المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : السنة



عبد الواحد جعفر
09-10-2013, 12:27 PM
بسم الله الرحمن الرحيم

السُّنّة
لم يكن الهجوم على السنة الشريفة جديداً بل هو هجوم متجدد. فالحاقدون على الإسلام يدركون أن مهاجمة القرآن لن تحقق لهم أية نتائج يرجونها في صرف المسلمين عن إسلامهم لانعدام إصغاء المسلمين للدعوات التي تهاجم القرآن مباشرة أو حتى السنة المطهرة، ولأن أعداء الإسلام يدركون أنهم لن يجنوا أية نتائج من مهاجمة القرآن مباشرة أو التشكيك فيه بل عادة ما تكون النتائج عكس ما يتمنون، ولذلك فقد عمدوا إلى التشكيك في السنة النبوية المطهرة تارة لأنها لم تدون مباشرة، وأخرى بالطعن بالرواة وأمانتهم وصدقهم وما إلى ذلك من دعاوى. وتحيلاً منهم للنفاذ إلى ما يريدون فقد تسترت معظم الدعوات المشبوهة بدعوى الإلتزام بالقرآن والحفاظ عليه ليتسنى لهم أن تنال دعواهم شيئاً من المصداقية وهم يوجهون سهامهم المسمومة إلى المصدر الثاني للتشريع عند المسلمين. وإحكاماً للكيد فقد كانت أدواتهم لبث سمومهم عادة من المسلمين أو ممن يتسترون بالإسلام، أما المسلمون منهم فهم بين جاهل، أو طالب شهرة، أو متستر من انحراف فكري، أو مخدوع بدعوى الأسلوب العلمي، أو بحب القرآن والتمسك به، أو بحب آل بيت الرسول صلى الله عليه وسلم. أما المتسترون بالإسلام فكان أكثرهم ضرراً بقايا الموتورين من هدم الامبراطورية الفارسية واليهود والعلمانيين في عصرنا الحاضر.
ومهاجمة السنة في العصر الحاضر بدأت مع ظهور الإستشراق واستمرت من خلال أبواقهم من العلمانيين.

مفهوم السنة
السنّة هي كلام الرسول صلى الله عليه وسلم وأعماله وسكوته، وهي واجبة الاتباع كالقرآن، والمقصود بكلامه، هو ما روي عنه صلى الله عليه وسلم من أقوال، كقوله عليه الصلاة والسلام "إنما الأعمال بالنيات". أما أعماله، فهو ما روي عنه صلى الله عليه وسلم من سنة عملية، ككيفية أداء الصلاة وكيفية أداء مناسك الحج، فإنه روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه فعل كذا، ووقع منه كذا.. وهكذا. أما سكوته، فهو ما وقع أفعال بحضرته صلى الله عليه وسلم وسكت عنها إقراراً لها، كما سكت عن الفريقين اللذين اجتهدا في موضوع صلاة العصر في بني قريظة، فإنه صلى الله عليه وسلم سكت إقراراً لفعل الفريقين.

