عبد الواحد جعفر
08-06-2013, 09:34 PM
تواريخ السلف والطائفية
بقلم: محمد شعبان صوان
●هشاشة الإسقاط المعاصر
في ظل التوتر العالي الذي يشهده عالم الإسلام اليوم، من السهل على دعوة التخندق الطائفي أن تسقط رؤيتها على مجمل التاريخ الإسلامي، فترسم خطاً واصلاً بين محطات الفتن في هذا التاريخ منذ فتنة صدر الإسلام مروراً بالغزو المغولي وسقوط بغداد ثم بالصراع العثماني-الصفوي وصولاً إلى الغزو الأمريكي وسقوط بغداد مرة ثانية وما تبعه من فتن وصراعات مازالت مستمرة إلى هذا اليوم.
نعم من السهل رسم هذا الخط الواصل بين هذه المحطات لتخرج الصورة النهائية لتاريخنا بأنه مجرد صراع بين الطوائف عوضاً عن صراع الطبقات الذي صورته الماركسية استنادا إلى التاريخ الأوروبي وحاولت تعميمه على التواريخ العالمية فاصطدمت بمساراته المخالفة لرؤيتها، وكذلك تصطدم رؤية الصراع الطائفي لتاريخنا والتي يمكنها بسهولة أن تقنع البسطاء بذكر أمثلتها التاريخية المحدودة ومحاولة تعميمها بعملية تبسيطية واختزالية تغري أصحاب الفكر المبسط ولكنها ستصطدم بحقائق أخرى تجعل منها رؤية أحادية لدى أي دارس يحاول تمحيص النقاط المكونة لهذه الخطوط الوهمية الواصلة بين المحطات العنيفة في تاريخنا، والعنف بالمناسبة لا يخلو منه تاريخ أمة من الأمم خلافا لمن يخدعهم حاضر الحياة في الغرب فيتصورون أن السلام الداخلي فيه حاليا يمثل كل ماضيه.
إن قارئ التاريخ سيجد الحياة اليومية في تاريخنا تختلف عن محطات الفتن العنيفة التي لم تكن سوى انفجارات لا تمثل الحياة العامة التي تشاطر فيها الجميع رقعة هذه الحياة، وسنجد في هذه الرقعة تعايشاً مستمراً بين مختلف الطوائف واختلاطاً عجيباً في تبني العقائد حتى على مستوى الفرد الواحد، فهناك الشافعي المعتزلي، والحنبلي الصوفي، والحنفي الزيدي، والشيعي الأشعري، بل الشيعي الذي "يعترف بفضائل الصحابة ويثني على الشيخين"[1]...إلخ، كما سنجد في زمن الحروب أن أبناء الطائفة الواحدة يتقاتلون وأبناء الطوائف المختلفة يتحالفون، فلم يكن من النادر أن ينضم السني إلى المغول في الهجوم على عاصمة الخلافة العباسية، أو أن يقاتل القرمطي-الإسماعيلي إمامه الفاطمي-الإسماعيلي بالتحالف مع الخليفة العباسي السني، أو أن يتفق البويهي الشيعي والفاطمي الإسماعيلي ضد الحمداني الشيعي، أو أن يحالف السني الفرنجي ضد سني آخر...إلخ، ولهذا فإن الإسقاط المعاصر الذي يحاول تصوير التاريخ بصورة اللحظة الحالية المظلمة والتي يتخندق فيها أتباع المذاهب المختلفة ضد بعضهم البعض يفتقر إلى المصداقية.
ولن نستطيع بالطبع مسح تاريخ الإسلام كله لتأكيد هذه الحقيقة، ولكن يكفي أن نطلع على نموذج من هذه الأمثلة لنقض رؤية الصراع الطائفي الغالب على التاريخ، وعلى الراغب أن يستزيد بنفسه بعد فتح هذا الباب.
