المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : هل من الممكن ان تلجأ امريكا لهذا الحل كون اسرائيل دولة وظيفية؟؟



بوفيصيل
03-07-2014, 09:01 PM
مصطفى كبها
جذور فكرة الدولة ثنائية القومية
الفكرة بين مؤيد ومعارض
عند الحديث عن دولة ثنائية القومية (فلسطينية- صهيونية)، يجب التأكيد من البداية أن هناك أكثر من سيناريو وشكل محتمل لهذه الدولة.
سيما أن المتحدثين عنها (لدى الطرفين) بعضهم يتحدث عن دولة ثنائية القومية على كل مساحة فلسطين الانتدابية تارة، وبعضهم الآخر يتحدث عن دولة ثنائية القومية (عربية يهودية) في حدود دولة إسرائيل تارة أخرى.
الحديث هنا هو عن دولة ديمقراطية ثنائية القومية على كل مساحة فلسطين الانتدابية، والقائلون فيها تتعدد دوافعهم ومنطلقاتهم.
فمنهم من يرى في هذه الفكرة (من منطلقات أيديولوجية راسخة) حلا عادلا وممكنا للنزاع الفلسطيني–الإسرائيلي.
ومنهم من يرى في ذلك حلا يتعامل مع الأمر الواقع والأمور المستجدة على الأرض التي تمنع بشكل فعلي تطبيق فكرة الدولة أحادية القومية لكلتا المجموعتين القوميتين.
جذور فكرة الدولة ثنائية القومية
"بعد احتلال إسرائيل للضفة الغربية وقطاع غزة عام 1967 ووقوع كامل مساحة فلسطين الانتدابية تحت السيطرة الإسرائيلية تراجعت فكرة الدولة ثنائية القومية في المجتمع الإسرائيلي"
تعود جذور هذه الفكرة في أوساط الاستيطان اليهودي في عهد الانتداب البريطاني إلى مجموعات فكرية هامشية، معظمها من الفئات غير الصهيونية (الحزب الشيوعي الفلسطيني) والقليل منها من اليسار الماركسي الصهيوني (الجناح اليساري لمنظمة هشومير هصعير التي انبثق عنها فيما بعد حزب مبام اليساري الصهيوني).
والملفت للنظر أن هاتين الحركتين فشلتا في الوصول إلى المركز الفاعل والتيار المركزي في مجتمع الاستيطان اليهودي والتأثير في دفعه إلى تأييد هذه الفكرة في فترة الانتداب، علما بأنهما تخلتا عن الفكرة بعد إقامة دولة إسرائيل وتحدثنا عن فكرة "دولتين لشعبين".
في حين دأبت الحركة الشيوعية على تطوير الفكرة جاعلة منها الأساس الفكري للحزب الشيوعي ثنائي القومية، فشل حزب مبام (المنبثق عن هشومير هصعير) في الامتحان منذ بدايته حينما أكد زعماؤه التاريخيون (مئير يعاري ويعقوب حزان) أنهم حزب صهيوني قبل كل شيء ضاربين بعرض الحائط مطالب حلفائهم العرب (رستم بستوني وجماعته) جعل الحزب حزبا ثنائي القومية.
وفي الحالتين تعامل الطرفان (كل من منطلقاته) مع إسرائيل على أنها دولة الشعب اليهودي التي قامت إثر قرار التقسيم وحرب 1948 وطالبا بإقامة الدولة الفلسطينية التي لم تقم في حينه.
وفيما كانت حدود قرار التقسيم هي المرجعية التي اعتمدها الحزب الشيوعي أساسا للحل المحتمل (حتى حرب يونيو/ حزيران 1967)، رأت مبام حدود الهدنة المعقودة بين إسرائيل والدول العربية عام 1949 هي المرجعية لتطبيق مبدأ "دولتين لشعبين".
وبعد احتلال إسرائيل للضفة الغربية وقطاع غزة عام 1967 ووقوع كامل مساحة فلسطين الانتدابية تحت السيطرة الإسرائيلية، تراجعت فكرة الدولة ثنائية القومية في المجتمع الإسرائيلي وتركزت المواقف الإسرائيلية تبعا للواقع الجديد في ثلاثة مواقف رئيسية:
الأول الذي تبنته قوى اليمين وعلى رأسها حزب جاحال (الليكود لاحقا) القائل بترسيخ الواقع الجديد من خلال العمل بفكرة "أرض إسرائيل الكاملة" وتوطيدها من خلال سياسة الأمر الواقع المتمثلة بإقامة المستوطنات اليهودية في الأراضي المحتلة بغية تعقيد أمر الانسحاب وعرقلة إقامة دولة فلسطينية حتى في إطار حدود الرابع من يونيو/ حزيران 1967.
أما الموقف الثاني الذي تبناه حزب العمل الحاكم آنذاك وبعض حلفائه فقد تلخص بالعمل على استغلال نتائج حرب يونيو/ حزيران 1967 من خلال غض الطرف عن مساعي قوى اليمين لإقامة المستوطنات في الأراضي المحتلة بل المبادرة والمساهمة في الإقامة والدعم وتخصيص الميزانيات الحكومية لذلك بغرض فرض تنازلات على الطرف الفلسطيني– العربي متمثلة بالاستجابة للمطالب الأمنية الإسرائيلية بشكل يمنع الطرف الفلسطيني من العودة للمطالبة بحدود التقسيم كمرجعية لأي حل مستقبلي محتمل.
أما الموقف الثالث فقد تمثل في تحول الحزب الشيوعي الإسرائيلي وأطراف يسارية أخرى عن مرجعية قرار التقسيم إلى مرجعية قرار 242 الصادر عن مجلس الأمن الدولي على أثر حرب يونيو/ حزيران 1967، علما بأن الحزب استمر برفع الشعار الفضفاض "دولتين لشعبين" ولكن دون تحديد حجم هاتين الدولتين الأمر الذي يعني قبولا ضمنيا بواقع دولة يهودية تستحوذ على قرابة الـ80% من مساحة فلسطين الانتدابية ودولة فلسطينية على ما تبقى من الأرض، إضافة إلى الميزات الأمنية المطلقة الممنوحة للدولة اليهودية مقابل التحديدات القسرية المفروضة على الدولة الفلسطينية المقترحة.
ومع اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى وازدياد المطالبة بإقامة دولة فلسطينية مستقلة تناقص عدد القائلين بهذه الفكرة، خاصة أن عملية أوسلو خلقت مناخا يوحي بقرب تحقق "دولتين لشعبين"، ولكن بعد فشل الأطراف بتطبيق تفاهمات أوسلو نصا وروحا بشكل قاد إلى اندلاع الانتفاضة الثانية ووصول الأطراف إلى طريق مسدود، عادت فكرة "الدولة الثنائية القومية" لتجد لها مكانا في حيز الجدل العام في المجتمع الإسرائيلي.
إذ إن فشل عملية السلام والرفض الإسرائيلي المستمر لمبدأ الانسحاب التام من الأراضي المحتلة واستمرار التيار المركزي الإسرائيلي بالحديث عن الانسحاب المجزوء واستمرار الاستيطان، كل هذه العوامل مجتمعة قادت إلى إعادة طرح فكرة "الدولة ثنائية القومية".
وأعيد هذا الحديث خاصة من قبل أشخاص ينتمون إلى اليسار الذين بدؤوا يؤمنون بتزايد الصعوبات والعوائق أمام إمكانية إقامة دولة فلسطينية مستقلة في الضفة الغربية وقطاع غزة، وذلك إزاء الواقع على الأرض


الذي يفقد هذه الدولة العتيدة (يوما بعد يوم) قدرتها على إمكانية الوقوف على قدميها والاستمرار بالحياة.