مكانة السنة الشريفة من حيث الاستدلال بها
القرآن وسنة النبي من حيث وجوب اتباع ما جاء فيهما دليلان شرعيان، والسنة كالقرآن في هذا الموضوع، ولهذا لا يجوز أن يقال: عندنا كتاب الله نأخذ به، لأن ذلك يفهم منه ترك السنّة، بل لا بد من أن تقرن السنّة بالكتاب، فتؤخذ السنة دليلاً شرعياً كما يؤخذ القرآن، إذ يجب العمل بالخبر الذي جاءت في السنة متى تحققت شروط قبوله رواية ودراية. ولا يجوز أن يصدر من المسلم ما يُشعِر بأنه يكتفي بالقرآن دون السنة. وقد نبه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ذلك، فقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يوشك الرجل منكم متكئاً على أريكته يُحدَّث بحديث عني فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدناه من حلال استحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه، ألا وإن ما حرم رسول الله مثل الذي حرم الله"، وقال: "يوشك أحدكم أن يقول: هذا كتاب الله ما كان فيه من حلال أحللناه، وما كان فيه من حرام حرمناه، ألا إن من بَلَغه عني حديث فكذب به فقد كذب الله ورسوله والذي حدثه". ومن هنا كان من الخطأ أن يقال: نقيس القرآن بالسنة وإن لم يطابقه تركناها؛ لأن ذلك يؤدي إلى ترك السنة إن جاءت مخصصة للقرآن أو مقيدة له أو مفصلة لمجمله، إذ يظهر أن ما جاءت به السنة لا يطابق القرآن، أو ليس موجوداً في القرآن، وذلك كنصوص السنة التي جاءت تُلحِق الفروع بالأصل، فإن ما جاء فيها من أحكام لم يأت بالقرآن، لا سيما وأن كثيراً من الأحكام المفصَّلة لم تأت بالقرآن، وجاءت بها السنة وحدها، ولهذا لا تقاس السنة على القرآن فيقبَل ما جاء به ويُرفض ما عداه. بل الأمر في ذلك أنه إذا جاء نص من السنة مناقض لما جاء في القرآن قطعي المعنى، فإن هذا النص يكون مردوداً دراية أي متناً؛ لأن معناه ناقضٌ القرآن. وذلك مثل ما روي عن فاطمة بنت قيس أنها قالت: "طلقني زوجي ثلاثاً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فلم يجعل لي سكناً ولا نفقة"، فهذا الحديث مردود لأنه يناقض القرآن فهو يعارض قوله تعالى: "أسكنوهن من حيث سكنتم من وُجدِكم"، فيُرَد حينئذ النص لأنه عارض القرآن القطعي الثبوت القطعي الدلالة. أمّا إذا لم يعارض يقتصر على أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يشمل الأفعال التي فعلها والتقريرات التي قررها.

مفهوم الرواية والدراية في علم الحديث
علم الحديث هو علم بقوانين يُعرف بها أحوال السند والمتن، وغايته معرفة الحديث الصحيح من غيره. وهو قسمان: علم الحديث الخاص بالرواية، وعلم الحديث الخاص بالدراية. أمّا الخاص بالرواية فيشتمل على نقل أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته وصفاته، وروايتها وضبطها وتحرير ألفاظها؛ أي هو العلم الذي يعرف به حقيقة الرواية وشروطها وأنواعها وأحكامها، وحال الرواة وشروطهم وأصناف المرويات وما يتعلق بهم. أمّا الخاص بالدراية فيُعرف به المعنى الذي تضمنه الحديث من حيث مناقضته للنص القطعي.

شروط قبول الحديث
يُقبل خبر الآحاد إذا استكمل شروطه رواية ودراية. أمّا شرط قبوله رواية فهي أن يكون راوي الحديث مسلماً بالغاً عاقلاً عدلاً صادقاً، ضابطاً لما يسمعه، ذاكراً له من وقت حمله إلى وقت أدائه.
وقد بين علماء الأصول وعلماء مصطلَح الحديث شروط الرواية بالتفصيل، وبين تاريخ رجال الحديث ورواتهم، كل راوٍ ما يتحقق فيه من هذه الصفات مفصَّلاً.
وأمّا شروط قبول خبر الآحاد دراية فهي أن لا يعارِض ما هو أقوى منه من آية أو حديث متواتر أو مشهور، مثل ما رُوي عن فاطمة بنت قيس أنها قالت: "طلَّقني زوجي ثلاثاً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم فلم يجعل لي سكناً ولا نفقة"، فهذا الحديث يعارِض قوله تعالى: {أسكنوهن من حيث سكنتُم مِن وُجدِكم}، ويعارِض الحديث المشهور وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "للمطلقة النفقة والسكنى ما دامت في العدّة"، ولذلك يجب ردّه ولا يجوز العمل به.

شروط رد الحديث
يُرد الحديث دراية من حيث المعنى، ورواية من حيث السند. فإذا رُدّ رواية أو رُدّ دراية، سقط اعتباره، وسقط الاحتجاج به. أما رده رواية؛ أي من جهة السند، فهو إما بسبب حذف من السند ينتج عنه عدم تعديل المحذوف، أو بسبب طعن في راوٍ من الرواة أو بسبب ركاكة الحديث. أما رده دراية فهو بمخالفته للمقطوع من القرآن أو الحديث أو الإجماع أو الوقائع المحسوسة.