●الدولة الحمدانية الشيعية تدافع عن الخلافة العباسية السنية
قامت الدولة الحمدانية في الفترة الواقعة بين سنتي 317-394 من الهجرة في محيط الموصل ثم حلب، وكان ملوكها من الشيعة كما نص المؤرخون على هذا، ولكن ذلك لم يمنعها من أن تكون سنداً للخلافة ودرعاً للمسلمين، وتذكر الموسوعة العربية العالمية الصادرة في الرياض أن من أسباب نشوء دولة الحمدانيين الحاجة الماسة"إلى قوة تتصدى للإمبراطورية البيزنطية التي بدأت في مهاجمة العالم الإسلامي للاستيلاء على الشام أو إضعاف أو تدمير القوة الإسلامية في الثغور"، هذا بالإضافة إلى حاجة الخلفاء إلى قوة تتصدى للقواد الأتراك الذين بدأ المعتصم بجلبهم فتسلطوا على مركز الخلافة مما دفع هؤلاء الخلفاء إلى الاستقواء بالحمدانيين العرب، وعلى الرغم من بعض التوتر الذي بدأت به العلاقة بين الجانبين العباسي والحمداني فإن "سياسة الخلفاء كانت تتجه إلى تقوية هذه القوة العربية لتقف في وجه المناوئين وفي وجه الروم"، ومن ثم أصبح الحمدانيون "القوة التي تلجأ إليها الخلافة إذا ضاقت بها الأحوال في بغداد"، وبعد فترة من إقامة أمير الأمراء الحمداني في بغداد لم يستقر الحمدانيون فيها كثيرا لاضطراب أمورها"ورغبتهم في التفرغ لحماية الثغور، وظلت علاقتهم حسنة بالخلافة على الرغم من محاولة البويهيين (وهم من الشيعة أيضا) إزالتهم عن إمارتهم".
وبعد الازدهار الذي شهده زمن سيف الدولة بدأت الدولة تتفكك من بعده وسقطت أخيراً تحت ضغط الفاطميين (الشيعة الإسماعيليين) من مصر، وضغط البويهيين من جهة العراق، وكان الفاطميون هم الذين ورثوها، و "كان جهاد الحمدانيين ضد الروم من أبرز الأعمال التي خلدت ذكرى هذه الدولة، وكان ممن خلدوا ذكر الحمدانيين: أبو الطيب المتنبي، وأبو فراس الحمداني، وأبو الفرج الأصفهاني الذي ألف كتابه الأغاني خصيصاً لسيف الدولة، والخطيب ابن نباتة"[2].
●ثناء المؤرخين على جهاد الأمير سيف الدولة الحمداني (تولى333-356 هجرية)
لم يمنع تشيع الأمير سيف الدولة الحمداني مؤرخي السلف من كيل المديح له بلا حساب شكراً للأعمال الجليلة التي أسداها للإسلام، فهذا الحافظ ابن عساكر (توفي 571هجرية) يقول في موسوعته تاريخ دمشق الكبير نقلا عن الثعالبي : "كان بنو حمدان ملوكاً وأمراء، أوجههم للصباحة، وألسنتهم للفصاحة، وأيديهم للسماحة، وعقولهم للرجاحة، وسيف الدولة مشهور بسيادتهم، وواسطة قلادتهم، وكان غرة الزمان، وعماد الإسلام، ومن به سداد الثغور، وسداد الأمور، وكانت وقائعه في عصاة العرب يكف بأسها، وتفل أنيابها، ويذل صعابها، ويكفي الرعية سوء آدابها، وغزواته تدرك من طاغية الروم الثار، ويحسم شرة المنار، ويحسن في الإسلام الآثار... مقصد الوفود، ومطلع الجود، وقبلة الآمال، ومحط الرحال، وموسم الأدباء، وحلبة الشعراء، ويقال:إنه لم يجتمع بباب أحد من الملوك بعد الخلفاء ما اجتمع ببابه من شيوخ الشعر، ونجوم الدهر....وكان أديباً شاعراً، محباً لجيد الشعر، شديد الاهتزاز لما يمدح به"[3].
أما الحافظ الذهبي (توفي 748 هجرية) فقال في موسوعته سير أعلام النبلاء في ترجمة سيف الدولة علي بن عبد الله بن حمدان : "مقصد الوفود، وكعبة الجود، وفارس الإسلام، وحامل لواء الجهاد، كان أديباً مليح النظم، فيه تشيع. ويقال: ما اجتمع بباب ملك من الشعراء ما اجتمع ببابه....وقد جمع له من المدائح مجلدان....يقال: تم له من الروم أربعون وقعة، أكثرها ينصره الله عليهم" ثم أورد قصة إهدائه الأضاحي إلى اثني عشر ألف إنسان في أحد الأعياد وبلغ عدد ما ناله كثير منهم مئة رأس، ثم قال: "وله غزو ما اتفق لملك غيره وكان يضرب بشجاعته المثل وله وقع في النفوس، فالله يرحمه"[4].
