مشاهدة النسخة كاملة : الشيخ تقي الدين النبهاني فكراً وكفاحاً
طائع خليفة
24-04-2013, 04:48 AM
الشيخ تقي الدين النبهاني فكراً وكفاحاً
تمهيد
إنّ نهضة الأمم مرتبطة بالمبادئ التي تعيش على أساسها، وإذا ما أحسنت أمّة فهم مبدئها، وأحسنت تطبيقه وأجادت مخاطبة العالم به ونشر رسالته، فإنّ الأمّة تلك تسلك معارج الرقيّ، وتبلغ ذرى المجد، وبقدْر ما يبقى المبدأ حياً في ذهن الأمّة، مجسَّداً في حياتها، محمولاً كرسالة إلى البشر كافة، بقدْر ما يطول عُمر الأمّة الذهبي، فإذا ما أساءت فهم مبدئها، أو أساءت تطبيقه، أو اهتزّت ثقة الأمّة بالمبدأ أو بصدق معالجاته المنبثقة عنه فإنّ الجيوش المتحفّزة للفتح، والساهرة على حماية الثغور لا تلبث أن تتقهقر، والانحطاط سيبدأ تدريجياً بالظهور على الأمّة، وقد تهوي إلى درك الانحطاط، ومن الأمم من يتعرّض إلى خطر الفناء والدمار. عندها تصبح الأمّة نهباً للدول، وصيداً سهلاً لكلّ طامع، ومعبَراً لخيول المغامرين، ومسرحاً لتجارب الأسلحة، وسوقاً لمنتجات مصانع أعدائها، فتعيش ليلاً حالك الظلمة، لا تنفكّ تتجرّع حسرة النكبة حتى تُرزأ بنكبة أخرى أكبر منها فتُنسيها التي قَبلها. عندما تصل أمّة إلى مثل هذا الوضع، تصبح مخاطبتها بالفكر، وعلاجها به، عملية معقدة، لأنها تصبح بحاجة إلى ثورة فكرية تعيد لها بناء الأسس التي تُبنى الأمّة عليها تفكيرها، ويصبح كل شيء لدى الأمّة من أعراف ومفاهيم ومقاييس وقِيَم بحاجة إلى أن يعاد قياسه من جديد ليُبنى على القواعد الفكرية الصحيحة.
وإنّ الأمّة -هي في مثل هذا الوضع الخطير- لا تُعدَم المخلصين من أبنائها ممن يتوفر لديهم الحس المُرهَف وإرادة التغيير، يحاولون إعادة هيبتها وإعادتها إلى مركزها الذي كانت عليه، إلاّ أنّ هؤلاء المخلصين سيصطدمون بظاهرة الانحطاط الفكري الرهيب الذي آلت إليه أمّتهم، وسيصطدمون بالحال الذي آلت إليه الأمّة من عدم وضوح المبدأ، وعدم وضوح طريقته، وعدم استعداد الأمّة لسماع الفكر، وعدم ثقتها بقدرة وأثر الفكرة على التغيير، فلا يجد أكثر المخلصين إلاّ انتهاج طريقة الإصلاح الجزئي، وتخفيف آثار الفساد، والقيام بأعمال من شأنها أن تجد صدى وقبولاً لدى الناس، فيمارسون ما من شأنه أن يُحدث صوتاً أو فرقعة، ظناً منهم أنّ ذلك يجمع الناس وراءهم، وأنّ مثل هذا النهج الإصلاحي الجزئي من شأنه أن يجعل النتائج ملموسة وواقعية. وهكذا يُفرِغون مخزون حماسهم، ويتحرّكون حركة الديك المذبوح. وهكذا تزداد عُقَد المجتمع، وتتعقّد مشاكل الأمّة، وتتوالى الإحباطات تلو الإحباطات، لأن الأمّة في كل مرة تعلِّق الآمال العريضة على مُصلح أو قائد، وإذ بالأمور تسير بها من سيئ إلى أسوأ.
في مثل هذا الليل الحالك، تصبح الحاجة ماسة إلى مجدِّد، تنقدح في ذهنه فكرة المبدأ، وتتضح لديه الطريقة لتنفيذ المبدأ، ويكتمل لديه تصور هيكلي لأولويات الأمور التي تلزم لإعادة الأمّة إلى المبدأ، وإعادة المبدأ إلى حياتها. فإذا ما توفرت لدى المجدِّد هذه النظرة الثاقبة، وتجسَّد به المبدأ وذاب هو فيه، وأصبح لا يرى حياته إلا من خلاله، وهانت عليه الدنيا، وزهد في متاعها، وتوفرت لديه الإرادة الكافية لتحمّل هذا الحمل الثقيل، وأصبح يستمدّ قوته من إيمانه ومن المبدأ مباشرة لا من نفس الرجال الذين يحيطون به، عندئذ تكون الأمّة قد أنجبت مجدِّداً، فيشقّ الطريق الصعب ليُنبت الكتلة الحزبية على أساس المبدأ، وليخاطب الأمّة به، مبرزاً في كلّ حين مشاكل الأمّة، مبيّناً طريقة علاجها بالمبدأ وأحكامه، مباشراً الصراع الفكري ضد كلّ فكر أو نظام، كاشفاً خطأ الأفكار والمعالجات وسوء الرعاية في ظلّ المبادئ الأخرى، محاسِباً للحكام على أساس المبدأ، داعياً الأمّة إلى محاسبتهم على أساسه.
