مشاهدة النسخة كاملة : ذكريات شاب من الرعيل الاول
ابو عصام
23-11-2012, 01:06 AM
بسم الله الرحمن الرحيم
قبيل وفاته بثمانية اشهر تقريبا ، كثفت ونفر من اصحابي الزيارة للمرحوم باذن الله تعالى الاستاذ صالح الساكت ( ابو أحمد ) ، وكنت أود الاستفادة مما عنده من معلومات تتعلق بالحزب ومؤسسه من حيث بدء التفكير بانشاء الحزب ، وكيف تم السير عمليا منذ وجود الخلية الاولى، وعن تأليف الكتب ، وعن كيفية شرح الشيخ المؤسس رحمه الله تعالى لبعض الافكار، وعن سبب التعرض لبعض الافكار ....بل اتفقت ومن معي ان نطلب من الاستاذ صالح ان يدرسنا فكر الحزب كما درسه هو ، وقد وافق الاستاذ على ذلك وان كان عمليا ولكبرسنه رحمه الله تعالى قد بدأ بشرح بعض الافكار ثم لم نرد ارهاقه وتركناه يحدثنا بما تيسر له ، ثم اخذنا نسأله فيجيب ، وقد طلبنا منه ان أمكن ان يكتب ما يتذكره عن انشاء الحزب مما لم يطلع عليه معظم الشباب ، وفاجأنا مشكورا بكتابة بعض الاوراق وان كان الله قد توفاه قبل ان نرى ما نطمع اليه من مذكرات كاملة ، والورقات موجودة عندي وبخط يده رحمه الله تعالى ، وقد أحببت ان يطلع الشباب على تلك الورقات القليلة عسى ان ينتفع بها من يقرأها ويدعوا لمن كتبها _-وهو من الرعيل الاول – بالرحمة والمغفرة وأن يجعله الله في الفردوس الاعلى هو ومؤسس هذه الدعوة المباركة باذن الله تعالى ومن عمل معهم وتوفاه الله ، وكل من شهد ان لا اله الا الله وأن محمدا رسول الله ، وسأقوم بوضع نصوص الورقات على صفحات هذا المنتدى المبارك باذنه تعالى خلال ثلاثة ايام بواقع قسم في كل يوم .
ذكريات الاستاذ صالح الساكت رحمه الله تعالى
(القسم الاول)
بسم الله الرحمن الرحيم
قال تعالى في سورة التوبة { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ 119 مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ 120 وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ 121} صدق الله العظيم.
حزب التحرير
تأسس حزب التحرير وانطلق يعمل بشكل جدي سنة 1952 في القدس الشريف، ولكن الاتصالات للتكتل بدأت قبل ذلك بسنتين تقريبا، حيث كان المرحوم محمد تقي الدين النبهاني يتنقل بين القدس وعمان ودمشق وبيروت لتلك الغاية، والحافز الحقيقي لتأسيسه كانت قبل نكبة فلسطين سنة 1948، حيث بدأ العمل جديا للتفكير بالعمل. وقد ورد ما يشبه هذا الكلام في كتابه "التكتل الحزبي" وكانت ظاهرة وجوده غير مسبوقة، فليست أمرا عاديا في الأمة الإسلامية، ولذلك نستطيع أن نقول بان أهم حدث في القرن العشرين كان ظهور حزب التحرير كحزب سياسي إسلامي يعمل على الساحة.
في طور التأسيس
بدأ التحضير لتأسيس الحزب منذ سنة 1950، حيث أوجد الحلقة الأولى وهي حلقة القيادة، وكانت من ثلاثة أشخاص وهم الأستاذ تقي الدين النبهاني وداود حمدان ونمر المصري. وكان الثلاثة على مستوى عال حقيقة، وكانوا يعرفون بعضهم منذ أيام الانتداب البريطاني، بل كانوا أصدقاء؛ لأن المرحوم أبو إبراهيم كان قاضيا في الرملة ومنذ ذلك التاريخ يعرف الأستاذ نمر المصري الذي كان مدير مدرسة، وكان من خطباء الثورة التي اندلعت في الثلاثينات حتى كان مطاردا من الإنجليز ويعتبرونه من المحرضين، ويعرف الشيخ داوود من اللد قبل أن ينزع العمامة، ولعل كتاب إنقاذ فلسطين طبع عن طريق الأستاذ نمر على حساب مؤسسة اللاجئين، لأنه كان مديرها. والمؤسسة هي مؤسسة تعليمية.
وبقيت قيادة الحزب حتى صدور بيان اتفاقية التسلح الذي يكشف فيه حقيقة الأسلحة المصرية من المعسكر الشرقي (تشيكوسلوفاكيا) لأنه كان محظورا على الشرق الأوسط كله شراء الأسلحة من روسيا أو من الدول الدائرة في فلكها، وأما البيان الآخر فهو بيان الاتفاقيتين، الاتفاقية المصرية السورية، والمصرية السورية اليمنية، وهي عبارة عن أحلاف جماعية على الطريقة الأميركية للدفاع عن الشرق الأوسط. وبعد أن أقامت أميركا الحلف التركي الباكستاني وأقامت بريطانيا حلف بغداد على الطريقة الإنجليزية واشتركت به أميركا بصفة مراقب. وصار في حينها الضغط على الأردن لدخول حلف بغداد وقد أفشلت أميركا دخول الأردن بوقوفها ضد الحلف عن طريق عبد الناصر. فقد أرسلت القيادة في بيروت البيانين بعد طباعتهما في بيروت إلى سورية لتقوم القيادة هناك بتنظيم توزيعها على مجلس النواب السوري، وكانت سورية في حينها تحت حكم الإنجليز، والإنجليز بالطبع ضد الاتفاقيات الأميركية، لكن مجلس النواب في سورية يحتاج إلى حقائق لرفض الاتفاقية حين عرضها للموافقة، فقرر المرحوم توزيعها على النواب بشكل خاص بالإضافة للناس، وكانت له جلسة محددة في حينها، ولكن القيادة في دمشق لم تقم بتوزيعها على أعضاء مجلس النواب بل أمرت بتوزيعها على معارف الشباب من الناس، وكان للحزب ثقل في سورية في دمشق وفي حلب وفي عدة مدن. وكان من المسؤولين: الدكتور عبد المنعم أبو لبن، وعلي السعد، ومحمد الهنيدي وآخرون، ولعل عبد الرحمن المالكي برز فيما بعد. والله أعلم.
وعندما اجتمع مجلس النواب السوري استمع المرحوم أبو إبراهيم لراديو دمشق وسمع مناقشات مجلس النواب، فلم يسمع في المناقشات ما يدل على أن البيان وزع عليهم، وكان يريد قياس تأثير الحزب. وبعد أن أقر مجلس النواب الاتفاقيتين المفروضتين ذهب لدمشق وسأل عن البيان وتوزيعه فقيل له اجتهدنا في أسلوب التوزيع فغضب المرحوم فقال: لِمَ خالفتم أمر القيادة فردوا عليه بأن القيادة جماعية، فرد عليهم بأن القيادة في الإسلام فردية، وأصدر بيانا مع الأدلة فردوا عليه ببيان بأن قيادة الحزب يجب أن تكون جماعية وأن رأي الاثنين أرجح من رأي الواحد، وجاؤوا بدليل أن الرسول أرسل اثنين إلى اليمن معاذ بن جبل وآخر، وقال لهما يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا وتطاوعا. فرد عليهم بأن كل واحد منهما أرسل إلى جهة في اليمن لا إلى جهة واحدة. وعندما أصرا على رأيهما في موضوع القيادة توقفا، فأصدر المرحوم قرارا باعتبارهما مفصولين لتوقفهما.
وقد سئل داوود عندما جاء إلى عمان لِمَ توقفتما قال: في الحقيقة بحثنا هل بإمكاننا السير بالحزب بدون أبي إبراهيم فوجدنا أننا لا نستطيع دونه فتركنا له أمر قيادة الحزب حسب اجتهاده، وبعد توقفهما ضم أحمد الداعور وعبد القديم زلوم إلى القيادة مكانهما، وسار الحزب بقيادته الجديدة، وقد علمت فيما بعد أن الحزب ترك عبد القديم لعدم نجاحه في عدة أمور كلف بها، وقال له المرحوم اذهب حيث تشاء واترك الحزب، ولكن قيل أن المسؤولين في تلك الأيام لم يعمموا ذلك على الشباب، ولما توفي القائد رحمه الله كان أقرب شخص للمرحوم الأستاذ أحمد بكر ولم يكن يعلم بأمر عبد القديم، فأرسل وراءه وسلمه قيادة الحزب، مع أنه برأيي يجب أن يخضع الموضوع للانتخاب، لا إلى التعيين من قبل فرد من أفراد الحزب، لكن هذا ما حصل حقيقة.
مؤسس حزب التحرير
ومؤسس الحزب كما قلت هو محمد تقي الدين بن إبراهيم بن إسماعيل النبهاني من إجزم قضاء حيفا، وجده لأمه الشيخ يوسف النبهاني وقد كان قاضيا في المحكمة العليا في بيروت إبان الحكم العثماني وهو الذي حاكم جماعة من يسمونهم بالأحرار العرب وحكم عليهم بالإعدام بتهمة الخيانة العظمى وكل من حكم منهم علق برقبته اعترافاته بالخيانة وإقراره بالاتصال بالدول الأجنبية والتآمر على الدولة الإسلامية، وأعدموا في الساحة التي تسمى بساحة الشهداء. وللشيخ يوسف النبهاني مائة مؤلف منها سيرة النبي صلى الله عليه وسلم كلها بشعر من شعره، وأكثر مؤلفاته مطبوعة في مصر، وقد رأيت الكثير منها عند ابن أخيه في عمان في منطقة البيادر حيث كنت أزوره فيما مضى. ولذلك فالمرحوم كان من عائلة معروفة بباعها الطويل في مجال العلم، وقد لازمت المرحوم في القدس عندما كنت موظفا هناك، وأخذت الكثير عنه.
ومما علمته عن الأستاذ رحمه الله أنه عندما ولد في قرية إجزم من قضاء حيفا جاء هاتف لجده الشيخ يوسف النبهاني، وهو جده لأمه وكان رجلا تقيا ومشهود له بذلك، وقال له ابنتك ستلد غلاما فسمه محمد تقي الدين، وعندما صحا من نومه نظر إلى الساعة فوجد أنها لا زالت منتصف الليل ثم عاد ونام، ثم جاءه الهاتف للمرة الثانية وقال له ابنتك ستلد غلاما فسمه محمد تقي الدين، ثم نظر ثانية إلى الساعة فوجد أن وقت الفجر لم يحضر بعد ثم عاوده للمرة الثالثة، ونظر إلى الساعة فوجد أن آذان الفجر على الأبواب فقام واستعد للذهاب إلى المسجد، ومرَّ وهو ذاهب إلى بيت صهره إبراهيم فقال له زوجتك ستلد غلاما فلا تسموه حتى أعود إليكم، وعندما عاد وكانت قد ولدته فقال له سمه محمد تقي الدين، وذكر له قصة الهاتف، وهذه سمعتها في حينها ممن سبق له معرفة بعائلته.
وإليكم فكرة عن مؤسس الحزب رحمه الله:
هو محمد تقي الدين بن إبراهيم بن إسماعيل النبهاني على ما أظن، عمل في التدريس خلال فترة الانتداب ولعل عبد القديم زلوم وأسعد بيوض التميمي وشحادة عرعر من تلاميذه عندما كان معلما في الخليل وبعد أن عمل فترة ليست قصيرة في التعليم انتقل إلى القضاء الشرعي وتدرج فيه حتى أضحى عضوا في محكمة الاستئناف الشرعية، وهي أعلى محكمة في الدولة في ذلك الحين، وكان يرأسها عبد الحميد السائح ولعله لأنه سبقه على القضاء ولأنه أكبر منه سنا.
وبعد أن ترك القضاء عرض عليه بشير الصباغ إعطاء محاضرات لطلاب الثانوية في الإسلام فقبل وأعطوه راتبا من الكلية كما سمعت خمسون دينارا، ومن خلال اشتغاله بالكلية التحق من شبابها ومعلميها الكثيرون بحزب التحرير، وللعلم فإن الصباغ كان يدرس في الحزب إلى أن ترك الشيخ العمل مع الكلية عندما قرر السفر إلى دمشق، فأرسل لهم عبد العزيز الخياط؛ ليدرسهم فقال نحن لا ندرس إلا مع الأستاذ نفسه. ولما قرر المرحوم ترك الكلية والتفرغ نهائيا للحزب قررت له القيادة 30 دينار شهريا بدل التفرغ، ولعله لم يقبل بأكثر من ذلك.
الحلقات الأولى والثقافة الأولى وتأليف الكتب
وكانت الحلقات الأولى قبل التأليف يدرس فيها حياة محمد صلى الله عليه وسلم للدكتور محمد حسين هيكل، والعدالة الاجتماعية في الإسلام لسيد قطب، وكتاب التكتل وكتاب نظام الإسلام (محاضرة مطبوعة) وملف يحتوي على محاضرات كان يلقيها، وكتب للمطالعة أذكر منها الإسلام على مفترق طرق لمحمد أسد الكاتب النمساوي (يوبولدفايس) وكتيب تأليف داوود حمدان اسمه أسس النهضة وهذا كان محاضرة للشيخ داوود ألقيت في نادي البيرة بمناسبة ذكرى المولد النبوي الشريف. ثم طبع نظام الحكم في الإسلام، ونظام الإسلام الذي كانت مواضيعه موجودة في الملف، والنظام الاجتماعي في الإسلام وكتاب الدولة الإسلامية والشخصية الإسلامية الطبعة الأولى.