أخبار الآحاد دليلٌ في الأحكام الشرعية، وليست دليلاً على العقيدة
الدليل على العقيدة لا بد أن يكون دليلاً يقينياً مقطوعاً بصحته، ولذلك لا يصلح خبر الآحاد لأن يكون دليلاً على العقيدة، ولو كان حديثاً صحيحاً رواية ودراية. أمّا الحكم الشرعي فيكفي أن يكون دليله ظنياً. ولذلك فإنه كما يصلح أن يكون الحديث المتواتر دليلاً على الحكم الشرعي كذلك يصلح أن يكون خبر الآحاد دليلاً على الحكم الشرعي. إلاّ أن خبر الآحاد الذي يصِح أن يكون دليلاً على الحكم الشرعي هو الحديث الصحيح والحديث الحسن. وأمّا الحديث الضعيف فلا يصلح أن يكون دليلاً شرعياً مطلقاً. وكل من يستدل به لا يعتبر أنه استدل بدليل شرعي. إلاّ أن اعتبار الحديث صحيحاً أو حسناً إنّما هو عند المستدِل به إن كانت لديه الأهلية لمعرفة الحديث، وليس عند جميع المحدِّثين. ذلك أن هنالك رواة يُعتبرون ثقة عند بعض المحدِّثين، ويُعتبرون غير ثقة عند البعض، أو يُعتبرون من المجهولين عند بعض المحدِّثين، ومعروفين عند البعض الآخر. وهناك أحاديث لم تصِح من طريق وصحّت من طريق أخرى. وهنالك طرق لم تصح عند البعض وصحّت عند آخرين. وهناك أحاديث لم تعتبر عند بعض المحدِّثين وطعنوا بها، واعتبرها محدِّثون آخرون واحتجوا بها. وهناك أحاديث طعن بها بعض أهل الحديث، وقبِلها عامة الفقهاء واحتجوا بها. فإلزام الناس باعتبار الحديث صحيحاً أو حسناً برأي من الآراء أو بجميع الآراء هو إلزام غير صحيح، ومخالِف لواقع الأحاديث. فكما أنه لا يجوز الإسراع بقبول الحديث دون النظر في صحته، فكذلك لا يجوز الإسراع بالطعن في الحديث وردّه لمجرد أن طعن أحد المحدِّثين في راويه، لاحتمال أن يكون مقبولاً عند راو آخر، أو لمجرد أن ردّه أحد المحدِّثين، لاحتمال أن يكون قبِله محدِّث آخر، أو لأن المحدِّثين ردّوه، لاحتمال أن يكون قد احتجَ به الأئمة وعامة الفقهاء. فلا يُتسرع بالطعن في الحديث وردّه إلاّ إذا كان راويه معروفاً بأنه مطعون فيه عامة، أو كان الحديث مردوداً من الجميع، أو لم يحتج به إلاّ بعض الفقهاء الذين لا دراية لهم بالحديث، فإنه حينئذ يُطعن في الحديث ويُرَد. فيجب التأني والتفكير في الحديث قبل الإقدام على الطعن فيه أو ردّه.
أحاديث السيرة تعتبر دليلاً شرعياً إذا صحت رواية ودراية عن النبي صلى الله عليه وسلم
ذلك أن السيرة مادة من مواد التشريع، ولذلك تعتبر جزءاً من الحديث، وما صحّ فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم رواية ودراية يعتبر دليلاً شرعياً، لأنه من السنّة.