الفكرة بين مؤيد ومعارض
"الذي يجب فعله هو محاولة الوصول إلى حالة من المساواة على المستويين الفردي والجماعي في إطار نظام عام واحد في جميع أرجاء البلاد ميرون بنبنستي"
كان المقال الذي نشره الصحافي "أرييه شابيط" في صحيفة هآرتس في مطلع أغسطس/ آب 2003، هو فاتحة جدل صحفي وفكري نشط أعاد فكرة "الدولة ثنائية القومية" إلى الأذهان وإلى مركز الجدل في الأوساط المصممة للرأي العام الإسرائيلي.
حمل المقال عنوان "فلننس الصهيونية" بدأ فيه الصحافي برسم صورة لتغييرات جدية حاصلة في التيارات الجوفية لدى أوساط اليسار الصهيوني نحو طبيعة الحل النهائي الدائم مع الفلسطينيين، عارضا التغييرات التي حصلت على مواقف رمزين من رموز اليسار على أطيافه المختلفة:
ميرون بنبنستي (نائب رئيس بلدية القدس سابقا المرشح السابق للكنيست عن حزب راتس)
وحاييم هنغبي (مؤسس حركة متسبين الراديكالية ومن مؤسسي القائمة التقدمية للسلام ومن زعماء جوش شالوم).
والتقى الرمزان -كل من منطلقاته- في نقطة مفادها ضرورة إحداث تغييرات جذرية في مواقف اليسار الإسرائيلي والتأكيد على أن الحل يكمن في إقامة دولة ديمقراطية واحدة للشعبين من النهر إلى البحر، ما يعني بالضرورة الإهمال شبه النهائي لفكرة "دولتين لشعبين".
أفكار بنبنستي وهنغبي
يشرح حاييم هنغبي المراوحة بين الفكرتين لديه قائلا "عندما تبنيت مبدأ الدولتين في الثمانينيات فعلت ذلك بصعوبة بالغة، تخللها صراع مرير مع نفسي، لم أنضم لليسار الصهيوني ولم أترك أفكاري الثورية ولكني أعتقدت حينها أن فكرة الدولتين فكرة جديرة بالتبني.
في السنوات الأخيرة فهمت مدى الخطأ الذي وقعت فيه، فعندما أدركت أن عدد المستوطنات مستمر بمضاعفة نفسه فهمت حينها أن إسرائيل أهدرت الفرصة التاريخية التي أتيحت لها".
أما ميرون بنبنستي فيقول إن تبنيه للفكرة لم يكن جديدا وإنما بدأ ببداية الثمانينيات (قبل اندلاع الانتفاضة الأولى) معللا ذلك بأن بناء المستوطنات واستمرار الاستيلاء على الأراضي في المناطق المحتلة خلق واقعا جديدا غير قابل للتغيير.
ثم يضيف قائلا "كان عدد المستوطنين حينها 20 ألفا واليوم عددهم 230 ألفا وعليه فقد نتجت الكتلة التي كنت أخشاها والتي لن تسمح بتغيير الوضع الراهن مثلما لن تفلح أوسلو أو الجدار الفاصل أو الحديث عن دولة فلسطينية في تغيير هذا الوضع.
فالواقع الذي نعيشه اليوم هو واقع ثنائي القومية، وهذا الواقع هو عامل ثابت لا يمكن تجاهله أو إنكاره".
ويضيف بنبنستي أيضا "في السنة الأخيرة وصلت إلى عبرة مفادها أن علينا التفكير حسب مفاهيم جديدة، يجب أن نرى أرض إسرائيل الغربية كوحدة جيو-سياسية واحدة".
على إسرائيل أن تفهم أنه ليس بوسعها فرض مفاهيمها المهيمنة على 3.5 ملايين فلسطيني في الضفة وغزة وعلى 1.2 مليون فلسطيني من مواطني إسرائيل.
الذي يجب فعله هو محاولة الوصول إلى حالة من المساواة على المستويين الفردي والجماعي في إطار نظام عام واحد في جميع أرجاء البلاد".
الدولة الثنائية في كتابات أكاديميين
بالإضافة إلى هنغبي وبنبنستي بدأت فكرة الدولة ثنائية القومية بالظهور في كتابات بعض الأكاديميين الإسرائيليين أمثال أمنون راز، كراكستين وسارة أوساسكي لازار (كلاهما محاضران جامعيان).
ففي مقال مطول نشره راز بموقع الإنترنت "كيدما بوابة الشرق على إسرائيل" اقترح فيه "أن يتم النظر لمصطلح ثنائي القومية" بمنظار أوسع من النظر إليه كحل سياسي وحسب، وإنما كإطار ناقد لمجمل القيم والمبادئ التي يجب وضعها أساسا لأي حل سياسي.
هذه القيم والمبادئ يمكن أن تكون حجر الزاوية لحل الدولتين أو حل الدولة الواحدة. وهي يجب أن ترتكز على مساواة قومية ومدنية بين العرب واليهود وعلى مصالحة تاريخية مبنية على اعتراف إسرائيل بمسؤوليتها عن قضية اللاجئين وحقوقهم أساسا لأي حل مبني على الشراكة والعدل".
معارضو الفكرة ومسوغاتهم
أثارت هذه الفكرة معارضة في أوساط من اليمين واليسار على حد سواء، فمعارضة اليمين ليست ضد فكرة دولة واحدة بين النهر والبحر (التي يريدونها دولة قومية يهودية بالطبع)، وإنما على طبيعة هذه الدولة وأسس كيانها التي يرون فيها إلغاء لمبادئ الحركة الصهيونية وللحقوق اليهودية التاريخية على الأرض.
ولهذا تنحصر دعاوى اليمين المعارضة بالترويج لخطورة هذه الفكرة على صهيونية الدولة ويهوديتها، وهو أمر كاف في المرحلة الراهنة لمنع زيادة عدد المؤيدين لها في المجتمع اليهودي الإسرائيلي.
أما المعارضة من اليسار فقد جاءت من أناس شاركوا هنغبي وبنبنستي نشاطهم داخل معسكر اليسار أمثال أوري أفنيري الذي كان قد أسس مع هنغبي الحركة الحمائمية "جوش شالوم".
كتب أفنيري في يوليو/ تموز 2003 مقالا في موقع الإنترنت "الضفة اليسارية" تحت عنوان "وعاش الذئب مع الحمل" -وهو مقتبس من سفر إشعيا ونبوءته- جاء فيه:
"من الغريب بعض الشيء أن تظهر هذه النبوءة المثالية مرة أخرى وفي هذه الأيام بالذات بعد أن كانت قد فشلت فشلا تاما في جميع أنحاء العالم، الاتحاد السوفياتي متعدد القوميات تفكك، يوغسلافيا تفككت، البوسنة تفككت ثم جمعت من جديد بشكل مصطنع، صربيا تفككت ومقدونيا على كف عفريت، كندا تتأرجح، قبرص صاحبة الدستور ثنائي القومية أصبحت ذكرى، والقائمة طويلة، إندونيسيا والفلبين وإسبانيا وجارتنا لبنان".
أما ديفد شاحام (كاتب في الضفة اليسارية) فيصف الفكرة على أنها ثمرة فجة لم ينضج السياق التاريخي بعد لطرحها، وفي طرحها الآن يمكن أن تشكل عائقا أمام حل محتمل وذلك لأنها تسكب زيتا على الموقدة وترسخ سيطرة أحد الشعبين على الآخر.
إمكانيات تحقق هذه الفكرة
لم يظهر طارحو الفكرة تفاؤلا زائدا لتجسيدها في المستقبل القريب وهم لا يطمحون حتما لإحداث انقلاب في الرأي العام الإسرائيلي لصالحها.
