بوفيصيل
13-01-2013, 03:59 AM
من أسباب الهزيمة والانتصار بقلم: فتح الله كولن 2006.09.26
السؤال: انتشر الإسلام بسرعة، ولم تستطع أية قوة التغلب عليه مدة 1400 سنة، فما أسباب هذا؟ وما سبب الهزيمة الحالية؟
الجواب: هناك وجهات نظر متعددة حول الفرق بين معنى "الإسلام" ومعنى "الإيمان". ونحن لا نريد الدخول في مثل هذه التفاصيل، فإن عبرنا عن الإسلام والإيمان معاً قلنا إن المسلم هو الذي آمن بالله وبجميع أسس الإيمان والمستسلم لله تعالى، أي أن المسلم هو الشخص المرتبط بكل اخلاص بجميع أوامر الله تعالى فيما يتعلق بتنظيم حياته وحياة اسرته وبحياته الاجتماعية. لم يجد المسلمون في بعض العهود فرصة تطبيق الإسلام من الألف إلى الياء، ولكن إن كانت حماستهم للإسلام والشوق إلى عيشه موجوداً في قلوبهم، فنحن نأمل من الله ألاّ يؤاخذهم. لأن الابتعاد عن الإسلام قطع مسافة كبيرة بحيث لا يمكن الرجوع إليه دفعة واحدة ولابخطوة واحدة. فإن كانوا قد صمموا على الرجوع إلى الإسلام بعزم أكيد وبشوق عارم وبدأوا بوضع الخطط والافكار لمثل هذا الرجوع أنقذوا أنفسهم من المسؤولية: ذلك لأن هناك سبيلين للخلاص من المسؤولية يوم القيامة: أما عيش الإسلام كاملاً أو المجاهدة لإرجاع الإسلام إلى الحياة.
فإن لم يتم أحد هذين الأمرين فلا مهرب من المسؤولية يوم القيامة. كما ستكون حياتهم في الدنيا حياة ذليلة لأن البعد عن الإسلام سيؤدي إلى تسلط الكفر على شعب وساحات حياتهم جميعها سواء الاجتماعية منها أو الاقتصادية أو التجارية أو العسكرية. كما سيكونون مغلوبين في الساحة العلمية والتكنولوجية ثم يؤدون حساب تقصيرهم يوم القيامة.
قد لا تكون عدد السنوات (1300) سنة، ولكن كان دور صعود المسلمين لا يقل عن ألف سنة حيث وصلوا إلى ذرى عالية ولاسيما في عهد الخلفاء الراشدين الذي كانت فيه سرعة الصعود مذهلة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اخبر عن هذا العهد فقال: «يأتي على الناس زمان يغزون فيقال لهم فيكم من صحب الرسول صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون نعم، فيفتح عليهم. ثم يغزون فيقال لهم هل فيكم من صحب من صحب الرسول صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون نعم، فيفتح لهم».[1]
وفي حديث آخر يشير الرسول صلى الله عليه وسلم إلى هذه القرون الثلاثة السعيدة فيقول: «خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم».[2] وعندما نلقي نظرة على تاريخنا يتبين مدى صدق هذا الحديث النبوي.
استمر عهد الخلفاء الراشدين ثلاثين سنة فقط، ومع هذا فإن المسلمين في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه كانوا قد انتشروا في أرجاء الارض. فمن جهة وصلوا إلى "أرضروم" ومن جهة أخرى وصلوا إلى بحيرة "آرال". كل هذا بسبب روح الجهاد الذي كانوا يحملونه كانت افريقيا قد فتحت من أقصاها إلى اقصاها، حتى أن عقبة بن نافع وهو أول قائد إسلامي ذهب إلى هناك واستطاع أن يتم فتح افريقيا في حياته، وعندما توفي كان عمره خمسين عاماً، أي استطاع في سنوات قليلة اكمال فتح افريقيا حتى وصل إلى المحيط الاطلسي الذي كان العرب يطلقون عليه اسم بحر الظلمات ثم خاض البحر قائلاً: "يا رب! لولا هذا البحر لمضيت في البلاد مجاهداً في سبيلك".[3]
كما استطاع جلب البربر إلى صفه في جهاده هذا. لم يكونوا يملكون آنذاك عابرات القارات ولا السفن من حاملات الطائرات، ولا سفناً تستطيع مقاومة العواصف في البحار. بل كانوا يصلون إلى هذه البلدان على ظهور الجمال، وإذا احتاج الأمر للوصول إلى بلد وراء البحار، قطعوا هذه البحار على ظهر سفن صغيرة وبدائية. ومع كل هذا استطاعوا فتح بلدان عديدة في الشرق والغرب وفي زمن قصير. وإذا اردنا عرض الموضوع من الناحية الحسابية قلنا إن ما فتحه المسلمون في عهد الخلفاء الراشدين يعادل وقد يزيد على ماتم فتحه في عهود الامويين والعباسيين والسلاجقة والعثمانيين مع أن فتوحات عهد الراشدين كانت تستهدف في المقام الأول فتح القلوب ونشر الإسلام.