فإذا ما أوجد الكتلة الحزبية المبدئية المطلوبة، وتجسَّد المبدأ في الكتلة، أخذت الكتلة الحزبية على عاتقها مخاطبة الأمّة، محاوِلة طرق باب المجتمع، والولوج فيه، والتأثير عليه، وعلى حياته وأعرافه وتقاليده ومفاهيمه ومقاييسه، لتشكّله بشكل المبدأ، وتصبغه بصبغته، يقودها المجدِّد الفذ الذي لا يبالي بما يعترضه من أصناف الجحود والتنكيل من الأمّة أو من الأنظمة، إلى أن تحتضن الأمّة المبدأ، وتحتضن الحزب، وعندها سيكون من العسير على الأنظمة القائمة ضرب الكتلة لأن ذلك يثير الأمّة.
ولأن فكرة الحزب والمبدأ الذي قام على أساسه تكون قد ضَربت جذوراً في الأرض لها صفة الامتداد الجذري، فلا تكاد الأنظمة تضربها في بقعة من الأرض إلا وقد ظهرت في بقعة أخرى وبشكل متجدّد قوي، فتزداد قوة الحزب بكثرة الضربات التي أصبحت تؤذيه ولا تميته، ولكن وفي كل مرة تعمل القيادة المجدِّدة على لملمة شعث رجالها بعد الضربة التي لحقت بها، لتخوض بهم الصراع الفكري والسياسي من جديد، وكأنها لا تدري بالضربة التي لحقت بها.
وهكذا ترى الأمّة وتَلمس مقدار تمسك الكتلة بالمبدأ، وجدارة الكتلة بقيادة الأمّة، وفشل الأنظمة القائمة في القضاء عليها، أو عزلها عن الأمّة، أو حرفها عن مبدئها، وعدم استعداد الكتلة للتنازل عن شيء من أحكام مبدئها، وعدم التفاتها لأصوات الناصحين والحاقدين الذين يريدون منها التنازل عن شيء من المبدأ، وعدم انشغالها بالترقيعات وتمسكها بضرورة أخذ المبدأ كاملاً وإحداث التغيير الجذري الانقلابي على أساسه، وعدم استجداء عطف الأمّة عن طريق الكفاح الرخيص الذي يُطرب الناس ولا يُثمر، أو عدم الضرب على الأوتار الحساسة التي من شأنها أن تهيج المشاعر ولا تُثري الفكر وعدم خداع الناس بمعسول القول.
عندئذ تصبح الكتلة ويصبح المبدأ في عيون الأمّة، ويُحفظا بجفونها، ويُحميا بالغالي والنفيس، فهم أبناؤها والمبدأ مبدؤها وعقيدتها، ونظامه شريعتها، وخصومه هم دعاة ومروّجو فكر أعدائها، وهم القائمون على حراسة مكتسباتهم، وحراس تمزيق وتقسيم جسد أمّتهم. عندئذ يصبح المبدأ، وتصبح الكتلة الحزبية في حصن حصين، ويصبح مطلب الحزب هو مطلب الأمّة، ولغته هي لغتها، وهي لغة المجدّد الذي خاطب الأمّة بواسطة الحزب.
وإنّ الرجل لم يَعِش ليكون كاتباً يُثري المكتبات، أو مؤلِّفاً تُدرَّس مؤلفاته، أو باحثاً ينقِّبُ عن الحقيقة ليقف عند حدّ ذلك، أو ممتهِناً للسياسة، أو مدرِّساً لها، بل أراد أن يعيش ويبحث ويؤلف ليرعى الأمّة بالمبدأ، وليُنهِض الأمّة على أساس المبدأ، وليحارب الغزو الفكري والحضاري الذي استشرى في أوساط المتعلّمين ردحاً من الزمن، وليعمل على تحرير الأمّة من الاستعمار الفكري والإحباط، ومن الغزو الفكري، وليسوس الأمّة بمبدأ الإسلام بعد أن يعيد ثقة الأمّة به وبمعالَجاته.
ورغم أنني أوثِر البُعد عن البحث والكتابة عن الأشخاص، إلاّ أنّ لدراسة الحقبة التاريخية التي عاشها أثر كبير في ولادة هذا المجدِّد، ومن هنا لا غِنى عن معرفة شيء موجَز عن كل هذا، لنتعرّف إلى الظروف التي أنجبته.
طائع خليفة
24-04-2013, 04:53 AM
زمن النبهاني
لقد عاش تقي الدين النبهاني أكبر هزائم الأمّة، وأفظع نكباتها، واستفاد من الأحداث التي معست الأمّة في هذه الحقبة، ومن دراسة الحركات العديدة التي حاولت الإصلاح في هذا القرن، مثلما استفاد من النشأة البيتية ومن التعليم الذي تلقّاه، فقد وُلد في قرية إجزم سنة 1909، وتيسّرت له نشأة صالحة في كنف والده الفقيه إبراهيم الذي كان يعمل مدرِّساً للعلوم الشرعية في وزارة المعارف الفلسطينية، وبرعاية جده لأمّه الشيخ يوسف النبهاني، أحد العلماء البارزين في الدولة العثمانية، وتسنّى له بفضل هذه التربية الخاصة أن يحفظ القرآن الكريم كاملاً قبل الثالثة عشرة من عمره، واستفاد من عِلم جدّه الغزير، ومن مناظراته الفقهية. وألمَّ بالقضايا السياسية التي كان لجدّه دراية بها، فلفت نبوغه ونباهته نظر جدّه، فأقنع والده بضرورة إرساله إلى الأزهر لمواصلة تعليمه الشرعي سنة 1928. وتخرَّج سنة 1932 فعاد إلى فلسطين ليعمل مدرِّساً للعلوم الشرعية، فقاضياً لمحكمة القدس الشرعية سنة 1948 فعضواً في محكمة الاستئناف.
