المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : مسار الربيع العربي وموقف الدول الكبرى



أسيد
04-11-2013, 07:00 PM
لا تزال الولايات المتحدة تدير الصراع في المنطقة بين أنظمة الحكم من جهة وبين الجماهير المنتفضة، حيث قلبت المعادلة من صراع ضد أنظمة الحكم العلمانية الاستبدادية إلى صراع يقوده عملاؤها ضد الإسلام وهي ماضية في السيطرة على الأوضاع في بلاد المسلمين لإبقائها خاضعة للنفوذ الغربي ومحكومة بأنظمة الكفر العلمانية. لقد كان مشروع حكم الإسلاميين في المنطقة حلاً مؤقتاً وإسعافاً أولياً لاحتواء الانفجار الجماهيري المفاجئ في قوته وإرادته نحو التغيير، ولم يكن حلاً نهائياً لأن الهدف من مشروع الشرق الأوسط هو إبطال فاعلية الإسلام في المجتمع من خلال النظام الديمقراطي الذي يدمج الإسلاميين "المعتدلين" في الحياة العلمانية والحكم، ويقصي التنظيمات "الراديكالية" ويبقي إدارة الحياة السياسية في يد رجالات أمريكا بالتفاهم مع القوى الإسلامية بحيث تبدو الأنظمة الجديدة منبثقة عن إرادة الأمة. لقد كانت الولايات المتحدة تُعدّ لتغيير الأنظمة وتدرب وتمول كوادر شبابية تؤمن بطريقة الغرب في الحياة من أجل مستقبل أفضل ليس لشعوب المنطقة وإنما للمصالح الغربية والأمريكية على وجه الخصوص، وقد كانت تأمل أمريكا أن يتولى الجيل الجديد مقاليد الحكم لتفريغ الاحتقان السياسي للمجتمعات العربية بالانتقال الطبيعي للسلطة من يد الجيل الهرم المستهلك الذي بات بقاؤه في الحكم يهدد المصالح الغربية إلا أن عصيان الحكام وتمردهم على إرادتها قادها لاعتلاء حركة التغيير القسري التي خرجت عن سيطرة القوى السياسية التي دعت للتظاهر وأوجب على الولايات المتحدة السير مع تطلعات الشعوب والتجاوب مع ميلها للحكم الإسلامي فقامت بتذليل العقبات أمام الإخوان المسلمين بعد الاتفاق معهم على نمط الحكم والملفات الإقليمية وطلبت من عنان وطنطاوي تسليم السلطة لمرسي وفرضت السيسي من بعد وزيراً للدفاع في حكومة قنديل، ثم شرع عملاؤها بوضع العراقيل وإثارة الأزمات أمام حكم الإخوان ليتخذوا من تعثرهم في إدارت الأزمات ذريعة للهجوم على الإسلام وحكم الإسلاميين.

ففي مصر كما في باقي بلدان "الربيع العربي" تمكنوا على مدار عام من شيطنة الإخوان وتشويش صورة الإسلام في أذهان الناس حتى بات من الصعب استمرار حكم الإخوان الذي كان قاصراً عن إدراك سبب إخفاقه وهو: عدم وضع الإسلام موضع التطبيق في الحياة والدولة والمجتمع إنفاذا لإرادة السواد الأعظم من الناس، واكتفاء الجماعة على وجود تنظيمهم في الحكم ممثلاً بالرئيس وبعض المواقع في الدولة، وثقتهم بأمريكا التي بيدها وسائل إسناد السلطة من جيش وقضاة وإعلام، مضافاً إلى ذلك دخولهم الصراع مع القوى العلمانية بأدوات لا تمكنهم من كسب الصراع، فقد قبلوا ببقاء أجهزة الدولة كما هي ورجال الحكم البائد في مواقعهم خصوصاً في أجهزة القضاء وقيادة الجيش والدوائر الأمنية ولم يباشروا بتغيير العقيدة القتالية للجيش وواجبات قوى الأمن لإبطال مفاعيل المؤامرات التي يحيكها الغرب وعملاؤه لبسط نفوذهم، كما قيدوا أنفسهم بقواعد وآليات العمل السياسي وفق الديمقراطية التي أتاحت المجال للقوى العلمانية والكنيسة القبطية فرض إرادتها وعرقلة إقرار الدستور برغم تناقضه كلياً مع الإسلام وذلك من خلال مفهوم التوافق مع قوى المجتمع وطوائفه وتياراته بما فيهم الوسط الفني القذر الذي لا هم له غير إفساد الذوق العام في المجتمع.