إن من أسرار القدر أن البلدان التي يوجد فيها المسلمون حالياً فتحت كلها في عهد الصحابة. فمع أن الاندلس بقيت تحت ظل الإسلام ثمانية قرون تقريباً لا تجد فيها الآن ما يشبع فؤادك. أما بلدان تركستان وداغستان ومانغوجيستان واوزبكستان فلا تزال المساجد والمآذن والمدارس الدينية موجودة فيها ذلك لأن هذه البلدان فتحت من قبل الصحابة، واعطت هذه البلدان رجالاً عظماء للعلم وللإسلام كالبخاري ومسلم والترمذي وابن سينا والفارابي. لقد عاش الإسلام في هذه البلدان بحق.
ونحن نتمنى أن تعود هذه البلدان "التي اسست قواعدها على الاخلاص وبذرت بذورها بصدق وامتزجت دماء الصحابة بملاطها" إن شاء الله إلى الإسلام وإلى يده البيضاء مرة أخرى.[4] أجل! فنحن كافة ننتظر مثل هذا اليوم ونشعر ونحس بوجودنا في هذه البلدان، ونحن نؤمن بأنه سيأتي اليوم الذي يعود فيه الإسلام الذي غاب عن هذه البلدان إليها... يعود كموجات متلاحقة الواحدة منها إثر الأخرى. وهذا موضوع آخر وموضوع حيوي لا نتناوله حالياً، بل نرجع إلى الصدد.
إذا كان الصحابة قد نجحوا في فتح العالم في مدة قصيرة فلا بد أن لهذا الأمر أسبابه وتقييمه. لقد كان أيُّ واحدٍ من الصحابة محبًّا للدعوة الإسلامية إلى درجة العشق والوجد. ومن نظر إليهم من الخارج ولم يعرف حقيقة الأمر ظنهم من المتهورين إلى درجة الجنون، لأن ما فعلوه كان يذهل العقل فعلاً.
نام علي بن أبي طالب رضي الله عنه في فراش الرسول صلى الله عليه وسلم ليلة الهجرة من مكة إلى المدينة. وهذا يعني أنه رضي منذ البداية بأن يقطع بضربات السيوف ارباً ارباً ولكن ايدي المشركين بقيت معلقة في الهواء عندما علموا بأن الراقد في الفراش ليس رسول الله صلى الله عليه وسلم بل هو ابن عمه علي كرم الله وجهه. أما سبب تجمد ايديهم في الهواء فهو من الدهشة. لأن عقولهم لم تستوعب هذا الأمر.
فكيف يقوم شاب في السابعة عشرة من عمره بمثل هذه التضحية التي قد تُودِي بحياته بأبشع صورة؟ لقد ذهل المشركون -ومن بينهم أبو جهل- من هذا المنظر. ثم توجه أبو جهل إلى بيت عبد الله بن جحش وصعد إلى سطح البيت وهناك سمع ثغاء الغنم من داخل البيت فلم يخف عجبه، لأنه لم يكن قد بقي في البيت أي إنسان إذ عندما هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة اسرع الجميع بالهجرة.