لقد عاش الشيخ تقي الدين النبهاني وشهِد كارثة سقوط الخلافة، والنكبات التي حلّت بالأمّة، ومزّقت جسدها، والاستعمار الذي تكالب عليها، واحتلال فلسطين عام 1948، ونجاح الغزو الفكري والحضاري، وموقف علماء المسلمين الذين واجهوا هذا الغزو الخطير بلغة المدافِع عن الإسلام، والمؤوِّل لنصوصه، مما ساهم في تمكين الفكر الغربي وزعزعة ثقة الأمّة بالإسلام كنظام حياة.
قبل أربعة عشر قرناً ونيّف، أقام الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم دولة الإسلام في المدينة المنورة، وكانت هذه الدولة تحتلّ مركز الدولة الأولى في العالم. وفي معظم الوقت الذي عمّرته، كان اقتصادها قوياً، وكان جيشها الجيش الذي لا يُغلَب، ولم يخطر على بال أهلها أنها ستسقط، وأنّ مبدأها الإسلام سيصبح تراثاً في المتاحف وخزائن الكتب، وأنّ المجتمع الإسلامي سيصبح مجتمعاً غير متميّز، مقسَّماً في كيانات هزيلة شتّى. لم يخطر ذلك ببال المسلمين، ولم يتعرّض مفكّرو وعلماء المسلمين في دولة الخلافة إلى كيفية إعادة إقامتها إذا ما سقطت، وذلك لسببين: أولهما السبب الذي أسلفناه، وهو استبعاد زوالها وسقوطها، وثانيهما يعود إلى واقع الفقه الإسلامي، والذي هو علمٌ بالأحكام الشرعية العملية المستنبَطة من الأدلة التفصيلية، فهو لا يَبحث ولا يتناول حوادث أو فرضيات لم تحصُل، ولا يُتوقّع حصولها، فنجد كتب الفقه تعرِض أحكام العبادات والمعاملات وأحكام الجهاد والمعاهدات وأحكام الإمارة والخلافة والبيعة وعزل الخليفة، ولكنها لم تتناول أحكام الطريقة التي بها يعاد إقامة الخلافة في حال عدم وجودها. فنَقَل الرواة والمحدِّثون سيرة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في المرحلة المكّيّة قبل قيام الدولة نقلاً تاريخياً دون أن يتعرّضوا لفقه هذه السيرة، ودون أن يتعرّضوا لأحكام طريقة إيجاد الدولة الإسلامية.
وفي صبيحة الثالث من آذار (مارس) 1924م أعلن المجلس الوطني العثماني بزعامة مصطفى كمال إلغاء دولة الخلافة وتسفير آخر خليفة للمسلمين إلى سويسرا جبراً عنه، فتمّ للدول الكافرة - وعلى رأسها الإنكليز في ذلك الوقت - ما أرادت من القضاء على دولة الخلافة، ومن تدمير الإسلام كدستور دولة، وتشريع أمّة، ونظام حياة.
بعدها تغيّر حال المسلمين، فبعد أن كانوا أمّة واحدة في ظِلّ دولة الخلافة، أصبحوا شعوباً متفرّقة ضمن كيانات هزيلة ضعيفة تخضع للدول الكافرة. وبعد أن كانوا يحتكمون إلى الإسلام في جميع شؤون حياتهم صاروا خاضعين لأنظمة وضعية.
تأسيس حزب التحرير
في هذا الواقع المرير المؤلم، كانت حياة تقي الدين النبهاني، فوجدناه أثناء دراسته في الأزهر سائلاً ومناقشاً وباحثاً عن سبب الحال الذي آل إليها المسلمون، والطريقة الصحيحة لإعادة ذلك الصرح الشامخ الذي هدمه الكافرون. وبنتيجة الأسئلة، البحث والفكر، توصّل إلى فكرة وطريقة إعادة مبدأ الإسلام إلى حياة المسلمين، فبدأ يصمّم المخطّط الهندسي لذلك البناء، ويَحسب ما يلزمه من مواد كمّاً ونوعاً، حتى أصبح لديه تصوّر واضح لما سيكون عليه هذا البناء في جميع مراحل إقامته منذ تأسيسه وحتى أن يصبح عامراً بأهله. لقد أدرك النبهاني أنّ علاج الأمة ومشاكلها لا يكون إلاّ باعادة الكيان السياسي الذي يحقق تطبيق الإسلام في الحياة، ونشر الإسلام في الأرض. فلم يَقبل أن يُشغِل فكره في المشاكل الجزئية للمسلمين، التي نتجت عن غياب دولة الإسلام، والتي أفرزتها أنظمة الكفر المطبَّقة على المسلمين، بل ركّز فكره وجهده على ضرورة إعادة دولة الإسلام ليطبَّق الإسلام أحكاماً، ويُحمى عقيدةً، ويُنشر إلى العالمين رسالةً، إذ لا تتأتّى هذه الأهداف ولا تتحقّق إلاّ بطريقتها الشرعية وهي الدولة، وبدونها لا تطبَّق أحكام الإسلام ولا تُحرَس العقيدة ولا تُنشَر الدعوة.
