المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الاستثنائية الأمريكة وغرورها!!!!



بوفيصيل
26-10-2013, 05:02 PM
أثار حديث الرئيس الأمريكي باراك أوباما عن استثنائية بلاده ورد الرئيس الروسي على هذه الأوهام زوبعة من ردود الفعل المتباينة. هذا التوجه الأمريكي في مخاطبة العالم تزامن مع دخول الأزمة السورية منعطف الحل السياسي بعد فشل محاولات الاستفزاز الكيماوي، وعليه كما قال يوما جوزيف ستالين "هناك منطق للنوايا ومنطق آخر للوقائع، لكن منطق الوقائع أقوى من منطق النوايا
بقلم إلياس مارديني



حروب الدولار واستفزازات القرن الـ 20

في فترة الكساد العظيم مطلع ثلاثينيات القرن الماضي قال الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفيلد "إن من أبرز مهامي حماية أصحاب البنوك ورؤوس الأموال من الانتحار"، هذا الاهتمام الرئاسي تحول بعد سنوات إلى كارثة إنسانية تمثلت في حرب عالمية ثانية كان الصناعيون والاقتصاديون الأمريكان من أشعل فتيلها. تلك الحرب حصدت أرواح 54 مليون شخص، وجرح خلالها حوالي 90 مليونا آخرين أصبح 28 مليونا منهم فيما بعد معاقين، لكن سفك الدماء وتدمير البنى التحتية في الاتحاد السوفيتي وأوروبا عالج الكثير من مشاكل النخبة الأمريكية، وعليه تحولت الولايات المتحدة إلى مركز مالي عالمي.

في قمة "بروتن ودز" عام 1944 للدول المنتصرة تم إطلاق مؤسسات ستحكم العالم فيما بعد، كالبنك الدولي للإنشاء والتعمير الذي تحول عام 1960 إلى البنك الدولي، وكذلك وضع حجر أساس صندوق النقد الدولي. في تلك الفترة بالتحديد أصبح الدولار نقدا عالميا بموازاة الذهب الذي كانت واشنطن تتحكم بـ 70 % من احتياطاته العالمية، وكانت سيولة الولايات المتحدة نهاية الحرب تقدر 129 مليار دولار، وهو رقم عال جدا في يومنا هذا، فما بالك في حينها.

اللافت أن أسس الهيمنة الأمريكية على العالم في يومنا هذا وضعت نهاية الحرب العالمية الثانية عندما حصد الاقتصاد الأمريكي ثمار معاناة شعوب العالم، ومع أن الجيش الأمريكي لم تكن له الكلمة الفصل في تلك الحرب، حيث أن الاتحاد السوفيتي بجيشه الاحمر هو من حمى البشرية من طاعون النازية، إلا أن من يحكم الولايات المتحدة استثمر دمار القارة الاوروبية وبعد أراضي الولايات المتحدة عن ساحات الحربين العالميتين الأولى والثانية ووضع لنفسه نموذجا جديدا للسياسات الخارجية والداخلية "يجب أن يكون حل المشاكل الذاتية دائما على حساب دول وشعوب أخرى"، وهذه القاعدة استخدمها البيت الأبيض فيما بعد عندما واجه مشاكل اقتصادية أو حاول صرف الأنظار عن أزمات مالية، وهو ما يحدث اليوم بالتحديد.

فالحرب الكورية كانت ردة فعل على الانكماش الاقتصادي الأول بعد الحرب العالمية الثانية عام 1949، والعدوان على فيتنام كان محاولة لمعالجة الانكماش عام 1967، أمام أزمات عام 1981 – 1982 فكانت محركا للحملات على نيكاراغوا وغرينادا، ناهيك عن حروب أفغانستان والعراق وليبيا.

كتاب "لماذا يكره العالم أمريكا" من تأليف ضياء الدين سردار ميريل وين ديفيز، يطرح أربعة أسباب رئيسة وراء الاعتراض على الولايات المتحدة :

1: وجودي، فأمريكا جعلت الوجود صعباً جداً على الشعوب الأخرى على الصعيد الاقتصادي و السياسي .

2: إن أمريكا تعد اليوم السبب الرئيس لكل شيء، لا شيء يتحرك -على ما يبدو- من دون موافقة أمريكا، ولا يمكن حل شيء بدون تدخل "الباب العالي"في البيت الأبيض

3: بما أنه إذا وجد الشر وجد الخير، فعلاقة أمريكا مع العالم على هذا الأساس، فالإرهاب شر وأمريكا "خير" إضافة إلى أن أمريكا تقول أشياء وتمارس نقيضها .

4: إن أمريكا ليست الدولة الوحيدة المفرطة بالقوة، بل أصبحت السلطة المرجعية للتعريف بالعالم، فهي التي تحتكر تعريف الديمقراطية والعدالة والحرية .

هذا الكتاب يسلط الضوء أيضا على 124 عملية غزو أمريكية في شتى بقاع الارض ما بين عامي 1890 والعملية العسكرية الأمريكية في الأرجنتين و2001 بداية الحرب في أفغانستان، 124 عملية ما عدا عمليات نشاطات الاستخبارات الأمريكية كأحداث غواتميالا عام 1953 أو الإطاحة برئيس الحكومة الإيراني محمد مصدق في العام نفسه وغيرهما، كما يشير الكتاب إلى ان الاستفزاز كان دوما أداة أمريكية بامتياز. وفيما يلي بعض الأمثلة:

- عام 1898 تم تفجير سفينة "مان" الأمريكية واتهام الإسبان بذلك، وكانت النتيجة أن الولايات المتحدة بدأت حربا ضد الإسبان.

- عام 1915 أخفت الولايات المتحدة اسم وعلم سفينة "لوزيتانيا" البريطانية لدى دخولها منطقة حربية ألمانية وهي قادمة من أمريكا إلى إيرلندا، ما أدى إلى تدميرها من قبل غواصة ألمانية وراح ضحية الهجوم 1198 شخصا من أصل 1959 كانوا على متنها، هذه الحادثة استخدمت في الحرب الإعلامية ضد الحكومة الألمانية.

- عام 1941 كان الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت على علم تام بالهجوم الذي يحضر له اليابانيون على قاعدة "بيل هاربر"، لكنه لم يفعل أي شيء للحيلولة دون ذلك لأنه كان بحاجة إلى " قميص عثمان" لدخول الحرب.