عبد الواحد جعفر
09-10-2013, 12:29 PM
أمثلة تطبيقية على رد الحديث دراية
هناك أمثلة كثيرة على رد الحديث من حيث الرواية، فقد رد الفقهاء والمحدثون الأحاديث الضعيفة التي جاء في سندها من هو مجروح لا يقبل حديثه، أو تلك التي في سندها علة، أو كان شاذاً، وأغلب رد الحديث كان من هذا القبيل؛ أي يرد رواية. أما رد الأحاديث دراية، فهو قليل، إذ كان الفقهاء والمحدثون يعمدون إلى التوفيق بين الحديث وبين ما يعارضه من نص قطعي، حتى ولو كان التوفيق لا يحتمله النص، أو كان احتمالاً بعيداً جداً، وذلك في رأيهم من قبيل الحرص على سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد رأينا تأويلات غريبة عجيبة عند بعضهم، عملاً بقاعدة "إعمال الدليلين أولى من إهمال أحدهما"، ولذلك سنعرض لبعض الأمثلة على رد الحديث دراية، فمن ذلك مثلا:
رد خبر ابن عباس: "أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد بالنجم وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس":
أخرج البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما: «أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد بالنجم وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس» فإن هذا الحديث يرد دراية لمناقضته القطعي من القرآن. أما وجه كونه يرد دراية فمن وجهتين:
الأول: أنه يعارض نص القرآن القطعي لأن القرآن يخبرنا أن المشركين قد كبر عليهم ما يدعوهم إليه الرسول، قال تعالى: {كبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} وهذا الحديث يقول أنهم سجدوا لما سمعوا القرآن وسجودهم يناقض كونه كبر عليهم ما يدعوهم الرسول إليه. والله تعالى أخبرنا بأن المشركين إذا تلي عليهم القرآن لا يسجدون، قال تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمْ الْقُرْآنُ لاَ يَسْجُدُون} وهذا الحديث يقول أنهم سجدوا حين تلي عليهم القرآن. والقرآن يخبرنا أنهم ينفرون من السجود لله، قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَانِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَانُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا} وهذا الحديث يقول لما تلا عليهم القرآن سجدوا. فهذا التناقض بين هذا الحديث وصريح القرآن يحتم رد الحديث دراية.
أما الوجه الثاني: فإن عبد الله بن عباس الذي يقال أنه روى هذا الحديث، كان في الوقت الذي تنسب فيه هذه القصة للرسول وهو قبل الهجرة الثانية إلى الحبشة في أول البعثة في مكة، كان صغيراً على فرض أنه كان مولوداً فعلى فرض حصول القصة فإن ابن عباس لم يحضرها قطعاً. وشراح هذا الحديث يقولون أن ابن عباس لم يحضر القصة قطعاً. وعلى ذلك يتعارض الحديث مع واقع القصة على فرض حصولها. ولا يقال هنا أن ابن عباس رواها عن الرسول فيكون الرسول قد أخبره بها مشافهة أو بواسطة. لأن ابن عباس لا يروي أن الرسول قال. وإنما يروي حسب رواية الحديث عن مشاهدته فيقول: (أن النبي سجد وسجد معه المسلمون والمشركون) وعليه فلا يحتج بهذا الحديث.
رد خبر ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال لأعرابي سأله عن آية {والذين يكنزون الذهب والفضة}: "من كنزها فلم يؤد زكاتها فويل له، إنّما كان هذا قبل أن تنزل الزكاة، فلمّا نزلت جعلها الله طُهراً للأموال":
روى البخاري في صحيحه أن ابن عمر رضي الله عنهما قال لأعرابي سأله عن آية {والذين يكنزون الذهب والفضة}: "من كنزها فلم يؤد زكاتها فويل له، إنّما كان هذا قبل أن تنزل الزكاة، فلمّا نزلت جعلها الله طُهراً للأموال" وخبر ابن عمر هذا لا يقال إنه تخصيص للقرآن بالسنة أو نسخ للقرآن بالسنّة، ولكن هذا الخبر هو إخبار صحيح عن ذلك النسخ، فهو من باب نسخ القرآن بالقرآن، لأن الذي نسخ القرآن هو القرآن لأن الزكاة فُرضت بالقرآن وليس بالسنّة، فالواجب أخذه لأنه خبر صحيح يروي أن الآية منسوخة بأخرى، فيكون تحريم الكنز منسوخاً. فما أُخرجت زكاته جاز كنزه.
والجواب على ذلك من أربعة أوجه:
أحدها: أن هذا خبر آحاد يروي أن الآية قد نُسخت، فينطبق عليه ما ينطبق على أي خبر آحاد من أنه ظني وما جاء في الآية قطعي، والقطعي مرجَّح على الظني فيكون نص الآية مرجَّحاً لعدم نسخها على نسخها، فيُعمل بعدم النسخ لأنه الأرجح ويُرد ادعاء النسخ.
ثانيها: أن الإخبار بنسخ الآية هو مثل رواية الحديث الذي يتضمن حكماً ينسخ حكماً آخر جاء في آية من القرآن، فكما أن الحديث لا يَنسخ الآية إذا تضمن ما ينسخها أو ما يفيد نسخها، فكذلك خبر ابن عمر لا ينسخ آية من القرآن بمجرد إخباره أنها نُسخت.
ثالثها: أن ابن عمر لا يُخبر عن الآية بأنها نسخت إخباراً عن الرسول، أي لا يروي ابن عمر عن الرسول بأنه عليه السلام قال إن الآية نُسخت، وإنما هو يعطي رأيه بأن الآية قد نُسخت، إذ قد سأله الأعرابي عن الآية فأجاب من عنده أنها نُسخت ولم يسند ذلك للرسول بأنه عليه السلام أخبره أنها نُسخت، فيكون رأياً لابن عمر بأن الآية نُسخت بالزكاة، أي فهماً لابن عمر بأن الزكاة نسخت هذه الآية، وليس حديثاً عن الرسول، ورأي ابن عمر وفهمه لا يعتبر دليلاً شرعياً، لأن رأي الصحابي لا يعتبر دليلاً شرعياً على حكم شرعي فكيف يعتبر ناسخاً للقرآن؟
