shareff
19-05-2009, 05:05 PM
خطوط سياسية عريضة
الموقف الدولي
الموقف الدولي هو الحالة التي عليها الدولة الأولى والدولة أو الدول التي تزاحمها أو تشاركها التأثير في السياسات الدولية . وعلى هذا فالأساس في فهم الموقف الدولي هو معرفة الدولة الأولى في العالم ، والإلمام بجوانب قوتها ، ومدى نفوذها ، وإدراك الخطط والأساليب التي تتبعها في تأمين مصالحها وتحقيق أهدافها في سياساتها الدولية ، مع ملاحظة أن موقف أية دولة لا يظل ثابتاً إلى ما لا نهاية ، بل هو قابل للتغير استنادا إلى ما قد يطرأ على وضع الدولة في الداخل وعلى علاقاتها بالدول الأخرى من قوة أو ضعف .
وقوة الدولة تعتمد بالدرجة الأولى على تماسكها ومدى تأثير المبدأ الذي تعتنقه فيها ، وعلى ما لديها من إمكانات اقتصادية وعسكرية وثروات طبيعية ، وعلى نفوذها الدولي ، أي قدرتها على جعل دول أخرى تسير معها في سياساتها الدولية وفي تأمين مصالحها وتحقيق أهدافها .
ولا جدال في أن التقدم التقني الذي يتوفر لأية دولة له دور حاسم في تأمين مستلزمات قوتها العسكرية والاقتصادية على حدِّ سواء ، وفي جعلها دولة ذات مكانة مرموقة في العالم .
والتقدم التقني له أثره البالغ في تحديد مقاييس الدولة العظمى . وهذا التقدم أمر نسبي ويختلف من عصر إلى عصر . فقد مرت عصور طويلة اعتمدت مواصفات الدولة العظمى فيها على امتلاكها للقوى العسكرية التقليدية . غير أنه منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية ، واستسلام اليابان نتيجة ضربها بالقنابل الذرية ، صار للتقدم التقني والأبحاث والتجارب العلمية المرتبطة به الأثر الحاسم في ضمان أية دولة لمستلزمات القوة بكل أشكالها .
فمنذ أواخر الأربعينات تسابقت الدول الطامعة في أن يكون لها شان دولي على امتلاك ما تُسمى بأسلحة الدمار الشامل ، فبعد القنبلة الذرية جاء دور القنبلة الهيدروجينية ، ثم الأسلحة النووية بشتى أشكالها . ولما كان امتلاك مثل هذه الأسلحة يعتمد على معرفة أسرار صنعها ، وعلى القدرة على تمويل أبحاثها والتجارب التي تجري عليها ، فإن دولاً محدودة جداً كانت قادرة على مواصلة السباق فيها .
غير أنه منذ نهاية الخمسينات وبروز دور الصواريخ العابرة للقارات ، ليس فقط في نقل الأسلحة النووية إلى أهدافها ، وإنما في اختراق الغلاف الغازي المحيط بالأرض والولوج إلى الفضاء الخارجي ، سواء حملت هذه الصواريخ أقماراً صناعية أو مركبات فضائية تحمل حيوانات أو بشراً ، أو حملت محطات فضائية ، أو مكوكات ، فإن مواصفات الدولة العظمى تغيرت جذرياً ، وأصبح لا يكفي أن تكون الدولة العظمى ذات إمكانات اقتصادية وقوة عسكرية تقليدية أو حتى نووية ، بل يجب أن يكون لها باع في إرسال المركبات والمحطات والمكوكات إلى الفضاء الخارجي وإعادتها إلى الأرض ، نظراً للميزات العسكرية الهائلة التي تضيفها هذه الوسائل للدولة التي تمتلك ناصيتها .
وبهذه المواصفات لم يعد في العالم دول عظمى سوى أميركا والاتحاد السوفيتي . ونظراً للموارد الهائلة التي يتطلبها امتلاك هـذه الوسائل ، فإن سباق الفضاء بين العملاقين استنزف الكثير جداً من طاقاتهما . وفيما صمدت الولايات المتحدة ، واستطاعت تحمّل عواقب هذا السباق ، فإن الاتحاد السوفيتي لم يصمد ، مما ساهم إلى حد كبير في انهياره .