- حادثة خليج تونكين عام 1961 كانت سببا لحرب الفيتنام.

- أحداث 11 سبتمبر 2001 أشعلت فتيل غزو أفغانستان.

- الروايات الخيالية حول أسلحة الدمار الشامل التي لا وجود لها في العراق ، وشبح الاستفزازات النووية الذي يخيم فوق إيران وكوريا الشمالية.

- وأخيرا وليس آخرا الأسلحة الكيماوية في سورية.





وهم استثنائية أوباما والحرب السورية

لا لم يخطئ أحدنا فهم الرئيس الأمريكي باراك أوباما عندما تحدث من على منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة عن الاستثنائية الأمريكية، فالاستثنائية هذه تعني الإنفرادية وربما الألوهية الدنيوية وأن الكونغرس الأمريكي هو من يشرعن الحروب وليس مجلس الأمن الدولي، وتعني أيضا أن الرجل الأسمر الذي يسكن البيت الأبيض لم يكون سوى عملية تجميل أو كما تقال بالفرنسية "مكياج" للسياسات السوداء.

هذا الرجل اختير رئيسا للولايات المتحدة كي يجمل وجهها القبيح إلا أنه كشف حقيقته، أو بالأحرى بدأ يزيح ليكشف من يقف خلفه ويتحكم بالسياسات العدوانية لمكتبه البيضاوي، فأوباما كغيره ليس سوى موظف يأتمر بمجموعة من رؤوس الأموال تقف عند عتبة هذه الدولة التي بناها المجرمون الفارون من القارة العجوز تحت شعارات الحرية والعدالة والديمقراطية، كي تصبح بعد أقل من ثلاثة قرون أبعد الدول المتحضرة عن هذه الشعارات الرنانة والبراقة التي تلونها أفلام هوليوود.

يدرك أوباما جيدا أن بلاده أتقنت إرهاب الدولة بحق دول العالم الثالث بحسب الكثيرين من مفكريها وكتابها، وبات إعلامها يتحدث عن أرقام للضحايا أو كما يفضلون القول نتائج عرضية لعملياتهم العسكرية في شتى دول العالم وكأنه يتحدث عن كتائب من النمل، وربما المنطقة القبلية على الحدود الأفغانية الباكستانية خير مثال على ما سبق إلى جانب اليمن السعيد، الذي بات مؤخرا مركزا للقاعدة وساحة لمسرحيات العلاقة الأمريكية من طلاب "الحرية" هؤلاء.

جذور هذه العلاقة الغرامية مع طلاب الحرية تعود عقودا إلى الوراء، فإلى جانب الصراع مع الاتحاد السوفيتي امتهنت واشنطن الاغتيالات السياسية وموهبة الانقلابات وخلق جماعات الموت وأخرى تطالب بالحرية تحت رايات تكفيرية سوداء وبدعم من الوهابية السعودية كالزعيم الأول لتنظيم القاعدة أسامة بن لادن الذي لا تزال حيثيات موته تطرح الكثير من الأسئلة حول حياته ومماته وهجمات الـ 11 من سبتمبر التي زعم أنه وقف خلفها، لكنها ويا للمصادفة قلبت الموازين الدولية لصالح العم سام وحليفه الإسرائيلي الذي استفحل عدوانا واستعمارا بحق الفلسطينيين بتمويل ودعم عربي وخليجي تحت شعارات ما بات يعرف اليوم في الأدبيات السياسية بـ الإسلام السياسي" وإخوانه المسلمين.

إن وهم الحديث عن الاستثنائية الأمريكية تزامن بشكل ملحوظ مع الصراع الدولي حول سورية وموقعها على الخريطة الجيوسياسية العالمية في المستقبل لجهة التحالفات ومناطق النفوذ لا سيما تلك المتعلقة بالطاقة وطرق الترانزيت، كما أن هذا الوهم رافق العمليات الاستفزازية التي أتقنتها واشنطن فكانت معضلة الكيماوي السوري بعد أن أصبح مجاهدو العالم أجمع طلابا للحرية في مهد الحضارات، وعليه فإن التخبطات في التقارير الدولية حول هجوم الغوطة الكيماوي والتذبذب في المواقف والتصريحات ليس إلا دليلا إضافيا على أن الحرب في سورية مفتعلة وداست مطالب الشعب السوري بأشواط.



حرب ترانزيت الطاقة

كما قلنا سابقا فإن الولايات المتحدة تعودت حل مشاكلها الداخلية على شاكلة قراصنة لكنهم دوليون، وهذا الأمر من ضمن أسباب تصعيد الأزمة السورية إلى ما هي عليه اليوم.

أولا إن الاقتصاد الأمريكي يقترب من الهاوية وعليه يصعب على الرئيس الأمريكي الوفاء بوعوده الانتخابية وخفض الضرائب ورفع الأجور وشرعنة الهجرة. كما أن الوضع السياسي المضطرب في البلاد وانحسار منسوب شعبية أوباما الحائز على جائزة نوبل للسلام دفع صناع القرار في البيت الأبيض إلى البحث عن نصر في حرب صغيرة تعوض كل الخسائر التي ذكرناها، واليوم لا توجد ساحة أفضل من سورية لتحقيق هذا المشروع وفقا لأدبيات الأنغلوساكس الاستعمارية.

ثانيا إن القوى التي تقف وراء الرئيس أوباما تعمل جاهدة لإنجاح مشروع الفوضى الخلاقة بداية من موريتانيا وصولا إلى قرغيزيا وكشمير في آسيا الوسطى، أي رسم "قوس عدم الاستقرار" وصولا إلى روسيا والصين وذلك ضمن مشروع الاضطراب الذي انطلق من البلقان في تسعينيات القرن الماضي.

هذا المشروع الكبير أو "المؤامرة" كما يحلو للبعض تسميتها يهدف بشكل رئيس إلى رسم خطوط امداد جديدة للطاقة، وهنا تكمن أهمية الجغرافيا السورية. وعليه فإن تصعيد الأزمة في بلاد الشام جاء ردا على نشاط وسياسات روسيا في مجال الطاقة والاتفاقيات التي وقعتها موسكو مع دول آىسيا الوسطى، وهو ما يسعى الغرب إلى عرقلته يوميا وربما الصراع حول مشروع السيل الجنوبي خير دليل على ما اوردناه. بالإضافة إلى طرق الإمداد حيث يجب ذكر الاحتياطات المستكشفة في الحوض الشرقي للبحر المتوسط ومحاولات قطر ومن يقف خلف أمرائها لمد أنابيب غازها إلى ضفاف المتوسط عبر الأراضي السورية وهو ما رفضه الرئيس الأسد جملة وتفصيلا، لأن ذلك سيؤدي غلى إضعاف موقف الحليف الروسي في سوق الطاقة العالمي. وإذا ما نظرنا إلى محاولات البعض السيطرة على الغاز الجزائري الذي وكما الروسي يدفئ شتاء أوروبا ، فسنرى أن الحرب السورية ليست إلا حرب الطاقة في القرن الـ 21.