ومن المعلومات التي سمعتها وأنا في القدس أن بحث القيادة الفكرية كان عبارة عن مناقشة جرت بين المرحوم وأحد كبار قادة البعث في القدس واسمه عبد الله نعواس وهو نصراني، وكانت مناقشة طويلة عاد بعدها وكتب ما جرى في النقاش، فكان بحث القيادة الفكرية، أما طريق الإيمان والقضاء والقدر فكانا من المواضيع الموجودة في الملف، ونقلا إلى كتاب النظام، أما بحث نظام الإسلام والذي صدر فيه كتيب أول الأمر فقد كان بعد قراءة من المرحوم لكتاب الإسلام على مفترق الطرق وضع البحث وألحق به موضوع الدستور والقانون .. الخ، أما مواضيع الحضارة والمدنية
الحاسر
23-11-2012, 03:53 AM
رحمة الله عليهم ...و عظم اجرهم ....و جعلنا خير خلف لخير سلف
بوفيصيل
23-11-2012, 05:12 AM
اللهم ادخلهم في رحمتك وأدخلهم في عبادك الصالحين واغفر لهم ولوالدينا واجمعنا بهم ووالدينا في جنات النعيم أجمعين يا رب العالمين
الله يجزيك الخير أخي بوعصام علي هذه السيرة الطيبة
دمتم في أمان الله
رحم الله المؤسس الشيخ تقي الدين النبهاني ، رحمه هو و الرعيل الاول الافياء الذين حملوا العبء ، واخلنا و اياهم جنات النعيم .
بأنتظار المزيد اخي الكريم ابو عصام .
ابو عصام
23-11-2012, 02:18 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
رحمهم الله تعالى ، وبارك بكم جميعا ، وجعلنا جميعا خير خلف لهم ، وليت من لديه اية معلومات مفيدة في الناحية التكتلية علمها او رويت له من الرعيل الاول ، او توضيحا لفكرة سمعه من اولئك السلف ان
ان يسطره لعله يفيد من يقرأ . وسأضع القسم الثاني بحول الله هذا اليوم .
ابو عصام
23-11-2012, 08:11 PM
( القسم الثاني )
مواضيع الحضارة والمدنية والأخلاق في الإسلام فنقلا من الملف، ولذلك يعتبر كتاب نظام الإسلام من أهم الكتب، وأما موضوع نقض الشيوعية فقد كان في الحزب شاب يدعى هاشم أبو عمارة وكان شيوعيا أولا، وسار مع الحزب، ناقش المرحوم في الشيوعية في النظرية الديالكتيكية وموضوع التطور فقام المرحوم بنقضها له وظلت معلقة على نقطة انعكاس الواقع وموضوع التجربة، ذهب المرحوم إلى عمان وهناك نام في المكان المخصص له بدار غانم عبده، حضر كما سمعت أولاد ابن اخته وأولاد أبو غيث وكانا صغارا ويحملان قراءة، فناداهما المرحوم وأخذ يهجي لهما مع ربط التهجئة للكلمة بالصورة.
وكان قد سألهما ما هذا، وما هذا، فقالا لا نعرف، حاولا فلم يعرفا، وبعد التهجئة وإفهامهما ذهبا ثم عادا، فعاد وسألهما فأجابا، فقال: إذن لا بد من المعلومات السابقة حتى يتم الإدراك.
وبعد أن نوقشت النظرية من جديد تم نقض الديالكتيكية وكذلك التاريخية، ووضعت في كتاب النظام، وبعدها أللف كتاب نقض الاشتراكية الماركسية، وأما موضوع نقض القانون المدني فقد تقدمت الوزارة لمجلس النواب بالقانون المدني لمناقشته، وكان الشيخ أحمد الداعور عضوا فيه، ثم خصصت جلسة للمناقشة، وقد أرسل البيان إلى بيروت مع احد الشباب، وبعد يومين عاد الشاب من عند المرحوم ومعه النقض الذي طبع في كتيب ووزع على الشباب ونزل بالجريدة الرسمية.
وقد حاولوا إيقاف المرحوم الداعور عن إلقائه إلا أنه أصر على إلقائه.
وأما موضوع نقض الاقتصاد الرأسمالي فقد كان في حينها عثمان صالحية في الجامعة الأميركية ببيروت طالبا نابها ومن الشباب الممتازين، فقال للشيخ بأن بروفسور أجنبي وعالم في الاقتصاد الرأسمالي قدم إلى الجامعة للإشراف على تركيز الفكر الرأسمالي، وبخاصة في الاقتصاد، فأمر الشيخ أن يأخذ معه مساقات، وقال سأحضر لك الأسئلة في كل مرة، وصار يحضر له الأسئلة، والبروفيسور يجيب عن كل سؤال، وصار جل اهتمامه لهذا الشاب الذي يسأل هذه الأسئلة لأنها أسئلة في المفاصل، وتكشف الأسس التي يقوم عليها الاقتصاد الرأسمالي، ولعله هذا البروفيسور درس في الاقتصاد عشرات الكتب، عندها كتب مقدمة النظام الاقتصادي التي نقض فيها الاقتصاد الرأسمالي والاقتصاد الاشتراكي.
وأما نظام الحكم فقد كانت دراسة الشيخ رحمه اله للسيرة النبوية دراسة دقيقة ولكتاب الصديق أبو بكر ولكتاب الفاروق عمر، والتدقيق فيها كلها خرج بثوب كامل للحكم في الإسلام. وفي السيرة راجع أكثر من كتاب من كتب السيرة، أما كتاب النظام الاقتصادي فلعل أول ما لفت انتباهه في كتاب العدالة الاجتماعية ما كتبه المرحوم سيد قطب في الاقتصاد، وخرج بنتيجة واضحة مع الاستعانة بآراء الفقهاء في كثير من الأبواب.
وفي كتاب الدولة الإسلامية استعان بالسيرة وبما ورد من بعض الأشياء في كتاب العدالة الاجتماعية وبعض مؤلفاته الأخرى، وبخاصة بعض التعاريف الواردة في العدالة، كان يقول اللغة هي قوالب العلوم والثقافات..الخ وأعجبني سيد في كتابه عن الرق وكيف أن الإسلام فتح المصارف لإنهاء الرق وحصرها بما ورد في الآية الكريمة فإما منا بعد وإما فداء.
أما كتاب أحكام الصلاة، فقد لاحظ أن بعض الشباب لا يتقنون الصلاة فكتب من الذاكرة مع الاستعانة ببعض كتب الفقه لاستخراج الأدلة فقط. والواقع أنه كان وحده حزبا قائما بذاته، رحمه الله، ولو عاش لألف أكثر مما ألف، لأنني ما رأيت أسرع منه كتابة وتأليفا حتى أن يده لا تستطيع أن تتابع أفكاره المتزاحمة، رحمه الله وجعله في عليين وحشره مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين والله إنه لأفضل المجتهدين برأيي.
بدأت الاتصالات لتأسيس الحزب (حزب التحرير) باعتقادي سنة 1950 وبقي العمل سرا حتى سنة 1953، التحقت بالعمل مع الحزب سنة 1952 فعليا قبل العمل مع البريد، وبعد أن عينت بالبريد تم نقلي إلى بريد القدس أواخر عام 1952، وحملت أول طبعة كاملة لنظام الإسلام وحمّلت الكمية على ظهر إحدى الحافلات الذاهبة للقدس وحملتها إلى مكتب الحزب بباب العامود، وسلمتها للأخ الكريم داوود حمدان الذي عملت معه طيلة وجودي هناك. خلال تلك الفترة لم أكن متزوجا وكانت أكثر جلساتي مع أبي إبراهيم في المكتب لأنه في تلك الفترة أرسل عياله إلى بيروت قرب أهلها الذين نزحوا سنة 1948 إلى لبنان ولعل حالتهم المادية كانت جيدة، وبقي الشيخ لوحده في القدس ثم سلم البيت الذي كان مستأجرا لأصحابه وقد كان منزله في وادي الجوز. وصار بعدها يتنقل بين القدس وعمان ثم دمشق وبيروت فيما بعد. ود سكن في عمان في منزل غانم عبده ببيت ملحق ببيته له باب خارجي. وكان أبو إسماعيل يحضر له الجرائد؛ واحدة محلية وأكثر منها خارجية ويشرح له طريقة فهم الأخبار حتى صار من المعتمدين في فهم الأمور السياسية في عمان، لا بل في الأردن، حتى سمعت بأن رسالة الحزب من عمان إلى القيادة فيما بعد، تعتبر أهم رسالة واردة للقيادة من الولايات الأخرى لكثرة ما تحوي من أخبار خاصة جمعت من هنا وهناك، بالإضافة للتحليل الدقيق للأحداث السياسية. وخلال فترة تأسيس الحزب في أوائل الخمسينات عمل الشيخ رحمه الله في الكلية العلمية الإسلامية كمحاضر لطلاب الصفوف الثانية في الثقافة الإسلامية وبقي كذلك حتى تقدم الحزب بطلب ترخيص من دائرة الداخلية في القدس والذي كان نائبا فيها عن الوزارة الأستاذ على حسنا.
ترخيص الحزب
وكان الطلب يعتمد في الأساس على قانون الجمعيات العثماني المعمول به في الضفة الغربية أما في الضفة الشرقية فقد أدخلوا عليه تعديلات في حينها، وكان القانون ينص على أن من يريد أن يؤسس حزبا أو جمعية إسلامية فعليه سلوك السبيل التالي:
أن يؤسس الحزب ويبين فيه مكان التأسيس وأسماء الأعضاء المؤسسين، أعضاء القيادة مثلا، وسكرتير الحزب، وأمين الصندوق، والمبدأ الذي يقوم عليه، والغاية التي يسعى لها. وبعد ذلك ليس شرطا أن يطلب إذنا بالترخيص، بل المشروط أن يعلن ذلك في إحدى الصحف المحلية، كل ذلك بالتفصيل، ويرسل كتاب علم وخبر لمركز الداخلية أرباب الشأن في الدولة، فيكون بذلك قد سار على الأسس القانونية، وبمجرد الإعلان يصبح مرخصا.
وهذه الخطوات سار بها الحزب وأعلن في جريدة الصريح وصاحبها (السيد هاشم السبع) وحدد المكان ووضعت اللافتات على واجهات المكتب وفي مدخل العمارة. وكانت الحكومة في ذلك الحين هي حكومة (توفيق أبو الهدى).
وقد تم الإعلان عن تأسيس الحزب وأسماء القائمين عليه في جريدة الصريح، وقد كانوا تقي الدين النبهاني رئيسا والمحامي داوود حمدان والدكتور عادل النابلسي ومنير شقير أعضاء وغانم عبده سكرتيرا للحزب، ولعل هناك شخصا أمينا للصندوق ولكن لا أذكره، وأذكر عندما تم النشر في جريدة الصريح قمنا بتعليق اللافتات وأذكرها أربع لافتات بأحجام مختلفة، واحدة على باب العمارة وأخرى على الدربزين وثالثة على باب المكتب ورابعة على البلكون المطل على ساحة باب العامود، وأذكر ونحن نقوم بتعليقها اجتمع حولنا رجال المخابرات وكانوا يسمونهم رجال المباحث ويتفرجون، ولم يصدر أمر ساعتها بخلع اللافتات حتى جاء الأمر من عمان وتم نزعها، بعد ذلك أصدرت الحكومة بيانا تتهم الحزب فيه بإثارة الطائفية .. الخ فرد عليهم الحزب ببيان مطبوع وزعناه على الناس في جميع المناطق.
فقامت الحكومة (حكومة توفيق أبو الهدى) باعتقال مؤسسي الحزب. وفي سجن المحطة هناك تحركت الهيئات الشعبية لرئاسة الوزراء مطالبة بإخلاء سبيلهم، وهذا التحرك للوفود شكل ضغطا على الحكومة مما دفعها إلى إرسال وفد من العلماء إلى السجن لمفاوضتهم، وكان على رأسهم الشيخ عبد الحميد السائح، وكان مدير السجن في حينها (الحاج عربي) ولعله كان له بع المعارف الشرعية ونقلوه مديرا للسجن، وقد حضر المفاوض بين وفد العلماء والشيخ تقي وجماعته المعتقلين، وكانت المفاوضات شديدة بين الطرفين لدرجة أن قام المرحوم بعدها بطرد الوفد
نائل سيد أحمد
23-11-2012, 10:53 PM
جزاك الله خيراً ، .. السرد مشوَق وهو من حق الأمة للذكرى والتاريخ .
ابو عصام
24-11-2012, 05:38 PM
( القسم الثالث)
وكانت المفاوضات شديدة بين الطرفين لدرجة أن قام المرحوم بعدها بطرد الوفد ومما سمعته أنه بصق على السائح لشدة غضبه، فضحك مدير السجن من الموقف، وقال: يا أبا إبراهيم إن الرسول صلى الله عليه وسلم تنازل لقريش كثيرا في صلح الحديبية، فقال له المرحوم: يا حج عربي نحن لسنا في موقف الحديبية بل نحن في الموقف الذي طلبت فيه قريش من الرسول صلى الله عليه وسلم التخلي عن الدعوة مقابل أمور دنيوية وكان رده صلى الله عليه وسلم حاسما.