وتبرز الدولة الأولى في العالم من خلال دورها في التعامل مع القضايا والمسائل الدولية ، فإذا انفردت بمعالجتها ، سواء بمبادرة منها أو بسعي الأطراف المعنية بهذه القضايا والمسائل إلى الدولة الأولى لتتولى معالجتها ، فإن الدولة الأولى في هذه الحالة تكون متفرّدة بالموقف الدولي .وأما إن كانت عاجزة عن معالجة القضايا الدولية بمفردها ، واضطرت لإشراك غيرها من الدول النافذة معها فإنها لا تكون متفردة ، حتى وإن كانت لها اليد العليا في لمعالجة .
ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى اليوم والولايات المتحدة هي الدولة الأولى في العالم ، غير أن الموقف الدولي من حيث الشكل تغيّر أكثر من مرة .
فحتى أوائل الستينـات ظلت القضايا الدولية تعالَج من خلال مؤتمرات تعقدها ما أطلق عليها الدول الأربع الكبرى : أميركا ، والاتحاد السوفيتي ، بريطانيا ، وفرنسا . وفي هذا الإطار عُقدت عدة مؤتمرات من أبرزها مؤتمر برلين ومؤتمر باريس . وهذا يعني أن أميركا وهي الدولة الأولى لم تكن في تلك الفترة متفرّدة بالموقف الدولي .
وفي عام 1961 عقد جون كينيدي رئيس الولايات المتحدة ونيكيتا خروتشيف الزعيم السوفيتي مؤتمراً في فينا كانت محصلته اتفاق الدولتين العظميين على حصر النظر في القضايا الدولية بهما ، وعلى إسقاط بريطانيا وفرنسا من الحساب ، كما اتفقا على أمور أخرى عديدة بعضها صدرت تصريحات وجرت أعمال كشفتها ، وبعضها الآخر تسرب لبعض السياسيين في العالم ( مثل جورج باباندريو رئيس وزراء اليونان الأسبق ) ولمَّحوا إليها .
ومنذ ذلك التاريخ نشأت حقبة في العلاقات الدولية عُرفت باسم الوفاق الدولي أو الانفراج الدولي . ونظراً لأن أميركا كانت زعيمة المعسكر الغربي بينما كان الاتحاد السوفيتي زعيم المعسكر الشرقي ، فقد كان يُنظر للوفاق على أنه قائم بين المعسكرين وليس بين الدولتين فقط . فالعالم كله كان ينظر للوفاق على أنه اتفاق على التعايش السلمي بين الشرق والغرب ( المعسكر الشيوعي والمعسكر الرأسمالي ) يقضي بحل النزاعات والمشاكل بينهما بالطرق السلمية من خلال الحوار والتفاوض ، وبتخفيف حدة الصراع العقيدي بين الشيوعية والرأسمالية وعدم إعطائه الأولوية القصوى كما كان الحال إبان ذروة الحرب الباردة في الخمسينات .
أما حقيقة الوفاق وجوهره فإنه اتفاق سري بين العملاقين على معالجة جميع القضايا الخلافية بينهما بالحوار ، وعلى تقسيم العالم إلى مناطق نفوذ بينهما ، والتعاون على استئصال الاستعمار الأوروبي التقليدي من مختلف بقاع العالم ، وعلى الضغط على الصين داخلياً وخارجياً حتى تَقبل بالتعايش السلمي بمفهومه الرأسمالي ، وعلى قلع إنجلترا بوجه خاص من الشرق الأقصى ومن الشرق الأوسط ومن إفريقيا ، كما اتفقا على مساعدة كل من الدولتين للأخرى ضد أي طرف ثالث ، بغض النظر عن هويته العقيدية ( سواء أكان رأسمالياً أم شيوعياً ) ، وعلى مساعدة كل دولة منهما للأخرى في مناطق نفوذها . وبذلك فإنهما صارا حليفين يشكلان قوة عالمية واحدة ، الأمر الذي غيًّر وضع العالم ، وغيَّر الموقف الدولي ، بحيث لم يعد ( كما كان الحال قبل 1961 ) معسكرين يستعدان للدخول في صراع عسكري مصيري ، بل ظل المعسكران قائمين فكرياً فقط ، وزال وجودهما الفعلي دولياً ، وأصبح العالم كله قوة واحدة تتمثل في أميركا والاتحاد السوفيتي ، وهذه القوة هي التي تتحكم بالعالم كله ، وتحصر معالجة القضايا والمسائل والمشاكل الدولية بها وحدها .