وفي أحد الأيام مرة عتبة بن ربيعة والعباس بن عبد المطلب وأبو جهل بن هشام على دار بني جحش وهم مصعدون إلى أعلى مكة، فنظر إليها عتبة بن ربيعة وأبوابها تصطفق يَبابا ليس فيها ساكن. فلما رآها كلك تنفس الصعداء ثم قال:
وكل دار وإن طالت سلامتها يوما ستدركها النَكْباء والحُوب
ثم قال عتبة: "أصبحت دار بني جحش خلاء من أهلها!"[5] كانوا يتركون كل شيء ويهجرون بيوتهم وعيالهم وأموالهم وأغنامهم... كل شيء... إذن فكيف يمكن للمشركين أن يفهموا هذا الأمر؟
أجل! فعندما هاجر أبو بكر رضي الله عنه من مكة إلى المدينة لم يأخذ أحداً من أهل بيته... لم يأخذ معه زوجته ولا والده ولا أحداً من أولاده، بل تركهم جميعاً في مكة وهاجر وحده. أما عثمان بن عفان رضي الله عنه فلم يأخذ معه حتى زوجته رقية رضي الله عنها وهي بنت الرسول صلى الله عليه وسلم ونور عينه، ولو قيل لأي منا إن رقية بحاجة إلى من يضحي في سبيلها بنفسه، لاسرع الجميع إلى التضحية بنفسه في سبيلها. ولكنها بقيت في مكة وهاجر عثمان رضي الله عنه وحده إلى المدينة.
كان ذلك العهد عهداً للذين ارتبطوا بصدق واخلاص بالرسول صلى الله عليه وسلم. لقد كان اتباعهم وحبهم له مذهلاً حتى أن عروة بن مسعود بعدما قابل رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية وقد رأى ما يصنع به أصحابه، لا يتوضأ إلا ابتدروا وَضوءه، ولا يبصق بصاقا إلا ابتدروه، ولا يسقط من شعره شيء إلا اخذوه، رجع إلى مكة فقال: "أي قوم، والله لقد وفدت على الملوك ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله إنْ رأيت ملكا قط يعظّمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدا. واللهِ إنْ تنخَّم نُخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وَضوئه، وإذا تكلم خفَضوا أصواتهم عنده وما يُحدّون إليه النظر تعظيما له".[6]
السؤال: انتشر الإسلام بسرعة، ولم تستطع أية قوة التغلب عليه مدة 1400 سنة، فما أسباب هذا؟ وما سبب الهزيمة الحالية؟
الجواب: هناك وجهات نظر متعددة حول الفرق بين معنى "الإسلام" ومعنى "الإيمان". ونحن لا نريد الدخول في مثل هذه التفاصيل، فإن عبرنا عن الإسلام والإيمان معاً قلنا إن المسلم هو الذي آمن بالله وبجميع أسس الإيمان والمستسلم لله تعالى، أي أن المسلم هو الشخص المرتبط بكل اخلاص بجميع أوامر الله تعالى فيما يتعلق بتنظيم حياته وحياة اسرته وبحياته الاجتماعية. لم يجد المسلمون في بعض العهود فرصة تطبيق الإسلام من الألف إلى الياء، ولكن إن كانت حماستهم للإسلام والشوق إلى عيشه موجوداً في قلوبهم، فنحن نأمل من الله ألاّ يؤاخذهم. لأن الابتعاد عن الإسلام قطع مسافة كبيرة بحيث لا يمكن الرجوع إليه دفعة واحدة ولابخطوة واحدة. فإن كانوا قد صمموا على الرجوع إلى الإسلام بعزم أكيد وبشوق عارم وبدأوا بوضع الخطط والافكار لمثل هذا الرجوع أنقذوا أنفسهم من المسؤولية: ذلك لأن هناك سبيلين للخلاص من المسؤولية يوم القيامة: أما عيش الإسلام كاملاً أو المجاهدة لإرجاع الإسلام إلى الحياة.
فإن لم يتم أحد هذين الأمرين فلا مهرب من المسؤولية يوم القيامة. كما ستكون حياتهم في الدنيا حياة ذليلة لأن البعد عن الإسلام سيؤدي إلى تسلط الكفر على شعب وساحات حياتهم جميعها سواء الاجتماعية منها أو الاقتصادية أو التجارية أو العسكرية. كما سيكونون مغلوبين في الساحة العلمية والتكنولوجية ثم يؤدون حساب تقصيرهم يوم القيامة.