وفي المحصلة، وجدت أمريكا الوقت متاحا لترجيح كفة القوى العلمانية على الإخوان والعودة إلى المشروع الأصلي وهو إدماج القوى الإسلامية في الحياة العلمانية كحزب النور السلفي وغيره وقمع المخالف للترتيبات الجديدة، لكن الإخوان وجدوا بذلك خذلاناً لهم من الأمريكان وانقلاباً على الاتفاق بعدما تسلحت أمريكا بالرأي العام المصطنع والجو العام الناقم على الإخوان وحكمهم، فتمسكت الجماعة بموقفها ورفضت التنازل عن إدارة العملية الانتقالية بمصر رغم أنها ترسخ علمانية الحياة والدولة والمجتمع عملياً ودستورياً، ووجدت الجماعة أن خضوعها لرأي الأقلية العلمانية والمسيحية واستبعاد أجندتها "الهجينة فكرياً" سيقوض شعبيتها التي هي سر قوتها ومركز تنبهها بصرف النظر عن تقويض القوى العلمانية للمشروع الإسلامي الذي تتطلع إليه جماهير الأمة وظلت متمسكة بموقفها ومنهجها بدل أن تحصن نفسها ومشروعها بحمل الأمة لمواجهة القوى العلمانية والدولة العميقة وتفرض على الأرض واقعا يرغم القوى الدولية على قبوله والتعامل معه بدل أن يفرض عليها وعلى الأمة واقع يفقدها موقعها ويضيع مكتسبات الأمة على صعيد انطلاقها نحو التحرر والنهوض، لذلك سارع الجيش لتنفيذ انقلابه بتوجيه من أمريكا لإخضاع الجماعة للسير وفق المشروع الأصلي لكن الجماعة استقوت بعناد جماهيرها واستعدادهم للتضحية واستغلت التردد الذي يشوب مواقف الإدارة الأمريكية بشأن قضايا المنطقة من أجل إعادة مرسي للحكم، وراحت توظف رصيدها الجماهيري في الضغط من أجل هذا الهدف الذي لا قيمة له على صعيد الصراع من أجل قضية الإسلام لأن غاية الإخوان من الصراع هو الحكم وليس تطبيق الإسلام، وما الحديث عن التدرج في تطبيق الشريعة إلا ذر للرماد في العيون بدليل قبول الجماعة قاعدة التوافق على الدستور وإقامة الدولة المدنية بالرغم من قدرتها على حشد الملايين في الميادين وفرض إرادتها على سائر فئات المجتمع ، وهذا يدل على عدم توفر الإرادة لتطبيق الإسلام إن في الحاضر أو في المستقبل.

وبعد إصرار الإخوان على مطلبهم وخشية أعداء الأمة من أن يصبح إنفاذ إرادة المسلمين سابقة وعرفاً عاماً، قررت أمريكا كسر إرادة الأمة وإذلال قادة الجماعة الذين تمردوا عليها فكانت جريمة فض اعتصامي رابعة والاتحادية رسالة واضحة للحركات الإسلامية في مصر والمنطقة كما هي رسالة قوية للشعوب بأن لا يتجاوز طموحها تحسين ظروف تبعيتها للغرب وليس التحرر على أساس الإسلام. ولا يتوقع تراجع أمريكا عن المضي قدماً في المشروع الأصلي وهو إدماج كافة القوى السياسية في العملية الديمقراطية في المنطقة برمتها على أن تكون اليد الطولى في الحكم للقوى العلمانية وليس للإسلاميين بسبب التبعات الفكرية والسياسية التي تترتب على وجود الإسلاميين في الحكم وضرره على علمنة فكر المجتمع والدولة، ولهذا دعمت أمريكا إيجاد الثقافة الديمقراطية في المجتمع بالممارسة العملية وانخراط الجماهير في العمل السياسي على أساس قيم الغرب ومفاهيمه عن الحياة والتضحية من أجلها.