اليوم وفي سياق الحديث عن الاستثنائية الأمريكية أود أن أذكر بعبارة للزعيم السوفيتي جوزيف ستالين قد تشرح الكثير، فالرجل الفولاذي الذي أرعب البيت الأبيض قال "هناك منطق للنوايا ومنطق آخر للوقائع، لكن منطق الوقائع أقوى من منطق النوايا"، ومنطق الوقائع يؤكد حاليا إنطلاقا من تداعيات الأزمة السورية والتكويعة الأمريكية نحو الحل السياسي أن حديث الرئيس الأمريكي باراك أوباما عن استثنائية بلاده بات وهما مع عودة روسيا إلى الساحة الدولية بقوة، وإطلاق مشروع عالم متعدد الأقطاب. أما فيما يخص الأزمة السورية فالصراع على أشده سيستمر حتى موعد الانتخابات الرئاسية العام المقبل، وحينها سنكون على موعد مع صفقات الكبار.

بوفيصيل
26-10-2013, 05:07 PM
شرق و غرب

أمريكا وأسطورة «الدولة الاستثناء»

بقلم: جين مايكل سوليفان



«الوطنية هي أساسا اقتناع الإنسان بأن دولة بعينها هي الأفضل من بين كل دول العالم فقط لأنه ولد فيها...». الكاتب المسرحي الايرلندي الساخر جورج برنارد شو.
لقد قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مؤخرا إن الولايات المتحدة الأمريكية ليست بالدولة الاستثنائية وهو ما أثار غضب واستياء أطراف أمريكية عديدة راحت تتساءل: كيف يجرؤ الرئيس بوتين على توجيه مثل هذه الانتقادات وهو المعروف بتاريخه الذي يتنافى مع القانون والديمقراطية؟! لم تشأ هذه الأطراف أن تناقش ما قاله الرئيس فلاديمير بوتين وتعمل المنطق بل إنها راحت تهاجم الرجل بشكل سافر. من حسن حظ هذه الأطراف أنها وجدت الكثير من النقاط المثيرة للجدل التي هاجمت من خلالها الرئيس الروسي. لكن ماذا عن مقولة الولايات المتحدة الأمريكية «الدولة الاستثناء»؟