ولمّا لم يجد تقي الدين النبهاني في كتب الفقهاء مِن بيان لأحكام الطريقة الشرعية لإعادة الخلافة إلى الأرض، فقد أقبَل يَدرس الحركات التي أخذت على عاتقها إنهاض المسلمين في هذا القرن، ولكنه وجد أنّ هذه الحركات هي الأخرى لم تضع طريقة لتنفيذ فكرتها، بل غلب الارتجال على أعمالها، إضافة إلى الغموض والإبهام الذي لحق بفكرتها، كما أنه وجد أنّ طريقتها في ربط أعضائها ليست طريقة صحيحة، فكانت أقرب إلى التجميع منها إلى التكتل الحزبي، عندئذ أقبل يدرس أفكار الناس وأحوالهم ويتجوّل على مدنهم وقراهم محتكّاً بالعامّة والخاصّة، وبدأت ثمرة فكره بالنضوج سنة 1953 حيث باشر في تنفيذ ما وصل إليه على شكل نواة لحزب سياسي مبدؤه الإسلام وغايته استئناف الحياة الإسلامية بإعادة دولة الخلافة إلى الوجود، وطريقته هي طريقة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في التغيير، وقد أسماه حزب التحرير، فكان رحمه الله السبّاق إلى إحياء فكرة الخلافة والدعوة إليها، وتأسيس حزب لهذه الغاية. ولم يكن هذا الحزب فرعاً لغيره، ولا انشقاقاً عن غيره، بل كان حزباً قائماً بذاته، من أول يوم أنشأه فيه، ارتبط بالفكرة والتزم بالطريقة، ولم يَقبَل إلا أن تكون الفكرة والطريقة من جنس المبدأ، فلا ارتجال في العمل، ولا عمل قبل الفكر والبحث.
ولمّا كانت إعادة الخلافة من أخطر الأعمال والأحداث على صعيد محلي وعالمي، فقد أعدّ لهذا الأمر الخطير عدّته المتمثلة بالفكرة العميقة النقية الصافية، مُبعِداً عن الفكرة كل ما يمكن أن يَلصَق أو يعلق بها أو يشابهها من المبادئ الأخرى، والطريقة الواضحة المستقيمة، والإنسان النقي الواعي الذي انصهر بالمبدأ، وعاش له. وهذه الثلاثة: الفكرة والطريقة والإنسان المناسب، هي نواة الحزب التي توجِد الخلية الأولى للحزب، والتي لا تلبث أن تتكاثر إلى خلايا عديدة تكوّن الخلية الأولى للحزب. ومتى وُجدت الحلقة الأولى فقد وُجدت ونَبتت الكتلة الحزبية. وهكذا يستمرّ العمل إلى أن تُستأنف الحياة الإسلامية بإقامة الدولة الإسلامية.
تجديدات النبهاني
ولا أستطيع في هذا المقام أن أتعرّض لجميع نتاج هذا العالِم المفكر وكفاح هذا الداعية المجدِّد، ولكنني سأقتصر في ذلك على الخطوط العريضة التي تبنّاها، والتي يَظهر فيها التجديد الذي لم يُسبَق إليه في المجالات الفكرية والفقهية والسياسية.
أولاً: المجال الفكري:
رأى الشيخ تقي الدين النبهاني أنّ العقل هو أداة الفهم للواقع وللنصوص، وهو القوة الواعية في الإنسان التي يجب مخاطبتها، فلا بدّ من معرفة كنه العقل وماهيّته وكيف يَحصل، فتبنّى تعريفاً دقيقاً للعقل لم يُسبق إليه، حيث اعتَبر العقل هو نقل الإحساس بالواقع إلى الدماغ مع وجود معلومات سابقة يُفسَّر بها هذا الواقع، وربط المعلومات بالواقع، وإصدار الحُكم عليه. فالعقل عنده أو الإدراك أو الفهم أو الفكر أسماء لمسمى واحد. ومكوّناته أربعة هي: الدماغ الصالح، والواقع، والحواس، والمعلومات السابقة التي يُفسَّر بها الواقع.
وبذلك يكون الشيخ تقي الدين النبهاني قد اختطّ طريقة معينة في التفكير، فجاءت أحكامه دقيقة منطبقة على الواقع تمام الانطباق. وعَرّف المجتمع مبيِّناً أنّ المجتمع لا يتكوّن من أفراد فقط، كما هو الحال في فهم الرأسماليين، بل المجتمع مكوَّن من أفراد وأفكار ومشاعر وأنظمة، فمن أراد أن يغيّر مجتمعاً فعليه تغيير العناصر السائدة فيه وهي الأفكار والمشاعر والأنظمة. وعَرّف النهضة بأنها الارتفاع الفكري وليس هي الارتفاع في مستوى المعيشة أو المستوى العلمي أو المظاهر المادية، لأنّ هذه الأخيرة قد تكون مظاهر أو نتائج للنهضة، كما هو الحال في الكويت والإمارات. ثم بيّن أنّ النهضة لا تكون إلاّ بمبدأ، وعرَّف المبدأ بأنه عقيدة عقلية ينبثق عنها نظام، ورأى أنّ الرابطة المبدئية هي الرابطة الصالحة لربط الإنسان بالإنسان، وأمّا الروابط الأخرى كالوطنية والقومية والمصلحية فهي روابط مؤقتة وعاطفية وغير إنسانية، لأنها عاجزة عن ربط وتنظيم علاقة الإنسان بالإنسان، ولا تحتوي على نظام لإشباع غرائز وحاجات الإنسان. ثم فرَّق بين الحضارة والمدنية، وبين الثقافة والعلم، وبين المنهج العلمي والمنهج العقلي في البحث، وصحّح كثيراً من المفاهيم التي تأثّرت بالفلسفات الأخرى والتي اعترتها عوامل التغشية والإبهام، وأعادها إلى ما كانت عليه زمن الصحابة مبعِداً عنها التأثر بالفلسفات الأجنبية، فبَحَث مسألة القضاء والقدر، والهُدى والضلال، وأجلى مفاهيمها.