أما في موسوعته الأخرى تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام فإن الذهبي كرر في ترجمة سيف الدولة ما قاله في سير النبلاء ومما جاء فيها أيضا:"كان موصوفا بالشجاعة، له غزوات مشهورة مع الروم، وكان مثاغرا لهم (أي مواجها لهم عند الثغور وهي الحدود الفاصلة بين بلاد الإسلام والكفر).....وكان قد جمع من نفض الغبار الذي يتجمع عليه أيام غزواته ما جاء منه لبنة بقدر الكف، وأوصى أن يوضع خده عليها في لحده ففُعل ذلك به...ولزمه في فداء الأسارى سنة 355 ستمائة ألف دينار" وينهي الذهبي ترجمة سيف الدولة بجملة هي: "وكان سيف الدولة شيعيا متظاهرا مفضالاً على الشيعة والعلويين"[5]، وفي كتابه العبر في خبر من غبر يكرر مدح سيف الدولة ويذكر في حوادث سنة 328 خبر المواجهة بينه وبين ملك الروم الدمستق "لعنه الله وهزمه"[6]، أي أنه لم يتمن النصر للرومي ولم يحض على دعمه ومساندته على هذا المجاهد المسلم رغم أنه "رافضي"، ومع ذلك يحتفي المؤرخ بنصر الله له على الروم وذلك خلافا للمعاصرين الذين انضموا إلى الروم المحدثين لتدمير إخوتهم في المذهب فضلا عن مخالفيهم، هذا مع أن الذهبي كان "شديد الميل إلى آراء الحنابلة، كثير الإزراء بأهل السنة الذين ينادون بأبي الحسن الأشعري" كما يقول محقق سير أعلام النبلاء في مقدمته[7]ولكننا نرى بوناً شاسعاً بين الحنابلة القدامى والحنابلة المعاصرين.
وكان الحافظ ابن كثير (توفي سنة 774 هجرية) تلميذ الحافظ الذهبي"وكانت له خصوصية بشيخ الإسلام ابن تيمية، ومناضلة عنه، واتباع له في آرائه...وصاهره على ابنته"[8]، ومع ذلك فقد قال في ترجمة سيف الدولة:"أحد الأمراء الشجعان، والملوك الكثيري الإحسان، على ما فيه من تشيع، واتفق له أشياء غريبة، منها أن خطيبه كان مصنف الخطب النباتية، أحد الفصحاء البلغاء، ومنها أن شاعره كان المتنبي، ومنها أن مطربه كان أبو نصر الفارابي، وكان سيف الدولة كريماً جواداً معطياً للجزيل"، ثم نقل عن المؤرخ ابن خلكان قوله :"ولم يجتمع بباب أحد من الملوك، بعد الخلفاء، ما اجتمع ببابه من الشعراء، وقد أجاز لجماعة منهم"، أما خلاف المؤلف مع الأمير الحمداني في المذهب فلم يقل فيه غير الجملة التالية: "وقد كان هؤلاء الملوك رفضة، وهذا من أقبح القول"[9]، وبذلك نرى أن علماء المدرسة الحنبلية لم يمنعهم الخلاف المذهبي مع أمير عظيم كسيف الدولة من إيفائه حقه وذكر محاسنه وكيل المديح له ووصفه بفارس الإسلام بل والترحم عليه كما فعل الحافظ الذهبي، ولم يعطوا أهمية للخلاف المذهبي أكثر من جملة ختامية في نهاية التراجم بل نجد ابن عساكر الشافعي لا يذكر هذه النقطة أصلاً، فأين هذا من التشنج المعاصر بين من يدّعون اتباع هذه المدارس؟
●الأمير أسامة بن منقذ: تقية محمودة
ولو انتقلنا إلى شخصية أخرى هي الأمير أسامة بن مرشد بن علي بن مقلد بن نصر بن منقذ الكناني الشيزري (488-584 هجرية) مؤلف كتاب الاعتبار، والذي ولد في الشام وعاش في زمن حروب الفرنجة الصليبية وعاصر السلطان صلاح الدين الأيوبي وكانت علاقته وثيقة به، يقول الحافظ الذهبي في ترجمته في تاريخ الإسلام نقلا عن تاريخ الشيعة ليحيى بن أبي طيء: "كان إماميا حسن العقيدة، إلا أنه كان يداري عن منصبه ويظهر التقية، وكان فيه خير وافر، وكان يرفد الشيعة ويصل فقراءهم، ويعطي الأشراف"، ورغم أن هذه الصفات قد تهبط بصاحبها في زمننا إلى أسفل سافلين فقد كان للذهبي رأي آخر فقال عن هذا الأمير: " الأمير الكبير، مؤيد الدولة، أبو المظفر الكناني، الشيزري الأديب، أحد أبطال الإسلام، ورئيس الشعراء الأعلام"[10].