أنا شخصيا لم أفهم أبدا معنى مفهوم «الولايات المتحدة الأمريكية.. الدولة الاستثناء». ما معنى اصلا أن نقول إن الولايات المتحدة الأمريكية دولة استثنائية من بين كل دول العالم؟ يبدو أن القول بأن الولايات المتحدة الأمريكية هي «الدولة الاستثناء» يعني أن كل القوانين والأعراف التي تسري على بقية دول العالم لا تسري على بلادنا ؟ الولايات المتحدة الأمريكية ؟ «الدولة الاستثناء». على سبيل المثال لا يمكن لأي دولة أخرى في العالم أن تمتلك الأسلحة النووية أو الكيميائية أو الجرثومية ؟ باستثناء الولايات المتحدة الأمريكية ؟ كما يمكننا أيضا أن نستخدمها متى أردنا ذلك!
إن التدخلات العسكرية والاعتداء على أمن وسلامة الدول الأخرى والتدخل في شؤونها الداخلية أمور مدانة عندما تقوم بها دول أخرى، باستثناء الولايات المتحدة الأمريكية التي طالما هاجمت دولا أخرى وتدخلت في شؤونها الداخلية بل أطاحت بأنظمتها رغم أنها لم تكن تشكل أي خطر على الأمن القومي الأمريكي أو تهاجمها أو تتدخل في شؤونها الداخلية.
يجب على كل دولة من دول العالم ألا تتدخل في الشؤون السياسية الداخلية لأي دولة أخرى من دول العالم أو تحاول أن تؤثر على انتخاباتها أو تغتال أو تطيح بزعمائها وحكامها المنتخبين دون إعلان للحرب، باستثناء الولايات المتحدة الأمريكية التي استخدمت كل هذه الأسلحة بلا استثناء. بل إن الولايات المتحدة الأمريكية ؟ الدولة الاستثناء ؟ فعلت أكثر من ذلك من أجل الاطاحة بكل نظام سياسي أو حكومة، سواء أكانت منتخبة ديمقراطيا أم لا، وذلك إذا ما رأى الساسة في واشنطون أنهم لايستطيعون الاستفادة من هذا النظام السياسي أو من تلك الحكومة!
دعك إذاً من الأسطورة التي تقول إن الولايات المتحدة الأمريكية هي راعية الديمقراطية وحقوق الانسان في العالم. إن القول بأن الولايات المتحدة الأمريكية هي «الدولة الاستثناء» هو الاقتناع بأن كل القوانين والأعراف والمثل والأخلاق تطبق على كل دول العالم الأخرى، باستثناء الولايات المتحدة ألأمريكية.
أنا على ثقة بأن كل دولة من دول العالم تحب أن ترتقي إلى وضع «الدولة الاستثناء» غير أنها لا تمتلك القوة الكافية من أجل فرض إرادتها على بقية دول العالم. لذلك يكن الكثير من دول وشعوب العالم كل هذه الكراهية للولايات المتحدة الأمريكية ؟«الدولة الاستثناء» ؟ لأنها تطالب كل دولة أخرى بأن تعترف بخصوصيتها كدولة استثنائية وأفضل من أي دولة أخرى من كل دول العالم.
لقد كانت الولايات المتحدة الأمريكية تمتلك دائما شيئين اثنين على مر تاريخها لعبا دورا كبيرا في تنامي نفوذها وهيمنتها في العالم، أعني هنا المحيطين الأطلنطي والهادي. هذا كل ما في الأمر. هذان المحيطان هما اللذان ظلا يفصلاننا عن القوى المصنعة المنافسة والمعادية لنا في العالم. هذا ما يفسر أن مصانعنا ظلت سليمة وتعمل بكامل طاقتها ولم تتعرض إلى القصف خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية.
لقد تعرضت كل القوى الصناعية الأخرى للقصف إبان الحربين العالميتين الأولى والثانية وتعرضت مصانعها وقدراتها الاقتصادية للقصف كما أنها فقدت الكثير من قواها العاملة الماهرة. أما الولايات المتحدة الأمريكية فقد دخلت الحربين العالميتين الأولى والثانية بشكل متأخر وذلك بعد أن لحق دمار كبير ببقية القوى العالمية الأخرى. لذلك لم تتعرض الصناعة في الولايات المتحدة الأمريكية إلى الانهيار واستفادت كثيرا من مصائب الدول الأخرى المنافسة لها، الأمر الذي أعطاها الفرصة كي تتحول إلى مصنع لبقية دول العالم كلها. فأبسط البضائع الاستهلاكية التي تحتاجها بقية دول العالم كانت تحمل علامة «صنع في الولايات المتحدة الأمريكية»، لأنه كان من الصعب تصنيع تلك البضائع الاستهلاكية الأساسية في أي مكان آخر من العالم وقد كانت بقية دول العالم تتهافت على شراء تلك البضائع الاستهلاكية المصنعة في الولايات المتحدة الأمريكية.
لقد ازدهر اقتصادنا وحقق طفرة هائلة لأن مصانعنا لم تتعرض للقصف. لم تتعرض مصانعنا للقصف لأنها كانت محمية من المحيطين الأطلنطي والهادي. إن هذه الخصوصية أو السمة الاستثنائية لا تعكس أي شيء يميزنا عن بقية شعوب العالم كما أن العناية الربانية لم تحبُنا بما يجعلنا استثناء، لا نظير لنا في العالم. كل ما في الأمر أن مصانعنا لم تقصف أو تدمر فيما قصفت مصانع بقية دول العالم التي طالتها الحرب العالمية الأولى والثانية.
لقد بدأ اقتصاد الولايات المتحدة الأمريكية يتراجع مع نهاية فترة الستينيات من القرن الماضي لأن الدول التي تعرضت للدمار خلال الحرب العالمية الثانية قد أعادت آنذاك بناء مصانعها المدمرة. لذك فإنه لا وجود لأي شيء استثنائي يميز اقتصادنا أو نظرياتنا الاقتصادية أو حتى نمط حياتنا الذي طالم تحدثنا عنه بكل صلف وتعال وتبجح.
رغم نزعة الولايات المتحدة الأمريكية للاعتماد على الخيار العسكري فإن الجيش الأمريكي لا يتسم بأي طابع استثنائي. فمن الناحية التاريخية كانت الولايات المتحدة الأمريكية دائما انتقائية في حروبها. فقد أعلنت إنجلترا الحرب ضد ألمانيا النازية ونسجت فرنسا على منوالها لكن الولايات المتحدة الأمريكية لم تفعل ذلك. لقد ظلت الولايات المتحدة الأمريكية تنتظر حتى أعلنت ألمانيا النازية الحرب علينا بعد مرور بضع سنوات وذلك بعد ألحقت جيوش هتلر هزائم كبيرة وأضرارا فادحة بالدول «الحليفة» لنا. عندها فقط أدركت الولايات المتحدة الأمريكية مدى أهمية إلحاق الهزيمة بالفاشية والنازية.
لم ندخل الحرب العالمية الأولى إلا عندما أوشكت تلك الحرب أن تحط أوزارها. في الحرب ضد إسبانيا، فقد أعلنا الحرب ضد دولة فقيرة كانت امبراطوريتها المترامية الأطراف على وشك الانهيار والاندثار. لقد أنفقت الولايات المتحدة الأمريكية من المال وأهدرت من الوقت في محاربة المقاتلين من أجل الحرية أكثر مما أنفقت من المال وأمضت من الوقت في محاربة المستعمرين الاسبان أنفسهم.
لكن ماذا عن الحرب التي خاضتها الولايات المتحدة الأمريكية ضد دولة المكسيك المجاورة لنا؟ في الحقيقة، لقد انتزعنا الأراضي التابعة تاريخيا لهذه الدولة الأمريكية اللاتينية الفقيرة. ثم ماذا عن الحروب العدوانية التي خضناها في فيتنام والصومال والعراق وأفغانستان؟ ثم ماذا عن إبادة السكان الهنود الأصليين؟
لم تبن الولايات المتحدة الأمريكية مجدها العسكري على محاربة القوى العظمى التي تضاهيها قوة وسطوة عسكرية عدة وعتادا. لقد بنت الولايات المتحدة الأمريكية «مجدها» العسكري على محاربة دول صغيرة كما أنها كانت دائما تدخل إلى الحروب التاريخية الكبرى متأخرة. لقد حارب الاسكندر المقدوني الفرس في أوج قوتهم ودخلت روما في حرب ضد قرطاج التي كانت في أوج قوتها وعظمتها وحارب الارلنديون بريطانيا الاستعمارية بينما دخل نابليون بونابرت في حرب ضد بقية العالم.
تعرف الولايات المتحدة الأمريكية أيضا بتاريخها الطويل في مجال التجسس على بقية دول العالم، ووضعها على القوائم السوداء والسجون السرية واغتيال نشطاء ودعاة الحقوق المدنية واستهداف نشطاء البيئة والمدافعين عن حقوق المرأة واضطهاد الفوضويين والشيوعيين والاشتراكيين وقد تجلى ذلك مؤخرا في فضيحة التجسس التي كشف عن أبعادها الخطيرة موظف الأمن القومي الأمريكي السابق سنودن، الذي حصل على اللجوء السياسي في روسيا.
رغم أننا ندعي أننا دعاة ورعاة الديمقراطية وحرية التعبير والرأي وحقوق الانسان فإن الولايات المتحدة الأمريكية ؟ الدولة الاستثناء ؟ لا تزال تلاحق وتسجن الصحفيين الذين يكشفون النقاب عن عورات وفضائح السياسات الأمريكية. لذلك لا يمكننا اليوم أن ندعي بأي حال من الأحوال أننا نتمتع بحريات استثنائية. إن الولايات المتحدة الأمريكية لا تتردد أحيانا في الدوس على حقوق وحريات مواطنيها ، مثلما تفعل اي دولة أخرى من دول العالم الثالث ، وهو ما تجلى خاصة في ظل إدارة الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش.