وتوالت الوفود الشعبية على الرئاسة مما حدا بالدولة الإفراج عنهم بعد ثلاث وعشرين يوما، ولما حضر المرحوم إلى القدس كنت من مستقبليه ولكثرة ما حضر من علماء فلسطين اضطررنا لاستعارة الكراسي من المكاتب المجاورة، وكان بجوارنا المحامي رشاد مسودة رحمه الله.
ومما أذكره أن توفيق أبو الهدى كان صديقا لوالد الدكتور عادل النابلسي المرحوم حسيب النابلسي، وكان يأتي عنده أحيانا ويلتقيان في عيادة الدكتور عادل. وكانت واسعة يمكن الجلوس في قاعة منفصلة عن المراجعين، فوجد على الطاولة كتاب مفاهيم حزب التحرير، فقال يا حسيب أريد أن أقرأ هذا الكتاب فأخذه وأعاده في اليوم التالي، وقال يا حسيب والله هؤلاء جماعة أوادم غير ما كنت أتصور وبرأيه أنهم لا يتخذون العنف أسلوبا.
لقد ابتدأ المرحوم بالتفكير بتأسيس الحزب كما أسلفت بعد نكبة فلسطين في سنة 1948 وقد ورد التلميح في ذلك في كتاب التكتل الحزبي. والخطوات التي سار بها، أما الكتب التي بدأ بها العمل منذ بداية سنة 1950، فكانت عبارة عن ملف به مجموعة كبيرة من المحاضرات التي كان يلقيها هنا وهناك في الأماكن المختلفة والتي تحولت فيما بعد إلى كتب منها: نظام الإسلام والدولة الإسلامية والشخصية الإسلامية الطبعة الأولى والنظام الاجتماعي في الإسلام ومفاهيم حزب التحرير، أما المفاهيم السياسية فبقيت مدة طويلة شفهية ولم تنزل في كتاب إلا سنة 1953، ومن الكتب القديمة نظام الحكم، ولم يكن في الوضوح الذي ظهر في الطبعة التي كتب عليها من منشورات.. الخ) وكان يخلو من الأدلة. ومن الكتب القديمة أيضا النظام الاقتصادي القديم. وقد نشرت تفاصيله في إحدى مجلات الأخوان المسلمين.
ومن الكتب أيضا أسس النهضة للأستاذ داوود حمدان. وللعلم لم يؤلف في الحزب إلا المرحوم الشيخ تقي الدين فقط، وكل ما نشر من كتب عليها أسماء عبد القديم، أو المالكي، أو أحمد الداعور، أو غانم عبده، أو علي راغب، أو محمد محمد إسماعيل من رجال الأزهر أو غيرهم. فكلها كتبت لغاية نشرها وعدم مصادرتها؛ لذلك كان هو المؤلف الوحيد لكتب الحزب ونشراته الفكرية بخاصة، ومعظم البيانات السياسية، ما عدا أسس النهضة الذي كان عبارة عن محاضرة للشيخ داوود في نادي البيرة بمناسبة ذكرى المولد النبوي. ثم تحول إلى كتيب تبدأ به الدراسة في حلقات الحزب.
صفات القيادة
كان المرحوم من أتقى من رأيت وسمعت في حياتي، وكان من أفضل العلماء في هذا الزمان وأغزرهم علما ومعرفة، ولقد قيل على لسان كثير من العلماء الذين يعرفونه بأنه لم يأت في العالم الإسلامي كله منذ سبعة قرون على الأقل مثله في الحقيقة إمام مجتهد. وقد بدأ أول ما بدأ كمجتهد في المسألة الواحدة، إلا أنه تطور خلال تلك المدة إلى مجتهد مطلق لو أراد ذلك، وقد كشف عن علمه في كتابه الشخصية الجزء الثالث في الأصول، وهذا الكتاب صدر بديلا عن الكتاب الفذ الذي أرسله مع احد الشباب للمطبعة وقد وضعه لفترة في منزله، فقامت زوجته بحرقه بعد أن سمعت بأن رجال الأمن في لبنان يداهمون الشباب ويعتقلونهم، وبعد أن علم الشيخ أحدث له صدمة؛ لأن هذا الكتاب بالذات تعب عليه أكر من سنة ونصف تقريبا، وهو يؤلف فيه ويركز مفاهيمه ويجري التعديلات عليه حتى وضعه في صيغته النهائية، ثم أصدر الكتاب الذي بين أيدينا خلال مدة ستة أشهر وذلك من خلال تذكره لبعض المواضيع الموجودة في الكتاب المفقود.
دخلت عليه مرة في الصباح وهو في مكتب الحزب فقال: اجلس، لا تحدثني لأنني مشغول، وأعطاني كتابا واسمه حرب البترول في الشرق الأوسط للدكتور راشد البراوي لأطالعه لبينما يفرغ من الكتابة، وبعد أن انتهى وإذا به خلال هذه الفترة الصباحية يؤلف كتيبا اسمه نقطة الانطلاق لحزب التحرير، وطبع فيما بعد وأصبح من نشرات الحزب الفكرية، وأذكر الكتب التي صدرت عن الحزب وهي كالآتي:
(نظام الإسلام، نظام الحكم في الإسلام، الاقتصادي في الإسلام، الاجتماعي، مفاهيم حزب التحرير، مفاهيم سياسية لحزب التحرير، الأموال في دولة الخلافة، التفكير، أسس النهضة، سرعة البديهة، نداء حار للأمة الإسلامية من حزب التحرير، الدستور والأسباب الموجبة، نقض القانون المدني). ومن الكتب المطروحة للنقاش نظام العقوبات وأحكام البينات ونقض الاشتراكية الماركسية والخلافة ونظرات سياسية والسياسة الاقتصادية المثلى وأحكام الصلاة، وموقف الإسلام من التصوف، وكلها من تأليف الشيخ، والفكر الإسلامي هو مواضيع كانت تنشر في جريدة الحضارة في لبنان أما جريدة الراية فقد صدر منها 13 عدد على ما اعتقد، وكانت من أرقى الجرائد في العالم، وقد أقفلوها بسبب الافتتاحية التي كتبها الشيخ تحت عنوان (هيبة الحكم) ومع أنه عند تحضيرها للطباعة جلس الشيخ داوود حمدان ومنير شقير يحاولان التعديل على كثير من ألفاظ المقال إلا انه وبعد التعديل قامت الحكومة بإغلاق الجريدة على نفس المقال.
وأذكر أننا كنا ندرس في دار الحاج توفيق أبو خلف في وادي الجوز، وكان محمد نجيب مدعو لافتتاح النادي الهندي في القاهرة، وكنا نقول عن محمد نجيب أنه عميل أميركي، وعندما خطب محمد نجيب ليلتها وقد أوقفنا الحلقة لنسمع الخطاب، هاجم الحلف التركي الباكستاني فقال ليلتها أن محمد نجيب وضع واجهة وليس عميلا لأميركا ولذلك سيذهب، وربما يوضع قيد الإقامة الجبرية، وهكذا حصل، وظهر العميل الحقيقي جمال عبد الناصر.
ومن الذاكرة أنه سألني مرة لو أردت أن تسمي كتاب العدالة الاجتماعية اسما صحيحا ماذا تسميه؟ فقلت: العدالة في الإسلام، فقلت ماذا تسميه يا سيدي؟ فقال: اسميه نظام الإسلام.
لكون النظام الاجتماعي هو الذي يحكم بين الرجل والمرأة وما يترتب على هذه العلاقة، وهو أصل الاجتماع. أما شؤون المجتمع الأخرى فلا علاقة لها بالاجتماع، كالحكم والاقتصاد وسائر النظم الأخرى في الإسلام.
وأذكر أنه كان يرسل الشباب وأنا منهم لنلقي دروسا في داخل المسجد الأقصى أو مسجد قبة الصخرة، ويرسل معنا من الشباب من يلتف ويستمع، وذلك ليدرب الشباب على إلقاء الدروس ويشترط أن يحمل واحدنا كتابا يرجع إليه عند اللزوم من كتب الحزب.
وأذكر أيضا أننا كنا في حلقة جماعية في دار أبي خلف، وبعد أن أكملنا أخذ يركز ما سيتعرض له الحزب من محن وما سيقف في وجهه من صعوبات، وقال إذا سيقولون هذه أحكام بعضها من الطبري وهو رجل مؤرخ وليس بفقيه، وربما يقول أن القِيَم هو رأي للشيعة، لأن أهل السنة يعللون القيم، وقد يقولون أن الآراء التي يتبناها الحزب سندها ضعيف، وربما وربما، لكن على الشباب أن يكونوا واعين وأن يكون موقفهم صلبا ولا يتأثرون بكل الدعايات والشبه التي ستثار حول الحزب.
وكنا في الحلقات الأوائل نقرأ أحيانا في كتاب حياة محمد للدكتور هيكل، وكتب العدالة الاجتماعية لسيد قطب، وملف للحزب فيه مجموعة من المحاضرات، وكتاب نظام الحكم القديم، ومناقشة الكتاب أدت إلى الكتاب الذي تبناه الحزب. والكتب الأولى لم تكن متبناة، وإنما مطروحة للنقاش ومنها الاجتماعي والاقتصادي وهي عبارة عن محاضرات، والدولة الأولى والشخصية وهي كلها من تأليف الشيخ، وكذب الخياط إذ يقول غير ذلك، ووضع مقدمة كتاب الدولة الإسلامية أيضا، أما نمر المصري فقد كتب مقدمة نظام الإسلام أما نظام الحكم القديم فقد وضع مقدمته الدكتور مصطفى الخالدي مؤلف كتاب التبشير والاستعمار مع عمر فروخ.
وكان للشيخ محاضرات عن أواخر العهد العثماني أفرغت في كتابه "كيف هدمت الخلافة" في استانبول. وكان يقرأها لنا في الحلقات الأوائل وبعد أن أفرغت هذه المحاضرات في كتب ظلت تقرأ هذه الكتب ونناقشها وهي تتبلور باستمرار حتى وضعت في صيغتها النهائية وتبناها الحزب. ومن الكتب المتداولة في ذلك الحين الكتب التالية:
حياة محمد للدكتور هيكل.
العدالة الاجتماعية لسيد قطب.
التبشير والاستعمار للسادة مصطفى الخالدي وعمر فروخ.
وكتاب التكتل الحزبي، وهذا أول كتاب تبناه الحزب، وكتاب النظام الاجتماعي وكتاب النظام الاقتصادي الأول والدولة والشخصية. الذي تطور وأصبح ثلاثة أجزاء .
أما كتب إنقاذ فلسطين فكان من الكتب التي طبعت قبل تأسيس الحزب، وأعتقد أن ذلك سنة 1950 في دمشق.
ولعل أعظم خطيب سمعته في حياتي كان أبا إبراهيم، وكان يحلل الأحداث السياسية شفهيا، وعندما قامت الثورة في مصر قال عنها أنها ثورة أميركية فكنا نسميها ثورة جيفرسون كافرين.
البناء العملي للشباب
كان الشيخ رحمه الله يعمل لنا أحيانا حلقات ويكلفنا واحدا وحدا لشرح الفقرات التي تقرأ، حتى أن بعض الشباب كان يتلعثم عند الشرح، ومن الذاكرة أيضا أنه كان يعطي أحدنا كتابا، وحصلت معي شخصيا، ثم يكلفنا بالذهاب إلى مسجد الأقصى أو قبة الصخرة لإعطاء درس من الكتاب ويرسل معنا بعض الشباب كمستمعين للدرس ولمناقشة المتحدث أمام الناس، ويعملوا على جمع حلقة من الناس لاستماع الدرس.
وأذكر أنني دخلت مرة على الشيخ وهو يؤلف، وكان الكتيب هو نقطة الانطلاق، وبعد أن فرغ من تأليفه أرسلني لدعوة الشباب للحضور لبيت الشيخ فارس إدريس فدعوت ما يقارب الخمسين منهم وألقي الكتاب ونوقش من الحضور، وكان بعضهم من العلماء، ومع أن الكتاب نوقش كله تلك الليلة إلا أنهم لم يصححوا إلا كلمة واحدة فيه، في عبارة آراء مسلم بها عند الطرفين فكان التصحيح (أفكار مسلم بها عند الطرفين).
ومن الأشياء المهمة أن المرحوم وضع جميع التعاريف، الفرق بين الحضارة والمدنية والثقافة والعلم، والدولة الإسلامية والرأسمالية والشيوعية وتعريف الإسلام وتعريف الأخلاق، وكافة التعاريف وتعريف العقلية والنفسية، وتعريف علم النفس ونسفه، وتحديد الغرائز والحاجات العضوية، وتعريف الأمة والشعب، وتعريف الفكر والمفاهيم ، وتعريف العقيدة والإدراك (العقل) ومنطق الإحساس والإدراك الشعوري، وتعريف المنطق.
وله عدة آراء في التفسير لا مجال لذكرها هنا.
