بوفيصيل
23-02-2014, 12:11 PM
هل لا تزال سوريا، العراق، ولبنان موجودة؟
حتّى قبل وقتٍ قصير، كان الشرق الأوسط يبدو مثل سائر العالَم: مقسّمًا إلى دول ذات حدود وطنيّة واضحة، مع توزيع قوى وفقًا لذلك. لكنّ شيئًا ما تغيّر بعد ذلك
جوناثان سباير 15 فبراير 2014, 12:12
هل لا تزال سوريا، العراق، ولبنان موجودة؟
لنحو قرنٍ تقريبًا، كان الشرق الأوسط مُعرَّفًا عبر دول قوميّة نشأت عقب انتصار الحلفاء في الحرب العالَمية الأولى ونهاية حقبة الاستعمار. مُذّاك، ركّز التحليل الاستراتيجي للمنطقة على العلاقات بين تلك الدول، وسعت الجهود الدبلوماسية عامّةً إلى الحفاظ على الاستقرار فيها وسلامة حدودها. نتيجةَ ذلك، بقيت خريطة الشرق الأوسط دون تغييرٍ يُذكَر لأكثر من تسعة عقود.
لكنّ الوضع ليس كذلك الآن. فالخرائط القديمة ما عادت تمثّل الواقع على الأرض، والمنطقة الآن مُعرَّفة ليس بالمنافسة بين الدول الوطنيّة، بل بالانقسامات الطائفيّة التي تتخطّى الحدود القديمة وتجعلها غير ذات قيمة. اليوم، ثمة حربٌ مذهبية واحدة تُخاض عبر الشرق الأوسط، حربٌ تُهدّد بابتلاع الإقليم بأكمله.
لهذه الحرب عدّة جبهات، بعضها أكثرُ حدّة وفاعليّة من بعضها الآخَر، لكنّ ما يحكمها في كلّ مكانٍ هو الصراع المذهبي، لا سيّما الانقسام بين المسلمين، سنّةً وشيعة. إنّها أكثر احتدامًا في المنطقة التي تشمل جمهوريات العراق، سوريا، ولبنان حاليًّا؛ لكنها امتدّت بعيدًا أيضًا - إلى البحرين، شمال اليمن، وإلى حدٍّ ما أيضًا - الكويت، وشرق المملكة العربية السعودية.
إنّ القوّة المركزيّة في الجانب الشيعيّ هي الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة، القوة العظمى المتصدّرة في العالَم في دعم الإرهاب وتمويل حزب الله، الذي كان قد قتل حتّى 11 أيلول أمريكيّين أكثر من أية مجموعة إرهابيّة في العالَم. نظام الأسد في سوريا، حزب الله في لبنان، حكومة المالكي والميليشيات الشيعية المتعدّدة في العراق، الثوّار الحوثيّون شماليّ اليمن، والجهاد الإسلاميّ الفلسطينيّ، جميعُهم حلفاء أو وكلاء عن الجمهوريّة الإسلاميّة، القادرة على تقديمِ دعمٍ جوهريّ لأصدقائها عبر قوّات الحرس الثوري الإيراني - قوّة عسكريّة هامّة وقوّة اقتصاديّة تمتلك مهارة هائلة وخبرة في بناء تنظيمات وكيلة والتعاطي في النضال السياسيّ والبرلمانيّ.
الرئيس السوري بشار الأسد مع قائد الجمهورية الإسلامية الإيرانية (afp)
أمّا في الجانب السُّنيّ، فإنّ القوة العظمى هي المملكة العربية السعودية، التي أصبح التحفّظ يسود علاقتها بطهران بعد 11 أيلول، لكنها صارعت أيضًا إسلاميّي القاعدة. يشمل حلفاؤُها مجموعاتٍ متنوعة بين الثوار السوريين، تجمُّع 14 آذار في لبنان، النظام العسكري في مصر، الإمارات العربية المتحدة، الكويت، البحرين، الأردن، وأحيانًا تركيا. لكنّ السعوديين، بالمقابل، متأخّرون نوعًا ما. فليس لديهم ما يُوازي الحرس الثوري الإيراني، كما إنّ لديهم علاقات إشكاليّة مع جهاديي القاعدة السُّنة، الذين يلعبون دورًا بارزًا في القتال في جميع الجبهات الرئيسيّة الثلاث.