كما اتخذ موقفاً من الاصطلاحات الفكرية والسياسية الحديثة، فالاصطلاح الذي يدلّ على واقع أقرَّه الإسلام أخذ به، كاصطلاح الدستور أو القانون، والنهضة، والكفاح السياسي والتحريك السياسي، والاصطلاح الذي يدلّ على واقع لا يُقرّه الإسلام لم يأخذ به، كاصطلاح العدالة الاجتماعية، والديمقراطية، والجمهورية، والحريات بمفهومها الغربي.
والإنسان عنده مكوَّن من مادة أودع الله فيها خصائص وهي الغرائز والحاجات العضوية والتفكير، وميّز بين الروح التي هي سرّ الحياة وبين الروح المكتسَبة وهي إدراك الصلة بالله، وهي لا توجَد إلاّ عند المؤمن بالله. والإنسان عنده في جميع العصور هو الإنسان، فغرائزه وحاجاته العضوية لا تزيد ولا تنقص، لذلك كان النظام الذي ينظم إشباع هذه الغرائز والحاجات العضوية الإشباع الصحيح هو الذي يَضمن للإنسان الطمأنينة في الدنيا، والسعادة في الآخرة، وهو نظام الإسلام الذي هو صالح لكلّ زمان ولكل مكان، ويصلح للإنسان مهما كان جنسه أو لونه أو دينه.
لقد عرض تقي الدين النبهاني هذه الأفكار عرضاً فكرياً واضحاً، معتمداً على طريقته في التفكير بحيث يستطيع كلّ انسان مهما كانت ثقافته أن يدركها، لأنه خاطب الإنسان العاقل بغضّ النظر عن وجهة نظره في الحياة. وبذلك يكون قد وضع طريقة جديدة في التفكير، وخاطب بهذه الطريقة الإنسان، لا باعتباره مسلماً أو نصرانياً أو غير ذلك، بل باعتباره إنساناً يملك دماغاً وحواسّ ولديه معلومات سابقة عن الواقع الذي هو محلّ التفكير.
طائع خليفة
24-04-2013, 04:54 AM
ثانياً: المجال السياسي:
وفي هذا المجال اختطّ طريقاً مميزاً عن سائر السياسيين في عصره، فوضع قواعد ثابتة يسير عليها في السياسة فهماً وتحليلاً وممارسة. فوضع تعريفاً دقيقاً لمفهوم السياسة من أنها مباشَرة رعاية شؤون الأمّة داخلياً وخارجياً، وعدّ التفكير السياسي أعلى وأصعب أنواع التفكير، واعتبر العقيدة الإسلامية عقيدة سياسية، وأنّ على السياسي أن يتزوّد بالتجربة السياسية، وأن يتميّز بدوام اليقظة والتتبّع لجميع الحوادث اليومية حتى يتمكّن من التفكير السياسي.
وفرَّق النبهاني بين العالِم بالسياسة وبين المفكّر السياسي، فالأول لديه معلومات تمكّنه من أن يكون معلِّماً للعلوم السياسية أو محلِّلاً لها، ولا يرقى أن يكون سياسياً. أمّا الثاني فهو الذي يفهم الأخبار والوقائع الجارية ومدلولاتها ويصل إلى المعرفة التي تمكّنه من العمل وهو رعاية شؤون الأمّة من وجهة النظر التي يتبنّاها. ولذلك نجده في كتاب "مفاهيم سياسية لحزب التحرير" لم يَسِر على نهج مَن سبقوه ممن كانوا يُعَدّون سياسيين، بل درس واقع العالَم وما فيه من دول، وصنّف الدول من حيث تأثيرها في الموقف وفي السياسة الدولية، ودرس طبائع شعوب العالم، كالشعب الإنكليزي والأمريكي والروسي والصيني والألماني وغيرها، وأثر طبائع هذه الشعوب على سياسة دولها، واعتبر فهم السياسة الخارجية أمراً جوهرياً لحِفظ كيان الدولة الإسلامية وأمراً أساسياً للتمكّن من حمل الدعوة الإسلامية إلى العالم، وعملاً لا بدّ منه لتنظيم علاقة الأمّة الإسلامية بغيرها من الأمم على وجه صحيح.
ولذلك وجدنا الشيخ تقي الدين النبهاني قد تتبّع الأعمال السياسية التي تجري في العالم، ولاحظ الخطط السياسية للدول في أساليب تنفيذها، وفي كيفية علاقتها بعضها ببعض وفي المناورات السياسية التي تقوم بها هذه الدول، وإدراك حقيقة الموقف في العالم الإسلامي على ضوء فهم الموقف الدولي، مما جعله قادراً على تصوّر الأساليب اللازمة لإقامة دولة الخلافة في مثل هذا العالم المتصارع على المصالح والنفوذ من خلال العلاقات الدولية المعقدة والمتشابكة.