ومما كان يقوله الشيخ أحمد الداعور، لقد مرَّ علينا علماء في اللغة وآخرون في الأصول وغيرهم في الفقه، أو في السياسة أو في سائر المعارف المختلفة، أما شخص واحد يجمع كل هذه حتى أن أسماء رؤساء الدول في إفريقيا أو في غيرها وانتماءاتهم المختلفة لدول عدة في العالم فلم يمر علينا شخص كأبي إبراهيم يجمع ذلك كله. رحمهم الله
ابو عصام
24-11-2012, 05:40 PM
تتمة (القسم الثالث)
في بغداد
قيل لي من شبابنا الموثوقين، أنه أرسل لأبي إبراهيم للحضور إلى بغداد لمقابلة مجموعة من أرباب القوة هناك. وقد قبض عليه فيما بعد في نفس الحي وهو متخفٍّ بلباس عامل، وقد ضربوه ضرا مبرِّحا ولم يحترموا سنه، وهو لا يجيب ويتظاهر بعدم القدرة على النطق، وسمعت بأنهم أحضروا رئيس القيادة القومية في الوطن العربي المدعو شبلي العيسمي فقال له هل تعرف هذا الرجل، فقال لولا أنني لا أحب أن أظلم الرجل لقلت أنه تقي الدين النبهاني مؤسس حزب التحرير، لأنني حضرت له محاضرة ألقيت في كلية الحسين بعمان في أوائل الخمسينات وذلك بمناسبة حصول ليبيا تلك السنة على استقلالها، وتولية الملك إدريس السنوسي، وكانت محاضرة مثيرة جدا، ومما قاله في تلك المحاضرة: أن في هذه السنة ولد مسخ جديد يضاف إلى الممسوخات السبع، وكان يعني بذلك الدول العربية السبعة، لكن برأيي تأكدوا من جوازه اللبناني، وكان باسم آخر غير اسمه، ولما كلفوا السفير بالسؤال عن الجواز جاء الجواب بأن الجواز صحيح بالاسم المذكور. فوضعوه في الحجز وظل يعذب لأكثر من سبعة عشر يوما حتى لم يعد يستطيع الوقوف على رجليه، وأخيرا أخرجه قريبه من جهة الأم، وأنه تاه في ذلك الحي فسلموه له وأحضره إلى بيروت.
وبعدها لم يعد جسمه يحتمل إلى أن توفاه الله رحمه الله، وخاصة وأن الاختفاء تحت الأرض كان في غاية الصعوبة فهو أشد من السجن.
الموقف الحاسم
ومن الذاكرة أن عباس الكرد ألف مع الأستاذ محمد الغيمري كتاب تاريخ العرب والمسلمين للصفوف الثانوية الذي كان مطلوبا من وزارة المعارف.
وقد مدحا فيه الثورة العربية الكبرى ببعض الألفاظ وحضرا عند الشيخ في دار الحاج توفيق فقال لهما إما أن تعدلا المفاهيم المغلوطة، أو تتركا الحزب، وبعدها تركا الحزب لأنهم وعدوا من التربية باعتماد الكتاب من الوزارة وهذا سيدر عليهما ربحا كثيرا، وقد ذهبت مع شرف النشاشيبي لمنزل عباس الكرد لمحاولة ثنيه عن التوقف والتخلي عن الكتاب فلم يقبل، وأذكر أننا تهجمنا عليه ولكن بأسلوب أديب.
العودة للجذور
1_ الحزب قام على أساس العمل لإقامة الدولة الإسلامية وهي دولة سياسية، ولذلك اقتضى العمل السياسي وتأسس الحزب كحزب سياسي. وإقامة الدولة الإسلامية (الخلافة) إنما يكون في قطر أو أقطار في منطقة مجال العمل الحزبي، وقد حدد مجال العمل الحزبي في البلاد العربية، وبالتحديد في بلاد الشام والعراق ومصر ومنطقة الخليج، أما البلاد العربية والإسلامية الأخرى فترسل الدعوة لهم دون إدخالهم في منطقة مجال العمل الحزبي، وقد أدخل السودان إلى مجال الحزب فيما بعد، وهذا التحديد في مناطق معينة هو للإنتاج في المجال وقاك بإرسال الدعوة بالفعل إلى تركيا، وذلك لكونها في المنطقة المحيطة بالمجال.
2_ تبنى الحزب مفاهيم معينة وطلب التقيد بهذه المفاهيم وتبنى أفكارا وآراء وأحكاما وهي كلها أحكام شرعية، ولذلك اقتضى العودة للجذور.
نائل سيد أحمد
25-11-2012, 12:07 PM
تسجيل حضور ومتابعة .. للعلم .
محب الخلافة
09-12-2012, 09:36 AM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أخي الكريم أبو عصام
قرأت موضوعك وأعجبني جدا
وأرجو ان تدلني على الكتب أو المقالات في تأريخ لنشأة الحزب إن وجدت لديك معرفة بها
وخصوصا مثل هذه المقال الذي كتبه إنسان عايش تأسيس الحزب
لكن في الحقيقة
إن هذا المقال سيفقد أهميته التاريخية بسبب ان كاتبه يكتب بكنية واسم مبهم
وأنا أقترح أن تنشره باسمك الصريح
أو تضع صورة من الأوراق التي كتبها المرحوم بيده
لأننا لا نستطيع أن نوثق ونقول قال أبو عصام في منتدى صوت الأمة نقلا عن......
مع احترامي لك وأرجو ان تعذرني
وسؤال: هل يوجد الآن أحد من مؤسسي الحزب على قيد الحياة
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ابو عصام
09-12-2012, 11:29 PM
بسم اله الرحمن الرحيم
وعليكم السلام ايها الاخ الكريم
سأضع لاحقا صور النسخة التي بخط يد الاستاذ صالح الساكت رحمه الله تعالى ، وهناك مقالة سبق ان كتبها في نفس فترة كتابة المذكرات سأضعها كذلك - حال عثوري عليها - على صفحات هذا المنتدى الطيب .
وجوابا على سؤالك الاول حول وجود كتب ومقالات عن نشأة الحزب ، أقول نعم وهي موجودة في سوق الكتاب وهي بين قادح ومادح ، ومعظمها مختصر ، ولكن الافضل ان كل من يملك معلومات تلقاها رواية ان يضعها في نفس هذه الصفحة حتى تتجمع روايات يمكن ان يؤكد صحتها او ينفيها من عاصروا المؤسس - من عرفوه - او من هم من الرعيل الاول ، وستكون معلومات غير تقليدية على غرار ما هو وارد في كثير من الكتب حول الميلاد والوفاة وغير ذلك .
اما سؤالك عن بقاء مؤسسين على قيد الحياة فان معلوماتي انهم قد توفاهم الله جميعا ، اما من هم من الرعيل الاول الذين عاصروا النشأة من قدماء الشباب فان من هم منهم على قيد الحياة قليلون ، وأعرف عن قرب بضعة منهم ، وأعرف عن بعضهم ، جزاهم الله كل خير عما قدموه ، ووهبهم الصحة والعافية وحسن الخاتمة .
نائل سيد أحمد
10-12-2012, 11:26 AM
مشجع لفكرة شاهد على العصر * .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــ
* والمقصود عصر بدء الدعوة للعمل والسعي لطلب الخلاقة ولا شك أن هذا بحث طويل .
السحاب
10-12-2012, 09:40 PM
بارك ربي جهودكم الطيبه
كيف يمكن المباشره بأنشاء ارشيف الكتروني للحزب يكون مرجعا لمن يريد ان يقوم بأي نوع من الدراسات عن الحزب
مره اخرى شكرا
ابو عصام
25-12-2012, 03:56 AM
الاخ الكريم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
اما انشاء الارشيف من اجل القيام بالدراسات ، فان الدراسات ان ارادت تناول فكر الحزب فان فكر الحزب مسطر في كتبه واصداراته ، وان ارادت دراسة سيره فانه بالامكان تتبع الكتابات في الناحية التكتلية وان كان يلزم فهم الظروف المتعلفة بسيره لتوضيح جوانب عمليه وهذا الامر مع الحديث عن النشأة هي ما يستكمل الارشيف ، وهذه المهمة يمكن لمن عاصر فترة معينة او سمع حادثة ان يضعها على هذه الصفحة ليجري التحقق من صحة الرواية ما امكن .
ابو عصام
24-01-2013, 02:32 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
بفضل الله وتوفيقه ، فقد كنت ابحث عن النسخة المخطوطة من المذكرات ، فوجدت لدي نسخة مصورة عن الاصلية ، وسألت أحد الشباب ممن سبق ان اعطيته النسخة ليطلع عليها ، فذكرني بان اهل الفقيد سبق ان طلبوها ، وأنني اعطيتهم اياها فأعادوها مع سي دي ، طبعوا عليه ما لديهم ، وأضافوا ما لدي عن النسخة الاصلية بتصرف قليل ، وان ما سبق ان نشرته في الموقع هو جزء ارسله الي الشاب من السي دي ، وهو الجزء الذي كان موجودا لدي مخطوطا وبتصرف خفيف جدا ، والان وقد اصبح لدي النسخة المخطوطة ، والسي دي المطبوع ، وهو يحوي أي ألسي دي ما جمعوه ، وما هو لدي ، فسأنشرة باذن الله تباعا حسب ترتيبهم للمذكرات ، وهي بالمناسبة ليست طويلة ، ولكنها تشكل اضافة هامة ، وللملاحظة فان المخطوطات لدي سبق ان اعاد كتابتها المرحومباذن الله تعاالى ثلاث مرات ، وكان في كل مرة يبدأ من جديد ومن ذاكرته والله اعلم ، اي لم يكن ينسخ ، بدليل الاختلاف البسيط بين النسخ الثلاث ، والتي اعتمد عليها اهله ضمن ما سأنشره من المذكرات التي جمعوها .وسانشر صورا لبعض المخطوطات التي لدي بعد اكتمال نشر المذكرات باذن الله تعالى .
ابو عصام
24-01-2013, 02:53 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
مذكرات
الحاج صالح الساكت
توثيق تاريخي لتأسيس
ونشأة حزب التحرير
قال تعالى في سورة التوبة: " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين " صدق الله العظيم.
بدأت اتصالات الشيخ تقي الدين النبهاني لتأسيس حزب بعد سنة 1950حيث ألـّف في تلك السنة كتاباً بعنوان " إنقاذ فلسطين ". وتـمّ طبع هذا الكتاب على نفقة مؤسسة اللاجئين في دمشق , وكان مديرها آنذاك الأستاذ نمر المصري ؛ وهي مؤسسة تعليمية تعنى بشؤون التعليم في وكالة الغوث الدولية لأبناء اللاجئين. وقد علمت أن معرفته بنمر المصري قديمة منذ أيام الانتداب البريطاني على فلسطين , حيث كان الشيخ قاضياً في الرملة , وكان الأستاذ نمر حينذاك مديراً لإحدى المدارس ورئيساً لجمعية إسلامية لا أذكر اسمها بالضبط ( ربما جمعية الشباب المسلم ). وكان الأستاذ نمر على مستوى من الثقافة وقدرة على الخطابة وإثارة المشاعر حتى لقد قيل بأنه ألقى خُطباً في أحد المؤتمرات الإسلامية في القدس والذي حضره الأستاذ الدكتور محمد حسين هيكل . وقد قال هيكل : لم أسمع بحياتي أقدر من هذا على إثارة المشاعر. هذا وقد كان الأستاذ نمر من خطباء الثورة التي اندلعت في فلسطين في الثلاثينات من القرن الماضي, وكان مطارداً من الإنجليز ويعتبرونه من المحرّضين.
أما الأستاذ داود حمدان فقد كان الشيخ يعرفه كذلك منذ أيام الانتداب في اللد , قبل أن ينزع الأستاذ داود العمامة ويستبدلها بلباس الرأس إثر تعرضه لعملية احتيال من أحد الشيوخ . ألقى خطبة في حينها في المسجد وأعلن أن الإسلام ليس فيه رجال دين ، وأن الدين المعاملة.هذا ما سمعته بهذا الخصوص.ولذلك كانت قيادة الحزب الأولى أو ما نسميه بالحلقة الأولى مؤلفة من الثلاثة: محمد تقي الدين ابراهيم النبهاني رئيساً, وداود حمدان ونمر المصري أعضاء. وقد كانوا على مستوى متميّز في الفهم حقيقة. وقد ساهم داود في التأسيس في منطقة القدس, بينما كان مجال نمر المصري في مؤسسة اللاجئين في دمشق.
وقد استطاع داود أن يجلب الكثير من معارفه, كما استطاع نمر أن يستقطب أكثر مسؤولي المؤسسة ويكتلهم في الحزب. وقد كان الأستاذ داود على قدر عظيم من الصفاء, أما الأستاذ نمر فقد كانت لديه عقدتان: الأولى حب المسؤولية وقد نالها في المؤسسة, وكان حريصاً على الاحتفاظ بها. وهذه النقطة أثـّرت عليه كثيراً وضاعفت عنده العقدة الثانية ألا وهي الخوف؛ لذلك كان جلّ تحرّكه في المؤسسة, وكان يبتعد كثيراً عن أي عمل ينتج احتكاكاً مع الدولة. لكن الدعوة تجاوزته في ذلك الحين ووصلت إلى الشارع:أي الناس خارج المؤسسة. فقد علمت أنه كان في حينها أكثر من خمس وثمانين حلقة في دمشق وحدها.