ولكن ازدياد عدد المثقفين ومصممي الرأي العام الطارحين لها يمكن أن يكون مؤشرا لعملية جدلية حثيثة معادلتها النهائية تقول:
كلما تعقدت إمكانيات الحل المبني على فكرة الدولتين على أساس قومي يزداد عدد القائلين بحل الدولة الواحدة على أساس ثنائية القومية.


وهو كما يبدو سيكون الملجأ الوحيد لطالبي الحلول العادلة والدائمة.
_______________
كاتب عربي من إسرائيل

بوفيصيل
03-07-2014, 09:07 PM
جرى الحديثُ في مراحل مختلفة من الصراع الإسرائيليّ ـ الفلسطينيّ عن حلّ الدولة الواحدة. بدأ ذلك في بدايات القرن العشرين، وقبل النكبة الفلسطينيّة وقيام دولة إسرائيل على حطام الشعب الفلسطينيّ. وقد طَرح هذا الحلَّ في تلك الفترة مفكّرون يهود، تحدّثوا عن إمكانيّاتٍ مختلفة: تبدأ بإقامة إطارٍ سياسيٍّ يحظى فيه اليهودُ بموقعٍ خاصّ، وتنتهي بدولةٍ يهوديّةٍ يحظى فيها العربُ الفلسطينيون بموقعٍ خاصّ، مرورًا بالشراكة والتقاسم التامّ المبنيّ على التساوي.

كما كانت ثمّة تلميحاتٌ فلسطينيّة إلى هذا الحلّ في مراحلَ معيّنة. وطُرحتْ في مراحلَ لاحقةٍ إمكانيّةُ إقامة دولةٍ فلسطينيّةٍ واحدة يحظى فيها اليهودُ بحصانةٍ معيّنة وموقعٍ خاصًّ يفتقر إلى السيادة. وطُرح حلُّ الدولة الواحدة من جديد من قبل منظّماتٍ فلسطينيّة، على رأسها حركة "فتح،" وذلك بعد احتلال سنة 1967 وسقوط كلّ فلسطين تحت سيطرة الدولة الإسرائيليّة. إلاّ أنّ هذا الطرح لم يحظ بدعمٍ واسع، وانتقل الحديثُ إلى "حلّ الدولتين" بعد فترةٍ زمنيّةٍ وجيزة.
تضمّن حلُّ الدولتين الفصلَ والتقسيمَ السياديّ، وذلك بناءً على العقيدة القائلة بأنّ الشعبين الإسرائيليّ والفلسطينيّ على استعدادٍ للتخلّي عن أحلام الهيمنة التامة والشاملة على كلّ الأرض المتنازَع عليها. إلاّ أنّ هذه الأحلام لم تتحقّقْ حتى اليوم، وهو ما أدّى إلى تصاعد الحديث عن حلّ الدولة الواحدة من جديد. ويتمّ طرحُ حلّ الدولة الواحدة من على منابرَ أكاديميّةٍ وثقافيّةٍ عديدة، وذلك لأسبابٍ عديدةٍ أهمُّها: انسدادُ أفق حلّ الدولتين للصراع الإسرائيليّ ـ الفلسطينيّ، وتقويضُ إسرائيل لإمكانيّة هذا الحلّ نتيجةً لاستمرار الاستيطان اليهوديّ في أراضي فلسطين المحتلة عام 1967، الشيء الذي يجعل إسرائيلَ القوةَ الأساسيّة (عن غير قصدٍ طبعًا) وراء الرواج المتصاعد لفكرة حلّ الدولة الواحدة. وأبقت قوًى سياسيّةٌ فلسطينيّةٌ معيّنة على فكرة حلّ الدولة الواحدة لأنه يعالج إشكاليتيْن جذريتيْن في القضيّة الفلسطينيّة لا يمكن أن يعالجهما حلُّ الدولتين، وهما: قضيّةُ اللاجئين، وقضيّةُ فلسطينيي الداخل. فعل الرغم من الحديث عن حقّ عودة اللاجئين الفلسطينيين في إطار حلّ الدولتين، فقد تبيّن مع مرور الزمن أنّ هذا الحقّ اقتصر، بإرادةٍ إسرائيليّة، على أراضي الدولة الفلسطينيّة العتيدة في الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة أو ما تبقّى منها، أيْ إنه لا يضْمن حقّ لاجئي 48 في العودة إلى الأراضي التي طُردوا منها خلال النكبة. كما تبيَّنَ أنّ حلّ الدولتين لن يَضمن الحقوقَ الجماعيّةَ لفلسطينيي الداخل [1948]، ولا يجيب على المأزق الوجوديّ الذي يواجهونه كلَّ يومٍ نتيجةً لسياسات التسلّط والقمع والشرذمةِ والتغريب.
بعد سقوط نظام الفصل العنصريّ في جنوب أفريقيا ونجاح بناء الدولة الديمقراطيّة المتعدّدة القوميّات هناك، لاحتْ من جديدٍ آفاقُ حلّ الدولة الواحدة كنموذجٍ مثاليّ. وعلى الرغم من أنّ السياسات الرسميّة لأغلبيّة الدول القياديّة في العالم، وبخاصة الولايات المتحدة الأمريكيّة، وللقيادات الإسرائيليّة والفلسطينيّة الرسميّة، ما زالت تتحدّث عن حلّ الدولتين، إلا أنّ الواقعَ الديموغرافيّ والأفقَ السياسيّ في فلسطين يحتّمان فتحَ ملفّ آفاقٍ جديدةٍ لحلّ النزاع الإسرائيليّ ـ الفلسطينيّ، وإلقاءَ نظرةٍ تحليليّةٍ استشرافيّةٍ على نموذج الدولة الواحدة، آخذين في الاعتبار أنّ حلّ الدولة الواحدة يمْكن أن يتحوّل إلى آليّة تحكّمٍ جديدةٍ تتمّ من خلالها شرعنةُ سياسةِ تقطيعِ أواصر الشعب الفلسطينيّ وتجزئتِه وزجِّه في غيتواتٍ متفرّقةٍ منعدمةِ السيادة إذا لم يطبَّقْ بناءً على قواعدَ سياسيّةٍ وقانونيّةٍ وأخلاقيّةٍ متينة، وبإرادة الأطراف المعنيّة، التي يجب أن تكون شريكةً كاملةً في الحلّ، ومع ضماناتٍ دوليّة. ومن هنا نلقي نظرة على الجذور الفكريّة والعقائديّة لحلّ الدولة الواحدة، الذي طالما كان نموذجًا مثاليّاً لحلّ النزاعات القوميّة والعرقيّة والثقافيّة.
***
يمْكن الحديثُ عن قطبين مركزيين، مع العديد من الاحتمالات البينيّة، عند حلّ النزاعات الاجتماعيّة والسياسيّة، ولاسيّما القوميّة أو الإثنيّة. القطب الأول يعتمد رؤيا اندماجيّةً، شموليّةً أحاديّة، مبنيّةً على خلق حالةٍ اجتماعيّةٍ وسياسيّةٍ متساويةٍ بين الأفراد والمجموعات التي يتركّب منها المجتمع. وهذا يعني خلقَ إطار سياسيّ مشترك والقيامَ بعمليّة صهرٍ ثقافيٍّ اجتماعيٍّ متواصل يؤدّي إلى انحلال المجموعات المختلفة، وبناءِ وعيٍ ثقافيٍّ وهويّةٍ اجتماعيّةٍ وسياسيّةٍ مشتركةٍ لجميع أفراد المجتمع. أما على المستوى المؤسساتيّ فالدولة الواحدة ذاتُ سيادةٍ كاملةٍ على جميع مواطنيها، الذين ينعمون بالتساوي، ويحترمون التنوّعَ والاختلافَ، ويروْن فيهما جزءًا من التكامل الاجتماعيّ والتقاسم الوظائفيّ الثقافيّ والاجتماعيّ. وبناءً على ذلك فإنّ العلاقة بين الدولة وذويها هي علاقةٌ فردانيّة، ولا وجودَ للكيانات الاجتماعيّة على المستوى القانونيّ أو الدستوريّ. هذه الدولة هي دولةٌ لجميع مواطنيها: إنها دولة التساوي القانونيّ بين الأفراد الذين يتمتّعون بالحريّة الكاملة في التآلف والاندماج في مجموعاتٍ مختلفةٍ أوّليّة أو إراديّة. ودورُ هذه الدولة الليبراليّة هو توفيرُ الحماية القانونيّة الإجرائيّة لجميع أفراد المجتمع لإتاحة الفرصة أمامهم للتعاقد والمساومة والحوار والجدل والاتفاق والاختلاف كما يشاؤون. وما الدولة إلاّ انعكاسٌ للإرادة الجمعيّة المنبثقة عن إرادة الأفراد والائتلافات الناجمة عن الحوار والاتفاق فيما بينهم. إنّ دولة المواطنين هي دولة إراديّة طوعيّة لا حول لها ولا قوة إلا بإرادة مواطنيها، المتمثلة في الدستور والانتخابات الدوريّة.