كما قال في كتاب العبر: " أحد الأبطال المشهورين والشعراء المبرزين، وله عدة تصانيف في الأدب والأخبار والنظم والنثر، وفيه تشيع"[11]، وفي سير النبلاء قال بعد تكرار المديح والتعريف كالأمير الكبير، العلامة، فارس الشام، مجد الدين...إلخ: "سافر إلى مصر (الفاطمية)، وكان من أمرائها الشيعة، ثم فارقها، وجرت له أمور وحضر حروباً ألفها في مجلد فيه عبر"[12].
أما ابن كثير فيكيل للأمير المدح بلا حساب فيقول:"الأمير الكبير سلالة الملوك والسلاطين، الشيزري، مؤيد الدولة، أبو الحارث، وأبو المظفر أسامة بن مرشد بن علي بن مقلد بن نصر بن منقذ أحد الشعراء المشهورين، المشكورين...وكان عمره تاريخاً مستقلاً وحده، وكانت داره بدمشق...وكانت معقلاً للفضلاء، ومنزلاً للعلماء، وله أشعار رائقة، ومعان فائقة، ولديه علم غزير، وعنده جود وفضل كثير..وكان في شبيبته شهماً شجاعاً قتل الأسد وحده مواجهة"[13]وذكر أيضا علاقته الوثيقة بالسلطان صلاح الدين الأيوبي وهو ما يعطي بعداً مثيراً لهذا السلطان المتهم بمعاداة الشيعة.
يتبع>>
بقلم: محمد شعبان صوان
●هشاشة الإسقاط المعاصر
في ظل التوتر العالي الذي يشهده عالم الإسلام اليوم، من السهل على دعوة التخندق الطائفي أن تسقط رؤيتها على مجمل التاريخ الإسلامي، فترسم خطاً واصلاً بين محطات الفتن في هذا التاريخ منذ فتنة صدر الإسلام مروراً بالغزو المغولي وسقوط بغداد ثم بالصراع العثماني-الصفوي وصولاً إلى الغزو الأمريكي وسقوط بغداد مرة ثانية وما تبعه من فتن وصراعات مازالت مستمرة إلى هذا اليوم.
نعم من السهل رسم هذا الخط الواصل بين هذه المحطات لتخرج الصورة النهائية لتاريخنا بأنه مجرد صراع بين الطوائف عوضاً عن صراع الطبقات الذي صورته الماركسية استنادا إلى التاريخ الأوروبي وحاولت تعميمه على التواريخ العالمية فاصطدمت بمساراته المخالفة لرؤيتها، وكذلك تصطدم رؤية الصراع الطائفي لتاريخنا والتي يمكنها بسهولة أن تقنع البسطاء بذكر أمثلتها التاريخية المحدودة ومحاولة تعميمها بعملية تبسيطية واختزالية تغري أصحاب الفكر المبسط ولكنها ستصطدم بحقائق أخرى تجعل منها رؤية أحادية لدى أي دارس يحاول تمحيص النقاط المكونة لهذه الخطوط الوهمية الواصلة بين المحطات العنيفة في تاريخنا، والعنف بالمناسبة لا يخلو منه تاريخ أمة من الأمم خلافا لمن يخدعهم حاضر الحياة في الغرب فيتصورون أن السلام الداخلي فيه حاليا يمثل كل ماضيه.
