المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الأبعاد السياسية وراء اغتيال محمد البراهمي في تونس



عبد الواحد جعفر
02-08-2013, 08:33 PM
بسم الله الرحمن الرحيم


دردشات محلية
الأبعاد السياسية وراء اغتيال محمد البراهمي

إن نشر الديمقراطية كان أحد شعاري مشروع الشرق الأوسط الكبير، وقد أخذت هذه الديمقراطية المفصلة على مقاس بلدان المنطقة الإسلامية في المشروع تظهر معالمها في بلدان ما يسمى الربيع العربي. فمن يطلق عليهم (الإسلاميون المعتدلون) الذين رضوا الدخول فيما يسمى باللعبة الديمقراطية من خلال صفقة عقدت معهم، أوصلتهم صناديق الاقتراع إلى السلطة؛ لأن صندوق الاقتراع يفرز في بلاد المسلمين من هو أقرب إلى الإسلام ممن يتنافسون على السلطة، وأضحوا في معظمهم دعاة إلى حكم مدني، بقيت فيه الدساتير والقوانين مع بعض التعديلات، كما كرست بقاء الحدود بين بلاد المسلمين، والأخطر أنها أصبحت أداة طيعة لتزوير إرادة الأمة وصياغة عقول أبنائها بالفكر العلماني باسم الإسلام.
ولأن اللعبة الديمقراطية تقتضي التنافس على السلطة وتداولها، ولأن صندوق الاقتراع يفرز في بلاد المسلمين من هو أقرب إلى الإسلام ممن يتنافسون على السلطة كما أسلفنا؛ لذلك فقد لوحظ على ديمقراطيات الربيع العربي التي وصل فيها (الإسلاميون المعتدلون) إلى السلطة ما يلي :

1_ جعل التوجه لبناء (الدولة المدنية) التي يفصل فيها الدين عن حياة المجتمع هو مركز التنبه عند كافة القوى السياسية التي تشترك فيما يسمى باللعبة الديمقراطية. ومن ثَم محاولة جر من يخالف هذا التوجه إلى فخ اللعبة الديمقراطية لأن قبوله بدخولها يعني عملياً قبوله لذات التوجه.
2_ إقصاء وتهميش ومحاربة كل القوى التي تصر على مخالفة التوجه السابق، والهدف من ذلك كله هو تضليل الأمة عن أي سعي لإيجاد الإسلام في معترك الحياة والدولة والمجتمع والذي يجب أن يكون هو مركز تنبهها.
3_ وللنجاح في تركيز التوجه العلماني للدولة، ونبذ التوجه لجعل الإسلام وعودته إلى الحياة في الدولة وعلاقات المجتمع هو مركز تنبه الأمة كان لا بد من تضخيم حجم المعارضة العلمانية، وإفساح المجال لها واسعاً للحركة في المجتمع وتجميع القوى، مستفيدة من تشويه صورة (الإسلام السياسي) سواء في إظهار فشل وأخطاء من هم في السلطة (الإسلاميون المعتدلون) أو في إظهار همجية بعض من هم خارج السلطة الذين يسمونهم بـ (الإرهابيين).
4_ وزيادة في تضليل الأمة، فقد ارتضى (الإسلاميون المعتدلون) أن يكونوا دعاة للديمقراطية والعلمنة أكثر من العلمانيين أنفسهم؛ بترويجهم للديمقراطية التوافقية/التشاركية، التي تتجاوز حق الأكثرية في حكم الأقلية إلى مشاركة الأقليات في الحكم مهما تنوعت وتعددت، وهو ما لا يجعل الحق لأحد بالمطالبة في الحكم بالإسلام حتى لو طالبت به الغالبية العظمى من المجتمع؛ ليضاف ذلك عقبة احتياطية جديدة تعيق العمل لإيجاد الإسلام في معترك الحياة.
وبناء على ما تقدم، وعودة إلى فهم ما يجري في تونس بعد حادثة اغتيال محمد البراهمي، ومن خلال اللعبة السياسية التي تمسك أميركا بخيوطها في داخل هذا البلد المسلم، وبعد ترك المعارضة تسعى لجمع القوى لتشكل قوة فاعلة في المنافسة على السلطة باستعمال كافة الأساليب التي تمكنها من ذلك، وأخبثها تخلصها ممن يعيقون تجمعها وإلصاق ذلك الفعل بأعدائها، فقد بات المشهد السياسي وبخاصة فيما يتعلق بواقع أعمال ونشاط المعارضة هو الآتي:
من خلال محاولة يائسة من المعارضة لاستنساخ السيناريو المصري عبر اغتيال المنسق العام للتيار الشعبي والنائب محمد البراهمي بتاريخ 25/7/2013، تحاول مرة ثانية المعارضة التونسية ممثلة بخاصة في التحالف العضوي بين الجبهة الشعبية اليسارية والإتحاد من أجل تونس الفرنكفوني الإنقلاب على السلطة والوصول إلى الحكم.