القطب الآخر والنقيض لهذا الحلّ الأوّل هو الحلّ المبنيّ على الفصل بين المجموعات المتصارعة، ومأسسةِ هذا الفصل في دولٍ أو أطرٍ أخرى منفصلة. نقطة انطلاق هذا الحلّ هو أنّ المجموعات المتنازعة تستبق الكيانَ السياسيّ وتفرض وجودَها على الواقع المشترك. هذه المجموعات، قوميّةً كانت أو ثقافيّة، تتوق للحفاظ على نفسها، وتطوِّع الحلَّ السياسيّ للنزاع فيما بينها لإرادتها ورؤيتها. لذلك فإنّ هذا القطب من نموذج "حلّ النزاعات" مبنيٌّ على التقسيم، ووضعِ الحواجز والحدود الاجتماعية والجغرافية، من أجل الفصل بين المجموعات المتنازعة وتخفيفِ حدّة الصراع بينها. غير أنّه مبنيٌّ أيضًا على التساوي... ولكنّه التساوي المنفصل بناءً على المقولة الشعبيّة: "إنّ الأسيجة تصنع جيرانًا طيّبين." إنه حلٌّ بسيطٌ يؤكّد الهويّاتِ المجموعاتيّة المختلفة، فيشرعنها من خلال قوننتها ومأسستها في أطرٍ سياسيّةٍ ودستوريّة مختلفة، بحيث تأخذ كلُّ مجموعةٍ من المجموعات المتنازعة حيّزًا مستقلاً، وتمْلك حقَّ السيادة عليه، وفيه تمارس ما شاءت من قراراتٍ ونقاشاتٍ وإجراءات. وهذا ما تمّ التفكيرُ فيه عندما اتُّخذ قرارُ تقسيم فلسطين في هيئات الأمم المتحدة في شهر تشرين الثاني (نوفمبر) من العام 1947.
***
بين هذين القطبين من نماذج حلّ النزاعات، يمكن الحديثُ عن العديد من الإمكانيّات البينيّة. وأودّ التركيزَ على نموذجٍ وسطيّّ واحد يَدْمج القطبين النقيضيْن معًا، إذ يجْمع بين الإطار السياسيّ الواحد والحفاظ على الهويّات الجمعيّة في آنٍ واحد. لهذا النموذج أنماطٌ ومستوياتٌ مختلفة، منها: الدولة الثنائيّة القوميّة، والدولة المتعدّدة الثقافات، والدولة التوافقيّة، والدولة الفدراليّة، والدولة التي تجمع بين أجزاء مختلفة من هذه المركّبات كما هو الحال في سويسرا أو بلجيكا أو إسبانيا أو كندا. هذا النموذج من حلّ الصراعات هو الأصعبُ بين الحلول المطروحة لمجرّد كونه حلاً وسطيّاً يحاول أن يدمج بين مركّباتٍ وتوجّهاتٍ نقيضةٍ في بعض الحالات، وتصادميّةٍ في حالات أخرى؛ ويجب أن يعكسها ويمثّلها بالدرجة القصوى، من دون أن يؤدّي ذلك إلى انشطاراتٍ أو انقساماتٍ تعيد مأسسةَ النزاع وحالة الاحتراب. من هنا فإنّ حلّ الدولة الواحدة الوسطيّة يجب أن يكون مبنيّاً على بعض المقوِّمات الأساسيّة لكي ينجح.
العمود الارتكازيّ الأساس لحلّ "الدولة الواحدة الوسطيّة" هو الاستعدادُ المتبادل للمجموعات المتنازعة للتخلّي عن الانفراد بالسلطة وعن الهيمنة القسريّة. لذلك فإنّ علاقات الثقة المتبادلة، ولغةَ التخاطب والإقناع وقبول حلول الوسط، هي من مرتكزات الثقافة السياسيّة التي لا يمكن التخلّي عنها في هذا النوع من الدولة. ثم إنّ حلّ الدولة الواحدة مبنيٌّ على عقليّة الشراكة في مستوياتٍ معيّنة، وعلى موازنتِها مع الحقّ في الحفاظ على أحيزةٍ منفصلةٍ في مجالاتٍ مختلفةٍ من الحياة. هذه البنية المزدوجة من التواجد مهمّة جدّاً لكي تفسح المجالَ لجميع المواطنين والمجموعات بالشعور بأنّ الدولة ومركّباتها تخصّهم، وبأنّ في إمكانهم الدخولَ اليها بلا اعتراضٍ أو شرط، على الرغم من أنّ التنوّع والاختلاف والتقاسم الإراديّ المتبادل هي سيّدة الموقف. إنّ الدولة الواحدة الوسطيّة كيانٌ هجين، ذو أوجه متعدّدة متبدّلة ومتقلّبة بحسب الظروف والإرادات والمصالح. وهي مبنيّة على التسامح والانفتاح على الآخرين وعلى التحوّل والتبدّل. هي دولة نقيضةٌ للأصوليّة والسلفيّة والتزمّت والانغلاق والمحافظة والغيبيّة. هي دولة تعتنق المواطنة المزدوجة، إذ يقيم الانتماءُ المشتركُ إلى الدولة والانتماءُ إلى المجموعة الاجتماعية الأمّ ـ قوميّةً كانت أو غير ذلك ـ علاقةً جدليّةً بنّاءة، بحيث يغذّي واحدُهما الآخر، ويعيدان صياغة نفسيهما بشكل دائمٍ، وباعترافٍ متبادلٍ وواعٍ للقيمة المضافة الناتجة من التنوّع والشراكة والانفتاح والحوار. إنّ حلّ الدولة الواحدة الوسطيّة، توافقيّةً كانت أو فدراليّة، مبنيّ على العصبيّة القانونيّة والدستوريّة والمؤسسات الجمعيّة النافذة وذات السلطة الفاعلة. إنها دولة القانون والسلطة الشاملة التي تعتنق دينَ المساواة والحريّة من جهة، ولكنها تفرض إرادتها وتحافظ على نظامها واتساقها من جهةٍ أخرى. هي دولة التسامح والإبداع والاستنباط، ولكنها أيضًا دولةُ الانضباط والالتزام واحترام المعتقدات والقيم المتنوعة والمتعددة للمجموعات المكوِّنة لها.