هاتان النقطتان جعلت الشيخ يحاول باستمرار التغلب على هاتين العقدتين عنده, ويحاول معه لتحريكه للعمل وذلك بإعطائه (ولعة) بين الحين والآخر لأن الأستاذ كان طاقة بالفعل إذا تحرك. ولا أنسى عندما كانت ترد رسائله إلى القدس وهو يناقش كل نقطة في كتب الحزب ويشبعها بحثاً. ولا أنسى عندما قام الشيخ بترشيح نفسه للانتخابات في المجلس التشريعي الأول سنة 1950 في منطقة القدس, وقد حضر الأستاذ نمر من دمشق وألقى خطباً في عقبة جبر والمخيمات هناك, وثارت ثائرة اللاجئين واعتدوا على أحد الضباط الأردنيين ورجاله, مما دفع الحكومة الأردنية إلى تسفيره ومنعه من دخول الأردن. وقد نجح الشيخ في الانتخابات نجاحاً منقطع النظير مما حدى بالسلطات في الضفة الغربية إلى تزوير الانتخابات ليمنعوا دخوله إلى المجلس. أضف إلى ذلك أن نمر كان يتمتع بذكاء خارق: ومن ذلك أن الشيخ تقي الدين (أبا إبراهيم) كان مرة جالساً معه في مكان بجوار الطريق فمرّ رجل يقود حماراً فقال له الشيخ : يا أبا العبد (نمر), هذا الحمار لونه أبيض ، فلماذا ينعته الناس بالأخضر؟ فأطرق قليلاً وقال: إنك والله لتعنيني بهذا السؤال. وقد أخبر أبو إبراهيم فيما بعد أنه كان يعنيه بالفعل. هذه المحاولات مع المصري لم تفلح في تغيير موقفه لأن عقدة الخوف عنده يصعب التغلب عليها.
هؤلاء هم رجال الحلقة الأولى ( القيادة ) وهم متميزون بالفعل رحمهم الله جميعاً. ولقد ظلت القيادة كذلك حتى صدور بيان اتفاقية التسلح الذي يكشف الحزب فيه حقيقة الأسلحة المصرية من المعسكر الشرقي, حيث كان محظوراً على دول الشرق الأوسط شراء الأسلحة من المعسكر الشرقي. وكذلك بيان الاتفاقيتين : المصرية-السورية, والمصرية-السورية-اليمنية, وهي عبارة عن أحلاف جماعية للدفاع عن الشرق الأوسط على الطريقة الأمريكية؛ وذلك بعد أن أقامت أمريكا الحلف التركي-الباكستاني, وأقامت بريطانيا حلف بغداد على الطريقة الإنجليزية, وشاركت أمريكا فيه بصفة مراقب. وقد اشتد في حينها الضغط على الأردن لدخول حلف بغداد , لكن أمريكا أفشلت ذلك بوقوفها ضد الحلف عن طريق الرئيس المصري جمال عبد الناصر. وقد أرسلت القيادة في بيروت البيانين بعد طباعتهما في لبنان إلى سوريا لتقوم القيادة هناك بتنظيم توزيعهما على مجلس النواب السوري. وكانت سوريا في حينها تحت نفوذ الإنجليز, والإنجليز بالطبع ضد الاتفاقيات الأمريكية؛ لكن مجلس النواب في سوريا يحتاج إلى حقائق لرفض الاتفاقية حين عرضها عليه للموافقة, فقرر الشيخ رحمه الله توزيعها على النواب بشكل خاص بالإضافة لعامة الناس.وكانت له جلسة محددة في حينها لمناقشة الاتفاقية, إلا أن قيادة الحزب في دمشق لم تقم بتوزيعها على أعضاء المجلس بل على معارف الشباب من الناس فقط. وكان للحزب ثقل في دمشق وفي عدة مدن سورية,وكان من المسؤولين الدكتور عبد المنعم أبو لبن و محمد الهنيدي و علي السعد و غيرهم, ولعل عبد الرحمن المالكي برز فيما بعد والله أعلم. وعندما اجتمع مجلس النواب السوري لمناقشة الاتفاقيتين, استمع أبو إبراهيم رحمه الله في حينها لمذياع دمشق وسمع مناقشات مجلس النواب, فلم يسمع في المناقشات ما يدل على أن البيان وُزِّع عليهم,وقد كان يريد قياس تأثير الحزب . وبعد أن أقر مجلس النواب الاتفاقيتين المفروضتين ذهب إلى دمشق وسأل عن البيان وتوزيعه ,اجابوه بأنهم اجتهدوا في أسلوب التوزيع فغضب الشيخ وقال : لم خالفتم أمر القيادة؟ فردوا عليه بأن القيادة جماعية وليست فردية. فردّ عليهم بأن القيادة في الإسلام فردية, وأصدر بياناً مع الأدلة . فردوا عليه ببيان بأن قيادة الحزب يجب أن تكون جماعية وأن رأي الاثنين أرجح من رأي الفرد, وجاؤوا بدليل ورد في صحيح البخاري في كتاب الجهاد والسير : أن النبي (صلى الله عليه وسلم) بعث معاذا ً وأبا موسى إلى اليمن قال:" يسِّرا ولا تعسِّرا وبشـِّرا ولا تنفـِّرا وتطاوعا ولا تختلفا" .
ردّ عليهم الشيخ
ابو عصام
25-01-2013, 12:19 PM
ردّ عليهم الشيخ بأن كل واحد منهما أ ُرسِـل إلى جهة في اليمن غير جهة الآخر. وعندما أصروا على رأيهم في موضوع القيادة هدّدوه بالتوقف. وقد استطاع نمر المصري بأساليبه التأثير على الشيخ داود - مع شدة صفائه - واستماله إلى جانبه, فقال الشيخ والله إنها ردّة, وأصدر بعد ذلك قراراً باعتبارهما مفصولين لتوقفهما. وقد بذل الشيخ أحمد الداعور جهوداً لثنيهما عن موقفهما إلا أنهما أصرّا على التوقف أو يرجع الحزب عن رأيه في موضوع القيادة فقال أبو إبراهيم للشيخ أحمد: دعهما, فطبيعة العمل تقتضي فصلهما وذلك مع شدة ارتباطه بهما وصداقته لهما. ولعلك ترى كيف تقوقع الحزب في داخل المؤسسة, ولم يصل صوته إلى الشارع إلا عن طريق الشباب الملتزمين والقادمين من الأردن بالذات. وقد سـُئل داود عندما جاء إلى عمان بعد مدة :لمَ توقفتما؟ فقال: لقد بحثنا الأمر في الحقيقة مع بعضنا إذا كان بإمكاننا السير بالحزب بدون الشيخ, فتبين لنا أننا لا نستطيع ذلك؛ فهو ألزم للحزب منا جميعاً, فتركنا له أمر قيادة الحزب حسب اجتهاده.
أما الأدلة التي أوردها الشيخ رحمه الله في البيان كدليل على فردية القيادة فكان مما أذكر ما يلي:
ورد في سنن أبي داود عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: " إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمّروا أحدهم "
أما في موضوع الإمامة , فقد وردت أدلة أخرى:ففي صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ): " إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما " وهذا يتخذ دليلاً على وحدة الدولة وفردية القيادة في الإسلام.
أما في صلاحيات القيادة فيحضرني أدلة كثيرة نذكر منها ما يلي:
أولاً: فتح مكة – حين أمر الرسول (صلى الله عليه وسلم ) بالتجهيز لفتح مكة لم يطلب مشورة أحد.
ثانياً: وكذلك في موضوع صلح الحديبية , حين تم عقد المعاهدة رغم معارضة الجميع – باستثناء أبي بكر.
ثالثاً: في تأمير أسامة بن زيد على جيش به ثلة من المهاجرين والأنصار وفيهم أبو بكر وعمر , وإنفاذ الأمر مع وجود معارضة الصحابة لهذه الإمارة.
رابعاً: إصرار الصديق ( رضي الله عنه ) على إنفاذ بعث أسامة إلى حدود الروم رغم معارضة أغلب الصحابة.
خامساً: إعلان الصديق الحرب على المرتدين رغم معارضة الأمة.
من هنا يتبين بأنهم كانوا غير محقين في طلبهم بأن تكون القيادة جماعية , لأنها تتحول عندئذ من قيادة حزب إلى مجلس نواب على الأسلوب الديموقراطي . لذلك رفض الشيخ وأصر على الرفض ولو ضحى بأعز أصدقائه وأقرب المقربين إليه, لأن أمر قيادة الحزب ة والدعوة إلى الله أولى حرمة من أي إنسان كائناً من كان , وأحق منه بالكفاح والنصرة. ورحم الله أمير الشعراء حيث يقول:
الحق أولى من وليك حرمة وأحق منك بنصرة وكفاح
وكان ذلك أول شرخ في الحزب والذي وصفه الشيخ رحمه الله بقوله: إنها ردّة.
ولعل النقطة التي كان يستطيع المصري التأثير فيها على داود هي أن داود كان حريصاً على كل شاب يدرس في الحزب ويعزّ عليه فصل أي واحد منهم أو إهماله, وذلك كان موقفه عند إيقاع أي عقوبة على أي شاب يـُتـَخَذ بحقه إجراء معين.
وبالعودة لموضوع الخلاف حول توزيع بيان الاتفاقيتين آنف الذكر , فقد كانت حجة الأستاذ نمر أنه صادف يوم عرض الاتفاقية على مجلس النواب لدراستها ثم مناقشتها لإقرارها الهجوم الإسرائيلي على سوريا في معركة التوافيق , وكانت مشاعر الناس مع الحكومة والجيش ضد الغزو الإسرائيلي لسوريا , وأنه لو قمنا بتوزيع البيان على مجلس النواب في حينها لاتهمـَنا الناس مع الحكومة بالخيانة العظمى لأننا نحرّض ضد اتفاقية مع الدول العربية وبخاصّة مصر واليمن في وضع تتكرر فيه الاعتداءات على سوريا كل يوم , وحاجتها لمثل هذه الاتفاقية في مثل هذا الظرف يجعلها أشد إلحاحاً, ولذلك كان رأيه أن توزيع البيان على نواب سوريا أمر تنقصه الحكمة. وزاد قائلا ً: يريد الشيخ أن يعدمنا من أجل بيان.
بعد توقف المذكوريْن , ضمّ الشيخ كـُلا من أحد الداعور وعبد القديم زلوم إلى القيادة مكانهما, وسار الحزب بقيادته الجديدة, مع الإشارة إلى أن الشيخ تقي كان وحده يصدر القرارات , إذ لم يكن بإمكانه استشارتهما لبعدهما عنه في أغلب الأحيان, لكن ذلك لم يمنع من استشارة الشباب القريبين منه. وقد ذكر أحدهم أنه مرّ عند أبي إبراهيم لأمر يتعلق بالعمل الحزبي فوجد أمامه كتاباً فيه فصل عبد القديم من الحزب، فأخذ يرجو الشيخ ويطلب منه إلغاء الكتاب لأن الرجل قد تحمّـل كثيراً في الغربة عن أهله بالإضافة إلى أنه من العلماء المخلصين في الحزب, ولم يسبق له أن رفض أمراً للحزب, إلا أن هذه طاقته وقدراته العملية, فإذا احتاج أهله وطلب قدومهم إلى العراق فما العيب في ذلك؟ وإذا تهاون من حوله أو تسلل متسلل دون علمه فهذا أمر كثيراً ما يحدث, وعليك يا سيدي ألا تحاسب على الصغيرة والكبيرة, فكل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون, وقد تحمّـل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من أصحابه ومن الناس الكثير وكان دأبه العفو والصفح. وقد ورد في بعض الآيات النهي عن طرد الأنبياء لأصحابهم. فقال: ذلك للأنبياء, ونحن إذ نـُبعـِد فلا نـُبعِـد عن الإسلام وإنما عن العمل فقط فطبيعة العمل معنا تقتضيه. قال الراوي: وما زلت به حتى ألغى رسالة فصل عبد القديم, وقد سمعت بعد ذلك أن الحزب ترك عبد القديم لأمور لا نعلمها لكن المسؤولين في تلك الفترة لم يعمّموا ذلك على الشباب . ولما توفي القائد رحمه الله تعالى ,كان أقرب شخص منه السيد أحمد بكر ولم يكن يعلم بأمر ما آل إليه أمر عبد القديم , أرسل إليه وسلـّمه قيادة الحزب – مع أن الصواب أن يخضع هذا الأمر للانتخاب والاختيار من رجال الحزب لا إلى التعيين من قِـبَـل فرد من أفراد الحزب – لكن ذلك ما حصل بالفعل. وقد سار القائد الجديد بقيادة الحزب , وكان حقيقة من ذوي العلم. إلا أن قيادة حزب سياسي يسعى لغاية معينة ويعمل لتحقيقها لا يكفي أن يتحلـّى قائده بمعرفة الأحكام الشرعية بل لا بد من إدراكه لأمور أخرى اكتسبها من خلال عمله السياسي مع الحزب لمدة طويلة تجاوزت ثلاثين عاماً: أولها القدرة على التحليل السياسي لتزويد الشباب على الأقل بالفهم العميق لما يجـِدّ من أحداث سياسية على المستويين الإقليمي والدولي. وإذا لم تتوفر لديه تلك القدرة , فالواجب يملي عليه الرجوع إلى من حباهم الله بهذا الفهم وأخذ الرأي عنهم ليتمكن من خلال ذلك تزويد الحزب بالآراء الصحيحة والفهم السليم لكل ما يقع من أحداث على الساحة الدولية. وقد علمت من خلال قربي من الحزب أنه عرض مرة على الأستاذ غانم عبده هذا الموضوع ،فاستعدّ لذلك كما استعدّ أن يتولى إصدار كافة البيانات السياسية وتزويد القيادة والتشاور معها بهذا الخصوص، لكن الشيخ عبد القديم اشترط أن يُـصدِرَ هو البيانات وأن يجري عليها التعديل الذي يراه مناسباً, فوافقه في الأولى لكنه رفض التعديل على بياناته لأن هذه الأمور تتعلق بدقة الفهم فاختلفا. وصار الحزب يصدر من البيانات ما هبّ ودبّ غير مراع ٍ في ذلك الفهم الصحيح لحقيقة الأحداث.وأذكر أن السيد غانم عبده كان يضرب على رأسه حين يقرأ البيانات التي يصدرها الحزب ويقول : أين الفهم للحدث؟ وماذا يفعل هؤلاء؟ وأحياناً يرى الواقع السياسي في ناحية والرأي الذي يتبناه الحزب في الناحية الأخرى.وكان يرى في بعض الأحيان أن أموراً تحدث لا بد من التركيز عليها , ولا يجد من الحزب من يعيرها أدنى اكتراث, فهم في وادٍ وأمور السياسة في وادٍ آخر؛ فيعلـِّق على ذلك – رحمه الله تعالى – فيقول: هؤلاء ليسوا هنا, وكأنهم غائبون عن الساحة ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وقد ذكر لي السيد غانم عبده مرة أن الشيخ تقي – رحمه الله تعالى – جاء إلى عمـّان بلباس معيّن ومكث عنده عشرة أيام وذلك بعد ترك غانم للحزب وحاول أن يحفزه للعمل لأنه كان واثقاً بقدرته على السير بالحزب في الأردن, لكن موقف غانم لم يتغير بسبب اختلافهما في موضوع النصرة. وبعد سفر الشيخ اشتغل غانم بطريقته الخاصّة التي يؤمن بها في العمل. ومع أن عمله غطـّى على الحزب فترة لا بأس بها في الأمور التي قصّر بها , إلا أن العمل الفردي مهما بلغ من القوة لا يسدّ مسد العمل الجماعي.وقد أثار بعض الشباب مرة هذا الموضوع وأخبروه أنه كان من الأجدى به أن يوافق الشيخ تقي عندما جاء إليه بنفسه , وأن الأسلوب الذي تمت إثارة الموضوع به لا داعي له لمن أراد أن يعمل. فأخذت منه هذه الكلمة كل مأخذ وراح يبكي – رحمه الله تعالى. وأذكر في مثل هذا الموقف عندما أبلغ داود حمدان بالفصل من الحزب في دمشق – وكان في حينها يشرف على حلقة – أن توقــّف عن العمل الحزبي, وقال لا حول ولا قوة إلا بالله وأخذ يبكي ؛ وهاأنذا أبكي وأنا أتذكر الموقفين.