رابعها: إن الزكاة فُرضت في السنّة الثانية للهجرة، وآية تحريم الكنز نزلت في السنّة التاسعة للهجرة، فكيف يَنسخ حكم الزكاة المتقدم الآية التي نزلت بعده بسبع سنين. ولذلك يُرد هذا الخبر دراية.
فهذه الأوجه الأربعة لا شك أنها كافية لإسقاط الاستدلال بهذا الحديث ولإبطال ادعاء أن الآية منسوخة، وعليه لا يصلح هذا الحديث دليلاً على جواز الكنز إذا أُخرجت زكاته.
وبناء على ذلك كله يرد هذا الحديث دراية لمخالفته للقطعي من القرآن الكريم.
رد حديث عبد الله بن السائب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المزارعة وأمر بالمؤاجرة وقال "لا بأس لها":
أخرج مسلم في صحيحه عن عبدالله بن السائب قال دخلنا على عبدالله بن معقل فسألناه عن المزارعة؟ فقال زعم ثابت: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المزارعة وأمر بالمؤاجرة وقال "لا بأس لها".
وهذا الحديث يعارض حديثاً آخر رواه مسلم، حيث جاء فيه "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كراء الأرض"، فقوله: "وأمر بالمؤاجرة" عام يشمل كل مؤاجرة، وقوله: "عن كراء الأرض" عام كذلك، فيُرجح النهي ويُرد حديث الأمر؛ لأن النصين إذا تعارضا يرجح النهي على الأمر لقوله عليه السلام: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك"؛ ولذلك يرد هذا الحديث عملا بقاعدة أن النصين إذا تعارضا يرجح النهي على الأمر.
رد الأحاديث الواردة في سبب نزول آية {ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض} من أن النبي صلى الله عليه وسلم شاور أصحابه في أمر أسرى بدر:
أخرج مسلم في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر وعمر "ما ترون في هؤلاء الأسارى ؟" أي أسرى بدر، فهذا الحديث الوارد في سبب نزول قوله تعالى {ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض... إلى قوله ...فكلوا مما غنمتم حلالاً طيباً} وغيره من الأحاديث والقصص الواردة في سبب نزول هذه الآية، فإنها كلها أخبار آحاد لا تصلح دليلاً على العقيدة، وجواز الاجتهاد في حق الرسول وعدم جوازه من العقيدة. وفوق ذلك فإنها تعارض القطعي وهو النص الصريح الوارد في سورة محمد في حكم الأسرى وكونه كان نازلاً على الرسول. والأحاديث تدل على أنهم هم الذين أعطوا رأيهم. وأيضاً فإن حكم الأسرى حكم شرعي ينتظر فيه الرسول الوحي، ولا يشاور أصحابه فيه ثم يعمل بما يشيرونه فينزل الوحي فيصصحه، لأنه يجعل تشريع بعض الأحكام بالشورى لا بالوحي. ولهذا فإن جميع الأحاديث الواردة في هاتين الآيتين تُرَد دراية وتسقط عن اعتبار الاحتجاج.
رد الأحاديث الواردة في سبب نزول قوله تعالى {ولا تُصَلِّ على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون} والتي تدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم اجتهد في أمر الصلاة على رأس المنافقين، فيمنعه عمر رضي الله عنه من ذلك، فنزلت هذه الآية تصحح خطأ اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم:
أخرج البخاري في صحيحه عن نافع عن ابن عمر أن عبد الله بن أبي لما توفي جاء ابنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أعطني قميصك أكفنه فيه وصل عليه واستغفر له . فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم قميصه فقال "آذني أصلي عليه". فآذنه فلما أراد أن يصلي عليه جذبه عمر رضي الله عنه فقال أليس الله نهاك أن تصلي على المنافقين؟ فقال "أنا بين خيرتين قال {استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم}" . فصلى عليه فنزلت {ولا تصل على أحد منهم مات أبدا}.
فهذا الخبر وغيره من الأخبار الواردة في سبب نزول هذه الآية هي أخبار آحاد ولا تصلح دليلاً على العقائد ولا تعارِض القطعي الذي يحصر تبليغ الرسول للأحكام بما جاء به الوحي ليس غير، وأنه لا يتبع إلاّ الوحي. علاوة على أن هذه الأحاديث تجعل عمر بن الخطاب يحاول منع الرسول عن الصلاة على جنازة، فهو إما يريد أن يمنعه عن فعل يشرع به حكماً، أو يمنع الرسول عن القيام بعبادة حسب حكم شرعي مشرع، والرسول يسكت عنه ثم يرجع لرأيه بعد نزول الآية. وهذا لا يجوز في حق الرسول، فالعمل بالحديث هذا يعارض كون الرسول نبياً فيُرَد الحديث دراية. والحديث يدل على أن الرسول أعطى قميصه لعبدالله بن أُبيّ وكان يريد أن يصلي عليه وهو رأس المنافقين. وعبدالله بن أُبيّ فضحه الله بعد غزوة بني المصطلق وجاء ابنه إلى الرسول ليعرف إذا كان الرسول قد قرر قتله أن يتولى هو قتل أبيه، والله تعالى أنزل سورة المنافقين بعد غزوة بين المصطلق وقال للرسول فيها: (هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنّى يؤفكون)، وقال له فيها: (فطُبع على قلوبهم)، وقال له فيها: (والله يشهد إن المنافقين لكاذبون) ثم يأتي الرسول بعد ذلك فيعطي قيمصه لرأس المنافقين ويحاول أن يصلي على رأس المنافقين فيمنعه عمر، فهذا يناقض الآيات. فآية التوبة نزلت في السنة التاسعة بعد سورة المنافقين بعدة سنوات، فالأحاديث عن عمر وعن القميص، وغير ذلك من الأحاديث تعارض واقع معاملة المنافقين بعد غزوة بني المصطلق، وتعارض الآيات التي نزلت قبلها في شأن المنافقين، ولذلك تُرَد أيضاً من هذه الناحية دراية.