إن قارئ التاريخ سيجد الحياة اليومية في تاريخنا تختلف عن محطات الفتن العنيفة التي لم تكن سوى انفجارات لا تمثل الحياة العامة التي تشاطر فيها الجميع رقعة هذه الحياة، وسنجد في هذه الرقعة تعايشاً مستمراً بين مختلف الطوائف واختلاطاً عجيباً في تبني العقائد حتى على مستوى الفرد الواحد، فهناك الشافعي المعتزلي، والحنبلي الصوفي، والحنفي الزيدي، والشيعي الأشعري، بل الشيعي الذي "يعترف بفضائل الصحابة ويثني على الشيخين"[1]...إلخ، كما سنجد في زمن الحروب أن أبناء الطائفة الواحدة يتقاتلون وأبناء الطوائف المختلفة يتحالفون، فلم يكن من النادر أن ينضم السني إلى المغول في الهجوم على عاصمة الخلافة العباسية، أو أن يقاتل القرمطي-الإسماعيلي إمامه الفاطمي-الإسماعيلي بالتحالف مع الخليفة العباسي السني، أو أن يتفق البويهي الشيعي والفاطمي الإسماعيلي ضد الحمداني الشيعي، أو أن يحالف السني الفرنجي ضد سني آخر...إلخ، ولهذا فإن الإسقاط المعاصر الذي يحاول تصوير التاريخ بصورة اللحظة الحالية المظلمة والتي يتخندق فيها أتباع المذاهب المختلفة ضد بعضهم البعض يفتقر إلى المصداقية.
ولن نستطيع بالطبع مسح تاريخ الإسلام كله لتأكيد هذه الحقيقة، ولكن يكفي أن نطلع على نموذج من هذه الأمثلة لنقض رؤية الصراع الطائفي الغالب على التاريخ، وعلى الراغب أن يستزيد بنفسه بعد فتح هذا الباب.
●الدولة الحمدانية الشيعية تدافع عن الخلافة العباسية السنية
قامت الدولة الحمدانية في الفترة الواقعة بين سنتي 317-394 من الهجرة في محيط الموصل ثم حلب، وكان ملوكها من الشيعة كما نص المؤرخون على هذا، ولكن ذلك لم يمنعها من أن تكون سنداً للخلافة ودرعاً للمسلمين، وتذكر الموسوعة العربية العالمية الصادرة في الرياض أن من أسباب نشوء دولة الحمدانيين الحاجة الماسة"إلى قوة تتصدى للإمبراطورية البيزنطية التي بدأت في مهاجمة العالم الإسلامي للاستيلاء على الشام أو إضعاف أو تدمير القوة الإسلامية في الثغور"، هذا بالإضافة إلى حاجة الخلفاء إلى قوة تتصدى للقواد الأتراك الذين بدأ المعتصم بجلبهم فتسلطوا على مركز الخلافة مما دفع هؤلاء الخلفاء إلى الاستقواء بالحمدانيين العرب، وعلى الرغم من بعض التوتر الذي بدأت به العلاقة بين الجانبين العباسي والحمداني فإن "سياسة الخلفاء كانت تتجه إلى تقوية هذه القوة العربية لتقف في وجه المناوئين وفي وجه الروم"، ومن ثم أصبح الحمدانيون "القوة التي تلجأ إليها الخلافة إذا ضاقت بها الأحوال في بغداد"، وبعد فترة من إقامة أمير الأمراء الحمداني في بغداد لم يستقر الحمدانيون فيها كثيرا لاضطراب أمورها"ورغبتهم في التفرغ لحماية الثغور، وظلت علاقتهم حسنة بالخلافة على الرغم من محاولة البويهيين (وهم من الشيعة أيضا) إزالتهم عن إمارتهم".
وبعد الازدهار الذي شهده زمن سيف الدولة بدأت الدولة تتفكك من بعده وسقطت أخيراً تحت ضغط الفاطميين (الشيعة الإسماعيليين) من مصر، وضغط البويهيين من جهة العراق، وكان الفاطميون هم الذين ورثوها، و "كان جهاد الحمدانيين ضد الروم من أبرز الأعمال التي خلدت ذكرى هذه الدولة، وكان ممن خلدوا ذكر الحمدانيين: أبو الطيب المتنبي، وأبو فراس الحمداني، وأبو الفرج الأصفهاني الذي ألف كتابه الأغاني خصيصاً لسيف الدولة، والخطيب ابن نباتة"[2].