وبالفعل شهدت الثلاثون عاماً من الوفاق اتفاقات متنوعة بين العملاقين ، من بينها اتفاقات حول التجارب النووية ، وأخرى حول الحد من التسلح النووي ، إلى جانب اتفاقات تجارية وغيرها ، كما لعب الوفاق دوراً بارزاً في تحجيم الصين وحصر مجالهـا الحيوي في أضيق نطاق ، مما اضطرها في النهاية إلى القبول بمبدأ التعايش السلمي حسب المفهوم الرأسمالي . وأما الاستعمار الأوروبي التقليدي في آسيا وإفريقيا فإنه انتهى تماماً ، وخسرت فرنسا وبريطانيا معظم نفوذهما في القارتين . وكان من أبرز المؤشرات على ذلك ما قررته بريطانيا عام 1968 من الانسحاب من شرق السويس ، وتخليها عن مستعمرتين استراتيجيتين هما سنغافورة وعدن . وكان الدولتان تتعاونان معاً بشكل لا نظير له في السياسات الدولية ، لدرجة أن الاتحاد السوفيتي لعب دوراً مهماً في التغطية على عملاء أميركا وخاصة في الشرق الأوسط وإفريقيا . فعميل أميركا في سوريا حافظ أسد كان محسوباً على الاتحاد السوفيتي ، وكذلك عميلها في الحبشة هايلي ماريام ، وعميلها في أنغولا دوس سانتوس .
وكان لتظاهر العملاقين بالعداء أثره في حصر القضايا الدولية بينهما ، على اعتبار أن الاتحاد السوفيتي يمثل المعسكر الشرقي ، بينما مثلت أميركا دور خصم الاتحاد السوفيتي كزعيمة للمعسكر الغربي ، مع أن بعض القضايا لم يكن للاتحاد السوفيتي فيها لا ناقة ولا جمل كقضية الشرق الأوسط . وبذلك أبعدت أميركا الدول الغربية الأخرى ذات العلاقة بهذه القضية وبغيرها عن معالجتها ، واستفادت كثيراً في جعل القضية عملياً بيدها وحدها ، وإن كان الاتحاد السوفيتي في الظاهر شريكاً لها في المعالجة .
وما حرب فيتنام ووقوف الاتحاد السوفيتي ظاهرياً فيها إلى جانب فيتنام الشمالية ، ودخول القوات السوفيتية إلى أفغانستان بهدف إرهاب دول الخليج ودفعهـا للاحتماء بأميركا ، إلا نموذجين على المناورات المشتركة التي قام بها العملاقان . وصحيح أن مناورة فيتنام أدت غرضها في ترويض الصين ، بينما فشلت مناورة أفغانستان في دفع دول الخليج للارتماء في أحضان أميركا ، إلا أن العالم كان ينظر للمناورتين على انهما صراع فعلي بين أميركا والاتحاد السوفيتي مع أنهما ليستا كذلك .
بل إن الاتحاد السوفيتي غطى على عملاء أميركا في نصف الكرة الغربي كذلك ، حينما اعتمدت سياسات الولايات المتحدة في بعض دول أميركا اللاتينية على افتعال الصراع والنزاع مع عملائها . فقد غطى الاتحاد السوفيتي كاسترو في كوبـا ، والساندينيين في نيكاراغوا ، وأليندي في تشيلي ، حيث ظهر هؤلاء العملاء بمظهر الاشتراكيين الموالين لموسكو بينما هم في الحقيقة عملاء لأمريكا .
واستفادت أميركا من جو العداء الظاهري مع الاتحاد السوفيتي وتضخيم خطره العسكري على الغرب في إبقاء أوروبا تحت حمايتها ، نظراً لحاجة الأخيرة للمظلة النووية الأميركية ، وفي تقليص أدوار دولها في السياسات الدولية ، وترتيب أوضاع هذه القارة بما يخدم مصالحها . فأوروبا كما هو معلوم تظل مصدر الخطر الوحيد في العالم حتى الآن على زعامة أميركا الدولية ، لأن لديها الإمكانات الاقتصادية والعسكرية والتقنية إلى حد ما لتشكل ، فيما لو هيمنت فيها قوة واحدة على القارة ، نداً لأميركا . كذلك فإن أميركا عملت منذ القرن التاسع عشر على الحيلولة دون هيمنة قوة أوروبية واحدة على القارة كلها ، لأن أمن أميركا يعتمد على أوروبا متوازنة .