***
فلسطينيّ في قسم العلوم السياسيّة في جامعة تل ابيب

بوفيصيل
03-07-2014, 09:09 PM
غير أنّ النظر إلى واقع الصراع الإسرائيليّ ـ الفلسطينيّ اليوم يُظهر أنّ هذا النموذج من الحلّ هو من المستحيلات في الوقت الحاليّ. إنّ حالة الهيمنة القسريّة الإسرائيليّة العنيفة، وحالة الانقسام والتشتت الفلسطينية، تَحُولان دون إمكانيّة المطابقة بين النموذج الوسطيّ والواقع. كما أنّ موازينَ القوى الدوليّة، ومصالحَ النخب السياسيّة المهيمنة في المجتمع الإسرائيليّ والمجتمع الفلسطينيّ، تمنع التفكيرَ الجادّ بواقعيّة حلّ الدولة الواحدة. ومع ذلك يبدو أنّ للتاريخ إرادةً أقوى من إرادات الأشخاص، وأنّ الحياة لا يمْكن أن تُرسم كما تُرسم الصورةُ المعلّقة على الجدران. فالتطوّرات الجارية على أرض الواقع، واحتدامُ صراع الإرادات، وانسدادُ أبواب الحلول الأخرى، تجعل التفكير في حلّ الدولة الواحدة ضرورةً ملحّة. فمَنْ كان يحْلم بأن ينهار نظامُ الفصل العنصريّ في جنوب أفريقيا بالسرعة التي انهار فيها؟ وعلى الرغم من الفروق بين الحالة الجنوبأفريقيّة والحالة الإسرائيليّة ـ الفلسطينيّة، فلا بدّ من استشفاف العبر من تلك الحالة. بل مَن كان يحلم بأن ينتهي الصراع في إيرلندا إلى حلٍّ ما، أو أن ينتهي الصراعُ في البلقان بالشكل الحاليّ بعد حالات القتل والبطش والدمار المتعمد؟ إنّ وظيفة الفكر هي استشرافُ آفاق المستقبل من التبصّر في الواقع وتقلّباته وتناقضاته، من دون الوقوع في الأحلام والمثاليّات.
إنّ آفاق حلّ الدولتين للصراع الإسرائيليّ ـ الفلسطينيّ آخذةٌ في التلاشي. فالمستوطناتُ اليهوديّة في أراضي الدولة الفلسطينيّة العتيدة، والمناطقُ الآمنةُ التي تريد أن تنتزعها إسرائيلُ، مثل غور الأردن، تجعل الدولة الفلسطينيّة مجرّدَ برجٍ من ورق. هذا من جهة. ومن جهةٍ أخرى، فإنّ الهيمنة الكولونياليّة الإسرائيليّة لا يمكن أن تدوم إلى الأبد. كما أنّ إمكانيّة التطهير العرقيّ، على غرار ما حدث في النكبة، لا تبدو ممكنةً في الظروف الحاليّة، مع أنني لا أستثنيها من قاموس المخطّطات الإسرائيليّة المستقبليّة. وفي رأيي أنه إذا استمرّ الوضعُ الحاليّ، فلا بدّ أن تتراجع آليّاتُ السيطرة الإسرائيليّة، لأنّ قوائمَها الأخلاقيّة آخذةٌ في الاضمحلال داخليّاً وخارجيّاً على الرغم من تعاظم قدراتها الماديّة والعسكريّة. إنّ المسوِّغات الأخلاقيّة والسياسيّة لإقامة إسرائيل، والدعم الذي حصلتْ عليه الحركةُ الصهيونيّة من اليهود وغير اليهود في العالم، خصوصًا بعد الحرب العالميّة الثانية، بدأتْ تتراجع. ويبدو ذلك جليّاً في مواقف الجماهير في الدول الغربيّة، على الرغم من أنّ مواقف الدول الرسميّة لم تتغيّرْ بعد. أضفْ إلى ذلك أنّ هنالك تخبّطاتٍ إسرائيليّة عميقة، لكنها لا تبدو دائمًا جليّة، حول جدوى المشروع الصهيونيّ: فهل هو يوفّر مقرّاً آمنًا للشعب اليهوديّ إنْ كانت نتيجته التحكّمَ بشعبٍ آخر، والصراعَ معه كلّ الوقت، وتطويرَ تهديداتٍ وجوديّةٍ جديدةٍ قد تؤدّي إلى حربٍ كارثيّةٍ تقوم خلالها إسرائيلُ باستعمال أسلحة دمار شامل (على غرار قصة شمشون التوراتيّة) خصوصًا مع تطوّر التكنولوجيا الحربيّة في الدول المحيطة لإسرائيل؟! صحيح أنّ هذه التخبّطات تبدو محصورةً في قطاعاتٍ نخبويّة من الجمهور الإسرائيليّ، ولكنها آخذةٌ في التوسّع... بل هي تشغل الكثيرين كلّما ازدادتْ قوةُ المستوطنين، وتعمّقتْ قبضتُهم على زمام الأمور في إسرائيل، ووقعت الدولةُ في أسر مَنْ يمثّل رؤيتهم ومصالحَهم، وكلّما اتجهتْ إسرائيل إلى التلويح المتزايد بقدرتها العسكريّة من أجل فرض إرادتها على أرض الواقع المحليّ والإقليميّ.
***
للواقع الديموغرافيّ ثقلُه السياسيّ الخاصّ، والمسألة ليست مسألة أرقامٍ فقط. إنّ بنية التوزيع السكّانيّ في حقل السيطرة الإسرائيليّ ذاتُ أهميّةٍ كبيرة إذا ما أُخذتْ في الاعتبار التحوّلاتُ الطارئةُ على عقليّات السكّان وإراداتهم. إنّ الوجود الفلسطينيّ في جميع أجزاء فلسطين، والتقاربَ المتزايدَ في العقليّات والإرادات بين السكّان العاديين، أقوى بكثير من رغبة السلطة الإسرائيليّة في الفصل بين المجموعات الفلسطينيّة المختلفة في داخل إسرائيل وفي الأراضي المحتلّة عام 1967؛ وهي أقوى بكثيرٍ من أن تحُول دونها النزاعاتُ القائمةُ الآن بين النخب السياسيّة الفلسطينيّة. إنّ تصنيف الفلسطينيين بحسب حمْلهم للمواطنة الإسرائيليّة أو حرمانهم منها قد كان له تأثيرٌ كبيرٌ لمدة طويلة؛ ولكنْ ـ وبسبب تفريغ هذه المواطَنة من مضامينها ـ راح الفرقُ يتلاشى بين حاملي المواطنة الإسرائيليّة والمحرومين منها تحت الاحتلال. ثم إنّ إسرائيل، على الرغم من قدرتها الهائلة، لم تكن قادرة، ويبدو أنها لن تكون قادرة في المستقبل القريب، على محو إرادة شعبٍ بكامل؛ ولا تمْلك حتى الآن ـ كما ذكرنا ـ المسوِّغات لإجراء تعديل ديموغرافيّ جذريّ في فلسطين التاريخية: فهي ليست قادرة حتى الآن، ومنذ 1967، على طرد (أو قتل) كمٍّ من الفلسطينيين بحيث يتغيّر الواقعُ الديموغرافيّ. علاوةً على ذلك فإنها، بسبب جشعها غير المحدود، لم تمْلك الحنكة السياسيّة لأن تطرح الحلَّ السياسيّ الذي يضْمن لها هيمنةً ديموغرافيّةً كاملةً بلا منازع. وهي لم تطرح الفصلَ الجغرافيّ والديموغرافيّ إلاّ في السنوات الأخيرة عندما أصبح هذا الفصل شبهَ مستحيلٍ سياسيّاً وديموغرافيّاً.
وتلعب التحوّلاتُ الجاريةُ في المجتمع الفلسطينيّ أيضًا دورًا مهمّاً في تقويض إمكانيّات حلّ الدولتين، وتَطرح حلَّ الدولة الواحدة بقوةٍ على الساحة الفكريّة والثقافيّة. فصعودُ "حماس" في الساحة السياسيّة الفلسطينيّة في الأراضي المحتلّة عام 1967 وفي الشتات، والتحوّلاتُ الجارية لدى الفلسطينيين في داخل إسرائيل، تعْكس حالةً جديدةً تحدُّ من إمكانيّة إسرائيل فرضَ إرادتها على الأرض لفترة طويلة ولو أفلحتْ في فرض إرادتها على السلطة الوطنيّة ومنظّمة التحرير الفلسطينيّة.