أما الأمر الثاني فهو التمسك بثوابت الحزب ؛ ومن الثوابت عدم توسيع مجال عمل الحزب لكي لا تتحول الدعوة إلى دعوة مفتوحة كسائر الدعوات, ولكي يتم التركيز على الرقعة التي حددها كمجال عمل له وذلك اقتداء برسول الله (صلى الله عليه وسلم) في تحديد مجال العمل في مكة والمدينة والطائف.ولو جعلها دعوة مفتوحة لظلت كذلك إلى قيام الساعة, ولكن الله تعالى أراد لهذه الأمة التشرف بقل رسالته إلى العالم أجمع وذلك عن طريق الدولة التي أقامها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في المدينة المنورة.
أما الأمر الثالث فهو عدم العبث بما تبنـّى الحزب في كتبه من أفكار وآراء وأحكام , وعدم تحويلها من رسائل سهلة المنال إلى مجلدات أكاديمية تعقد على الشباب الوصول إلى المفاهيم التي يُراد نقلها إلى المجتمع, لأن الحزب ليس مدرسة ولا جامعة و شتان بينهما في العمل وفي التأثير.
أما الرابع فهو إدراك سير الحزب في المجتمع وتزويده بكل ما يلزم من تكتيك وغيره ليكون الدفع مستمراً داخل المجتمع, ومن ذلك إدراك تفكير الناس أين وصل في كل قضية وأسلوب معالجة ذلك وإدراك أسلوب
الكفاح المطلوب في كل فترة وتهيئة الحزب لكل مرحلة من مراحل الكفاح. ولعل غانم عبده كان فريداً في هذا الأسلوب وقد قيل لقد كانت عقليته استراتيجية وقد كان حقاٍ كذلك.
أما الخامس فهو قدرته على الاتصال مع الفئات المؤثرة في كل مجتمع والتأثير فيهم لكي يستطيع الوصول بذلك بحزب إلى نقطة الارتكاز, لأن الوصول لهذه النقطة يجب أن يأخذ كل تفكيره, وذلك لأن ضرورة قيام الدولة الإسلامية كضرورة الماء والهواء للإنسان , وهي ضرورة لا تتقدمها ضرورة بالنسبة للأمة الإسلامية التي وصلت إلى الحضيض بين الأمم, كل ذلك بعد الاعتماد على الله وحسن التوكل عليه.
أما السادس والأخير فهو عدم التبني في أمور الشريعة لغير ما هو متبنـّى لكي لا يتحول الحزب من حزب سياسي إلى حزب ثقافي لا يعنى بغير الثقافة, وترك الأمور الثقافية للدولة فيما بعد.
ابو عمر الحميري
25-01-2013, 09:23 PM
اخي الكريم ابو عصام
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
جزاك الله كل خير على هذه المذكرات ورحم الله صاحب هذه المذكرات فهي بحق توثيق تاريخي لنشأة الحزب ومن الممكن أن يستفيد منها الحزب بمجموعه فأرى أن توثقها في كتيب او على شكل كراسة بسيطة تعطى للشباب بالاسلوب المناسب حتى يتمكن من الاستفادة منها والسلام
ابو عصام
26-01-2013, 09:28 PM
مؤسس حزب التحرير
ومؤسس الحزب كما قلت هو محمد تقي الدين بن ابراهيم النبهاني من قرية إجزم قضاء حيفا. جدّه لأمـّه الشيخ يوسف النبهاني وقد كان قاضياً في المحكمة العليا في بيروت أبان الحكم العثمانيa, وهي المحكمة التي حكمت جماعة من يسمـّونهم " الأحرار العرب " بالإعدام بتهمة الخيانة العظمى وذلك بسبب العمل والتآمر مع الكفار للقضاء على الدولة الإسلامية. وكل من حـُكـِمَ منهم أدلى باعترافاته وعـُلـِّقت برقبته وهي إقراره بالاتصال بالدول الأجنبية والتآمر على دولة الإسلام . وقد نـُفـِّذ فيهم حكم الإعدام في الساحة التي يسمـّونها " ساحة الشهداء " .
وللشيخ يوسف النبهاني مائة مؤلف منها سيرة النبي (صلى الله عليه وسلم) كلها كـُتـِبت شعراً من شعره. وأكثر مؤلفاته مطبوعة في مصر , وقد رأيت الكثير منها عند ابن أخيه في عمـّان بعد أن عاد من العراق. ولذلك فالشيخ رحمه الله تعالى كان من عائلة معروفة بباعها الطويل في مجال العلم. وقد لازمت الشيخ تقي رحمه الله تعالى في القدس عندما كنت موظفاً هناك وتعلمت منه الكثير.
ومما علـِمتـُه عن الشيخ رحمه الله تعالى أنه عندما وُلـِد في قرية إجزم, جاء هاتف لجده الشيخ يوسف النبهاني وقال له : ابنتك ستلد غلاماً فسمّه محمد تقي الدين. وقد أسلفتُ أن جدّه هذا كان عالماً وتقياً بشهادة العديد ممن يعرفونه حق المعرفة.
(سبق نشر معظمه)
الحلقات الأولى والثقافة الأولى وتأليف الكتب
+
كانت الحلقات الأولى يـُدَرّس فيها محاضرات الشيخ رحمه الله تعالى في مواضيع متعددة- وكان يجمعها في ملفات مطبوعة- وبعض المواضيع المختارة من"حياة محمد " للدكتور محمد حسين هيكل وخاصة ما يتعلق بالسيرة النبوية وتعليق المؤلـِّف عليها. وكذلك من كتاب " العدالة الاجتماعية في الإسلام"لسيد قطب رحمه الله تعالى, وبعض المواضيع من كتاب " الإسلام على مفترق الطرق" لمحمد أسد.
أما المحاضرات في ملفات الشيخ فقد أ ُفرغت كلها في كتب وظهر منها كتاب " التكتل الحزبي" وكتاب "نظام الحكم" الطبعة الأولى , وقد أُجري عليه فيما بعد تعديل جذري, وكتاب "مفاهيم حزب التحرير" الطبعة الأولى, وقد أُجري عليه تعديل طفيف, و كتاب "رسالة العرب " وقد كان عبارة عن مذكرة قـُدِّمت للجامعة العربية, حيث أن الأخيرة أعلنت في الصحف ذلك الحين أن من يحدد رسالة العرب بدقة فله جائزة. وقد أرسل الشيخُ المذكرةَ إلى الجامعة ونالت الجائزة كأحسن رسالة قـُدِمت لها.وكتاب "أسس النهضة " للأستاذ داود حمدان , وقد كان هذا الكتاب عبارة عن محاضرة للأستاذ داود في نادي البيرة الثقافي بمناسبة احتفالهم بذكرى المولد النبوي الشريف. ثم صدر بعد ذلك كتابان هما "الدولة الإسلامية" و "الشخصية الإسلامية" الطبعة الأولى. ولعل هذه الكتب كانت كافية للسير بالحزب في المجتمع في تلك المرحلة.
ومن المعلومات التي سمعتها وأنا في القدس أن بحث القيادة الفكرية كان عبارة عن مناقشة جرت بين الشيخ رحمه الله تعالى وأحد كبار قادة البعث في القدس , وقد كانت مناقشة طويلة , عاد الشيخ بعدها وكتب ما جرى في النقاش , فكان بحث القيادة الفكرية في الإسلام. أما أبحاث "طريق الإيمان" و " القضاء والقدر" فكانا من المواضيع الموجودة في الملف؛ أي عبارة عن محاضرات مطبوعة , وكذلك بحث " كيفية حمل الدعوة الإسلامية" . وقد اطلعت على رأي مشابه لرأي الحزب في هذا الباب لأحد علماء مصر لكن رأي الحزب أشد تركيزاً ووضوحاً. أما بحث " نظام الإسلام" والذي صدر فيه كتاب بالحجم الصغير أول الأمر , أُلحِق بكتاب "نظام الإسلام " بعد إلغاء ذلك الكتاب ثم أُُلحِقت به مواضيع الدستور والقانون ومشروع الدستور ,....الخ. أما مواضيع كتابَيْ:" الحضارة والمدنية" و "الأخلاق في الإسلام" فنقلا كذلك من ملف المحاضرات. وكان البحث الثاني ردّا على طريقة الأخوان المسلمين في الدعوة والعمل.أما بحث "نقض الاشتراكية الماركسية" فقد كان في الحزب من الشباب من حمل الفكر المادي قبل التحاقه للعمل مع الحزب, وقد ناقشوا الشيخ رحمه الله تعالى في الفكر الماركسي وخاصة في موضوعي الإدراك والتطور الذي يقوم عليهما الفكر الاشتراكي .فقام الشيخ بنقضها لهم وسجّـل النقاش على أوراق احتفظتُ بها لبعض الوقت. ووقف النقاش عند نقطة المعلومات السابقة التي حصل فيها أخذ و ردّ , ثم غادر الشيخ في اليوم التالي إلى عمّان, وهناك ذهب للمبيت في منزل الأستاذ غانم عبده, حيث دخل عليه اثنان من أبناء خليل عبده صهر الأستاذ غانم, وكانا صغارا ً وبحوزتهما كتاب القراءة المزود بالصور. ناداهما الشيخ وأخذ يهجيء لهما الكلمات مع ربط الكلمة بالصورة, وكان قبل ذلك قد سألهما :(ما هذا ؟ وما ذاك؟) ويجيبانه لا نعرف. ولكن بعد التهجئة والشرح والإفهام عاد فسألهما الأسئلة نفسها , فأجابا. فقال رحمه الله تعالى : إذن لا بد من المعلومات السابقة حتى يتم الإدراك. والرواية الأخيرة سمعتها من الأستاذ غانم. وبعد مناقشة النظرية من جديد تمّ نقض المادية الديالكتيكية والتاريخية, ثم وُضِع البحث في كتاب" نظام الإسلام ". وألف الشيخ رحمه الله تعالى فيما بعد كتاب " نقض الاشتراكية الماركسية" والذي نـُشِر باسم غانم عبده رحمه الله تعالى . أما بحث الاقتصاد في الإسلام , فقد كان الاقتصاد شغل الشيوعيين الشاغل في البحث والنقاش فيما بعد سنة 1950م , وسؤالهم للمبتدئين من الشباب: هل قرأتم كتاب رأس المال لكارل ماركس؟ وهل قرأتم أسس اللينينية؟ وهل وهل؟ ويتحدَّون الشباب بالفكر الاشتراكي. أقول يبدو بأن ما لفت انتباه الشيخ رحمه الله تعالى هو ما ورد في كتاب "العدالة الاجتماعية في الإسلام"لسيد قطب رحمه الله تعالى في موضوع الاقتصاد وتطرقه في البحث للقواعد الاقتصادية في الإسلام وأبحاث كثيرة وردت في الكتاب, يُضاف إلى ما لديه من معلومات واسعة في الأبحاث المتعلقة بالاقتصاد في الإسلام, يدل على ذلك ما قام بنشره في مجلة الإخوان المسلمين تحت عنوان "النظام الاقتصادي في الإسلام" في ذلك الحين, والذي أبرز فيه الثوب الكامل للاقتصاد في الإسلام.
