُضاد"، أي لا مطالبات أو مضامين سياسية تاريخية، تتجاوز قطاع غزة إلى عموم القضية الفلسطينية. (ب) سُبل حل الصراع؛ أي "تحقيق السلام" بين الطرفين، عبر وقف "تصعيد المواقف والعُنف والعُنف المضاد"!
ثالثًا: مِن "وَقف استهداف الأشخاص" عامة في 2012، إلى "وَقف استهداف المدنيين" الفلسطينيين حصرًا في 2014!
ثمة بند (أ) مشترك بين تفاهم 2012، ومبادرة 2014، يتعلَّق بإسرائيل؛ مِثل البند (ب) الذي يتعلَّق بـــــ "الفصائل الفلسطينية" عام 2012، و"كل الفصائل الفلسطينية" عام 2014، يدعو إسرائيل والفصائل إلى "وقف جميع الأعمال العدائية". إنّ عبارة "الأعمال العدائية" المُكرَّرة في 2012 و2014، هي مُصطلح تقني، لا يُدين أي من الطرفين، ولولا ذلك لما وافقت إسرائيل على وضع عبارة "العدائية"، عند وصف ما تقوم به، مِثل وصف ما يقوم به الفلسطينيون عام 2012.
وَقَع بعض الكُتَّاب في خطأ لغوي فادح حين خَلَطوا بين أعمال "حربية" أو "عدائية" Hostilities؛ أي كل ما يُفعل ضد مصالح العدو، فالطبيعة العدائية للعمل هي من طبيعة الطرف الموجَّه ضده العمل وهو هنا العدو، وبين صفة أعمال "عدوانية"؛ Aggressive؛ أي أنّ العداء أو العدوانية هي من طبيعة الطرف الذي يقترفها.
إذًا، ليست هناك مشكلة في ما تضمَّنه بندا (أ) و(ب) من عبارة الأعمال "العدائية" أو "الحربية"، بل في مُطالبة إسرائيل وِفق البند (أ) وقف "استهداف الأشخاص"، أي الجميع من دون استثناء، من مدنيين وغير مَدَنيين، كما في تفاهمات 2012. لكنها اقتصرت في مشروع 2014 على وقف "استهداف المدنيين"؛ أي إعطاء إسرائيل حق الاستمرار في تصفية كل من تعتبره "غير مدني"، مع احتفاظها لنفسها بحق تعريف ما هو مدني وغير مدني!
رابعًا: توسيع مفهوم الأعمال العدائية ضد إسرائيل لتشمل: تحت الأرض أو الأنفاق، وإلى ومِن غزة بالاتجاهين!
يقع في السياق ذاته ما شهده بند (ب) من تعديل لناحية: (1) إضافة "كافة" إلى الفصائل الفلسطينية المطالَبة بوقف جميع الأعمال العدائية؛ ما يعني مسؤولية حركة حماس عن أي عمل فردي أو محدود، بل محاولة تحويل حماس إلى حرس حدود لإسرائيل. (ب) إعادة تعريف "الأعمال العدائية من قطاع غزة"، التي حدَّدها المشروع المصري 2014 بأربعة مجالات: جوًا، وبحرًا، وبرًا، وتحت الأرض، ولم تكن محددة عام 2012.
ينصرف الذهن نحو أن المقصود بالأعمال العدائية هو المباشر منها؛ أي المتِّجه من الخارج: غزة، إلى: ضد إسرائيل. لكن، مع تحديد أربعة مجالات: "جوًا، وبحرًا، وبرًا، وتحت الأرض"، أي إضافة الأنفاق، صارت الأعمال العدائية تتسع لغير المباشرة منها، المتِّجهة من الخارج إلى غزة، كتهريب السلاح والبضائع والأشخاص.