***
كلّ هذه العوامل الفكريّة والواقعيّة تجعل من حلّ الدولة الواحدة أفقًا يجب النظرُ فيه بتمعّن. فهو حلّ مستحبٌّ على المستوى الأخلاقيّ والفكريّ. وهو حلٌّ جائزٌ على المستوى العمليّ، ليس لأنه الحلّ الذي يريده جميعُ الأطراف المعنيّة بل لأنه يبدو جزءًا من تطوّر تاريخيّ جدليّ يأتي في بعض الحالات بما ليس مرادًا وعلى الرغم من حسابات الفاعلين وإراداتهم. فالظروف الحاليّة ديموغرافيّاً وسياسيّاً وأخلاقيّاً تعمل لصالح حلّ الدولة الواحدة، على الرغم من المحاولات الحثيثة لمنعها وإيجاد حلولٍ ظرفيّةٍ بديلة تظهر وكأنها تجيب على المنشود من قبل جميع أطراف النزاع.
إنّ لحلّ الدولة الواحدة للنزاع الإسرائيليّ ـ الفلسطينيّ مميّزاتٍ وإيجابيّاتٍ لا تتوفّر في أيّ حلّ آخر، سلميّاً كان أو قسريّاً. وإذا تمّ تطبيقُه بناءً على القواعد القيميّة والأخلاقيّة التي تنحصر فيه، فسيمكّن جميعَ الأطراف من تحقيق أحلامها من حيث الانتماءُ إلى المكان والأمنُ الكيانيّ بشكل كامل، بما في ذلك اللاجئون الفلسطينيون. فالشراكة في المكان، والمشاركةُ المتساوية في إدارته، تنتزعان من الصراع أحدَ أهمّ عوامله، وتعطيان الشرعيّة الكاملةَ للمجموعتين القوميتين بالشعور بالأمان والاطمئنان والانتماء، من دون الشعور بالحاجة إلى إثبات الوجود والشرعيّة بشكلٍ دائم. إنّ تأمينَ آفاق المستقبل هو من أهمّ العوامل التي تقف خلف تصرّفات الإنسان وتخطيطاته: إذ بمجرّد أن يتم تأمينُ شرعيّة البقاء، مع احترام الخصوصيّات القوميّة والثقافيّة، فستنتقل العلاقاتُ الإسرائيليّة ـ الفلسطينيّة إلى مستوى جديد ومختلف.
كما أنّ حلّ الدولة الواحدة الديموقراطيّة ينزع حالة الهيمنة والتراتب العنصريّ القسريّ القائم اليوم، ويمأسس المساواةَ والحريّة قاعدةً أخلاقيّةً للوجود المشترك. وهو يحرّر الأطرافَ، خصوصًا الطرف المهيمن، من استمرار الوقوع في مسؤوليّاتٍ أخلاقيّةٍ وإنسانيّةٍ هي في غنًى عنها، وتتمثل في القتل العشوائيّ وانتهاك حرمات الإنسان الأساسيّة. وعلى الرغم من أنه يجب تسليطُ الأنظار بشكلٍ دائمٍ على المعاناة الفلسطينية، وعلى الرغم من أنه لا مجال للمقارنة بين الضحيّة والجلاّد، فإنه من المجدي التفكير ولو للحظةٍ واحدة بالحالة النفسية للإنسان الإسرائيليّ ـ اليهوديّ المتوسط الذي تراوده أفكارٌ في أنه ليس الإنسانَ الأخلاقيّ الذي طالما ظنّ أنّ قدَرَه حتّم عليه أن يكون قدوة للأمم الأخرى فإذا به يجد نفسه محتلاً جزّارًا اغتصب أرض الآخرين ودنّس حرماتهم. إنّ هذه الومضات من التفكير، الخارجة عن قاعدة الوعي الزائف المتجذّر في الذهنيّة الإسرائيليّة، لا بدّ أنها قائمة، ولو على خلفيّة ما يفعله المستوطنون (من قتلٍ واستيلاءٍ على أراضٍ...). وهذه الومضات، التي تحاول المؤسّسة السياسيّة والأمنيّة أن تقهرها وتحدّ من وجودها من خلال التخويف والترهيب من الفلسطينيّ، ليست بالمريحة ولا بالهيّنة. وهي تلعب دورَها، خصوصًا إذا تمّ التركيزُ عليها فلسطينيّاً والعملُ على إيصالها إلى الحيّز العامّ الإسرائيليّ بشكلٍ دائمٍ وحذر. وإنّ محاولات إظهار المستوطنين وكأنهم خارجون عن السرب، وأنهم يدنّسون الوجهَ "الحقيقيَّ" الحسن لإسرائيل ومجتمعها، هي محاولاتٌ تقوم بها نخبٌ قويّةٌ في المجتمع الإسرائيليّ من أجل تبييض صفحتها وإظهار أخلاقيّاتها أمام نفسها وفي العالم وبأنها تحاول الحفاظ على المضمون "الحقيقي" الإنسانيّ والأخلاقيّ للصهيونيّة. إلا أنها لم ولن تنجح، وذلك لتسلّط الرغبة في التوسّع والسيطرة، التي هي المكوّنُ المنطقيّ للصهيونيّة لكونها حركةً كولونياليّة توسعيّة مبنيّة على أساس عرقي. وسيتبين مع الوقت الفرقُ بين النظر إلى النزاع الإسرائيليّ ـ الفلسطينيّ بوصفه مشكلة يهوديّة ـ عربيّة، والنظرِ إليه نتاجًا للعقليّة الصهيونيّة الشوفينيّة المتعصّبة التي آلت بالشعب اليهوديّ إلى القيام بأفعالٍ طالما ثار ضدَّها لأنه كان أوّلَ مَن عانى بطشَها. ومع أنّ الصهيونيّة قدّمتْ مأوًى للشعب اليهوديّ، إلا أنه مأوًى غيرُ آمن، ولن يصبح كذلك لأنه مبنيّ على أسس غير أخلاقيّة وتوسّعية تقتلع أهلَ الدار وتغيظ الجار وتوسّع رقعة صراعها مع محيطها.

إنّ حلّ الدولة الواحدة يقلع شوكةَ الإقصاء والهيمنة والتغييب. وهو حلٌّ أخلاقيٌّ يصْعب الاعتراضُ عليه على المستويين النظريّ والفكريّ لأنه عصارةُ كلّ المثل العليا التي طرحها فلاسفةُ السياسة على مدار الزمن: فهو مبنيٌّ على قيم المشاركة والشراكة، وعلى مبدإ المساواة والتساوي، ويكرّس الحريّة والإبداع لكلّ المواطنين، على ما ناشد بذلك منظّرو النظام السياسيّ وفلاسفة المجتمع ــ منذ كتاب الجمهورية لأفلاطون، وكتاب الأخلاق لأرسطو، مرورًا بكتاب المدينة الفاضلة للفارابي، وانتهاءً بكتاب نظريّة في العدل للفيلسوف الأمريكيّ جون رولز. وهو يوفّق بين حاجة الانتماء الوطنيّة وبين إرادة الحفاظ على خصوصيّات ثقافيّة وحضاريّة منفصلة. ويوفّق أيضًا بين حريّة الضمير وإدارة الحياة بحسب قيمٍ جمعيّةٍ خاصةٍ بكلّ مجموعة، وبين النظام الدستوريّ العامّ الذي يمتثل إليه جميعُ المواطنين من دون تمييز.