الموقف الدولي
الموقف الدولي هو الحالة التي عليها الدولة الأولى والدولة أو الدول التي تزاحمها أو تشاركها التأثير في السياسات الدولية . وعلى هذا فالأساس في فهم الموقف الدولي هو معرفة الدولة الأولى في العالم ، والإلمام بجوانب قوتها ، ومدى نفوذها ، وإدراك الخطط والأساليب التي تتبعها في تأمين مصالحها وتحقيق أهدافها في سياساتها الدولية ، مع ملاحظة أن موقف أية دولة لا يظل ثابتاً إلى ما لا نهاية ، بل هو قابل للتغير استنادا إلى ما قد يطرأ على وضع الدولة في الداخل وعلى علاقاتها بالدول الأخرى من قوة أو ضعف .
وقوة الدولة تعتمد بالدرجة الأولى على تماسكها ومدى تأثير المبدأ الذي تعتنقه فيها ، وعلى ما لديها من إمكانات اقتصادية وعسكرية وثروات طبيعية ، وعلى نفوذها الدولي ، أي قدرتها على جعل دول أخرى تسير معها في سياساتها الدولية وفي تأمين مصالحها وتحقيق أهدافها .
ولا جدال في أن التقدم التقني الذي يتوفر لأية دولة له دور حاسم في تأمين مستلزمات قوتها العسكرية والاقتصادية على حدِّ سواء ، وفي جعلها دولة ذات مكانة مرموقة في العالم .
والتقدم التقني له أثره البالغ في تحديد مقاييس الدولة العظمى . وهذا التقدم أمر نسبي ويختلف من عصر إلى عصر . فقد مرت عصور طويلة اعتمدت مواصفات الدولة العظمى فيها على امتلاكها للقوى العسكرية التقليدية . غير أنه منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية ، واستسلام اليابان نتيجة ضربها بالقنابل الذرية ، صار للتقدم التقني والأبحاث والتجارب العلمية المرتبطة به الأثر الحاسم في ضمان أية دولة لمستلزمات القوة بكل أشكالها .
فمنذ أواخر الأربعينات تسابقت الدول الطامعة في أن يكون لها شان دولي على امتلاك ما تُسمى بأسلحة الدمار الشامل ، فبعد القنبلة الذرية جاء دور القنبلة الهيدروجينية ، ثم الأسلحة النووية بشتى أشكالها . ولما كان امتلاك مثل هذه الأسلحة يعتمد على معرفة أسرار صنعها ، وعلى القدرة على تمويل أبحاثها والتجارب التي تجري عليها ، فإن دولاً محدودة جداً كانت قادرة على مواصلة السباق فيها .
غير أنه منذ نهاية الخمسينات وبروز دور الصواريخ العابرة للقارات ، ليس فقط في نقل الأسلحة النووية إلى أهدافها ، وإنما في اختراق الغلاف الغازي المحيط بالأرض والولوج إلى الفضاء الخارجي ، سواء حملت هذه الصواريخ أقماراً صناعية أو مركبات فضائية تحمل حيوانات أو بشراً ، أو حملت محطات فضائية ، أو مكوكات ، فإن مواصفات الدولة العظمى تغيرت جذرياً ، وأصبح لا يكفي أن تكون الدولة العظمى ذات إمكانات اقتصادية وقوة عسكرية تقليدية أو حتى نووية ، بل يجب أن يكون لها باع في إرسال المركبات والمحطات والمكوكات إلى الفضاء الخارجي وإعادتها إلى الأرض ، نظراً للميزات العسكرية الهائلة التي تضيفها هذه الوسائل للدولة التي تمتلك ناصيتها .
وبهذه المواصفات لم يعد في العالم دول عظمى سوى أميركا والاتحاد السوفيتي . ونظراً للموارد الهائلة التي يتطلبها امتلاك هـذه الوسائل ، فإن سباق الفضاء بين العملاقين استنزف الكثير جداً من طاقاتهما . وفيما صمدت الولايات المتحدة ، واستطاعت تحمّل عواقب هذا السباق ، فإن الاتحاد السوفيتي لم يصمد ، مما ساهم إلى حد كبير في انهياره .