بوفيصيل
30-11-2013, 08:37 AM
في 12 ايلول 1946 وقع شيء في تاريخ الولايات المتحدة السياسي. ففي ذلك اليوم في خطبة مهمة خطبها هنري والاس وزير التجارة في ادارة الرئيس هاري ترومان في قصر الرياضة الاسطوري في نيويورك (ميديسون سكواير غاردن) فصل نفسه عن التيار المركزي في التفكير الامريكي المعاصر له. وهو التيار الذي تشكل على أثر الهجوم الياباني على بيرل هاربر الذي فاجأ الأمة الامريكية الوادعة في 7 كانون الاول 1941، وافتتح عصرا جديدا من التدخل العسكري والسياسي المتزايد من قبل القوة العظمى في كل أجزاء ومناطق المنظومة الدولية، وذلك لضمان عدم الاخلال بتوازن القوى الدولي ولتنجح الولايات المتحدة في مهمتها لاحباط كل محاولة لضعضعة أسس النظام العالمي الذي نشأ وتم تشكيله بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية.
في خطبة والاس اعترض بقوة على فرض أن العم سام يفترض أن يحمل على كاهله عبء مواجهة تحديات وأخطار في كل مكان، وأن يمنح في الوقت نفسه الحلفاء مساعدة ودعما وإلهاما. وكان القصد خصوصا الى دول صغيرة وجدت نفسها مُعرضة لتهديدات مباشرة أو غير مباشرة.
وحل محل مبدأ الصد لكل محاولة لضعضعة الاستقرار ولا سيما في مناطق عُرفت بأنها حيوية من جهة عسكرية أو سياسية لأمن الولايات المتحدة وشريكاتها وراء البحر ورفاهها، حل محل ذلك في خطبة ‘ميديسون سكواير غاردن’ توجه الحد الأدنى المتمايز. وضاءل هذا التوجه مضاءلة شديدة المقدار المشروع من التدخل الامريكي وراء البحار في الفترة التي تلت انقضاء الحرب.
رأى والاس أنه يجب على الادارة أن تحصر العناية في حماية الوطن وتعزيز مكانة الولايات المتحدة في ساحتها الخلفية بهدي من ‘مبدأ مونرو’ في 1823 لا غير وذلك مع الامتناع عن خطوات صد أو عقاب ما بازاء جهود الاتحاد السوفييتي والدول التابعة له لتغيير الوضع الراهن على الارض. ومع ذلك تحفظ والاس على كلامه وقرر أن هذا التوجه سيتغير اذا وجد تهديد ملموس لأمن الولايات المتحدة ومصالح امريكية حيوية.
برغم فصاحة الخطبة وبرغم أنها أرسلت رسالة عبرت في ظاهر الامر عن شعور بالتعب والاستنفاد لدى الجمهور الامريكي بعد سنوات من الحرب والتضحية، تبين في غضون ايام قليلة أن دعوة والاس لم تحظ بصدى ودعم حقيقي في الساحة السياسية الداخلية، فان فكرة الانطواء في داخل الفضاء الامريكي والعودة في آلة الزمن الى عصر التمايز في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي لم تكن آسرة.
وليس ذلك فقط. فقد بقي الرئيس ترومان مصمما على منع انهيار نظامي الحكم المواليين للغرب في اليونان وتركيا (بواسطة ‘مبدأ ترومان’ في آذار 1947، الذي منح هاتين الدولتين مساعدة عسكرية)، بل إنه عمل في موازاة ذلك على صوغ ‘خطة مارشال’ الطموحة، لاعادة البناء الاقتصادي لغرب اوروبا.
وفيما يتعلق بوالاس نفسه لم يكد يمر ثمانية ايام فقط منذ علا منبر الخطباء في ميديسون سكواير غاردن حتى اضطر وزير التجارة الذائع الصيت الى استقالته من منصبه وترك سريعا صفوف الحزب الديمقراطي. وانتهت محاولته تحدي ترومان في انتخابات الرئاسة في 1948 من جهة اليسار مرشحا عن ‘الحزب التقدمي’، انتهت الى فشل ذريع حينما فاز بـ 2.4 بالمئة فقط من مجموع اصوات الناخبين.
بعد هذا المشهد بـ 67 سنة، يبدو أن جهود وزير التجارة والاس لاقناع الرأي العام والادارة بالتخلي عن المسؤولية عن مصير الحلفاء والسير في سبيل الانسحاب والانطواء في داخل امريكا، تحظى الآن بالتجديد وبأذن صاغية في البيت الابيض.
فسلوك الرئيس الحالي باراك اوباما في الشهرين الاخيرين في السياقين السوري والايراني يشهد على أنه يتجه الى تحقيق حلم والاس التمايزي، في واقع الامر.
إن امبراطورية ستالين الشمولية (التي أصبحت في 1949 قوة ذرية كبرى) تحل محلها طهران الثورية التي تحظى باليد الممدودة لتصالح تاريخي، هي يد اوباما. وبقيت ايران دولة على الحافة الذرية حتى بعد ‘اتفاق جنيف’ مع تمتعها بضعف نظام العقوبات الاقتصادية الشاملة التي صيغت ونُفذت بجهد كبير.
إن رغبة والاس التي لم تترجم الى اجراءات سياسية ما في عصر الحرب الباردة، أصبحت تتشكل في هذه الايام. وتستطيع أن تغير من الأساس بنية النظام الدولي المعاصر وتوزيع القوة بين أجزائه المركزية.
ويصح ذلك خصوصا على الطائفة الاخيرة من القرارات الرئاسية التي تشهد على تعب المادة وعلى عدم استعداد الولايات المتحدة للاستمرار في تشكيل المحيط العالمي باعتبارها القوة العظمى المهيمنة.
إن خيط ارتباط يربط الحرب الأهلية في ليبيا (التي ‘قادت’ الولايات المتحدة فيها المعركة من الخلف) مرورا بالضربة التي لم توجه الى نظام بشار الاسد بعد أن قتل أبناء شعبه بسلاح كيميائي (وتجاوز بذلك جميع الخطوط الحمراء التي حددها اوباما قبل ذلك) وانتهاءا الى الطموح المتقد الى التوصل الى الاتفاق المرحلي مع ايران ولتكن شروطه وعناصره ما كانت. وكل هذه الاجراءات ومثلها طائفة كاملة من القرارات والاعمال التي سبقتها، اشتُقت من مجموعة اعتقادات والاس تلك في 1946 وفي مركزها الخشية من مواجهة التحديات. وإن الشوق اليائس الى ملجأ واستراحة من تعب الحياة والالتزامات الدولية بالهرب المذعور الى داخل البيت، واضح لا ضابط له.
