المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : مسار الربيع العربي - الجزء الخامس والأخير



أسيد
04-11-2013, 08:17 PM
وليس من المتوقع أن يحسم الموقف السياسي في ليبيا في المدى المنظور ليس لوجود صراع دولي ولكن لتضارب المصالح بين القوى الثورية والسياسيين على نهب الأموال العامة السائبة وتقاسم السلطة وصياغة الدستور الذي يحدد هوية الدولة، والمؤسف أن القوى العلمانية هي وحدها من يملك مشروعا ورؤية سياسية لمستقبل ليبيا بينما تنكبُّ القوى الثورية المختلفة على جمع "غنائم الحرب" ولا تملك غير أجندات حزبية نفعية أو قبلية ضيقة، وأما الفدرالية التي يلوح بها أحمد الزبير السنوسي في إقليم برقة فلا تلقى قبول أغلب القوى الليبية ورفضها من قبل الحكومة والمؤتمر الوطني يدل على عدم جدية الأمر، ولو كانت جزءا من المخطط لليبيا لبحثت على مستوى القوى السياسية كلها وليس مجرد إعلان في وسائل الإعلام. ولكن التلويح بالفدرالية له دلالة على صعيد التهديد بمعاقبة مناطق الغرب الليبي والتنظيمات المسلحة إذا بقيت تعيق التقدم في صياغة النظام السياسي الذي دعت السفيرة الأمريكية في طرابلس إلى الإسراع في إيجاده خصوصا ما يتعلق بتحديد هوية الدولة، مؤكدة على الديمقراطية والدولة المدنية. وهذا يدل على أن الدول الكبرى متفقة على الخطوط العريضة لصياغة المنطقة ولا يوجد صراع بينهم على النفوذ ما دام الخطر والعدو في نظرهم هو الإسلام وأهل المنطقة، وهذا لا يعني أن الاسلام وأهل المنطقة لم يكونوا خطرا على الغرب في حقبة الصراع بين القوى العظمى، ولكن تبدل الموقف الدولي وانفراد أمريكا وتراجع الدول التقليدية الكبرى بالإضافة إلى العامل الأهم وهو تطلع الأمة الإسلامية للانعتاق والتحرر على أساس الإسلام في العقود الثلاثة المنصرمة هو الذي أفضى إلى تحول الصراع بين الغرب إلى تنافس وجعل الجهود الغربية تنصب على إبقاء المنطقة تحت الهيمنة الغربية بزعامة الولايات المتحدة.

أما الوضع في الأردن فإنه يتراقص على أوتار ما يجري في المنطقة من مستجدات على صعيد الإسراع أو الإبطاء بعملية الإصلاح، ولكن مضمون الإصلاح لا تغيير عليه لأنه لا ينفكّ عما سيفضي إليه المسار التفاوضي مع إسرائيل، وما يميز الحالة الأردنية أن "الإصلاح" يقوده على الحقيقة الملك عبد الله الثاني ملك الأردن ويعارضه قوى يطلق عليها الملك "قوى الشد العكسي" وتتمثل بفئة متنفذة في جهاز المخابرات ومواقع مختلفة في الدولة بالإضافة إلى شخصيات عشائرية تحظى بثقل مجتمعي وقادة كبار في مؤسسة المتقاعدين العسكريين. وقد صور الإصلاح بأنه مطالب شعبية في الحرية ومكافحة الفساد وتقليص صلاحيات الملك والولاية الفعلية للحكومة وإعادة توزيع السلطة من خلال تغيير نظام الانتخابات البرلمانية المتعلق بالدوائر الانتخابية ونظام الصوت الواحد بما يعكس الواقع الديموغرافي الحقيقي للسكان، ولكنه في الحقيقة استحقاق لعملية السلام وصياغة الشرق الأوسط ينادي به الملك على لسان المعارضة والحراك الجماهيري، وأبرز من يتبنى هذه المطالب هي جماعة الإخوان المسلمين وبعض قوى الحراك الشبابي والعشائري المهمش والذي يحظى بدعم ملكي في الخفاء إلى درجة أن الملك تدخل مرات عدة للإفراج عن معتقلي الحراك برغم تجاوزهم للخطوط الحمر أمنيا بل وتناول البعض منهم له شخصيا، بينما يحظى الحراك ومطالب الإصلاح الشامل بمعارضة خفية من أجهزة الأمن والمخابرات وبعض القوى العشائرية الإصلاحية التي ترفض توسيع التمثيل النيابي لمن يطلق عليهم "المكون الفلسطيني"، أما إعادة توزيع السلطة فتخدم توطين الاردنيين من "المكون الفلسطيني" ومساواته في الوظائف والحقوق السياسية والتعليم بباقي مكونات المجتمع وهو المطلب الذي قدمه عدد من السياسيين والكتاب إلى السفير الأمريكي في عمان مثل طاهر المصري وعدنان أبو عودة ورجائي الدجاني وعريب الرنتاوي وغيرهم وهذا أحد محاور الأزمة السياسية والتشظي في المواقف بين قوى وتيارات المجتمع. وقد استغل الملك رياح التغيير على المنطقة لأجل تمرير الإصلاحات بما يتلاءم مع مقتضيات التسوية مع اليهود لكنه وجد مقاومة عنيدة من قوى عشائرية ومتنفذين في الأجهزة الأمنية وضباط الجيش المتقاعدين ومن بعض من يطلق عليهم الحرس القديم من المسؤولين الذين تورطوا في قضايا فساد ويجدون في الإصلاح خطرا يهدد مصائرهم. فهم يرفضون تقليص صلاحيات الملك لضمان عدم تحكم قوى سياسية قد تتسلط عليهم بحكم الديمقراطية والشفافية في الانتخابات البرلمانية خصوصا إذا انتقل قطار التغيير إلى محطة متقدمة يصبح فيها الملك دستوريا محدود السلطات خصوصا في تعيين رئيس الوزراء وصلاحية حل البرلمان الذي طالما استعمل كسيف على رقاب النواب إن لم ينفذوا رغبات القصر التي غالبا ما تكون بإملاءات خارجية تخدم المصالح الغربية أو مصالح فئوية فاسدة.