●ثناء المؤرخين على جهاد الأمير سيف الدولة الحمداني (تولى333-356 هجرية)
لم يمنع تشيع الأمير سيف الدولة الحمداني مؤرخي السلف من كيل المديح له بلا حساب شكراً للأعمال الجليلة التي أسداها للإسلام، فهذا الحافظ ابن عساكر (توفي 571هجرية) يقول في موسوعته تاريخ دمشق الكبير نقلا عن الثعالبي : "كان بنو حمدان ملوكاً وأمراء، أوجههم للصباحة، وألسنتهم للفصاحة، وأيديهم للسماحة، وعقولهم للرجاحة، وسيف الدولة مشهور بسيادتهم، وواسطة قلادتهم، وكان غرة الزمان، وعماد الإسلام، ومن به سداد الثغور، وسداد الأمور، وكانت وقائعه في عصاة العرب يكف بأسها، وتفل أنيابها، ويذل صعابها، ويكفي الرعية سوء آدابها، وغزواته تدرك من طاغية الروم الثار، ويحسم شرة المنار، ويحسن في الإسلام الآثار... مقصد الوفود، ومطلع الجود، وقبلة الآمال، ومحط الرحال، وموسم الأدباء، وحلبة الشعراء، ويقال:إنه لم يجتمع بباب أحد من الملوك بعد الخلفاء ما اجتمع ببابه من شيوخ الشعر، ونجوم الدهر....وكان أديباً شاعراً، محباً لجيد الشعر، شديد الاهتزاز لما يمدح به"[3].
أما الحافظ الذهبي (توفي 748 هجرية) فقال في موسوعته سير أعلام النبلاء في ترجمة سيف الدولة علي بن عبد الله بن حمدان : "مقصد الوفود، وكعبة الجود، وفارس الإسلام، وحامل لواء الجهاد، كان أديباً مليح النظم، فيه تشيع. ويقال: ما اجتمع بباب ملك من الشعراء ما اجتمع ببابه....وقد جمع له من المدائح مجلدان....يقال: تم له من الروم أربعون وقعة، أكثرها ينصره الله عليهم" ثم أورد قصة إهدائه الأضاحي إلى اثني عشر ألف إنسان في أحد الأعياد وبلغ عدد ما ناله كثير منهم مئة رأس، ثم قال: "وله غزو ما اتفق لملك غيره وكان يضرب بشجاعته المثل وله وقع في النفوس، فالله يرحمه"[4].
أما في موسوعته الأخرى تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام فإن الذهبي كرر في ترجمة سيف الدولة ما قاله في سير النبلاء ومما جاء فيها أيضا:"كان موصوفا بالشجاعة، له غزوات مشهورة مع الروم، وكان مثاغرا لهم (أي مواجها لهم عند الثغور وهي الحدود الفاصلة بين بلاد الإسلام والكفر).....وكان قد جمع من نفض الغبار الذي يتجمع عليه أيام غزواته ما جاء منه لبنة بقدر الكف، وأوصى أن يوضع خده عليها في لحده ففُعل ذلك به...ولزمه في فداء الأسارى سنة 355 ستمائة ألف دينار" وينهي الذهبي ترجمة سيف الدولة بجملة هي: "وكان سيف الدولة شيعيا متظاهرا مفضالاً على الشيعة والعلويين"[5]، وفي كتابه العبر في خبر من غبر يكرر مدح سيف الدولة ويذكر في حوادث سنة 328 خبر المواجهة بينه وبين ملك الروم الدمستق "لعنه الله وهزمه"[6]، أي أنه لم يتمن النصر للرومي ولم يحض على دعمه ومساندته على هذا المجاهد المسلم رغم أنه "رافضي"، ومع ذلك يحتفي المؤرخ بنصر الله له على الروم وذلك خلافا للمعاصرين الذين انضموا إلى الروم المحدثين لتدمير إخوتهم في المذهب فضلا عن مخالفيهم، هذا مع أن الذهبي كان "شديد الميل إلى آراء الحنابلة، كثير الإزراء بأهل السنة الذين ينادون بأبي الحسن الأشعري" كما يقول محقق سير أعلام النبلاء في مقدمته[7]ولكننا نرى بوناً شاسعاً بين الحنابلة القدامى والحنابلة المعاصرين.