ولمّا كان الشيخ يرى أنّ الموقف الدولي لا يظلّ ثابتاً على حال واحدة، فهو يتغيّر حسب تغيّر الأوضاع الدولية، كان حريصاً على رصد الأحداث الدولية المؤثرة في الموقف الدولي، فنجده كلما تغيّرت الموازين الدولية يبيّن الموقف الدولي الجديد، وأوضاع دول العالم بناء على هذا الموقف، وأثر ذلك على العالم الإسلامي بشكل خاص، وعلى إمكانية إقامة دولة الخلافة وحماية كيانها تحديداً. يتضح ذلك من خلال كتابه "مفاهيم سياسية لحزب التحرير" بطبعاته الثلاث المختلفة المضمون حسب تغيّر الموقف الدولي، وفي كتابه "نظرات سياسية لحزب التحرير" المطبوع سنة 1973 الذي بيّن فيه الموقف الدولي وقتذاك، والذي ظلّ ثابتاً بعد وفاته إلى أن انهارت الدولة الثانية في العالم، وانفردت أمريكا بالعالم، فأصدر حزب التحرير - بقيادته الجديدة - نشرة توضح تغيّر الموقف الدولي بناء على القواعد التي أرساها تقي الدين النبهاني لفهم السياسة الدولية. وكان رحمه الله بناء على القواعد التي أرساها للفهم السياسي يُصدر نشرات في الأحداث السياسية العالمية والمحلية، وكانت الأمّة الإسلامية والمهتمون بالسياسة، ينتظرون هذه النشرات، ولا سيما عندما تختلط عليهم الأمور، بفارغ الصبر، فلم يكد يمرّ حدث ذو بال، أو يتمّ تحرّك سياسي أو تحاك مؤامرة على الأمّة إلاّ كان لها بالمرصاد محلّلاً أو كاشفاً أو طالباً من الأمّة موقفاً لإحباطها. وقد ترك في هذا المجال آلاف البيانات والتحليلات السياسية التي تعتبر تاريخاً مفصلاً ومرجعاً دقيقاً لفهم كافة الأحداث السياسية التي مرّت على المنطقة والعالم منذ سنة 1953م.
ولقد كان الشيخ تقي الدين ذا حِسّ مرهف، وفكر ثاقب متّقد، يكاد أن يرى في الأمور السياسية ما وراء الجدار، وقد كشف أحداثاً ومؤامرات دولية قبل وقوعها، وتوقّع أحداثاً قبل أن تقع بزمن، فأصدر نشرة بيّن فيها المؤامرة على بقية فلسطين قبل تنفيذها في الخامس من حزيران (يونيو)ى سنة 1967 بأكثر من ثلاثمائة يوم، وحذّر جمال عبد الناصر من مؤامرة الإنكليز على الوحدة بين سوريا ومصر قبل أن يتمّ الانفصال سنة 1961. ولم يكتفِ الشيخ تقي الدين بكشف المؤامرات على الأمّة، بل قام بعدة أعمال سياسية، وأرسل وفوداً إلى الحُكّام مباشرة، وحاول أن يحرّك الأمّة لإحباط تلك المؤامرات.
وكان يتميّز ببُعد نظره السياسي حتى في الأحداث الدولية والعالمية، فقد بيّن في كتابه "نظرات سياسية لحزب التحرير" ص51 المطبوع سنة 1973 ما نصّه: "وسيظلّ الاتحاد السوفيتي يرفع الفكرة الاشتراكية أو الفكرة الشيوعية عملياً إلى أن تصل إلى فكرة رأسمالية مرقّعة". وقد كشف سياسة الوفاق الدولي بين العملاقين خروشوف وكندي سنة 1961، ولم تكشفه الصين إلاّ بعد ذلك بسنوات. كما فضح أكذوبة منظّمة عدم الانحياز وبيّن الدول المستعمِرة التي وراء تشكيلها، مثلها مثل الجامعة العربية والجامعة الإسلامية ورابطة العالم الإسلامي وعُصبة الأمم وهيئة الأمم ومجلس الأمن، وأهداف كلّ منظمة من هذه المنظمات.
وقد أرشد رحمه الله في سياق أبحاثه السياسية عن الدول الطامعة في العالم الإسلامي والمستعمِرة له إلى كيفية التعامل مع هذه الدول حين قيام دولة الخلافة، مبيّناً اسباب قوة كلّ دولة منها وخطرها، ومواطن ضعفها، ومَقاتِلَها.
طائع خليفة
24-04-2013, 05:00 AM
ثالثاً: المجال الفقهي:
درس الشيخ تقي الدين النبهاني في الأزهر، فجمع بين النظامين الأزهري القديم والنظام الجديد في دار العلوم، وأظهر تفوّقاً في جِدّه واجتهاده، واطّلع على ما حوته مكتبة الأزهر في ذلك الوقت من مراجع لغة وأصول وفقه وغيرها، حسب ما ذكره زملاؤه الثقات الذين التقيتُ ببعضهم.