***

بوفيصيل
03-07-2014, 09:11 PM
إنّ حلّ الدولة الواحدة يقلع شوكةَ الإقصاء والهيمنة والتغييب. وهو حلٌّ أخلاقيٌّ يصْعب الاعتراضُ عليه على المستويين النظريّ والفكريّ لأنه عصارةُ كلّ المثل العليا التي طرحها فلاسفةُ السياسة على مدار الزمن: فهو مبنيٌّ على قيم المشاركة والشراكة، وعلى مبدإ المساواة والتساوي، ويكرّس الحريّة والإبداع لكلّ المواطنين، على ما ناشد بذلك منظّرو النظام السياسيّ وفلاسفة المجتمع ــ منذ كتاب الجمهورية لأفلاطون، وكتاب الأخلاق لأرسطو، مرورًا بكتاب المدينة الفاضلة للفارابي، وانتهاءً بكتاب نظريّة في العدل للفيلسوف الأمريكيّ جون رولز. وهو يوفّق بين حاجة الانتماء الوطنيّة وبين إرادة الحفاظ على خصوصيّات ثقافيّة وحضاريّة منفصلة. ويوفّق أيضًا بين حريّة الضمير وإدارة الحياة بحسب قيمٍ جمعيّةٍ خاصةٍ بكلّ مجموعة، وبين النظام الدستوريّ العامّ الذي يمتثل إليه جميعُ المواطنين من دون تمييز.
***
إنّ نشوة الشوق إلى واقعٍ أفضل كانت دومًا من المحرّكات الأساسية للحراك الإنسانيّ؛ فكلُّ إنسان يتوق إلى لأفضل بحسب تعريفه، وكل مجموعة تكدّ لكي تحافظ على استمراريتها بالشكل الأفضل. ولكنْ لا نجد دائمًا اتساقًا بين التوقّعات والواقع. وإذا كان حلّ الدولة الواحدة أخلاقيّاً وشموليّاً أكثر من حلّ الدولتين، ويعالج جميع جوانب النزاع ويفكّكها، وقد يؤدّي إلى حياةٍ ذات تنوّع بنّاء ومزيجٍ خلاّق... إلا أنه غيرُ عمليّ كما يبدو في الظرف الحاليّ. وهنالك عدّةُ عوامل تعرقل فرصَ هذا الحلّ، ويَلْزم العملُ على تقويضها بالطرق التي تتماشى مع مثاليته، أي بالإقناع والحوار الديموقراطيّ.
العامل الأول هو علاقاتُ القوة القائمة التي تعمل لصالح المشروع الصهيونيّ الانغلاقيّ الذي يكرّس كل قواه الاقتصاديّة والتكنولوجيّة والسياسيّة لفرض هذا الواقع. فإسرائيل نجحتْ على مدار السنين في أن توسّع رقعةَ حكمها، وفي أن تقمعَ القيادة الفلسطينيّة، وفي أن تجزّئها وتشرذمَ الشعبَ الفلسطينيّ؛ الشيء الذي يشجّعها على المضيّ قدمًا في هذه السياسات ولو بتغييراتٍ بسيطة وبآليّاتٍ مختلفة، كما هو الحالُ في توسيع المستوطنات تحت غطاء المحادثات "السلمية." لهذا فإنّ منطق القوة المعسكرة المهيمن في المجتمع الإسرائيليّ يشكّل عقبة أمام حلّ الدولة الواحدة (وحلّ الدولتين). ومن ثم يجب صبُّ الطاقات لتغيير المجتمع الإسرائيليّ لصالح الحلّ الأمثل.
العامل الثاني هو سيكولوجيّة الخوف المتجذّرة في العقليّة أو النفسيّة اليهوديّة، النابعة من التجربة التاريخيّة الصعبة لليهود في أماكن مختلفة من العالم، والمكرّسة والمفبركة سياسيّاً بشكلٍ محْكم في عمليّات تثقيف الأجيال الناشئة في إسرائيل. سيكولوجيّة الخوف، التي بذرتُها حقيقيّةٌ ولكنها تضخَّم سياسيّاً، تقوِّض الثقة كمركّبٍ أساسٍ في العلاقات الإنسانيّة، وتمأسسُ الشكَّ والتخوينَ والتساؤلَ على نحو المقولة التوارتيّة: "احترمْه وشكّكْ فيه." ولا بدّ من التذكير بأنّ تصاعد الإسلام السياسيّ، وحالة التديّن الآخذة في الانتشار في المجتمع الفلسطينيّ كما في العالم العربيّ، والحديثَ عن امتدادٍ إسلاميّ و"فتحٍ مبينٍ،" شكّلتْ ذريعةً قويّةً لتعميق الخوف في قلوب الإسرائيليين، واستُعملتْ بشكلٍ محْكمٍ لإعادة اللحمة بينهم ولاصطفافهم خلف المؤسّسة الحاكمة، الأمرُ الذي انعكس في تلاشي اليسار الإسرائيليّ بشكلٍ كامل. ولهذا فإنّ جزءًا من عمليّة التحويل يقع في الملعب العربيّ والفلسطينيّ، وبالتحديد في ملعب "حماس،" من أجل سدّ الطريق على ذريعة الخوف والتخويف المتجذّرة في إسرائيل.
العامل الثالث عاملٌ اقتصاديّ رفاهيّ، ويتمثل في الفروق الكبيرة بين مستويات الحياة في إسرائيل ومستوياتها في المجتمع الفلسطينيّ. إنّ إسرائيل ليست دولة قوميّة اعتياديّة، بل مشروعٌ اقتصاديّ جماعيّ نجح في استثمار قواه البشريّة وموارده الاقتصاديّة في الاقتصاد العالميّ، وفي جني الربح الكبير، وتحقيق مستويات دخل ماليّة تُعتبر من الأعلى في العالم، وتوفير أنماط حياةٍ تليق بالمجتمعات الغربية المتطوّرة. وفي المقابل فإنّ المجتمع الفلسطينيّ في الأراضي المحتلة ركيكُ البنية الاقتصاديّة، شحيحُ الموارد، فقير. لذلك فإنّ الإسرائيليين، كشعبٍ وأفراد، ينظرون إلى كلّ حلّ سياسيّ يفْقدهم السيطرةَ على ثرواتهم الماديّة ونظامهم الاقتصاديّ على أنه سلبٌ مباشرٌ للامتيازات التي حظوا بها على مدار السنين وتخلٍّ عن مستويات الحياة التي بذخوا بها حتى الآن. إنّ حلّ الدولة الواحدة يعني إعادة تقاسم الموارد، ومشاطرةَ الدخل القومي، والتراجع في الناتج المحليّ؛ وكلُّها عواملُ تتناقض والعقليّةَ العمليّة العنصريّة المهيمنة في الذهنيّة الإسرائيليّة، وتتصادم مع المصلحة الماديّة المباشرة لأغلبيّة السكّان اليهود في إسرائيل. وعليه، فثمة حاجة إلى ضمانات ومساعدات دوليّة من أجل إجراءِ تحوّلٍ في حسابات جميع الأطراف، بعكس الوضع الذي عهدناه في فترة أوسلو حيث كان المستفيدون الأساسيون من العمليّة التفاوضيّة المفرغة من أيّ مضمون هم الإسرائيليين في الأساس وقلة قليلة من النخب الفلسطينيّة في الأراضي المحتلة.