وكما رفض شكري بلعيد عملية التحالف بين نداء تونس والجبهة الشعبية رفض أيضاً محمد البراهمي التعاون مع حركة نداء تونس وهو ما جعله ينفصل عن حركة الشعب التي هي جزء من الجبهة الشعبية التي تحالفت مع حركة بقايا فلول نظام بن علي. وهذا هو سبب اختيار محمد البراهمي وشكري بلعيد دون غيرهما على قائمة الإغتيال. ولعل ما يدعم ذلك هو ما صرح به وزير الداخلية لطفي بن جدو بعد عملية الإغتيال بأن قطعة السلاح التي استعملت في قتل شكري بلعيد هي نفسها التي استعملت في قتل البراهمي.
أما الذي يدفع للقول بأن خلية من المعارضة نفسها بالتحالف مع رأس المال الفاسد وبعض عناصر في وزارة الداخلية التابعين لنظام بن علي هي التي تقف وراء عملية الإغتيال فسبب ذلك هو توقيت عملية الإغتيال والأهداف التي اُريد تحقيقها من وراء ذلك.
لقد جاء الإغتيال بعد يوم واحد من تصريح نور الدين البحيري المستشار لدى رئيس الوزراء وأيضاً تصريح وزير الداخلية لطفي بن جدو بأنه سيتم الكشف عن ملابسات اغتيال شكري بلعيد. وكل التسريبات الصحفية تشير إلى أنه كان سيتم توجيه الإتهام إلى المعارضة نفسها وأنها هي المتورطة في مقتل بلعيد. وبالتالي جاءت عملية اغتيال البراهمي لإرباك الحكومة ولقطع الطريق على عملية كشف من يقف وراء اغتيال بلعيد.
كما تزامنت عملية اغتيال البراهمي بعد اقتراب المجلس التأسيسي من الإنتهاء من كتابة الدستور واختيار ثمانية أعضاء من اللجنة المستقلة للإنتخابات البالغ عددها تسعة. وأخيراً تزامن الإغتيال مع اقتراب المجلس الـتأسيسي من التصويت في الجلسة العامة على تمرير قانون تحصين الثورة. وعليه فقد جاءت عملية الإغتيال كمحاولة لإيقاف كل هذه الأعمال التي قارب على إنجازها المجلس التأسيسي. وبمجرد الإعلان عن عملية الإغتيال قام ما يقارب الخمسين نائباً من المعارضة الفرانكفونية واليسارية بالإنسحاب من المجلس التأسيسي في محاولة لإحداث فراغ قانوني داخله.
وبمجرد اغتيال البراهمي، وهو ما زال في المستشفى، تعالت أصوات المعارضة تطالب ليس بالكشف عن الجناة بل بحل المجلس التأسيسي وإسقاط الحكومة والتوافق على حكومة إنقاذ وطني تقود المرحلة القادمة ريثما تتم كتابة الدستور على يد لجنة من الخبراء والإعداد لانتخابات قادمة. ولدعم هذه المطالب قام الإتحاد العام التونسي للشغل بالدعوة إلى إضراب عام يوم الجمعة 26 تموز/يوليو والإنضمام إلى صفوف المعارضة.
وقد توعدت المعارضة التي باتت تعمل منذ 26 تموز/يوليو تحت اسم "جبهة الإنقاذ الوطني" أنه في صورة عدم الإستجابة لمطالبها فإنها سوف تدخل في اعتصام مفتوح أمام مبنى المجلس التأسيسي حتى تحقق هذه المطالب. أما حمة الهمامي زعيم حزب العمال الشيوعي والناطق باسم الجبهة الشعبية فقد هدد بدفع البلاد نحو الدخول في عصيان مدني وتشكيل تنسيقيات جهوية تقوم مقام الولاة والمعتمدين والإعلان عن حكومة إنقاذ وطني دون الرجوع إلى الأحزاب الحاكمة.

عبد الواحد جعفر
02-08-2013, 08:34 PM
أما الموقف الأميركي فقد دانت"ماري هارف" مساعدة الناطق الرسمي للخارجية الأميركية بشدة عملية الإغتيال، ودعت إلى أن يعبر التونسيون عن أنفسهم سلمياً، وهي دعوة تحمل في طياتها إقرار التنافس على السلطة ولكن بشكل سلمي، مما يمكن المعارضة العلمانية وحلفاءها اليساريين من الإبقاء على محاولاتهم لزيادة شعبيتهم، وتضخيم حجمهم مقابل (الإسلاميين) ومن شأن ذلك خدمة المشروع الأميركي الداعي إلى تحجيم (الإسلاميين) وقطع الطريق على المطالبين بتطبيق الشريعة الإسلامية بخاصة.