فكيفَ نشأ هذا الوضع؟ هل هناك ترابُط واضح بين القوى المتعدّدة في الجوانب المختلفة؟ لماذا الصراع شديدٌ جدًّا في بعض الدُّول - مثل سوريا والعراق - إذ يبدو أنه يقود إلى تفكُّك هاتَين الدولتَين؟ وما هو مدى خطورة هذه التغييرات بالنسبة للغرب؟
إنّ التركيز على المناطق التي تختبر أقوى صراع - سوريا، العراق، ولبنان - يمكن أن يساعد على الإجابة عن هذه الأسئلة.
هذه الحرب هي نتيجة اجتماع عددٍ من الظروف. أوّلًا، إنّ العراق، سوريا، ولبنان جميعها موطن لمجتمعات مذهبية وعرقية متعدّدة. لم تُحلّ يومًا مسألة الانقسامات القاسية في تلك المجتمَعات. في سوريا والعراق، تمّ إحباطُها لعقودٍ عبر أنظمة دكتاتوريّة قاسية. كان نظام الأسد في سوريا ونظام صدّام حسين في العراق دكتاتوريَّين عائليّتَين مؤسّستَين على أقلية مذهبية - العلويين في سوريا والعرب السُّنة في العراق - تحكمان باسم القوميّة العربيّة. في خدمة هذه الأيديولوجيّة، قمع النظامان السوري والعراقي دون رحمة النزعات الانفصاليّة المذهبيّة بكلّ أشكالها؛ بشكلٍ خاصّ، الإسلاميّون الشيعة في العراق، الإسلاميّون السُّنة في سوريا، والحركة الوطنيّة الكرديّة في كلتا الدولتَين. كلّ هذه المجموعات عوملت دون رحمة.
العراق، مقاتل من العشائر السنية بالمقابل، فإنّ لبنان دولة أضعف، تحكمها تسوية تقاسُم سُلطة بين المجموعات الطائفية والمذهبيّة انهارت في الحرب الأهليّة عام 1975. لم تُحلّ المسائل ذات الصّلة بهذه الحَرب؛ بدلًا من ذلك، بين 1990 و2005، أنهى الوجود العسكريّ السوريّ أيّ نقاشٍ حول المسائل الأساسيّة في الهويّة الوطنية.
خلال العقد الأخير، ضعُفت أو تلاشت الأنظمة الدكتاتوريّة القمعيّة ذات القبضة الحديدية التي كانت تمنع انفجار التوتُّرات العِرقية والمذهبيّة. عام 2003، أطاح الاجتياح الأمريكي للعراق بنظام صدّام حسين. وحلّت محلّه حكومة مذهبيّة شيعيّة، مؤسَّسة على الأكثرية العربيّة الشيعيّة ومقبولة مؤقتًا من الأكراد. في سوريا، أضعفت الحرب الأهليّة الضارية نظام الأسد بشدّة، إذ لا يحكم الآن سوى 40 من المئة من مساحة البلاد. فقد اقتطعت الأكثرية العربية السُّنية والأقلية الكردية كيانات طائفية مستقلة لهما في الستين في المئة الباقية من البلاد.
ثبَت بشكلٍ قاطع أنّ الآمال الغربية بحلول كيانٍ غير مذهبيّ في المناطق التي كان يحكمها صدّام والأسدان ليست سوى أوهام. فالملاحظات حول العراق التي قدّمتها عام 2004 مستشارة الأمن القومي الأمريكي كوندوليزا رايس توجز هذه الآمال والميل إلى خداع الذات الذي يرافقها غالبًا. "ما أثار إعجابي إلى حدٍّ بعيد"، قالت رايس،
"هو أنّ العراقيين - سواءٌ كانوا كردًا، شيعةً، سنةً، أو أيًّا من المجموعات الإثنية العديدة في العراق - أظهروا أنهم يريدون حقًّا أن يعيشوا معًا في عراقٍ موحَّد... أعتقد أنّ الأكراد بشكل خاصّ أظهروا ميلًا يوحي أنهم يرغبون في التقليص من الفروق التي كانت فروقًا تاريخية غذّاها في كثيرٍ من الأحيان صدّام حسين ونظامه... ما وجدتُه مثيرًا للاهتمام وأعتقد أنه هامّ هو المدى الذي عبّر فيه قادة المجتمعات الشيعية، الكرديّة، والسنية عن رغباتهم في العيش في عراقٍ موحَّد".