رد خبر جدامة بنت وهب الوارد في النهي عن العزل
أخرج مسلم في صحيحه وغيره عن عروة عن عائشة عن جدامة بنت وهب أخت عكاشة قالت حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم في أناس وهو يقول: "لقد هممت أن أنهى عن الغيلة فنظرت في الروم وفارس فإذا هم يغيلون أولادهم فلا يضر أولادهم ذلك شيئاً" ثم سألوه عن العزل؟ فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم "ذلك الوأد الخفي" زاد عبيدالله في حديثه عن المقرئ وهي {وإذا الموؤدة سئلت}. وهذا الحديث يعارض الأحاديث الصحيحة الصريحة في جواز العزل، وإذا تعارض حديث مع أحاديث أخرى أكثر منه طرقاً رجحت الأحاديث التي أكثر طرقاً ورد الحديث. وبناء على ذلك يرد هذا الحديث لمعارضته ما هو أقوى منه وأكثر طرقاً في الرواية.
هذه بعض الأمثلة على رد الأحاديث دراية لمعارضتها القطعي من القرآن الكريم، أو ما هو الصحيح من السنة، أو مخالفة الأمر النهي.

عبد الواحد جعفر
09-10-2013, 12:29 PM
قواعد في نقد متن الحديث ورده
قبل الحديث عن قواعد نقد المتن لا بد من التنويه إلى قاعدة في غاية الأهمية، وهي أن إعمال الدليلين أولى من إهمال أحدهما، ولا نلجأ إلى رد الحديث دراية إلاّ إذا تعذر إعماله، فإذا تعارض الحديث تماماً مع نص قطعي سواء أكان نصاً من كتاب الله أو نصاً متواتراً من السنة، فإنه في هذه الحال يرد خبر الآحاد دراية. ورد الخبر دراية لا بد له من قواعد، فلا يجوز رد الخبر لمجرد ظهور تعارض بينه وبين نص آخر أقوى منه أو أصح، بل لا بد من التوفيق بين النصين، ولا بد من إعمالهما، ما دام التعارض يمكن درؤه، أما إذا كان التعارض تاماً فحينها يرد خبر الآحاد. وهذه بعض القواعد التي لا بد من الإلتزام بها في نقد متن الحديث ورده:
1_ يرد الخبر دراية إذا عارض آية من القرآن أو حديثاً متواتراً أو علّة نص عليها صراحة قرآن أو متواتر.
2_ يرد خبر الآحاد إذا كان ناسخاً للقرآن الكريم؛ لأن خبر الآحاد ثابت بغلبة الظن أن رسول قد قاله، والقرآن ثابت بالتواتر، فلا ينسخ الظنيُّ القطعيَّ. كما أن خبر الآحاد إما أن يكون ناسخاً أو مخصصاً، فإن كان مخصصاً فإنه لا ينقض الثابت بالتواتر بشكل عام، وإنما يبقى مخصصاً للحادثة المستثناة، وإن كان ناسخاً فإنه يُرد لأن خبر الآحاد لا ينسخ المتواتر فيُرد دراية.
3_ إذا تعارض حديثان الأول يتضمن الأمر والثاني يتضمن النهي، فإنه يرد الحديث الذي يتضمن الأمر، ويرجح الحديث الذي يتضمن النهي؛ لأن النصين إذا تعارضا يرجح النهي على الأمر لقوله عليه السلام: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" وقد أخذ من هذا الحديث القاعدة التالية: (إذا تعارض حديثان أحدهما كان أمراً والآخر نهياً، فيُرجَّح الناهي على الآمر، ولو كان أحدهما محرماً والآخر مبيحاً، فيُرجَّح المحرم على المبيح).
4_ يرد الحديث إذا كان متناقضاً ويكذب بعضه بعضاً، وتكذبه الروايات الأخرى.
5_ يرد الحديث إذا خالف الواقع المحسوس. لأن الواقع المحسوس قطعي، فلا يقوى الظني على معارضته؛ لذلك يرد الظني وهو الحديث.