قد لا تكون عدد السنوات (1300) سنة، ولكن كان دور صعود المسلمين لا يقل عن ألف سنة حيث وصلوا إلى ذرى عالية ولاسيما في عهد الخلفاء الراشدين الذي كانت فيه سرعة الصعود مذهلة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اخبر عن هذا العهد فقال: «يأتي على الناس زمان يغزون فيقال لهم فيكم من صحب الرسول صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون نعم، فيفتح عليهم. ثم يغزون فيقال لهم هل فيكم من صحب من صحب الرسول صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون نعم، فيفتح لهم».[1]
وفي حديث آخر يشير الرسول صلى الله عليه وسلم إلى هذه القرون الثلاثة السعيدة فيقول: «خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم».[2] وعندما نلقي نظرة على تاريخنا يتبين مدى صدق هذا الحديث النبوي.
استمر عهد الخلفاء الراشدين ثلاثين سنة فقط، ومع هذا فإن المسلمين في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه كانوا قد انتشروا في أرجاء الارض. فمن جهة وصلوا إلى "أرضروم" ومن جهة أخرى وصلوا إلى بحيرة "آرال". كل هذا بسبب روح الجهاد الذي كانوا يحملونه كانت افريقيا قد فتحت من أقصاها إلى اقصاها، حتى أن عقبة بن نافع وهو أول قائد إسلامي ذهب إلى هناك واستطاع أن يتم فتح افريقيا في حياته، وعندما توفي كان عمره خمسين عاماً، أي استطاع في سنوات قليلة اكمال فتح افريقيا حتى وصل إلى المحيط الاطلسي الذي كان العرب يطلقون عليه اسم بحر الظلمات ثم خاض البحر قائلاً: "يا رب! لولا هذا البحر لمضيت في البلاد مجاهداً في سبيلك".[3]
كما استطاع جلب البربر إلى صفه في جهاده هذا. لم يكونوا يملكون آنذاك عابرات القارات ولا السفن من حاملات الطائرات، ولا سفناً تستطيع مقاومة العواصف في البحار. بل كانوا يصلون إلى هذه البلدان على ظهور الجمال، وإذا احتاج الأمر للوصول إلى بلد وراء البحار، قطعوا هذه البحار على ظهر سفن صغيرة وبدائية. ومع كل هذا استطاعوا فتح بلدان عديدة في الشرق والغرب وفي زمن قصير. وإذا اردنا عرض الموضوع من الناحية الحسابية قلنا إن ما فتحه المسلمون في عهد الخلفاء الراشدين يعادل وقد يزيد على ماتم فتحه في عهود الامويين والعباسيين والسلاجقة والعثمانيين مع أن فتوحات عهد الراشدين كانت تستهدف في المقام الأول فتح القلوب ونشر الإسلام.
إن من أسرار القدر أن البلدان التي يوجد فيها المسلمون حالياً فتحت كلها في عهد الصحابة. فمع أن الاندلس بقيت تحت ظل الإسلام ثمانية قرون تقريباً لا تجد فيها الآن ما يشبع فؤادك. أما بلدان تركستان وداغستان ومانغوجيستان واوزبكستان فلا تزال المساجد والمآذن والمدارس الدينية موجودة فيها ذلك لأن هذه البلدان فتحت من قبل الصحابة، واعطت هذه البلدان رجالاً عظماء للعلم وللإسلام كالبخاري ومسلم والترمذي وابن سينا والفارابي. لقد عاش الإسلام في هذه البلدان بحق.
ونحن نتمنى أن تعود هذه البلدان "التي اسست قواعدها على الاخلاص وبذرت بذورها بصدق وامتزجت دماء الصحابة بملاطها" إن شاء الله إلى الإسلام وإلى يده البيضاء مرة أخرى.[4] أجل! فنحن كافة ننتظر مثل هذا اليوم ونشعر ونحس بوجودنا في هذه البلدان، ونحن نؤمن بأنه سيأتي اليوم الذي يعود فيه الإسلام الذي غاب عن هذه البلدان إليها... يعود كموجات متلاحقة الواحدة منها إثر الأخرى. وهذا موضوع آخر وموضوع حيوي لا نتناوله حالياً، بل نرجع إلى الصدد.