وتبرز الدولة الأولى في العالم من خلال دورها في التعامل مع القضايا والمسائل الدولية ، فإذا انفردت بمعالجتها ، سواء بمبادرة منها أو بسعي الأطراف المعنية بهذه القضايا والمسائل إلى الدولة الأولى لتتولى معالجتها ، فإن الدولة الأولى في هذه الحالة تكون متفرّدة بالموقف الدولي .وأما إن كانت عاجزة عن معالجة القضايا الدولية بمفردها ، واضطرت لإشراك غيرها من الدول النافذة معها فإنها لا تكون متفردة ، حتى وإن كانت لها اليد العليا في لمعالجة .
ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى اليوم والولايات المتحدة هي الدولة الأولى في العالم ، غير أن الموقف الدولي من حيث الشكل تغيّر أكثر من مرة .
فحتى أوائل الستينـات ظلت القضايا الدولية تعالَج من خلال مؤتمرات تعقدها ما أطلق عليها الدول الأربع الكبرى : أميركا ، والاتحاد السوفيتي ، بريطانيا ، وفرنسا . وفي هذا الإطار عُقدت عدة مؤتمرات من أبرزها مؤتمر برلين ومؤتمر باريس . وهذا يعني أن أميركا وهي الدولة الأولى لم تكن في تلك الفترة متفرّدة بالموقف الدولي .
وفي عام 1961 عقد جون كينيدي رئيس الولايات المتحدة ونيكيتا خروتشيف الزعيم السوفيتي مؤتمراً في فينا كانت محصلته اتفاق الدولتين العظميين على حصر النظر في القضايا الدولية بهما ، وعلى إسقاط بريطانيا وفرنسا من الحساب ، كما اتفقا على أمور أخرى عديدة بعضها صدرت تصريحات وجرت أعمال كشفتها ، وبعضها الآخر تسرب لبعض السياسيين في العالم ( مثل جورج باباندريو رئيس وزراء اليونان الأسبق ) ولمَّحوا إليها .
ومنذ ذلك التاريخ نشأت حقبة في العلاقات الدولية عُرفت باسم الوفاق الدولي أو الانفراج الدولي . ونظراً لأن أميركا كانت زعيمة المعسكر الغربي بينما كان الاتحاد السوفيتي زعيم المعسكر الشرقي ، فقد كان يُنظر للوفاق على أنه قائم بين المعسكرين وليس بين الدولتين فقط . فالعالم كله كان ينظر للوفاق على أنه اتفاق على التعايش السلمي بين الشرق والغرب ( المعسكر الشيوعي والمعسكر الرأسمالي ) يقضي بحل النزاعات والمشاكل بينهما بالطرق السلمية من خلال الحوار والتفاوض ، وبتخفيف حدة الصراع العقيدي بين الشيوعية والرأسمالية وعدم إعطائه الأولوية القصوى كما كان الحال إبان ذروة الحرب الباردة في الخمسينات .
أما حقيقة الوفاق وجوهره فإنه اتفاق سري بين العملاقين على معالجة جميع القضايا الخلافية بينهما بالحوار ، وعلى تقسيم العالم إلى مناطق نفوذ بينهما ، والتعاون على استئصال الاستعمار الأوروبي التقليدي من مختلف بقاع العالم ، وعلى الضغط على الصين داخلياً وخارجياً حتى تَقبل بالتعايش السلمي بمفهومه الرأسمالي ، وعلى قلع إنجلترا بوجه خاص من الشرق الأقصى ومن الشرق الأوسط ومن إفريقيا ، كما اتفقا على مساعدة كل من الدولتين للأخرى ضد أي طرف ثالث ، بغض النظر عن هويته العقيدية ( سواء أكان رأسمالياً أم شيوعياً ) ، وعلى مساعدة كل دولة منهما للأخرى في مناطق نفوذها . وبذلك فإنهما صارا حليفين يشكلان قوة عالمية واحدة ، الأمر الذي غيًّر وضع العالم ، وغيَّر الموقف الدولي ، بحيث لم يعد ( كما كان الحال قبل 1961 ) معسكرين يستعدان للدخول في صراع عسكري مصيري ، بل ظل المعسكران قائمين فكرياً فقط ، وزال وجودهما الفعلي دولياً ، وأصبح العالم كله قوة واحدة تتمثل في أميركا والاتحاد السوفيتي ، وهذه القوة هي التي تتحكم بالعالم كله ، وتحصر معالجة القضايا والمسائل والمشاكل الدولية بها وحدها .