ولقد مكّنه هذا الاطّلاع الواسع من أن يُقعِّد قواعد خاصة له في علم أصول الفقه بناء على قوة الدليل الذي ترجَّح لديه، وحاكَم الكثير من القواعد الشرعية مبيّناً خطأ بعضها وصحّة بعضها ومصوِّباً بعضها. وقد وضع طريقة خاصة في الاجتهاد بعد تحديد مصادر التشريع الإسلامي بالمصادر الأربعة: القرآن والسنّة وإجماع الصحابة والقياس، التي قام الدليل على القطعي على أنها مصادر شرعية، مستبعِداً سائر المصادر الأخرى التي لم يتوفر دليل شرعي يقيني على حجّيتها، لأنه يرى أنّ مصادر التشريع شأنها شأن العقيدة في لزوم توفر الدليل اليقيني على اعتبارها.
واعتمد الطريقة الصحيحة في الاجتهاد التي تقوم على تحقيق المناط وفهم الواقع أولاً، ثم دراسة النصوص الشرعية المتعلّقة بهذا الواقع وتمحيصها للتأكد من أنها وردت للحكم على هذا الواقع المراد معالجته، ثم فهم معاني النصوص حسب معطيات اللغة العربية، ثم إصدار الحكم الشرعي المستفاد من هذه النصوص. وبموجب هذا النهج في الاجتهاد، أصبحت الطمأنينة قائمة على أنّ الأحكام التي استنبطها كانت أحكاماً شرعية مدعَّمة بقوة الدليل الشرعي. ولا يفوتنا أن ننوه أنه يَعتبِر رأيه صواباً يَحتمل الخطأ، ورأي مَن خالَفه خطأ يحتمل الصواب.
وعلى الرغم من كونه مجتهِداً مطلَقاً، ومتمكِّناً من البحث في جميع أبواب الفقه، إلاّ أنه اقتصر في اجتهاداته على ما يلي:
أولاً: ما يلزم الحزب لتمكينه مِن حمل الدعوة الإسلامية لاستئناف الحياة الإسلامية بإقامة الدولة الإسلامية، كما ورد في كتاب "الدولة الإسلامية" و"التكتل الحزبي" و"مفاهيم حزب التحرير".
ثانياً: ما يلزم للدولة الإسلامية من أحكام شرعية تمكِّنها من تطبيق الإسلام، وحمله، وتنظيم العلاقات الدولية بينها وبين الدول الأخرى، كما هو واضح في كتابه "الشخصية الإسلامية" و"نظام الحكم في الإسلام" و"مقدمة الدستور".
ثالثاً: استنبط أحكاماً شرعية لِما استجد من أمور لم تكن موجودة زمن المجتهدين السابقين، لبيان الحكم الشرعي فيها، من أجل اتخاذ موقف منها من قِبل المسلمين، مثل: التأمين والشركات المساهمة والمخترعات الحديثة.
وقد كان سبّاقاً إلى وضع دستور مدعَّم بالأدلة الشرعية، لتنظيم جميع الشؤون الداخلية والخارجية لدولة الخلافة.
وقد جاء أبحاثه الفقهية تؤكّد شمول الإسلام والفقه الإسلامي لحلّ كافة مشاكل الحياة، ولذلك حرِص أن لا يترك مجالاً من مجالات الحياة إلاّ ويضع له قواعد وأنظمة تكون أسساً ثابتة تُبنى عليها كلّ معالجة في هذا المجال.
ومِن نَهجِه في أبحاثه الفقهية هذه أنه كان يتعرّض أولاً إلى الأنظمة غير الإسلامية، كالرأسمالية والاشتراكية، فينقض طريقتها في المعالَجة وفهمها للمشكلة، ثم يطرح بعدئذ الأحكام الشرعية التي تنظّم هذه المعالَجات، كما هو واضح في كتابه "النظام الاقتصادي في الإسلام"، حيث نقض فهم الرأسماليين والاشتراكيين للمشكلة الاقتصادية، ونقض نظرية النُدرة النسبية، وفكرة الدخل القومي، ونظرتهم للملكية، ثم بيّن فهمه للمشكلة الاقتصادية من وجهة نظر الإسلام، وهي توزيع الثروة. كما فرّق بين علم الاقتصاد الذي هو عالمي، وبين نظام الاقتصاد الذي هو خاص بوجهة النظر في الحياة، وحذّر من خطر المساعدات الدولية وأهدافها الاستعمارية الخطيرة، كما حذّر من خطر القروض الدولية التي ترزح الأمّة اليوم تحت وطأتها ودورها في استعباد الشعوب وإذلالها.
وفي كتابه "النظام الاجتماعي في الإسلام" شنّع على الاشتراكيين والرأسماليين في نظرتهم إلى المرأة، موضحاً نظرة الإسلام للمرأة، كما أعطى مفهوماً خاصاً للنظام الاجتماعي قَصَره على علاقة الرجل بالمرأة، وما ينتج عنها من أحكام.
وأمّا في كتابه "نظام الحكم في الإسلام" فقد نَقَض نظرية الحكم الجماعي، وبيّن أنّ القيادة في الواقع فردية، ويستحيل أن تكون جماعية. كما بيّن أن نظام الحكم في الإسلام هو نظام الخلافة، فهو ليس نظاماً ملكياً ولا جمهورياً ولا امبراطورياً. كما رسم هيكلاً مفصلاً للدولة الإسلامية وأركانها وأجهزتها، بعد أن بيّن قواعد الحكم الأساسية في الإسلام.