إن اوباما الذي منح التفضيل والتقديم من البدء لقضايا في مجال الاقتصاد والرفاه والاجتماع، والذي أراد قبل كل شيء أن يفصل نفسه عن تراث سلفه جورج بوش القتالي، بلغ الآن الى المرحلة الاخيرة في السباق لتحقيق مجموعة اعتقاداته، لأنه سيصبح في غضون سنة بطة عرجاء غير فعالة (قُبيل بدء الحملة الانتخابية للرئاسة في 2016 حينما سيُنتخب خلف له).
إن حقيقة أن الولايات المتحدة تقترب اليوم بخطوات واسعة الى استقلال طاقة دون أن تكون خاضعة بعد الآن لفضل ملوك وأمراء الخليج، هي باعث آخر لاوباما على تعجيل مسار انفصال الولايات المتحدة من طرف واحد عن منطقة الشرق الاوسط. وهو هاديء ويعلم أن هذا العمل سيتم دون أن يضر ذلك ضررا شديدا بمصالح اقتصادية حيوية.
‘ تمايز وتدخل
اذا كانت تقصيرات واشنطن في الازمة السورية الاخيرة قد أعادت رئيس روسيا فلادمير بوتين الى مركز مسرح الشرق الاوسط، وأسهمت بذلك في جعله وسيطا أعلى عظيم التأثير، فان النتائج المباشرة للازمة الذرية قد تكون تحسين منزلة ايران وتأثيرها. واذا حدث ذلك وحينما يحدث فسيكون على حساب المحور الموالي للغرب في المنطقة ولا سيما في منطقة الخليج.
توجد مفارقة ساخرة غير قليلة كامنة في حقيقة أن اوباما في بدء طريقه في البيت الابيض هو الذي أراد أن يُنشيء حلفا سنيا واسعا مُشكلا يضمن استقرار المنطقة في مواجهة التهديد الايراني، على أثر إتمام الانسحاب الامريكي الذي كان متوقعا من الجبهة العراقية. واليوم بعد بدء تلك المبادرة بخمس سنوات اختفت وصمتت وحل محلها المراودة المصيرية للرئيس حسن روحاني التي أثمرت ‘اتفاق جنيف’ الذي أفضى الى امتعاض الملك السعودي وشركائه وخيبة أملهم في جبهة الخليج وفي القاهرة ايضا.
لا ينبغي بالطبع أن نستنتج من كل ما قيل آنفا أن كل عمليات الولايات المتحدة الاستراتيجية والعسكرية منذ نشأ الواقع ذو القطبين، كانت ناجحة وفعالة. فقد اخطأت ادارة ترومان مثلا خطأ شديدا حينما استقر رأيها على توسيع الحرب في كوريا وأدت باخفاقاتها الى تدخل كارثي للصين الشيوعية في المعركة. وتحولت الحرب المتصاعدة في فيتنام ايضا الى مأساة امريكية أحدثت انقساما اجتماعيا عميقا وانشأت صدمة لم تزل الى الآن زوالا كاملا من الذاكرة الجماعية.
ويُقال الشيء نفسه ايضا فيما يتعلق بحرب العراق الثانية التي نشبت في 2003 وأدت بادارة بوش الابن الى طريق بلا مخرج. ومع ذلك وبرغم الاخفاقات غير القليلة التي صاحبت مسيرة التدخل والمشاركة الامريكية كالظل القاتم، ينبغي ألا نتجاهل النتائج المباركة الكثيرة التي نشأت على أثر تحولها الى قوة عظمى فعالة.
في حين فضلت امريكا المتمايزة في فترة العقدين اللذين فصلا الحربين العالميتين بعضهما عن بعض، أن تجلس على الجدار وتراقب تزايد قوة المانيا النازية، اختلف الامر بعد أن بلغ كابوس ‘الرايخ الذي عمره ألف سنة’ الى نهايته.
منذ أن صمتت المدافع في 1945 الى فترة ولاية اوباما الثانية، أدى غوليفر الامريكي دورا حيويا حاسما لا في اعادة بناء اوروبا المحطمة الاقتصادية (خطة مارشال في حزيران 1947 كما قلنا آنفا) بل في استقرار النظام الدولي في مواجهة جملة التحديات التي اعترضته.
فعلى سبيل المثال نجح القطار الجوي الذي نظمه ترومان في صيف 1948 (ورئيس الوزراء البريطاني كليمنت آتلي)، في أن ينقل الى غرب برلين المحاصر مددا ضروريا مدة سنة، وفي الايحاء بصورة التصميم والالتزام للدفاع عن الجيب الغربي في داخل المنطقة المحتلة السوفييتية.
وبعد ذلك بـ 13 سنة عمل الرئيس جون كنيدي هو ايضا بصرامة وبلا هوادة ليضمن عدم تعريض مكانة الغرب في برلين للخطر وذلك بعد انشاء السور في المنطقة المحتلة الشرقية. وقد أرسل كنيدي لتلك الغاية قوة مقاتلة من المانيا الغربية الى برلين الغربية.
والى ذلك، استعملت ادارات الولايات المتحدة الى جانب الوقوف مع شريكات في ازمة وفي اوقات ازمة، طائفة واسعة من الوسائل الاقتصادية والتقنية المتنوعة كانت ترمي الى التأثير في النسيج الاجتماعي وتشجيع مسارات النمو والتحديث والانتقال الى اقتصاد السوق، في أجزاء واسعة من العالم الثالث. وهكذا حملوا معهم بشرى التكنولوجيا الامريكية الى مناطق آسيا والشرق الاوسط وافريقيا وامريكا اللاتينية. ففي مطلع ستينيات القرن الماضي مثلا زاد الرئيس كنيدي جدا ما أُرسل من الفوائض الزراعية في اطار خطة ‘غذاء لأجل السلام’. وانشأ سلاح السلام الذي أُرسل في اطاره متطوعون الى مراكز فقر وعُسر في أنحاء العالم الثالث لمنح خدمات تربية ومساعدة تقنية.
حتى لو كان بعض هذه المبادرات قد رمى الى الدفع قدما بأهداف سياسية واستراتيجية واضحة، فانه ينبغي عدم التقليل من أهميتها وقيمتها الاقتصادية والاجتماعية. ويبدو اليوم في مقابل ذلك بسبب روح التمايز التي تهب من البيت الابيض أنه يمكن القضاء على العصر الذي أدت فيه ادارات الولايات المتحدة دورا مركزيا جدا في اعادة البناء الاقتصادي للمحيط الدولي.