لإدارة أوباما الإيمان نفسُه، ونتيجة ذلك، واصلت دعم الحكومة التي يسيطر عليها الشيعة في العراق، برئاسة رئيس الحكومة نوري المالكي. وهي تنظر إلى خصومة المالكي مع المتمرّدين السُّنة في محافظة الأنبار الغربيّة على أنها خصومة بين حكومة منتخَبة ومتمرّدين متطرّفين. ولا يأخذ ذلك في الاعتبار الطبيعة المذهبية لحكومة المالكي نفسِها والسياسات التمييزية التي مارستها ضدّ السُّنة غرب العراق.
وتزامنت إعادة ظهور الصراع المذهبي الواضح جدًّا في العراق مع بروزه في سوريا، حيث يتدفّق إلى لبنان المجاوِر. انجرّ لبنان إلى الصراع كنتيجة للتدخّل الهامّ والحاسم في نتيجته دعمًا لنظام الأسد في سوريا من قِبل الميليشيا اللبنانية المدعومة إيرانيًّا، حزب الله. وسرعات ما أدّى هذا إلى الثأر مِن أهداف لحزب الله في لبنان من قِبل عناصر من الثوّار السُّنة في سوريا. فقد نجح داعمون للمتمرّدين السنة في مهاجمة معقل حزب الله في الضاحية الجنوبية لبيروت خمس مرّات. وكان التفجير في 2 كانون الثاني قد نفّذه شابّ لبنانيّ ينتمي إلى تنظيم الدولة الإسلاميّة في العراق والشام (داعش) يُدعى قُتيبة محمّد الساطم؛ علمًا أنّ داعش مكوّنة من متطرّفين إسلاميّين يشكّلون فرعًا للقاعدة في العراق وسوريا.
نشاطا من حزب الله يظهر دعمه بواسطة وشم أسماء رفاقه القتلى
وفيما يعود قرار حزب الله بالتدخُّل لصالح نظام الأسد في سوريا وردّ الفعل السُّنيّ على ذلك جزئيًّا إلى طبيعة لبنان وسوريا المقسَّمة والمسائل المختلَف عليها حول الهوية الوطنيّة، فإنّ الصراعات الإقليمية الأكبر، ذات الطابع المذهبيّ أيضًا، هي قوّة هامّة تدفع العُنف.
جلم يأتِ تدخّل حزب الله في الحرب الأهليّة السوريّة نتيجة شعورٍ آليّ بالتضامُن، بل لأنّ حزب الله عضو في حلف إقليميّ بقيادة إيران، ينتمي إليه نظام الأسد أيضًا. حين وجد الأسد نفسه في مأزق، حُشد حزب الله لنجدته. في الجهة المقابلة، استفاد الثوار السوريون من مؤازرة ورعاية خصم إيران، المملكة العربية السعودية، ودول أخرى في شبه الجزيرة العربيّة، بما فيها الإمارات العربية المتحدة.
هذه العداوة طويلة الأمد، ولا تعود جذورها بشكل أساسيّ إلى الخلافات العقائديّة. إنها مسألة قوّة ونفوذ. فإيران يحكمها نظام ثوريّ هدفه أن يصبح القوّة المهيمِنة في الشرق الأوسط. ورغم أنّ الإيرانيّين يعتبرون السعوديين أعداء حتمًا وحرّاسًا غير أمناء لأقدس مقدّسات الإسلام، فإنّ هدف طهران الرئيسي هو إحكام السيطرة على موارد طاقة الخليج العربيّ، لتحلّ محلّ الولايات المتحدة كضامنٍ للموارد التي يعتمد العالَم بأسره عليها. تدرك طهران أنّ المصدر الحقيقيّ للقوّة في الإقليم هو الخليج نفسه، الذي مخزونه الهائل من النفط والغاز الطبيعيّ حيويّ للاقتصاد العالميّ. لتحقيق أهدافها، على إيران أن تجتذب الأنظمة الملكيّة في الخليج أو تكرهها على الابتعاد عن حماية الولايات المتحدة والتحالف مع طهران، ولا يفعل الضعف الأمريكي في مواجهة مشروع طهران النووي سوى زيادة احتمالات حدوث ذلك.