ومن أسباب إقصاء أمريكا لحكم الإخوان في مصر هو التعاطف والتأييد الشعبي لنمط الحكم الإخواني الذي روّع حكام السعودية والخليج بسبب تأييد الأوساط الدينية الخليجية التي رأت في مرسي نموذجاً يحترم في الحاكم المسلم الملتزم المدافع عن أهل السنة عندما افتتح خطابه في زيارته لإيران بالثناء على الصحابة أبو بكر وعمر وهو ما لم يجرؤ عليه أي ممن يزعمون أنهم رعاة لأهل السنة، وقد اعتبر حكام الخليج جرأة مرسي في إيران مزاحمة لهم في ولاية الاتجاه السني في العالم الإسلامي وعمل موجه ضدهم لأنه لاقى استحسان الأوساط الدينية التي تغذي شرعية حكمهم خاصة النظام السعودي الذي يزعم أنه يحكم بموجب البيعة، كما وجد حكام الخليج أن منح الشعب المصري حرية اختيار الحاكم خطر على مفهوم الحكم في الدول الخليجية التي لا شرعية لها سوى الدعم الغربي الذي بات لا ضمانة له في نظرهم بعد قذف أمريكا عملائها في تونس وليبيا ومصر واليمن إلى مزابل التاريخ، ولهذا انحازت أمريكا إلى خيار إسقاط الإخوان لتهدئة روع الأنظمة الخليجية التي تجدف في اتجاه معاكس للمشروع الأمريكي في المنطقة بالسر والعلن خشية أن يسقطها، لذلك كان إشراك أمريكا السعودية والإمارات في إسقاط حكم الإخوان وزيارة ملك الأردن لقادة الانقلاب هو من اجل طمأنة زعماء المنطقة الذين هالهم تفريط أمريكا بأخلص عملائها وهو حسني مبارك، بالإضافة إلى أن مصر تحت حكم الإخوان ليست مؤهلة للعب الدور المطلوب في ملف تصفية القضية الفلسطينية الذي وضع مجدداً على طاولة الفصل خصوصاً مع تبلور الموقف من النظام السوري ومستقبل بشار الأسد ومجيء روحاني إلى الحكم في إيران.

أما مسار الأزمة في مصر فهناك إصرار على إخضاع الإخوان وليس استبعادهم كلياً عن المشهد السياسي لأجل احتواء الجماهير الغاضبة في هذه المرحلة، ورهان الأمريكان هو القبضة الحديدية عن طريق السيسي وتغييب قيادات الصف الأول من الإخوان ومحاولة التفاهم مع تيارات أقل تشدداً في الجماعة إن لم يقتنع قادتها الكبار، وسوف يبقى القمع مستمرا للجماعة بهدف إخضاعها قسرا وسوف يستمر ترويع الناس والتضييق عليهم لتيئيسهم وتنفيرهم من فكرة التحرر وانفراد حكم الإسلام والإسلاميين بالحياة والدولة والمجتمع بالاضافة إلى دق إسفين في المجتمع لإضعافه من خلال بث العداوة والبغضاء بين مكوناته ومؤسساته خاصة مؤسسات الجيش والأمن لتهيئة الدولة للتفكك والفوضى في حال فشل عملائها من النجاح والسيطرة على الوضع . في حين لا تجد أمريكا صعوبة في إملاء ما تريده على حزب النهضة بتونس لأن قادة النهضة أقرب إلى الغرب في تفكيرهم وأطوع في يد أمريكا من نظرائهم في مصر ومن المنتظر أن تقوم حركة النهضة بإعادة تموضعها السياسي بما يلبي مسار العملية السياسية في تونس ومصر ويضغط على الحالة الليبية المستعصية أمام الديمقراطية والدولة المدنية، كما يخدم استقرار الوضع السياسي في الجزائر التي أثار تسونامي "الإسلام السياسي" مخاوف حكامها بعد أن ضرب المنطقة وأسقط بعض انظمتها .

أما الموقف السياسي في المنطقة على المستوى الدولي فلا يوجد من يزاحم أمريكا على النفوذ في الشرق الأوسط برغم الغطاء الدولي الذي توفره روسيا للنظام السوري، فروسيا تعلم أن الكلمة الفصل في المنطقة والعالم هو للولايات المتحدة، ولكن أمريكا لا تمانع من الظهور الإعلامي لروسيا في القضايا الدولية التي تجلب عليها العار والسخط وتضعها في مواقف قذرة إنسانياً كما هو حالها من الصراع في سوريا، كما تستثمر أمريكا الموقف الروسي المعطل للحلول الدولية لإظهار مجلس الأمن عاجزاً عن حل القضايا الدولية خصوصاً ذات الطابع الإنساني أو المتعلق بقضايا تحظى بالتأييد العالمي كدعم الديمقراطية من أجل تبرير الخروج على مجلس الأمن لإنفاذ إرادتها متى شاءت دون اعتراض دولي، وهو ما يسقط قيمة الفيتو الذي تتسلح به الدول التقليدية الكبرى، خصوصا وأن مجلس الأمن لم يعد يعبر عن الموقف الدولي منذ انفراد أمريكا في قيادة العالم سنة 1990، وهي تستغله في حال الاتفاق مع القوى الكبرى على ما يخدم مصالحها وتسعى لتشويه صورته في حال اختلافها مع القوى العظمى لتبرير خروجها عليه وممارسة قيادتها للعالم دون مزاحم.

يتبع إن شاء الله