وبهذا التوضيح لنظام الحكم في الإسلام أصبح شكل الدولة الإسلامية واضحاً ومحدّداً ومتصوّراً، يسهُل على من يأتي بعد تقي الدين النبهاني أن يشيّد دولة إسلامية بعد هذا التحديد. كما يسهُل على كلّ من يقرأ كتابه "نظام الحكم في الإسلام" أن يميّز بين دولة إسلامية وبين دولة غير إسلامية، فلا تختلط الأوراق بعد تحديد القواعد والأركان والأجهزة والشكل لنظام الحكم في الإسلام.
ميزة التفكير
ومما تميّزت به طريقة الشيخ النبهاني في الاستنباط والاجتهاد أن جَعَل الواقع محلّاً للتفكير وليس مَصْدراً له، وأخضع الواقع للمعالجة بالحكم الشرعي، وأصبح الواقع يتشكّل بالإسلام ولا يتأثّر الحكم الشرعي بالواقع كما جرى لكثير من العلماء والمتأخّرين الذين أصبحوا يلوون أعناق النصوص لتلائم الواقع، ولترضي أهواء السلاطين.
وكان أثناء حياته رحمه الله يرفض أن يكون شخصه أو علمه موضوع بحث أو نقاش من أجل أن يكون الالتفاف حول المبدأ، والتكتّل حول المبدأ، ولتصبح الرابطة الحزبية هي رابطة المبدأ لا رابطة أشخاص، وبهذا ضَمِنَ بقاء الحزب ووحدة الحزب واستقامة القيادات التي تقوده، لأنها لا تملك إلا الالتزام بالفكرة والطريقة، وليس لأشخاصها من وجود في الكتلة إلا بمقدار خدمتهم للمبدأ، وإبداعهم في إنجاز أهدافه، وانصهارهم في فكرته.
كما رسم الحزب طريقة واضحة في حمل الدعوة، فلا يهادِن ولا يداهِن ولا يَقبل بالتدرّج ولا بأنصاف الحلول، ولا يجامل على حساب المبدأ، ممثّلاً ومتمثّلاً برسول الله صلى الله عليه وسلم حين ساومته قريش على المُلك والجاه والمال، فأصرّ إلا المبدأ، وصَرَف النظر عن بني عامر حين أرادوا له حكماً مشروطاً بشرط يخالف الشرع وأبى إلاّ الإسلام كاملاً غير منقوص.
ولقد كان رحمه الله يُثلج صدره رؤية الشباب المفكّر، معتبراً أنّ الأمّة الإسلامية إذا أصبح التفكير لديها سجيّة فإنها ستعود خير أمّة أخرجت للناس، وألّف في أواخر سنيّ عمره كتاباً أسماه "التفكير" بيّن فيه أنّ الأمّة قد بدأت تتلمّس قيمة الفكر في حياتها وقيمة المفكرين، آملاً أن ينتقل التفكير لديها من تفكير الأفراد إلى تفكير الجماعات، ليصبح تفكيراً جماعياً لا تفكيراً فردياً، وأن يكون تفكير الأمّة لا تفكير الأفراد، فتصبح الأمّة مفكِّرة، وتعود كما كانت خير أمّة أخرجت للناس.
خاتمة
وعلى الرغم من عِظَم الخطوب التي مرّت بالأمّة أثناء عمله السياسي، فإنّ هذه الخطوب والإرهاصات لم تزِدهُ إلاّ عزيمة ومَضَاء في العمل، ولم يتطرق إليه اليأس أو الإحباط، بل كان رحمه الله واثقاً بنصر الله الذي لا بدّ منه، غير مغترّ بتقلّب الذين كفروا في البلاد، حتى مكّن الله سبحانه وتعالى من دحر الغزو الفكري، وأصبحت سهام المسلمين تصيب جسد الرأسمالية العلمانية الكافرة وديمقراطيتها المزيَّفة. وإذا كانت الاشتراكية قد سقطت، فإنّ الرأسمالية أكثر عفونة منها، وهي آيلة إلى السقوط، ولكن إقامة دولة للمسلمين، وإظهار النظام العالمي البديل، ووضع الخط المستقيم أمام الخط الأعوج المنحرف، من شأنه أن يسرِّع في تحطيم هذا المبدأ الاستعماري العفِن، الذي أصبح التطلّع للخلاص منه موجود حتى لدى شعوب الغرب نفسها، وكلنا ثقة بنصر الله الأكيد، وبقرب إقامة دولة خلافة في الأرض، تكون نواة لدولة عالمية لجميع المسلمين، ومخاطِبة الشعوب بالإسلام، وما هذه الإرهاصات التي يعيشها المسلمون، والتنكيل والتجويع الذي يحلاّ بهم في مشارق الأرض ومغاربها إلاّ مَثاراً للأمل بأنّ الإحساس بضرورة إعادة الخلافة إلى الأرض قد أصبح إحساس المسلمين وليس إحساس قُطر معيّن، وأنّ قضية الإسلام ستطفو على كافة القضايا لتعيش الأمّة للإسلام، وتضحّي من أجله، وتدرِك حين إقامة الدولة الإسلامية أنّ الدولة دولة المسلمين وليست دولة حزب معيَّن أو قُطر معيَّن.
بكر سالم الخوالدة ........ رئيس اللجنة الثقافية في حزب التحرير و امير حزب التحرير السابق
vBulletin® v4.0.2, Copyright ©2000-2025, Jelsoft Enterprises Ltd.