وبالفعل شهدت الثلاثون عاماً من الوفاق اتفاقات متنوعة بين العملاقين ، من بينها اتفاقات حول التجارب النووية ، وأخرى حول الحد من التسلح النووي ، إلى جانب اتفاقات تجارية وغيرها ، كما لعب الوفاق دوراً بارزاً في تحجيم الصين وحصر مجالهـا الحيوي في أضيق نطاق ، مما اضطرها في النهاية إلى القبول بمبدأ التعايش السلمي حسب المفهوم الرأسمالي . وأما الاستعمار الأوروبي التقليدي في آسيا وإفريقيا فإنه انتهى تماماً ، وخسرت فرنسا وبريطانيا معظم نفوذهما في القارتين . وكان من أبرز المؤشرات على ذلك ما قررته بريطانيا عام 1968 من الانسحاب من شرق السويس ، وتخليها عن مستعمرتين استراتيجيتين هما سنغافورة وعدن . وكان الدولتان تتعاونان معاً بشكل لا نظير له في السياسات الدولية ، لدرجة أن الاتحاد السوفيتي لعب دوراً مهماً في التغطية على عملاء أميركا وخاصة في الشرق الأوسط وإفريقيا . فعميل أميركا في سوريا حافظ أسد كان محسوباً على الاتحاد السوفيتي ، وكذلك عميلها في الحبشة هايلي ماريام ، وعميلها في أنغولا دوس سانتوس .
وكان لتظاهر العملاقين بالعداء أثره في حصر القضايا الدولية بينهما ، على اعتبار أن الاتحاد السوفيتي يمثل المعسكر الشرقي ، بينما مثلت أميركا دور خصم الاتحاد السوفيتي كزعيمة للمعسكر الغربي ، مع أن بعض القضايا لم يكن للاتحاد السوفيتي فيها لا ناقة ولا جمل كقضية الشرق الأوسط . وبذلك أبعدت أميركا الدول الغربية الأخرى ذات العلاقة بهذه القضية وبغيرها عن معالجتها ، واستفادت كثيراً في جعل القضية عملياً بيدها وحدها ، وإن كان الاتحاد السوفيتي في الظاهر شريكاً لها في المعالجة .
وما حرب فيتنام ووقوف الاتحاد السوفيتي ظاهرياً فيها إلى جانب فيتنام الشمالية ، ودخول القوات السوفيتية إلى أفغانستان بهدف إرهاب دول الخليج ودفعهـا للاحتماء بأميركا ، إلا نموذجين على المناورات المشتركة التي قام بها العملاقان . وصحيح أن مناورة فيتنام أدت غرضها في ترويض الصين ، بينما فشلت مناورة أفغانستان في دفع دول الخليج للارتماء في أحضان أميركا ، إلا أن العالم كان ينظر للمناورتين على انهما صراع فعلي بين أميركا والاتحاد السوفيتي مع أنهما ليستا كذلك .
بل إن الاتحاد السوفيتي غطى على عملاء أميركا في نصف الكرة الغربي كذلك ، حينما اعتمدت سياسات الولايات المتحدة في بعض دول أميركا اللاتينية على افتعال الصراع والنزاع مع عملائها . فقد غطى الاتحاد السوفيتي كاسترو في كوبـا ، والساندينيين في نيكاراغوا ، وأليندي في تشيلي ، حيث ظهر هؤلاء العملاء بمظهر الاشتراكيين الموالين لموسكو بينما هم في الحقيقة عملاء لأمريكا .
واستفادت أميركا من جو العداء الظاهري مع الاتحاد السوفيتي وتضخيم خطره العسكري على الغرب في إبقاء أوروبا تحت حمايتها ، نظراً لحاجة الأخيرة للمظلة النووية الأميركية ، وفي تقليص أدوار دولها في السياسات الدولية ، وترتيب أوضاع هذه القارة بما يخدم مصالحها . فأوروبا كما هو معلوم تظل مصدر الخطر الوحيد في العالم حتى الآن على زعامة أميركا الدولية ، لأن لديها الإمكانات الاقتصادية والعسكرية والتقنية إلى حد ما لتشكل ، فيما لو هيمنت فيها قوة واحدة على القارة ، نداً لأميركا . كذلك فإن أميركا عملت منذ القرن التاسع عشر على الحيلولة دون هيمنة قوة أوروبية واحدة على القارة كلها ، لأن أمن أميركا يعتمد على أوروبا متوازنة .