””” يُخلون المكان

قلنا من قبل إن حلم وزير التجارة والاس المنسي أخذ يتحقق أمام أعيننا وإن لم يكن ذلك في سياقه الأصلي. فقد حلت الآن محل الولايات المتحدة بصفتها القوة العظمى ورأس الهرم العالمي، ولايات متحدة مختلفة. فهي كيان جديد أصبح منذ 2009 أكثر إنكارا لواجب قيادته ورسمه بوضوح للخطوط الحمراء التي يفترض أن تفصل بين ما يحل وما لا يحل.
وهكذا نشهد ايضا الحرص على اسلوب عمل متعدد الأطراف في سياسة اوباما الخارجية والامنية مع امتناع عن اجراءات من طرف واحد كانت تميز سلوك الولايات المتحدة في اثناء ولايات أكثر رؤسائها. وحل محلها اسلوب عُبر عنه فيما يتعلق بالحرب الأهلية في ليبيا وبالازمة الذرية الايرانية.

بوفيصيل
30-11-2013, 08:37 AM
إن هذا الحرص الزائد على العمل في داخل اطار متعدد الأطراف (فيه ما يضائل مجال الحيلة الامريكي)، والمصحوب بخوف عميق من ‘تورط’ آخر كما كان في فيتنام أو العراق أو افغانستان، جعل العملاق الامريكي نمرا من ورق، ولم يكن ذلك لضرورة وإنما لتعب ولضعف الرأي.
وهكذا فُتح الباب لقوى ولاعبات اخرى كروسيا التي فقدت قبل عقدين فقط أكثر ممتلكاتها وهي تستطيع الآن أن تعود لتدخل ميدان القوى العظمى مطالبة بالتاج. وصيغ من جديد في الوقت نفسه التفكير المبدئي الرسمي الذي يحصر العناية الآن بصورة حصرية تقريبا في التحدي الصيني باعتباره مصدر تهديد في المستقبل لأمن الولايات المتحدة (ويوجب إظهار قوة ميدانية). وفي مقابل ذلك تضائل الولايات المتحدة من قيمة مراكز خطر محتملة اخرى.
والنتيجة المجتمعة من هذه الأمزجة العامة وخطوط السياسة المشتقة منها تشير اذا الى نهاية العصر الامريكي والى تحقق حلم هنري والاس في الواقع الحالي. والحديث بالطبع عن مسار مقلق يثير الخوف. إن الفراغ الذي نشأ قد يفضي الى زيادة قوة قوى لا تهديها قيم الديمقراطية والاستقرار. وقد تضعف ايضا قوانين اللعبة الدولية التي صيغت وشُكلت بوحي من الهيمنة الامريكية حينما كانت في ذروة قوتها. ويحتمل لذلك أن تتسع هوامش الغموض وعدم اليقين التي هي غير واضحة أصلا وتغلف المنظومة كلها.
قبل نحو من مئة سنة جرى على الولايات المتحدة تحول مصيري من قطب التدخل العسكري في الحرب العالمية الاولى (وهي التي رفعت راية انشاء نظام جديد وديمقراطي في اوروبا) الى قطب الانطواء والتمايز الذي عبر عن خيبة أمل الأمة واحباطها بسبب تحطم الحلم على ارض الواقع العصي.
‘ ويُسأل الآن هل سينشأ عن الحركة الحالية للرقاص من قطب التدخل حيث كان يقف منذ تحولت الولايات المتحدة الى القوة العظمى الى قطب التمايز، نتيجة مدمرة هذه المرة؟ وهل ستسترجع ذكرى الماضي وبخاصة حقيقة أنها أنكرت ضرورة الوقوف الى جانب شريكاتها الاوروبيات في مواجهة العاصفة التي هددت باسقاط النظام القائم؟ وهل ستستجيب للتحدي حينما تتعرض لتهديد ملموس فقط؟.