العامل الرابع هو تطوّر نخبة سياسيّة فلسطينيّة تعكس العقائدَ السياسيّة المسيطرة في النظام السياسيّ الصهيوني، بحسب وصف المفكر السوريّ صادق جلال العظم، من حيث إنّ هاجسها الأول هو التوقُ إلى السيطرة والحكم. ولذلك تقع تلك النخبة في شرك إرادة السلطة المنفصلة المستقلة وإنْ كانت منقوصة، وتتخلّى عن طرح البدائل التي تحْرج النظامَ الصهيونيّ. لقد كانت السلطة الفلسطينية ولا تزال أسيرةَ حلّ الدولتين. أضف إلى ذلك أنّ منظمة التحرير طرحتْ حلّ الدولة الواحدة في السابق بشكلٍ ارتجاليّ وغير مدروس، وكأداةٍ للضغط والمساومة، وأعطت آنذاك الشرعيّة للحركة الصهيونية باستعمال ذريعة الخوف من أجل دحضه، فاستبُدل بحلّ الدولتين الذي ما زال هاجسَ النخبة السياسيّة المسيطرة في الضفّة الغربيّة والنخبة السياسيّة الفلسطينيّة في داخل 48، بل بدأنا نسمعه يتردّد على ألسنة بعض قياديي حركة "حماس" في قطاع غزّة! إنّ حلّ أوسلو وإقامة السلطة الفلسطينيّة في الأراضي المحتلة عام 1967 كان تتويجًا لشرعنة تقسيم البلاد من قبل النخب السياسيّة الفلسطينيّة إلى أحيزة منفصلة على المستوى السياسي والأمني من دون التأكيد على التقسيم القانونيّ والاجتماعيّ. وهذا ما أوصلنا إلى حالة عبثيةٍ تقع فيها مسؤوليّةُ الحفاظ على أمن المستوطنات اليهوديّة في الأراضي الفلسطينيّة على كاهل الشرطيّ الفلسطينيّ والقيادة الفلسطينيّة. إنّ استمرار مشروع الدولة الفلسطينية المستقلة بالرغم من التطورات السياسية والديموغرافية والأمنية في الأراضي المحتلة في العقدين الأخيرين يشكل حاجزًا أمام تحول في موقف الجماهير الفلسطينية بالرغم من أن حل الدولة الواحدة أصبح على لسان الكثيرين من النخب الأكاديمية والثقافية الفلسطينية في الأراضي المحتلة، في الداخل الفلسطيني وفي الشتات.
العامل الخامس هو الدعم الدوليّ، خصوصًا في أوروبا وشمال أمريكا، للمشروع الإسرائيليّ، بالرغم من بعض الانتقادات الموجّهة إلى المشروع الصهيونيّ. فأوروبا والولايات المتحدة وكندا، ودولٌ عظمى أخرى اليوم مثل الصين واليابان والهند وكوريا الجنوبية، أبقت أبوابَها الاقتصاديّة والتكنولوجيّة مفتوحةً على مصاريعها للاستثمار والشراكة واندماج الاقتصاد الإسرائيليّ. إنّ أوروبا هي المصدِّرُ الأكبرُ لإسرائيل، وهي السوقُ الثانيةُ لمنتجاتها، وأما الولايات المتحدة فهي السوقُ الأولى للمنتجات الإسرائيليّة وخصوصًا التكنولوجيّة. كما أنّ أوروبا والولايات المتحدة تقدّمان الدعم السياسيّ والدبلوماسيّ والعسكريّ للمشروع الإسرائيليّ، وتمنعان كلّ محاولة للانتقاص من شرعيّته، الشيءُ الذي يضع حواجزَ أمام أيّ مشروع سياسيّ لا ترضى عنه إسرائيل مستغلة الدعم المذكور من أجل تدعيم المشروع الصهيونيّ. هذا الدعم الأوروبيّ والأمريكيّ عاملٌ مهمّ، إذًا، في الاستمرار في محاولات تحقيق الحلّ المبنيّ على الفصل، ويقف مانعًا أمام الحل المبنيّ على الدمج، ولاسيّما أنّ نخب الشعبين الإسرائيليّ والفلسطينيّ تبنّت هذا الحلّ حتى الآن. لذلك فإنّ على داعمي حلّ الدولة الواحدة الاستمرارَ في تغيير مواقف الجماهير الغربيّة وفي العالم بشكل أوسع من أجل توضيح المأزق الحاليّ وتدعيم الموقف الداعم لحلّ أخلاقيّ للصراع.

بوفيصيل
03-07-2014, 09:12 PM
كلّ هذه العوامل مجتمعةً تشكّل شبكةً متكاملةً من العقبات أمام تحوّل حلّ الدولة الواحدة إلى مشروعٍ سياسيّ فاعل، على الرغم من كونه الحلّ الأخلاقيّ الأفضل لحل النزاع الإسرائيليّ ـ الفلسطينيّ. ولمّا كانت عواملُ الجذب إلى هذا المشروع، وعواملُ النفور منه، متنوّعةً، فإنّه من الواجب العمل على تحويله إلى مشروع فكريّ مقبول، وإلى نموذج مثاليّ منشود، من أجل فتح أفقٍ واقعيّ لتطبيقه في المستقبل. هنالك حاجة ماسّة إلى توسيع رقعة التعامل مع هذه الفكرة وتعميق النظر فيها وتفحّص إيجابيّاتها وسلبيّاتها بالمقارنة مع تجارب أخرى، مثل التجربة الجنوبأفريقيّة أو الكنديّة أو الإسبانيّة، مع مراعاة الخصوصيّات. ويجب أيضًا العملُ على إحداث التحوّلات اللازمة عند طرفَي النزاع، خصوصًا في الظرف الذي نجد فيه أنّ الكثيرين من المفكّرين اليهود أخذوا يقدّمون مسوّغاتٍ جديدةً لمشروع الدولة اليهوديّة المنفردة، ولمحاولة فصلها عن مشروع الدولة التوسّعية (المتمثّلة، في حسبانهم، في استمرار توسيع الاستيطان في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 67). إنّ هذه الكتابات الجديدة، التي تأتي على لسان شخصيّات من أطياف سياسيّة مختلفة مثل حايم جانز أو روت جابيزون، تعكس التخوّفات الإسرائيليّة من فقدان مشروع الدولة اليهودية مصداقيّته، ومن قيام هذا المشروع على علاقات القوة فقط، الأمرُ الذي أضفى شرعيّة على مشروع الدولة الواحدة عند بعض المفكّرين الإسرائيليين. وهنالك بالطبع حاجةٌ إلى العمل الفلسطيني الدؤوب من أجل إقناع النخبة الوطنيّة الفلسطينيّة العلمانيّة بالتراجع عن مشروع الدولة الواحدة، وإقناع النخبة الوطنيّة الدينية المتمثلة في "حماس" بوجوب تقبّل فكرة الدولة الواحدة العلمانيّة والمتعدّدة القوميّات والديانات، إذ إنّ "حرية الدين" و"الحرية من الدين" هما من المبادئ الأساسيّة للتعايش الاجتماعيّ والسياسيّ.
بقي أن نذْكر أنّ مشروع الدولة الواحدة هو مشروعٌ وسطيّ بعيدُ الأمد. وعلى الرغم من أنه مبطّن في الواقع الحاليّ، إلا أنه يجب أن يمرّ في مراحل عديدة. ومن الجائز أن تكون إحدى هذه المراحل الفصلٍ الجزئيّ المرحليّ والمؤقت بين الفلسطينيين والإسرائيليين، شرط ألاّ يكون هذا الفصل سياديّاً وإنما إداريّاً، كما هو الحال في كندا أو في إسبانيا ومن خلال اتحاد فدراليّ. إنّ فتح باب التداول في هذا المشروع، من خلال الإقناع والترويج وطرح الحجج والمسوّغات، هو جزء لا يتجزّأ من التقدّم نحوه. وتَحْضرنا في هذا السياق مقولةُ ماوتسي تونغ "إنّ مسيرة المليون ميل تبدأ بخطوةٍ واحدة." وما هذا التحليلُ إلا خطوةٌ في هذا الاتجاه.

يركا – الجليل الغربي
* باحث ومُحاضر فلسطينيّ في قسم العلوم السياسيّة في جامعة تل أبيب.