حتّى قبل وقتٍ قصير، كان الشرق الأوسط يبدو مثل سائر العالَم: مقسّمًا إلى دول ذات حدود وطنيّة واضحة، مع توزيع قوى وفقًا لذلك. لكنّ شيئًا ما تغيّر بعد ذلك
جوناثان سباير 15 فبراير 2014, 12:12
هل لا تزال سوريا، العراق، ولبنان موجودة؟
لنحو قرنٍ تقريبًا، كان الشرق الأوسط مُعرَّفًا عبر دول قوميّة نشأت عقب انتصار الحلفاء في الحرب العالَمية الأولى ونهاية حقبة الاستعمار. مُذّاك، ركّز التحليل الاستراتيجي للمنطقة على العلاقات بين تلك الدول، وسعت الجهود الدبلوماسية عامّةً إلى الحفاظ على الاستقرار فيها وسلامة حدودها. نتيجةَ ذلك، بقيت خريطة الشرق الأوسط دون تغييرٍ يُذكَر لأكثر من تسعة عقود.
لكنّ الوضع ليس كذلك الآن. فالخرائط القديمة ما عادت تمثّل الواقع على الأرض، والمنطقة الآن مُعرَّفة ليس بالمنافسة بين الدول الوطنيّة، بل بالانقسامات الطائفيّة التي تتخطّى الحدود القديمة وتجعلها غير ذات قيمة. اليوم، ثمة حربٌ مذهبية واحدة تُخاض عبر الشرق الأوسط، حربٌ تُهدّد بابتلاع الإقليم بأكمله.
لهذه الحرب عدّة جبهات، بعضها أكثرُ حدّة وفاعليّة من بعضها الآخَر، لكنّ ما يحكمها في كلّ مكانٍ هو الصراع المذهبي، لا سيّما الانقسام بين المسلمين، سنّةً وشيعة. إنّها أكثر احتدامًا في المنطقة التي تشمل جمهوريات العراق، سوريا، ولبنان حاليًّا؛ لكنها امتدّت بعيدًا أيضًا - إلى البحرين، شمال اليمن، وإلى حدٍّ ما أيضًا - الكويت، وشرق المملكة العربية السعودية.
إنّ القوّة المركزيّة في الجانب الشيعيّ هي الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة، القوة العظمى المتصدّرة في العالَم في دعم الإرهاب وتمويل حزب الله، الذي كان قد قتل حتّى 11 أيلول أمريكيّين أكثر من أية مجموعة إرهابيّة في العالَم. نظام الأسد في سوريا، حزب الله في لبنان، حكومة المالكي والميليشيات الشيعية المتعدّدة في العراق، الثوّار الحوثيّون شماليّ اليمن، والجهاد الإسلاميّ الفلسطينيّ، جميعُهم حلفاء أو وكلاء عن الجمهوريّة الإسلاميّة، القادرة على تقديمِ دعمٍ جوهريّ لأصدقائها عبر قوّات الحرس الثوري الإيراني - قوّة عسكريّة هامّة وقوّة اقتصاديّة تمتلك مهارة هائلة وخبرة في بناء تنظيمات وكيلة والتعاطي في النضال السياسيّ والبرلمانيّ.
الرئيس السوري بشار الأسد مع قائد الجمهورية الإسلامية الإيرانية (afp)
أمّا في الجانب السُّنيّ، فإنّ القوة العظمى هي المملكة العربية السعودية، التي أصبح التحفّظ يسود علاقتها بطهران بعد 11 أيلول، لكنها صارعت أيضًا إسلاميّي القاعدة. يشمل حلفاؤُها مجموعاتٍ متنوعة بين الثوار السوريين، تجمُّع 14 آذار في لبنان، النظام العسكري في مصر، الإمارات العربية المتحدة، الكويت، البحرين، الأردن، وأحيانًا تركيا. لكنّ السعوديين، بالمقابل، متأخّرون نوعًا ما. فليس لديهم ما يُوازي الحرس الثوري الإيراني، كما إنّ لديهم علاقات إشكاليّة مع جهاديي القاعدة السُّنة، الذين يلعبون دورًا بارزًا في القتال في جميع الجبهات الرئيسيّة الثلاث.