البروفيسور ابراهام بن تسفي
اسرائيل اليوم 29/11/2013

بوفيصيل
14-12-2013, 01:08 AM
السفير / سمير كرم
دخلت أميركا عدة مراحل تراجع منذ نهاية الحرب العالمية الثانية التي خرجت منها منتصرة.
هل أميركا الآن في مرحلة أفول؟ فما هي الأدلة على هذا الأفول؟
لعل اقوى الأدلة يكمن في نتائج استطلاع الرأي الذي جرى أخيرا على ايدي معهد «بيو» الاميركي المتخصص في استطلاعات الرأي العام وشمل أكثر من ألفي شخص. تقول النتائج إن غالبية من الاميركيين بلغت 53 في المئة رأوا ان الولايات المتحدة اصبحت تلعب دوراً أقل أهمية وقوة على صعيد العالم، مقارنة بالعقد السابق. وقد رأت نسبة وصلت الى 70 في المئة من المشاركين في هذا الاستطلاع ان القدر من الاحترام الذي يبديه العالم تجاه الولايات المتحدة قد تراجع ليصل الى نسبة تساوي ما كان عليه في نهاية ولاية الرئيس الاميركي السابق جورج بوش الإبن. وبالنسبة نفسها تراجع الاحترام الذي كانت تحظى به الولايات المتحدة في العالم. وأن نسبة 52 في المئة من الاميركيين ترى انه أصبح يتوجب على الولايات المتحدة ان تهتم بشؤونها الخاصة على الصعيد العالمي، وأن تدع الدول الأخرى لتدبر امورها على افضل وجه يمكنها إحرازه.
والواقع ان هذه ليست المرة الاولى التي أصاب فيها الهبوط نظرة الاميركيين الى وطنهم. ولكنها المرة الاولى التي سجل فيها هذا الهبوط نسبة السبعين في المئة. هذه النتيجة تدق ناقوس خطر جسيم. ولا يمكن القول إن الولايات المتحدة ستعبر هذه المرة أيضاً هذا الانحدار لتعود فتسجل نتائج افضل او افضل بكثير، كما كان يحدث في الماضي. فهذا الهبوط بهذه النسبة العالية يرتبط بنتائج أخرى ذات دلالات مماثلة وتتعلق بشؤون أخرى غير ما يعتقده الاميركيون بشأن نظرة العالم الخارجي الى بلدهم «السوبر». ولعل أهم هذه النتائج الأخرى ما دل عليه استطلاع أجراه أيضاً «مركز بيو للأبحاث» من أن الاميركيين أصبحوا يرون هوة آخذة في الاتساع بين الأغنياء والفقراء الاميركيين. إن مسألة اتساع هوة عدم المساواة بين الأغنياء والفقراء في الولايات المتحدة تشغل الاميركيين الآن أكثر مما شغلتهم من قبل. إن غالبية عالية تبلغ 65 في المئة بين الاميركيين ـ كما تؤكد هذه الدراسة - أصبحت تدرك ان هذه الهوة تزداد اتساعاً وأنها أصبحت بالنسبة اليهم عادة مألوفة. بينما لم تزد النسبة عن 20 في المئة بين اولئك الذين يرون ان الهوة باقية كما كانت منذ عشر سنوات. بل إن 7 في المئة فقط يذهبون الى ان الهوة بين الأغنياء والفقراء الاميركيين تتضاءل عما كانت.
اعترف الرئيس الاميركي باراك اوباما بهذه الحقيقة وقال إن الهوة المتزايدة بين الأغنياء والفقراء آخذة في الاتساع. ولعل اعتراف رئيس أميركا بهذه الحقيقة يكون الاول من نوعه بهذه الصراحة. وهو يضاف الى القول السائد الآن في الولايات المتحدة بأن هناك دولاً أخرى في العالم تنافس الولايات المتحدة، ليس فقط من ناحية الهوة بين الأغنياء والفقراء، إنما أيضاً من ناحية اختلاف نظرة الأميركيين الأغنياء عن الأميركيين الذين يحتلون مركزاً وسطاً بينهم. وأما الذين يعتقدون ان الأغنياء هم أكثر شراهة فتبلغ نسبتهم 55 في المئة.
لقد ارتفعت مداخيل الأغنياء وتراجعت مداخيل الفقراء ومتوسطي الدخل الى اقصى ما يمكن تصوره. وإن الأبحاث التي تجرى بشأن الاعلام والمنظمات الاعلامية الاميركية اظهرت (غلوبال ريسيرش في 5/12/2013) أن وسائل الإعلام الأميركية وصلت الى اقتناع تام بأنها «تواجه تحدياً يتمثل في ان الوقت قد حان لقول الحقيقة بشأن القضايا الأساسية للحرب والسلام والامبريالية والمساعدات (للبلدان الفقيرة) للتخلص من الأزمات المالية... ومشكلات تدمير البيئة والزيادة في العجز في ميدان العدالة الاجتماعية والحريات المدنية، والركود الاقتصادي وتراجع حقوق العمال والإحباط السياسي في اميركا الشمالية».
ولم يفت الاعلام الاميركي ان يؤكد ان الرئيس اوباما انما يضع نفسه في موقع معارض لعدم المساواة في اميركا، على الرغم من انه «ترأس خلال السنوات الخمس الاخيرة حالة من النمو غير مسبوقة في درجة نمو اللامساواة الاجتماعية. إن التيارات المتشابكة لانعدام المساواة وتناقص الحركة تفرض خطراً على الحلم الاميركي. والحلم الاميركي هو طريقتنا في الحياة وما نمثله في انحاء الكرة الارضية». وتعبر هذه النشرة عما سبق ان سقناه من امثلة التعبير عن حالة التراجع الاميركية بقولها «إن الحقيقة الفعلية هي أنه خلال الفترة التي قضتها هذه الادارة في الحكم فإن 95 في المئة من المكاسب في مجال المداخيل قد كانت من نصيب الواحد في المئة الأغنى من الاميركيين. إن أي فرد يملك احتراماً فاضلا لوجهات نظر الناس العاديين انما يجد نفسه مضطراً لشرح كيف حدث هذا على مرأى منه. ولكن اوباما لا يفعل شيئا من هذا. إنه يعلن بدلا من ذلك انه خلال العام القادم وللزمن الباقي من رئاسته ستركز إدارته على محاربة اللامساواة». ويكفي في هذا المجال ان نذكر ان اسرة واحدة من اسر الواحد في المئة الذي يحتل القمة الاميركية من حيث مستوى المداخيل تحقق دخلا يساوي 288 ضعف الأسرة العادية (...).
انما الحقيقة هي ان اميركا خرجت من القرن الماضي - أي منذ نحو 13 عاماً ـ في حالة مالية بالغة الصعوبة من شدة تدنيها. وتجد نفسها الآن مدينة بما يتجاوز 17 تريليون دولار. ولكن الهيئات التي اوصلت الولايات المتحدة الى هذا المستوى المتدني مالياً - وفي مقدمتها «البنتاغون» - لا تزال مصرة على نمطها المروع من الإنفاق السنوي.
هذه الارقام تمثل في الواقع الفعلي حقيقة ما وصلت اليه الولايات المتحدة من ثراء داخلي لا يمكن في وجوده تصور المدى الذي بلغته مديونية الولايات المتحدة للعالم الخارجي.
إن اقتصادياً اميركياً مرموقاً ـ هو مايكل سنايدر- كتب قبل ايام (في 29/11/2013) بحثاً مطولا عن «40 إحصائية حول سقوط الاقتصاد الاميركي الذي لا يمكن لأحد موغل في البلاهة ان يصدقه». يقول إن حجم الدين الاميركي لم يكن يتجاوز تريليون دولار في العام 1980 وهو يتجاوز اليوم رقم 17 تريليون دولار. وخلال الفترة الاولى من رئاسة اوباما جمّعت الحكومة الاميركية الاتحادية اكثر من الديون التي جمعها اول 42 رئيساً اميركياً مجتمعين. والدين العام الاميركي يساوي الآن اكثر من 23 مثل ما كان عندما اصبح جيمي كارتر رئيساً. ويقول سنايدر مخاطباً المواطن الاميركي «لو أنك بدأت تسدد الدين الاميركي الجديد وحده الذي راكمته إدارة اوباما أثناء حكمها بمعدل دولار واحد كل ثانية، فإنك ستستغرق اكثر من 184 الف سنة لكي يتم التسديد (...).