نائل سيد أحمد
09-10-2013, 01:13 PM
جزاك الله خيراً .

muslem
09-10-2013, 08:11 PM
جزاك الله خيراً اخي عبد الواحد و جعله في ميزان حسناتك . ماذا بالنسبة لحديث ارضاع الكبير الوارد في البخاري الذي صدعوا منكروا السنة فيه رؤؤسنا ?

عبد الواحد جعفر
09-10-2013, 10:37 PM
جزاك الله خيراً اخي عبد الواحد و جعله في ميزان حسناتك . ماذا بالنسبة لحديث ارضاع الكبير الوارد في البخاري الذي صدعوا منكروا السنة فيه رؤؤسنا ?
هذا حديث متروك، لم يعمل به فقهاء المسلمين، وبإمكانك البحث في آراء العلماء في هذه المسألة، وأقصى ما فيها أن بعضهم اعتبر الحديث خاصاً بسالم مولى أبي حذيفة رضي الله عنهما. والبعض الآخر يرد الحديث لتعارضه مع الأصول الشرعية في مسألة الرضاعة.
قال ابن عبد البر: "هذا يدلك على أنه حديث ترك قديما، ولم يعمل به ولم يتلقه الجمهور بالقبول على عمومه بل تلقوه على أنه مخصوص والله أعلم".
وأيضاً قال ابن عبد البر المالكي: "وممن قال أن رضاع الكبير ليس بشيء ( ممن رويناه لك عنه وصح لدينا )، عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود وابن عمر وأبو هريرة وابن عباس وسائر أمهات المؤمنين غير عائشة وجمهور التابعين وجماعة فقهاء الأمصار منهم الثوري ومالك وأصحابه والأوزاعي وابن أبي ليلى وأبو حنيفة وأصحابه والشافعي وأصحابه وأحمد وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيد والطبري ومن حجتهم قوله _صلى الله عليه وسلم_ إنما الرضاعة من المجاعة (أيضاً: عن عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: "أنظرن إخوتكن من الرضاعة، إنما الرضاعة من المجاعة" متفق عليه. وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا رضاع إلا ما أنبت اللحم والدم".
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يُحرِّم من الرضاعة إلا ما فتق الأمعاء وكان قبل الفطام". رواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن صحيح .
فهذا أصل ثابت أن الرضاعة لا تكون إلا للصغير قبل الفطام.
والله أعلم