ولعل طرح الفكر الاشتراكي في المنطقة كان له الأثر الفعال لهداية الناس إلى إسلامهم ولأحكامه الاقتصادية؛ حيث ان طرح الموضوع بوضوح يدفعك للبحث فيما عندك ومعرفة حكم الإسلام في هذه المواضيع. وقد قيل:( ربَّ ضارّة نافعة).
وبمناسبة ذكر الأستاذ سيد قطب, فقد ذكر أحد الشباب أنه كان في زيارة خاصة للشيخ يوم إعدام سيد قطب رحمه الله تعالى , وقد قال الشيخ عند سماعه الخبر : سيد قطب يرجح بمليون مسلم.
أما كتاب "أحكام الصلاة" , فقد لاحظ الشيخ بأن بعض الشباب لا يتقنون الصلاة كما ينبغي, فوضع هذا الكتاب وألـّفه من الذاكرة باستثناء مراجعته لبعض الأدلة الشرعية الواردة في هذا الباب- مع إن الحزب لا يتبنـّى في أحكام العبادات وذلك منعا ً للحرج والتضييق على الشباب. ولو أراد الاستمرار في التأليف لصدر عنه الكثير , فما رأيت أسرع منه كتابة وتأليفا ً حتى إن يده لتعجز عن متابعة أفكاره المتزاحمة, وإنه بحق مجتهد هذا الزمان.
أما موضوع" نقض القانون المدني ", فقد تقدمت الوزارة لمجلس النواب الأردني بالقانون المدني لمناقشته ثم إقراره والموافقة عليه. وكان الشيخ أحمد الداعور رحمه الله تعالى عضوا ً في المجلس, وقد خـُصصت جلسة للمناقشة, فقام الشيخ أحمد بإرسال المشروع إلى الشيخ تقي في بيروت مع أحد الشباب. وبعد أيام عاد الشاب من هناك يحمل معه نقض القانون المدني . وقد طـُبـِع في كتاب و وُزِّع على الشباب , كما نـُشِر في الجريدة الرسمية. وقد حاول رئيس المجلس إيقاف الشيخ الداعور عن إلقائه, فأبى وأصرّ على ذلك ولو بقي وحده في المجلس.
أما موضوع نقض الاقتصاد الرأسمالي وكذلك الاشتراكي فمع اطلاع الشيخ الواسع على الاقتصاد الرأسمالي والاشتراكي وإحاطته بما ورد في أمهات الكتب المؤلفة في تلك المواضيع – إلا ان أحد الشباب واسمه عثمان, كان في حينها طالبا ً في الجامعة الأمريكية ببيروت, وعلى جانب من الفطنة والذكاء, ذكر للشيخ ان أحد الأساتذة في الجامعة من علماء الاقتصاد الرأسمالي (بروفيسور) , فطلب منه الشيخ أن يدرس عنده مساقات , وراح يحَضِّر له بعض الأسئلة في كل مرة وعثمان يطرحها على البروفيسور ويناقشها معه ويجيب على كل سؤال. فصار اهتمام البروفيسور بهذا الطالب الذي يسأل هذه الأسئلة لأنها في العمق وتكشف الأسس التي يقوم عليها الاقتصاد الرأسمالي وكذلك الاقتصاد الاشتراكي بأنواعه المختلفة. وبعد ذلك كتب الشيخ مقدمة "النظام الاقتصادي" التي تم فيها نقض الاقتصادين الرأسمالي والاشتراكي معا ً.
مما تقدم يبدو جليا ً بأن الشيخ رحمه الله تعالى كان وحده حزبا ً قائما ً بذاته. بدأت اتصالاته لتأسيس الحزب كما ذكرت آنفا ً سنة 1950م , وظلت الاتصالات مستمرة في مواطن عدة . فكان بعد إرسال زوجته لتعيش بقرب أهلها في بيروت , يتنقل بين القدس وعمّان ودمشق وبيروت. وفي كل مكان كان يوجـِد الخلايا (الحلقات) ويهيئها لحمل الفكر. وما تلبث هذه الخلايا ان ينتج عنها خلايا أخرى. وكانت له إقامة في أماكن متعددة حسب ما تقتضيه طبيعة العمل ؛ فكانت إقامته في عمّان مثلا ً في منزل غانم عبده رحمه الله تعالى ببيت ملحق ببيته له باب خارجي , وكان أبو إسماعيل(غانم) يحضر له الجرائد المحلية والخارجية. وكان الشيخ يشرح له طريقة فهم الأخبار ويجري النقاش بينهما حول ذلك حتى صار أبو إسماعيل من المعتمدين في فهم الأمور السياسية ليس في عمّان وحدها بل في الأردن, حتى إنني سمعت فيما بعد بأن رسالة الحزب من عمّان الى القيادة تعتبر أهم رسالة ترد الى القيادة من الولايات الأخرى لكثرة ما تحوي من أخبار خاصة بالإضافة إلى التحليل الدقيق للأحداث السياسية وذلك خلال فترة التأسيس للحزب ولما بعدها . وقد انطلق الشيخ في دعوته منذ مطلع الخمسينات وتكتل حوله الكثيرون من أبناء الأمة حتى وصل الى نقطة لا بد منها للانتقال بالحزب من كتلة حزبية الى حزب مبدئي متكامل , أي لا بد من الانتقال من الدور السّرّي في التكتل الى الدور العلني, فقرّر طلب الترخيص. عند ذلك أخذ يراجع بعض القوانين المعمول بها والمتعلقة بموضوع الأحزاب والجمعيات, فوقع نظره على قانون الجمعيات العثماني- وكان معمولا ً به في الضفة الغربية , أما في الضفة الشرقية فقد أ ُدخلت عليه تعديلات. وكان القانون ينص على أن من يود تأسيس حزب أو جمعية إسلامية فعليه تشكيل الحزب أو الجمعية , ويبين أسماء المؤسسين وموقع كل منهم والغاية التي يسعى إليها. وليس شرطا ً أن ينتظر الإذن بالترخيص, بل يعلن ذلك في أحد الصحف المحلية ويرسل فقط علما ً وخبرا ً بذلك إلى مركز الداخلية من أرباب الشأن في فلسطين, فيكون بذلك قد سار على الأسس القانونية المعمول بها.
ابو عصام
26-01-2013, 09:31 PM
عند ذلك سار الشيخ على القواعد نفسها التي اشترطها القانون. وقد ذهب الشيخ داود حمدان رحمه الله تعالى وبحوزته القانون بعد ذلك بناء على طلب الشيخ إلى صديقه السيد علي حسنا الذي كان نائبا ً لوزير الداخلية في الضفة الغربية- وكان من رجال القانون – فذكر له ما يريد, وتمّ النشر في صحيفة الصّريح لصاحبها السيد هاشم السبع. وبذلك حصل على الترخيص وكان عمله في حدود القانون الذي ما زال معمولا ً به هناك.
وبعد تحديد المكان , عُـلـِّقت اللافتات على واجهات المكتب في عمارة هندية مقابل باب العامود في القدس,وكانت الحكومة في ذلك الوقت برئاسة توفيق أبو الهدى. وقد تم الإعلان عن تأسيس الحزب وأسماء القائمين عليه في الجريدة المذكورة.وفي اليوم التالي , أصدرت الحكومة بيانا ً تتهم فيه الحزب بإثارة الطائفية وغير ذلك من التهم, وتم نزع اللافتات المعلقة. فردّ الحزب عليها ببيان مطبوع وُزِّع على الناس يشرح فيه الموضوع بالتفصيل, ويبين كذلك أحكام الإسلام المتعلقة بمعاملة أهل الذمّة في الدولة الإسلامية مع الأدلة الشرعية الواردة في هذا الباب. عندها قامت الحكومة باعتقال مؤسسي الحزب ووُضِعوا في سجن المحطة في عمّان. وهنالك تحركت الهيئات الشعبية على شكل وفود وذهبت إلى رئاسة الوزراء مطالبة بإخلاء سبيلهم. وهذا التحرك شكـّل ضغطا ً على الحكومة مما دفعها إلى إرسال وفد من العلماء يرأسه الشيخ عبد الحميد السائح إلى السجن. وكان مدير السجن آنذاك ( الحاج عربي) - ولعله كان لديه اطلاع على بعض المعارف الشرعية – وقد حضر المفاوضات بين وفد العلماء والشيخ تقي وجماعة من المعتقلين. وكانت المفاوضات شديدة بين الطرفين لدرجة أن قام الشيخ بعدها بطرد الوفد ومما سمعته أنه بصق على السائح عندما طلب منه ترك الدعوة وذلك لشدة غضبه. فضحك مدير السجن من الموقف وقال: يا أبا إبراهيم, إن الرسول (صلى الله عليه وسلم) تنازل كثيرا ً لقريش في صلح الحديبية. فردّ عليه الشيخ: يا حاج عربي, نحن لسنا في موقف الحديبية بل نحن في الموقف الذي طلبت فيه قريش من الرسول(صلى الله عليه وسلم) التخلي عن الدعوة مقابل أمور دنيوية, وكان ردّ الرسول(صلى الله عليه وسلم) حاسما ً. وقد توالت الوفود على الرئاسة مما حدى بالدولة الإفراج عنهم بعد ثلاثة وعشرين يوما ًمن الاعتقال. ولما حضر الشيخ إلى القدس كنت من الحاضرين, وقد حضر كثير من العلماء للسلام عليه مما اضطرنا لاستعارة المقاعد من المكاتب المجاورة, وقد كان الشيخ السائح من بينهم . ولما دخل, أقبل على الشيخ وقبـّله على رأسه واعتذر له.
ومما أذكره أن توفيق أبو الهدى كان صديقا ً لوالد الدكتور عادل النابلسي ( حسيب النابلسي ) وكانا يلتقيان أحيانا ً في عيادة الدكتور عادل في جهة منفصلة عن المراجعين, فوجد ذات يوم على الطاولة كتاب "مفاهيم حزب التحرير" فطلب من حسيب استعارة الكتاب . وبالفعل أخذه وأعاده في اليوم التالي وقال : يا حسيب والله إن هؤلاء جماعة ( أوادِم ) غير ما كنت أتصور. بمعنى أنهم لا يتخذون العنف أسلوبا ً."
ابتدأ الشيخ رحمه الله تعالى التفكير بتأسيس الحزب بعد نكبة فلسطين سنة 1948م , أي بعد وقوع الواقعة. وقد ورد التلميح إلى ذلك في كتابه "التكتل الحزبي" والخطوات التي سار بها. أما الكتب التي بدأ بها العمل منذ بداية سنة 1950م فكانت عبارة عن ملف به مجموعة كبيرة من المحاضرات التي كان يلقيها هنا وهناك في أماكن مختلفة , والتي تحولت فيما بعد إلى كتب كما ذكرت آنفا ً. والأهم من ذلك كله اتصالاته المستمرة مع الناس في كل جهة وفي كل ناحية من نواحي المجتمع . وقد طرق جميع الأبواب واستعان بكلِّ من استعدّ من الناس للعمل معه ومن بينهم العلماء كداود حمدان وعبد العزيز الخياط وحسن سلطاني وأحمد الداعور وغيرهم, عملا ً بقوله تعالى: (هو الذي أيَّدك بنصره وبالمؤمنين) الأنفال-62
المهم في هذا الموضوع هو الإصرار على العمل حتى آخر يوم في حياته والصبر على ذلك. وتلك شخصية لا تعرف الكلل ولا الملل ولا اليأس رغم ما كان يصيبه من صدمات بين الحين والآخر.أما العلاقة التي أقامها بين الشباب ومع الحزب فهي علاقة الدعوة , والدعوة فحسب, ولا مجال فيها لغير العمل في سبيل الله تعالى. وهو شخصية إسلامية نادرة رحمه الله تعالى , قد لا يمنّ الله بمثلها على الأمّة إلا بعد قرون. وقد قيل أنه لم يأت منذ سبعة قرون في العالم الإسلامي كله مثله .