وقد جاءت تصريحات رئيس الدولة المؤقت المنصف المرزوقي بخصوص عملية الإغتيال لتظهر أنه مطمئن إلى الموقف الأميركي الداعم له وللحكومة الحالية، عندما أشار في كلمته إلى أن "منفذي الاغتيال يعلمون جيداً أننا في الربع الساعة الأخير من الانتقال الديمقراطي"، وأنهم "لم يتحركوا إلا عندما اشتد الخناق عليهم".
كما أن النبرة التهديدية التي ختم بها رئيس الحكومة علي العريض ندوته الصحفية يوم 29/7/2013 بأنه لا مانع من الإحتكام إلى الشارع إذا أرادت المعارضة ذلك، وقال: "الحوار هو الأسلوب لفض الإختلافات".. إلا أن "الحكومة ليست عاجزة لاستدعاء الشعب واستفتائه في الشوارع على من هو مع مواصلة المسار وتسريع خطاه.. ومن هو مع العودة إلى نقطة مجهولة وإزالة كل هذا المسار وإلغائه.. وإذا وجب الأمر فلن نتردد.. وهذه قلتها ليس للتهديد وإنما للتنبيه".
فهذه الكلمات من رئيس الدولة ورئيس الوزراء توحي بـأن حكومة الترويكا لا زالت تحظى بالدعم الأميركي ضد عمليات الإنقلاب عليها، كما تؤكد هذه الكلمات أن القيادات الهامة في الجيش والشرطة ما زالت في صف حكومة الترويكا وليست طرفاً في أية محاولات انقلابية إلى هذه الساعة.
ومما يقطع الطريق أيضا على محاولات المعارضة الإنقلابية هو قبول حزب النهضة تشكيل حكومة إئتلاف وطني جديدة، وهذا من شأنه احتواء زخم مطالبات المعارضة بحل المجلس التأسيسي وتسليم السلطة مقابل "حكومة انقاذ وطني".
ولئن كان اغتيال شكري بلعيد في 6/2/2013 قد أحدث ضجة سياسية كبيرة في البلاد وقتذاك وأدى إلى إسقاط الحكومة إلا أن ردتي الفعل الحكومي والشعبي هذه المرة لم تكن في مستوى النتائج التي كانت ترجوها خلية المعارضة بسبب إدراك عموم الناس لحقيقة الأهداف الإنقلابية وراء عملية الإغتيال.
وهكذا فبعد محاولة المعارضة نزع الحكم من النهضة إثر اغتيال شكري بلعيد تأتي اليوم عملية اغتيال محمد البراهمي لنفس الأسباب؛ أي إفشال ما أطلق عليه "مرحلة الانتقال الديمقراطي" بعد تأكد المعارضة من عجزها عن الوصول للحكم عبر صناديق الإنتخاب.
إلا أن محاولة المعارضة الاستحواذ على الحكم هذه المرة لا يبدو أنها تحظى بأي دعم أميركي كما حصل في مصر لأن حركة النهضة قد وفت بكل الشروط الأميركية من أجل بقائها في الحكم، وأهم ما نفذته النهضة بخاصة هو استبعاد مسألة تحكيم الشريعة سواء أكان ذلك في الدستور أو القوانين، والعمل على المزج بين العلمانية والإسلام على مستوى مؤسسات الدولة، وتحجيم دور المطالبين بتطبيق الإسلام في المجتمع، وأخيراً الأخذ بالديمقراطية التشاركية مع كل الأحزاب العلمانية بما فيها تلك التي لم تحصد أصوات تذكر في الإنتخابات الأخيرة.
ومع كل ذلك فلا يتوقع أن تهدأ عمليات الإغتيال وإرباك الوضع الأمني في البلاد سواء بالتفجيرات كما حصل في تفجير سيارة شرطة في حلق الوادي على يد عناصر تابعة لوزارة الداخلية يوم 27 تموز/يوليو أو قتل ثمانية جنود في جبل الشعانبي على يد عناصر من المخابرات العسكرية يوم 29 تموز/يوليو أو حتى إمكانية القيام بتفجيرات جماعية بين الناس من أجل إيجاد النقمة على الحكومة الحالية؛ لتكون بمثابة مقدمات أمنية لأية تحركات للاستحواذ على السلطة.