وكان الحافظ ابن كثير (توفي سنة 774 هجرية) تلميذ الحافظ الذهبي"وكانت له خصوصية بشيخ الإسلام ابن تيمية، ومناضلة عنه، واتباع له في آرائه...وصاهره على ابنته"[8]، ومع ذلك فقد قال في ترجمة سيف الدولة:"أحد الأمراء الشجعان، والملوك الكثيري الإحسان، على ما فيه من تشيع، واتفق له أشياء غريبة، منها أن خطيبه كان مصنف الخطب النباتية، أحد الفصحاء البلغاء، ومنها أن شاعره كان المتنبي، ومنها أن مطربه كان أبو نصر الفارابي، وكان سيف الدولة كريماً جواداً معطياً للجزيل"، ثم نقل عن المؤرخ ابن خلكان قوله :"ولم يجتمع بباب أحد من الملوك، بعد الخلفاء، ما اجتمع ببابه من الشعراء، وقد أجاز لجماعة منهم"، أما خلاف المؤلف مع الأمير الحمداني في المذهب فلم يقل فيه غير الجملة التالية: "وقد كان هؤلاء الملوك رفضة، وهذا من أقبح القول"[9]، وبذلك نرى أن علماء المدرسة الحنبلية لم يمنعهم الخلاف المذهبي مع أمير عظيم كسيف الدولة من إيفائه حقه وذكر محاسنه وكيل المديح له ووصفه بفارس الإسلام بل والترحم عليه كما فعل الحافظ الذهبي، ولم يعطوا أهمية للخلاف المذهبي أكثر من جملة ختامية في نهاية التراجم بل نجد ابن عساكر الشافعي لا يذكر هذه النقطة أصلاً، فأين هذا من التشنج المعاصر بين من يدّعون اتباع هذه المدارس؟
●الأمير أسامة بن منقذ: تقية محمودة
ولو انتقلنا إلى شخصية أخرى هي الأمير أسامة بن مرشد بن علي بن مقلد بن نصر بن منقذ الكناني الشيزري (488-584 هجرية) مؤلف كتاب الاعتبار، والذي ولد في الشام وعاش في زمن حروب الفرنجة الصليبية وعاصر السلطان صلاح الدين الأيوبي وكانت علاقته وثيقة به، يقول الحافظ الذهبي في ترجمته في تاريخ الإسلام نقلا عن تاريخ الشيعة ليحيى بن أبي طيء: "كان إماميا حسن العقيدة، إلا أنه كان يداري عن منصبه ويظهر التقية، وكان فيه خير وافر، وكان يرفد الشيعة ويصل فقراءهم، ويعطي الأشراف"، ورغم أن هذه الصفات قد تهبط بصاحبها في زمننا إلى أسفل سافلين فقد كان للذهبي رأي آخر فقال عن هذا الأمير: " الأمير الكبير، مؤيد الدولة، أبو المظفر الكناني، الشيزري الأديب، أحد أبطال الإسلام، ورئيس الشعراء الأعلام"[10].
كما قال في كتاب العبر: " أحد الأبطال المشهورين والشعراء المبرزين، وله عدة تصانيف في الأدب والأخبار والنظم والنثر، وفيه تشيع"[11]، وفي سير النبلاء قال بعد تكرار المديح والتعريف كالأمير الكبير، العلامة، فارس الشام، مجد الدين...إلخ: "سافر إلى مصر (الفاطمية)، وكان من أمرائها الشيعة، ثم فارقها، وجرت له أمور وحضر حروباً ألفها في مجلد فيه عبر"[12].
أما ابن كثير فيكيل للأمير المدح بلا حساب فيقول:"الأمير الكبير سلالة الملوك والسلاطين، الشيزري، مؤيد الدولة، أبو الحارث، وأبو المظفر أسامة بن مرشد بن علي بن مقلد بن نصر بن منقذ أحد الشعراء المشهورين، المشكورين...وكان عمره تاريخاً مستقلاً وحده، وكانت داره بدمشق...وكانت معقلاً للفضلاء، ومنزلاً للعلماء، وله أشعار رائقة، ومعان فائقة، ولديه علم غزير، وعنده جود وفضل كثير..وكان في شبيبته شهماً شجاعاً قتل الأسد وحده مواجهة"[13]وذكر أيضا علاقته الوثيقة بالسلطان صلاح الدين الأيوبي وهو ما يعطي بعداً مثيراً لهذا السلطان المتهم بمعاداة الشيعة.
يتبع>>