والحقيقة أن إعادة توزيع السلطة في الأردن بما فيها صلاحيات الملك هو مطلب أمريكي وإسرائيلي يرعاه الملك شخصيا ويضعه في سلة الاصلاحات ليخدم مسار تصفية القضية الفلسطينية خصوصا بما يتعلق بملف اللاجئين الفلسطينيين الذين يمثلون نسبة كبيرة في الأردن ويلزم لتوطينهم إقرار الحقوق السياسية التي تجعل وجودهم في الأردن أبديا وليس مؤقتا وهو ما يستوجب توسيع تمثيلهم النيابي الذي يفتح الطريق أمامهم للمشاركة السياسية في السلطة. وقد وجدت هذه المطالب "الإصلاحية" مناخا ملائما يتقاطر مع آمال غالبية الناس في التغيير في ظل ما تشهده المنطقة من إعادة تشكيل. فاتخذ الملك من مكافحة الفساد رافعة "للإصلاح" الذي يخدم مسار تصفية القضية الفلسطينية لذلك تغاضت أمريكا عن تقديم الذهبي مدير المخابرات الأسبق صاحب الخدمات العظيمة لها في ملف الإرهاب كبش فداء على مذبح الإصلاح كما اشتغلت مراكز القوى الداعمة لمشروع "الإصلاح" على تشتيت الحراك من خلال الإيقاع بين الإخوان المسلمين وبعض العشائر للحد من عجلة الإخوان وشهيتهم للسلطة - قبل أن ينتكس مشروعهم في مصر - ومن أجل ضبط الإصلاح وقوى الحراك على إيقاع المجريات السياسية في مسار الأزمة السورية التي بانتهائها يتبلور مستقبل المنطقة. من هنا فإن الحراك في الأردن ليس إصلاحيا كما يتوهم كثير من الناس بل هو فرصة لتمرير تغييرات على نظام الحكم بما يتناسب مع مسار تصفية القضية الفلسطينية وفق التصور الأمريكي، وقد جرى استثمار "الربيع العربي" من قبل الملك الذي تمترس بالحراك الشعبي ومطالب الإصلاح لتبرير خذلانه للعشائر والقوى الأمنية ورموز الفساد والتخلي عنهم وعدم إسنادهم في الحفاظ على مكتسباتهم التي تعطيهم ميزة الاستئثار بالسلطة دون غيرهم من باقي المكونات الديموغرافية للمجتمع ومؤسساته، ولا شك أن التوجه العام للنظام في الأردن يسير في تيار الدول الإقليمية المعادية للدين ومظاهر التدين، وهو يعمل على إضعاف التيار الإسلامي المتمثل في الإخوان لكنه لا يملك بديلا عنه لاحتواء الحراك المطالب بتغيير حقيقي على أساس الإسلام، فليس من المرجح أن يصعد النظام ضد التيار الإسلامي برغم ما سيطال مؤسسات الحكم من تغيير لصالح قوى تقليدية محافظة، لأن التجربة في مصر وسوريا وليبيا تجعل من هذه الحركات ورقة يستفاد منها إن على صعيد الالتفاف على الحراك الجماهيري، أو باستخدامها فزاعة تهدد مصالح الغرب لكسب تأييده وتفادي السقوط، ومن المتوقع أن تظل جبهة الحراك هادئة في الأردن مع إبقائها حية من أجل إيقاظها عندما يقترب الحسم في قضية التسوية مع اليهود، فيتم إعادة إنتاج الحراك الجماهيري المطالب بالإصلاحات ليكون ظهيرا لما يراد تمريره من تغييرات تخدم في الحقيقة مخطط التسوية، فيقدم النظام تنازلا للحراك وهو تقليص صلاحية الملك لصالح رئيس حكومة منتخب برلمانيا بعد تغيير نظام الانتخاب بما يضمن تمثيلا يعكس الواقع الديموغرافي ويعبر عن المناخ السياسي الذي سيتم تكوينه ليصب في مخطط الشرق الأوسط الجديد، فيتحمل الشعب بكل مكوناته الديموغرافية وتياراته الفكرية والسياسية مسؤولية تصفية القضية والتنازل عن حق العودة والتوطين في الأردن والتعويض، فتكون الصيغة النهائية للتسوية تحظى بشرعية سياسية وشعبية بغض النظر عن شكل العلاقة بين الكيان الأردني والسلطة الفلسطينية.