وسوف تصاحب هذه الأعمال "المنفلتة والمفتعلة أمنياً" تحركات "شعبية" تقودها المعارضة من أجل إيجاد غطاء لأي عمل انقلابي على حكومة الترويكا. فلقد سبق للباجي قايد السبسي ولمحسن مرزوق (من قادة نداء تونس) ولحمة الهمامي زعيم حزب العمال الشيوعي أن صرحوا أكثر من مرة بالقول: "لن نخوض الإنتخابات ونحن تحت حكم النهضة". كما أن الباجي قايد السبسي رئيس حركة نداء تونس قد صرح يوم الإغتيال، 25/7/2013م داعياً إلى وجوب "الإحتكام إلى الشارع بعد أن أصبحت الحكومة غير قادرة على حماية المواطنين".
وإذا ما قدر لتحركات المعارضة أن تنجح في تحقيق أهدافها الإنقلابية فإن عليها أولاً، أن تحظى بدعم أميركا لتحركاتها الرامية إلى نزع الحكم بشكل مباشر أو من خلال دعم إقليمي، وهذا ما لم يظهر إلى حد الآن. وثانياً، أن يتم ذلك من خلال التنسيق مع قيادات عسكرية موالية في وزارة الدفاع والقيادات الأمنية الموالية لها في وزارة الداخلية، وبخاصة تلك التي أشار إليها رئيس الوزراء علي العريض عندما كان وزيراً للداخلية في خطابه الشهير يوم 30 كانون أول/ديسمبر 2012.
ويظهر على السطح أن هناك صراعاً تحاول فيه المعارضة استغلال عملية اغتيال البراهمي وارتباك الوضع الأمني في البلاد لإحداث تغيير على مستوى القيادات الأمنية غير الموالية في وزارة الداخلية. فقد قامت النقابة الوطنية للأمن الداخلي المقربة من المعارضة بإصدار بيان لها بتاريخ 26 تموز/يوليو دعت فيه إلى تغييرات سريعة على مستوى قيادات الأمن و"إبعاد الأمنيين المتحزبين (في إشارة إلى من عينتهم حركة النهضة) عن المراكز الحساسة بوزارة الداخلية". ودعت النقابة إلى "إعادة النظر في قرار حل إدارة أمن الدولة باعتباره جهازاً وقائياً"، واعتبرت أنه "كان من الأجدر إدخال تغييرات عليها"، وهي بذلك تريد إعادة دولة البوليس السياسي وشبكة المخبرين والمرشدين التابعين لها أيام نظام بن علي.
وقد ردت عليها الحكومة من خلال بيان أصدره الإتحاد الوطني لنقابات قوات الأمن التونسي المقرب من الحكومة بتاريخ 27/7/2013 عبرت فيه هذه النقابة بالقول نعلن عن: "مساندتنا المطلقة واللامشروطة للسادة المدير العام للأمن الوطني، المدير العام للمصالح المختصة، المدير العام للمصالح الفنية الذين يتعرضون لحملة شرسة ومغرضة من قبل أشباه النقابيين المغرر بهم والمدفوعين من قبل أعداء الوطن الذين لا يحبون الخير لتونس ودعاة الفراغ والفتنة الباحثين عن قبر وإطفاء آخر شمعة في الربيع العربي".
كما دفعت الحكومة مرة أخرى مثلما فعلت في بداية أحداث جبل الشعانبي بنقابة الحرس الوطني القريبة منها يوم 28/7/2013 إلى إصدار بيان لها يطالب بتفعيل "قانون الإرهاب" وإعداد خطة لحماية المقرات الأمنية وتغيير طريقة العمل التي أصبحت لا تتماشى والوضع الحالي. كما حذرت هذه النقابة في بيان لها بتاريخ 25 تموز/يوليو "من مغبة توظيف هذه المسائل (الإغتيالات) ضد المؤسسة الأمنية البعيدة كل البعد عن مثل هذه التجاذبات السياسية". وتوجهت "بنداء عاجل إلى كافة الزملاء والنقابيين إلى التماسك والعمل بكل حرفية وحياد للحفاظ على أمن البلاد واستقرارها وحماية المؤسسات الأمنية بكل روح وطنية عالية".
إن مما يؤسف له أن تنجح أميركا في دفع المسلمين إلى مربع الصراع على السلطة ضمن اللعبة الديمقراطية، تماما مثلما نجحت في إبعادهم عن اتخاذ الإسلام مبدأ لهم في الصراع ضد العلمانية والكفر. وحتى أولئك الذين نزلوا للوقوف ضد المحاولات الإنقلابية وإدخال البلاد في الفوضى والإقتتال الداخلي نزلوا وهم يدافعون عن المجلس التأسيسي الذي أنشأ دستوراً مناقضاً للعقيدة الإسلامية، كما نزلوا يدافعون عما يسمونه بـ"الشرعية" التي أنتجتها العملية الديمقراطية التي ترعاها أميركا بموجب مشروع الشرق الأوسط الكبير.

23/رمضان/1434هـ
1/8/2013م