فكيفَ نشأ هذا الوضع؟ هل هناك ترابُط واضح بين القوى المتعدّدة في الجوانب المختلفة؟ لماذا الصراع شديدٌ جدًّا في بعض الدُّول - مثل سوريا والعراق - إذ يبدو أنه يقود إلى تفكُّك هاتَين الدولتَين؟ وما هو مدى خطورة هذه التغييرات بالنسبة للغرب؟
إنّ التركيز على المناطق التي تختبر أقوى صراع - سوريا، العراق، ولبنان - يمكن أن يساعد على الإجابة عن هذه الأسئلة.
هذه الحرب هي نتيجة اجتماع عددٍ من الظروف. أوّلًا، إنّ العراق، سوريا، ولبنان جميعها موطن لمجتمعات مذهبية وعرقية متعدّدة. لم تُحلّ يومًا مسألة الانقسامات القاسية في تلك المجتمَعات. في سوريا والعراق، تمّ إحباطُها لعقودٍ عبر أنظمة دكتاتوريّة قاسية. كان نظام الأسد في سوريا ونظام صدّام حسين في العراق دكتاتوريَّين عائليّتَين مؤسّستَين على أقلية مذهبية - العلويين في سوريا والعرب السُّنة في العراق - تحكمان باسم القوميّة العربيّة. في خدمة هذه الأيديولوجيّة، قمع النظامان السوري والعراقي دون رحمة النزعات الانفصاليّة المذهبيّة بكلّ أشكالها؛ بشكلٍ خاصّ، الإسلاميّون الشيعة في العراق، الإسلاميّون السُّنة في سوريا، والحركة الوطنيّة الكرديّة في كلتا الدولتَين. كلّ هذه المجموعات عوملت دون رحمة.
العراق، مقاتل من العشائر السنية بالمقابل، فإنّ لبنان دولة أضعف، تحكمها تسوية تقاسُم سُلطة بين المجموعات الطائفية والمذهبيّة انهارت في الحرب الأهليّة عام 1975. لم تُحلّ المسائل ذات الصّلة بهذه الحَرب؛ بدلًا من ذلك، بين 1990 و2005، أنهى الوجود العسكريّ السوريّ أيّ نقاشٍ حول المسائل الأساسيّة في الهويّة الوطنية.
خلال العقد الأخير، ضعُفت أو تلاشت الأنظمة الدكتاتوريّة القمعيّة ذات القبضة الحديدية التي كانت تمنع انفجار التوتُّرات العِرقية والمذهبيّة. عام 2003، أطاح الاجتياح الأمريكي للعراق بنظام صدّام حسين. وحلّت محلّه حكومة مذهبيّة شيعيّة، مؤسَّسة على الأكثرية العربيّة الشيعيّة ومقبولة مؤقتًا من الأكراد. في سوريا، أضعفت الحرب الأهليّة الضارية نظام الأسد بشدّة، إذ لا يحكم الآن سوى 40 من المئة من مساحة البلاد. فقد اقتطعت الأكثرية العربية السُّنية والأقلية الكردية كيانات طائفية مستقلة لهما في الستين في المئة الباقية من البلاد.
ثبَت بشكلٍ قاطع أنّ الآمال الغربية بحلول كيانٍ غير مذهبيّ في المناطق التي كان يحكمها صدّام والأسدان ليست سوى أوهام. فالملاحظات حول العراق التي قدّمتها عام 2004 مستشارة الأمن القومي الأمريكي كوندوليزا رايس توجز هذه الآمال والميل إلى خداع الذات الذي يرافقها غالبًا. "ما أثار إعجابي إلى حدٍّ بعيد"، قالت رايس،
"هو أنّ العراقيين - سواءٌ كانوا كردًا، شيعةً، سنةً، أو أيًّا من المجموعات الإثنية العديدة في العراق - أظهروا أنهم يريدون حقًّا أن يعيشوا معًا في عراقٍ موحَّد... أعتقد أنّ الأكراد بشكل خاصّ أظهروا ميلًا يوحي أنهم يرغبون في التقليص من الفروق التي كانت فروقًا تاريخية غذّاها في كثيرٍ من الأحيان صدّام حسين ونظامه... ما وجدتُه مثيرًا للاهتمام وأعتقد أنه هامّ هو المدى الذي عبّر فيه قادة المجتمعات الشيعية، الكرديّة، والسنية عن رغباتهم في العيش في عراقٍ موحَّد".