إن ما يحصل في المنطقة العربية هو صراع إرادة بين الأنظمة التي دفعتها الانتفاضات الجماهيرية للدفاع عن مصيرها بعد تخلي السند الدولي عنها وبين إرادة شعوب المنطقة في التحرر والتخلص من الحكم الاستبدادي والفساد والفقر والكفر. لكن مصيبة هذه الأمة أنها تخوض كفاحها من أجل التحرر والانعتاق على قواعد الصراع التي فرضها الغرب وعملاؤه خاصة ربط شرعية الأنظمة الناشئة بالاعتراف الدولي لا بإرادة أهل المنطقة وهو ما جعل القوى السياسية الحاكمة والمعارضة بما فيها الإسلامية تهرول نحو الغرب لتحظى بقبوله واعترافه حتى لو كانت معايير الغرب لا تحقق مصالح الأمة بل وترهن مصيرها ومستقبلها بيده، بالإضافة إلى أن الغرب قيد الاحتجاجات الجماهيرية بالأسلوب الديموقراطي وبسقف لا يتجاوز المسيرات والمظاهرات وجعل الخروج عن سقف الاحتجاج السلمي يتحول إلى لعنة ودمار على البلاد والعباد والأخطر من هذا أن اغلب القوى السياسية ومنهم الإخوان قد اتخذوا من سياسة تأمين المصالح قاعدة في علاقاتهم مع الدول العظمى وطريقا لكسب ودّها وتجنب سخطها وقبلوا بقاعدة التوافق على الدستور مع القلة غير المسلمة من العلمانيين والنصارى وهو ما عطل إرادة الأغلبية المسلمة في وضع مبدئها ووجهة نظرها في الحياة موضع التطبيق وفرغ عملية التغيير من مضمونها وجعل انتصار الجماهير انتصاراً وهمياً وحصر إرادة الأمة بخيار واحد هو علمانية الحياة والدولة والمجتمع، وهذا ما أدخل مسار التغيير في المنطقة بالشلل والإحباط لأن إرادة الأمة وتطلعاتها تتجاوز السقوف الفكرية والسياسية التي وضعت لها من أعدائها بموافقة قادتها وممثليها. لذلك ليس من المنتظر أن يأتي النصر على أيدي هذه القيادات لخذلانها دينها وأمتها، ولكن من غير المتوقع أن تنجح أمريكا والغرب في تفصيل الشرق الأوسط على مقاس مصالحها لأن التعامل مع الأفكار ليس كالتعامل مع المعدات القتالية التي يتفوق الغرب فيها ويهزم خصومه، وليس التعامل مع الجماهير المؤمنة كالتعامل مع الأنظمة الخائنة حتى يتم شراؤها وتوظيفها للحفاظ على مصالحه. كما أن عقيدة الأمة الإسلامية ليست باطلاً حتى ينبذها الناس ويستبضعوا غيرها. وهذه الانتفاضات وإن جرى توظيفها لحرف الأمة عن غايتها إلا أن الباطل زائل والحق باق. فالأمة أدركت أن السلطان لها وهي تقرر من يحكمها، وهي تدرك أن الإسلام مصدر عزتها وقوتها فاتخذته قضية مصيرية بذلت من أجله المهج والارواح وضحت بالأموال والأولاد فلا بد أن تضعه موضع التطبيق، كما أدركت أن الغرب هو عدوها وأن الحكام هم عملاؤه وأدواته المسلطة على رقبتها وهم العثرة أمام تطبيق شريعتها فسوف تقيم دولتها على أنقاض عروشهم. والأمة اكتشفت قوتها ومارست إرادتها برغم التآمر عليها وتشويه وعيها ومحاولة إجهاض مشروعها الذي انطلق ويتقدم بخطى ثابتة ويتأهب لمرحلة الحكم. ومن الثابت أن الخوف قد مات في الأمة ولم نر ميتا يقوم من مماته وهو ما يحيي أمل التحرر والنهوض فينا، ولم يعد ينقص هذه الأمة غير قيادة واعية مخلصة تقودها نحو غايتها وإقامة دولتها واقتعاد مكانتها العظمى بين الأمم وليس ذلك ببعيد بإذن الله.

أبو أسيد 31-10-2013