وبناء عليه، صار مصطلح الأعمال العدائية ضد إسرائيل، يشمل ما يجري عبر الأنفاق، وصار معناها مزدوجًا: (أ) الأنفاق التي تربط غزة بالأرض الفلسطينية المحتَلة عام 1948. (ب) الأنفاق التي تربط غزة بمصر ومن خَلْفَها، إذ يتدفق السلاح الذي تعتبره إسرائيل عملًا عدائيًا، كما الأفراد والبضائع، التي تسعى إسرائيل ليكون لها وحدها حق تفسير إذا كانت تُشكِّل مصدرًا لجهد عدائي ضد إسرائيل أم لا، مثل الإسمنت والحديد.
لعلنا لا نضيف شيئًا عمليًا جديدًا لنظرة إسرائيل تجاه موضوع الأنفاق بشقيه: (أ) تمكين المقاومين من قطاع غزة من الوصول والضرب في العمق الإسرائيلي، في تكرار لسابقة شاليط، أو ما شهدته الحرب الراهنة من وصول المقاومين وقتالهم خلف خطوط العدو. (ب) موضوع الأنفاق بما هو شريان حياة قطاع غزة مع الخارج!
الجديد في موضوع الأنفاق، ارتباطًا بالمشروع المصري 2014، أنه يُوفِّر حلًا عمليًا لمشكلة الأنفاق من وجهة نظر إسرائيل بشقَّيها: المرور من الخارج إلى قطاع غزة، والعبور من غزة إلى إسرائيل، كما سنُوضِّح بعد استكمال تناول المشروع المصري، وما أضافه أو حذفه على صعيد الأنفاق، قياسًا بالوضع السائد منذ عام 2012.
خامسًا: المشروع المصري أسقط "عدم تقييد حركة السكان"، وأضاف ربط فتح المعابِر بالاستقرار الأمني؟
ننتقل على أرضية ما تقدم للتعديل الذي طرأ على بند (ج)، الذي كان عام 2012 على صيغة غير تلك المقترحة بموجب المشروع المصري الحالي 2014. وللمقارنة سنثبت صيغة 2012، ثم صيغة 2014:
"فتح المعابر وتسهيل حركة الأشخاص والبضائع وعدم تقييد حركة السكان أو استهدافهم في المناطق الحدودية والتعامل مع إجراءات تنفيذ ذلك بعد 24 ساعة من دخول الاتفاق حيز التنفيذ".
"فتح المعابر وتسهيل حركة عبور الأشخاص والبضائع عبر المعابر الحدودية في ضوء استقرار الأوضاع الأمنية على الأرض".
تُظهِر المقارنة بين بند (ج) كما كان، عما صار عليه، عن فرق جوهري في مبنى ومعنى البند، الذي كان يقع عام 2012 في 28 كلمة، انخفضت إلى 17 كلمة فقط عام 2014، أي بنسبة خفض 40%.
نتج انخفاض عدد الكلمات من اختلاف مضمون البند (ج) عام 2014 عما كان عليه في عام 2012، إذ تكرر الحديث في المرتين، وبصيغ لغوية متشابهة، عن "فتح المعابر وتسهيل حركة الأشخاص والبضائع"، ولكن مع فرقين هما:
أُسقِطت عبارة "عدم تقييد حركة السكان أو استهدافهم في المناطق الحدودية" من مبادرة 2014، ما يعود بالأمور لما كانت عليه قبل تفاهمات 2012، إذ كانت إسرائيل تحتفظ بالسيطرة عمليًا على المنطقة الحدودية لغزة، بعُمق حوالي كيلومتر، مع ما يُوفِّره لها ذلك من سيطرة على الحركة فوق الأرض تجاهها من غزة. وبناء عليه، فإنّ العودة بوضعية المنطقة الحدودية إلى ما كانت عليه قبل 2012، يمنح إسرائيل فرصة السيطرة أمنيًا على المنطقة الحدودية، خاصة بعد شطب بند "عدم تقييد حركة السكان أو استهدافهم في المناطق الحدودية"، ويحرِم المقاومة الفلسطينية من امتياز حفر الأنفاق ابتداء من حدود غزة مع إسرائيل، وصار عليهم الحفر من نقطة متراجعة حوالي كيلومتر إلى الخلف، هي تلك المسافة من عُمق غزة عن الحدود المتروكة تحت السيطرة الإسرائيلية.
>> يتبع