لإدارة أوباما الإيمان نفسُه، ونتيجة ذلك، واصلت دعم الحكومة التي يسيطر عليها الشيعة في العراق، برئاسة رئيس الحكومة نوري المالكي. وهي تنظر إلى خصومة المالكي مع المتمرّدين السُّنة في محافظة الأنبار الغربيّة على أنها خصومة بين حكومة منتخَبة ومتمرّدين متطرّفين. ولا يأخذ ذلك في الاعتبار الطبيعة المذهبية لحكومة المالكي نفسِها والسياسات التمييزية التي مارستها ضدّ السُّنة غرب العراق.
وتزامنت إعادة ظهور الصراع المذهبي الواضح جدًّا في العراق مع بروزه في سوريا، حيث يتدفّق إلى لبنان المجاوِر. انجرّ لبنان إلى الصراع كنتيجة للتدخّل الهامّ والحاسم في نتيجته دعمًا لنظام الأسد في سوريا من قِبل الميليشيا اللبنانية المدعومة إيرانيًّا، حزب الله. وسرعات ما أدّى هذا إلى الثأر مِن أهداف لحزب الله في لبنان من قِبل عناصر من الثوّار السُّنة في سوريا. فقد نجح داعمون للمتمرّدين السنة في مهاجمة معقل حزب الله في الضاحية الجنوبية لبيروت خمس مرّات. وكان التفجير في 2 كانون الثاني قد نفّذه شابّ لبنانيّ ينتمي إلى تنظيم الدولة الإسلاميّة في العراق والشام (داعش) يُدعى قُتيبة محمّد الساطم؛ علمًا أنّ داعش مكوّنة من متطرّفين إسلاميّين يشكّلون فرعًا للقاعدة في العراق وسوريا.
نشاطا من حزب الله يظهر دعمه بواسطة وشم أسماء رفاقه القتلى
وفيما يعود قرار حزب الله بالتدخُّل لصالح نظام الأسد في سوريا وردّ الفعل السُّنيّ على ذلك جزئيًّا إلى طبيعة لبنان وسوريا المقسَّمة والمسائل المختلَف عليها حول الهوية الوطنيّة، فإنّ الصراعات الإقليمية الأكبر، ذات الطابع المذهبيّ أيضًا، هي قوّة هامّة تدفع العُنف.
جلم يأتِ تدخّل حزب الله في الحرب الأهليّة السوريّة نتيجة شعورٍ آليّ بالتضامُن، بل لأنّ حزب الله عضو في حلف إقليميّ بقيادة إيران، ينتمي إليه نظام الأسد أيضًا. حين وجد الأسد نفسه في مأزق، حُشد حزب الله لنجدته. في الجهة المقابلة، استفاد الثوار السوريون من مؤازرة ورعاية خصم إيران، المملكة العربية السعودية، ودول أخرى في شبه الجزيرة العربيّة، بما فيها الإمارات العربية المتحدة.
هذه العداوة طويلة الأمد، ولا تعود جذورها بشكل أساسيّ إلى الخلافات العقائديّة. إنها مسألة قوّة ونفوذ. فإيران يحكمها نظام ثوريّ هدفه أن يصبح القوّة المهيمِنة في الشرق الأوسط. ورغم أنّ الإيرانيّين يعتبرون السعوديين أعداء حتمًا وحرّاسًا غير أمناء لأقدس مقدّسات الإسلام، فإنّ هدف طهران الرئيسي هو إحكام السيطرة على موارد طاقة الخليج العربيّ، لتحلّ محلّ الولايات المتحدة كضامنٍ للموارد التي يعتمد العالَم بأسره عليها. تدرك طهران أنّ المصدر الحقيقيّ للقوّة في الإقليم هو الخليج نفسه، الذي مخزونه الهائل من النفط والغاز الطبيعيّ حيويّ للاقتصاد العالميّ. لتحقيق أهدافها، على إيران أن تجتذب الأنظمة الملكيّة في الخليج أو تكرهها على الابتعاد عن حماية الولايات المتحدة والتحالف مع طهران، ولا يفعل الضعف الأمريكي في مواجهة مشروع طهران النووي سوى زيادة احتمالات حدوث ذلك.