إذا كان الصحابة قد نجحوا في فتح العالم في مدة قصيرة فلا بد أن لهذا الأمر أسبابه وتقييمه. لقد كان أيُّ واحدٍ من الصحابة محبًّا للدعوة الإسلامية إلى درجة العشق والوجد. ومن نظر إليهم من الخارج ولم يعرف حقيقة الأمر ظنهم من المتهورين إلى درجة الجنون، لأن ما فعلوه كان يذهل العقل فعلاً.
نام علي بن أبي طالب رضي الله عنه في فراش الرسول صلى الله عليه وسلم ليلة الهجرة من مكة إلى المدينة. وهذا يعني أنه رضي منذ البداية بأن يقطع بضربات السيوف ارباً ارباً ولكن ايدي المشركين بقيت معلقة في الهواء عندما علموا بأن الراقد في الفراش ليس رسول الله صلى الله عليه وسلم بل هو ابن عمه علي كرم الله وجهه. أما سبب تجمد ايديهم في الهواء فهو من الدهشة. لأن عقولهم لم تستوعب هذا الأمر.
فكيف يقوم شاب في السابعة عشرة من عمره بمثل هذه التضحية التي قد تُودِي بحياته بأبشع صورة؟ لقد ذهل المشركون -ومن بينهم أبو جهل- من هذا المنظر. ثم توجه أبو جهل إلى بيت عبد الله بن جحش وصعد إلى سطح البيت وهناك سمع ثغاء الغنم من داخل البيت فلم يخف عجبه، لأنه لم يكن قد بقي في البيت أي إنسان إذ عندما هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة اسرع الجميع بالهجرة.
وفي أحد الأيام مرة عتبة بن ربيعة والعباس بن عبد المطلب وأبو جهل بن هشام على دار بني جحش وهم مصعدون إلى أعلى مكة، فنظر إليها عتبة بن ربيعة وأبوابها تصطفق يَبابا ليس فيها ساكن. فلما رآها كلك تنفس الصعداء ثم قال:
وكل دار وإن طالت سلامتها يوما ستدركها النَكْباء والحُوب
ثم قال عتبة: "أصبحت دار بني جحش خلاء من أهلها!"[5] كانوا يتركون كل شيء ويهجرون بيوتهم وعيالهم وأموالهم وأغنامهم... كل شيء... إذن فكيف يمكن للمشركين أن يفهموا هذا الأمر؟
أجل! فعندما هاجر أبو بكر رضي الله عنه من مكة إلى المدينة لم يأخذ أحداً من أهل بيته... لم يأخذ معه زوجته ولا والده ولا أحداً من أولاده، بل تركهم جميعاً في مكة وهاجر وحده. أما عثمان بن عفان رضي الله عنه فلم يأخذ معه حتى زوجته رقية رضي الله عنها وهي بنت الرسول صلى الله عليه وسلم ونور عينه، ولو قيل لأي منا إن رقية بحاجة إلى من يضحي في سبيلها بنفسه، لاسرع الجميع إلى التضحية بنفسه في سبيلها. ولكنها بقيت في مكة وهاجر عثمان رضي الله عنه وحده إلى المدينة.
كان ذلك العهد عهداً للذين ارتبطوا بصدق واخلاص بالرسول صلى الله عليه وسلم. لقد كان اتباعهم وحبهم له مذهلاً حتى أن عروة بن مسعود بعدما قابل رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية وقد رأى ما يصنع به أصحابه، لا يتوضأ إلا ابتدروا وَضوءه، ولا يبصق بصاقا إلا ابتدروه، ولا يسقط من شعره شيء إلا اخذوه، رجع إلى مكة فقال: "أي قوم، والله لقد وفدت على الملوك ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله إنْ رأيت ملكا قط يعظّمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدا. واللهِ إنْ تنخَّم نُخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وَضوئه، وإذا تكلم خفَضوا أصواتهم عنده وما يُحدّون إليه النظر تعظيما له".[6]