صفات القيادة
كان الشيخ رحمه الله تعالى من أتقى من رأيت وسمعت في حياتي, وكان من أفضل العلماء في هذا الزمان وأغزرهم علما ً ومعرفة, وفي الحقيقة هو إمام مجتهد. وقد بدأ أول ما بدأ كمجتهد في المسألة الواحدة , إلا أنه تحوّل خلال تلك المدة إلى مجتهد مطلق لو أراد ذلك. وقد كشف عن علمه كل ما صدر عنه , وخاصة كتابه "الشخصية" الجزء الثالث- وهو كتاب في الأصول. وهذا الكتاب صدر بديلا ً عن الكتاب الفذ الذي ألـّفه وأرسله مع أحد الشباب لطباعته, وقد وضعه الشاب في بيته لفترة قصيرة وأوصى زوجته بالمحافظة عليه, وقد كان مخطوطا ً باليد.إلا أن زوجة الشاب قامت بحرقه بعد أن سمعت بأن رجال الأمن في بيروت يعتقلون الشباب ويداهمون بيوتهم. وبعد أن علم الشيخ بذلك , صُـدِم وقال: سبحان الله ، كل كتاب أؤلـِّفه أحرص على كتابته على نسختين إلاّ هذا الكتاب. وهذا الكتاب بالذات أكبّ على تأليفه لأكثر من سنة ونصف تقريبا ً, وهو يركـِّز مفاهيمه ويجري تعديلات عليه حتى وضعه في صيغته النهائية , وذلك للحاجة الماسّة له عند قيام دولة الخلافة. ثم أصدر الكتاب نفسه خلال ستة أشهر , وذلك من خلال تـَذَكـّره لبعض المواضيع الموجودة في الكتاب المفقود.
وأذكر إنني دخلت عليه مرة في الصباح في مكتب الحزب فقال: اجلس ولا تحدثني فأنا مشغول.وأعطاني كتابا ً من الدرج أتصفـّحه بعنوان: (حرب البترول في الشرق الأوسط) للدكتور راشد البراوي وذلك ريثما يفرغ من الكتابة. وبعد أن أنهى, وإذا به ومن خلال هذه الفترة الصباحية يؤلف كتابا ً اسمه: "نقطة الانطلاق لحزب التحرير" وقد طـُبـِع وأصبح من نشرات الحزب الفكرية. وأذكر في هذه المناسبة تعليقا ً لأحد الشباب ويدعى هاشم حيث قال: إن الحزب لا يستقيم أمره إلا بِ (موتور) أي "محرك" فكري يثير فيه الإحساس, ويمدّه بالفكر ويرسم له الدرب في كل مرحلة ليقوده إلى النجاح.
ودعني أذكر أكثر الكتب التي صدرت عن الحزب وهي:
أسس النهضة لداود حمدان
نظام الإسلام
النظام الاجتماعي في الإسلام
نظام الحكم في الإسلام
النظام الاقتصادي في الإسلام
مفاهيم حزب التحرير
مفاهيم سياسية لحزب التحرير
الشخصية / الجزء الأول
الشخصية / الجزء الثاني
الشخصية / الجزء الثالث
الخلافة
سرعة البديهة
نقض القانون المدني
نداء حار للأمة الإسلامية من حزب التحرير
التفكير
مشروع الدستور والأسباب الموجبة.
ومن الكتب التي طرحها للنقاش وغير المتبناة:
الفكر الإسلامي
أحكام الصلاة
نظام العقوبات في الإسلام
أحكام البينات
نظرات سياسية لحزب التحرير- نقض الاشتراكية الماركسية
السياسة الاقتصادية المثلى
موقف الإسلام من التصوف
الأموال في دولة الخلافة – ويُقال انه من تأليف الشيخ عبد القديم زلوم
أما سائر الكتب الذكورة آنفا ً فهي من تأليف الشيخ محمد تقي الدين النبهاني رحمه الله تعالى.
هذا وقد أصدر الحزب بترتيب من الشيخ صحيفتان:
الأولى هي جريدة الراية, وكانت تصدر في عمّان. وقد صدر منها ثلاثة عشر عددا ً - حسب اعتقادي - وتمّ إغلاقها بسبب الافتتاحية التي كتبها الشيخ تحت عنوان هيبة الحُكم مع انه عند تحضيرها للطباعة , جلس الشيخ داود حمدان ومنير شقير وقاما بمحاولة التعديل على كثير من ألفاظ المقال. إلا انه وبعد التعديل أ ُغلِقت الجريدة بسبب المقال ذاته.
ومن الذاكرة اننا كنا ندرس مع الشيخ في منزل توفيق ابو خلف في وادي الجوز , وليلتها كان محمد نجيب رئيس مصر مدعوا ً لافتتاح النادي الهندي في القاهرة, وكنا نقول حينها ان محمد نجيب عميل امريكي, لأن ثورة مصر أشرف على إنجاحها السفير الأمريكي في مصر( جيفرسون كافري ) وعندما جاء وقت الأخبار , طلب الشيخ المذياع (الراديو) من توفيق وأوقف الحلقة لسماع الأخبار. وعندما خطب محمد نجيب هاجم الحلف التركي- الباكستاني , فقال الشيخ ليلتها ان محمد نجيب وُضِع واجهة فقط وليس عميلا ً أمريكيا ً لذلك سيذهب وربما يوضع قيد الإقامة الجبرية ويبرز العميل الحقيقي. وكان بالفعل ما قاله الشيخ, وظهر عميل أمريكا الحقيقي – الرئيس جمال عبد الناصر.
ومن الذاكرة أيضاً أنني كنت أقرأ كتاب العدالة الاجتماعية في الإسلام لسيد قطب في المكتب فقال: لو قلت لك ضع عنوانا ً لهذا الكتاب ، فماذا تسمّيه؟ فأجبته: العدالة في الإسلام. ثم أردفت قائلا ً: ماذا تسميه أنت؟ فقال رحمه الله تعالى: نظام الإسلام.
وأذكر أيضاً أنه كان يرسل بعض الشباب – وأنا منهم – لنلقي دروسا ً في المسجد الأقصى أو في مسجد قبة الصخرة المشرفة، ويرسل معنا شبابا ً يلتف حولنا ويستمع ، وذلك ليدرب الشباب على إلقاء الدروس ولسحب البساط من تحت أقدام العلماء؛ لكنه كان يشترط أن يحمل واحدنا كتابا ً من كتب الحزب ليرجع إليه عند اللزوم. وكان كثيرا ً ما يكلف الشباب بإلقاء خطب بمناسبة وبغير مناسبة لاسيما أيام الجمع. وقد كلفني مرة إبلاغ الشيخ عبد العزيز لإلقاء الخطبة بدلا ً منه بعد صلاة الجمعة في المسجد الأقصى ، حيث ان الشيخ كانت له كلمة بعد الصلاة في كل جمعة ولأن صوته فيه بحّة ، فنظر عبد العزيز يمينا ً وشمالا ً في المسجد ثم اعتذر. نظرت هنا وهناك فلم أجد الشيخ داود لأذكر له التكليف، وخشيت أن أرجع إلى الشيخ تقي وأبلغه الرفض، وذلك حرصا ً على عبد العزيز، فاجتهدت وقمت بتكليف أحد الشباب للقيام بذلك وكان من أسرة التعليم في القدس، فقام الشاب بما كلفته به، وكان مستوى كلمته دون الوسط.
ابو عصام
26-01-2013, 09:39 PM
وهناك شباب كثيرون كـُلـِّفوا بإلقاء خطب فقاموا بها خير قيام، ومن هؤلاء مصطفى الزين في القدس، فاروق عبد العال ، فاروق حبايب، محمد علي، وهاشم وغيرهم في عمّان. وفي إربد عبد العزيز وعبد الغفار. أذكر ذلك لا لإشهارهم ولكن لسلوك هذا السبيل ليخرج من الشباب جيل يخاطب الأمة ويحرك الجماهير بجدارة لضرورة ذلك في المرحلة المقبلة.
وللذكرى اننا كنا في حلقة جماعية في دار ابي خلف، وكان الشيخ هو الذي يديرها، وبدأنا بالتعارف فطفق كل منا يذكر اسمه كاملا ً ومن أي بلد حتى وصل الدور إلى الشيخ فقال: تقي الدين ابراهيم النبهاني من اجزم قضاء حيفا في فلسطين. وبعد أن أكملنا أخذ يركـِّز ما سيتعرّض له الحزب في المراحل القادمة من محن وما سيواجهه من صعوبات ثم قال: غدا ً سيبدأ سلاح الدعاية ضد الحزب ويقولون هذه أحكام أخذ بعضها من الطبري، والطبري مؤرخ وليس بفقيه ، وسيقولون عن عدم تعليل أحكام العبادات، هذا رأي للشيعة وهم كذا وكذا وسيهاجمون الحزب في آرائه ويقولون بأن سندها ضعيف. وربما وربما …الخ والمطلوب من الشباب ان يكون موقفهم صلبا ً ولا يتأثروا بكل الدعايات التي ستثار حول الحزب، ولا بما قد يُثار حوله من شُبهات، فوعي الشباب وصلابتهم ستبطل كل ذلك. وكان في حينها يتحدث بحماسة فائقة.
ومن الأشياء التي لا بد من ذكرها اننا كنا نجلس في المكتب ودار الحديث حول الانتخابات- وكان ذلك قبل الانتخابات بمدة – فجال في ذهني سؤال فطرحته عليه وهو: إذا نجح الحزب في الانتخابات ، وكـُلـِّف الحزب بتشكيل الحكومة، فهل يقبل ذلك؟ فقال: نعم بشرط أن يكون الحكم كاملا ً وليس مجزءا ً- بمعنى جميع الحقائب الوزارية. فقلت في نفسي وذلك يعني نقطة الارتكاز التي يتحدث عنها الحزب.
ومن الأشياء التي لا بد من ذكرها أيضا ً وضع جميع التعاريف كالفرق بين الحضارة والمدنية، والثقافة والعلم, وتعريف الدولة الإسلامية، والديموقراطية الرأسمالية، الدولة الشيوعية، وتعريف الدين الإسلامي بأنه تنظيم علاقة الإنسان المسلم بخالقه وبنفسه وبغيره من بني الإنسان، وتعريف الأخلاق في الإسلام والأمة والشعب، والفكر والمفاهيم والعقيدة ومنطق الإحساس، والإدراك الشعوري ، وتحديد الغرائز والحاجات العضوية والمنطق. وله آراء في التفسير لا مجال لذكرها ويحضرني قولان:
أما أحدهما فللشيخ أحمد الداعور حيث كان يقول: لقد مرّ علينا علماء في اللغة وكانوا مبدعين وآخرون في الأصول وغيرهم في الفقه أو في السياسة أو الفلسفة أو في المعلومات العامة، لكنني لم أسمع بشخص يجمع ذلك كله إلا الشيخ تقي رحمه الله تعالى، فقد كان على علم بذلك كله .
وأما القول الآخر فللسيد غانم عبده. فقد تحدثنا مرة عن الفلاسفة كأمثال ماركس وأستاذه هيغل وغيرهما وما توصلوا إليه في أبحاثهم فقال: واللهِ إن هؤلاء لا يعدلون معشار ما عند الشيخ من علم ، ولقد كنت أعلم الناس فيه ، فهو طاقة لا مثيل لها بعد العصور الإسلامية الأولى – أي لم يأتِ في العالم الإسلامي كله شبيهٌ له منذ العصر العباسي على الأقل.
ابو عصام
26-01-2013, 09:44 PM
في بغداد
ذكر لي أحد شبابنا الموثوق بهم بأنه أرسل إلى أبي إبراهيم للحضور إلى بغداد لمقابلة مجموعة من أرباب القوة والنصرة هناك. وبعد حضوره واتصاله بهم قـُبـِضَ على الشيخ في أحد الأحياء وهو مُتـَخـَفٍّ بلباس معين ،فاقتيد إلى الحجز وضـُرب ضربا ً مبرحا ً دون احترام ٍ لسِنـِّهِ الكبيرة في ذلك الوقت , وهو لا يجيب على أي سؤال متظاهرا ً بعدم القدرة على النطق. وسمعت أنهم أحضروا رئيس القيادة القومية في الوطن العربي المدعو شبلي العيسمي وطلبوا منه التعرف على الرجل, فقال: لولا انني لا أحب أن أظلم هذا الرجل لقلت أنه تقي الدين النبهاني مؤسس حزب التحرير, فقد حضرت له محاضرة في قاعة كلية الحسين بعمّان في أوائل الخمسينات. وكان ذلك بمناسبة حصول ليبيا على الاستقلال تلك السنة وتولية الملك إدريس السنوسي على العرش هناك. وقد أُلقِيت كلمات ، وعندما جاء دوره ألقى كلمة مثيرة جددا ً منها أنه في هذه السنة وُلِد مسخ ٌ جديد يُضاف إلى الممسوخات السبع – وكان يعني بذلك الدول العربية – وقد صافحه بعد الكلمة أكثر الحضور. لكن رأيي – والكلام لشبلي – تأكدوا من جواز سفره اللبناني ( وكان الجواز باسم آخر). ولمّا كلفوا سفيرهم في لبنان للتأكد من صحة الجواز ، جاءهم الجواب بأن الجواز صحيح ولا غبار عليه. فوضعوه في الحجز وظل يـُعَذ ّب لأكثر من سبعة عشر يوما ً حتى لم يعد يستطيع الوقوف على رجليه. وأخيرا ً أخرجه من ادّعى قربه من جهة والدته، وأن قدومه كان لزيارتهم وقد تاه في الحي، فسلـّموه له وأحضره إلى بيروت.وبعدها لم يعد جسمه يحتمل هذا الضغط الهائل، وخاصّة ان الاختفاء تحت الأرض أصعب من السجن بكثير. وقد علمت أنه كان يطلب من جاره في المنزل أن يخرج به إلى سطح البيت ليلا ً فقط ليستنشق الهواء.
الموقف الحاسم
من الذاكرة:
ألـّف الأستاذ عباس الكرد مع الأستاذ محمد القيمري كتابَ " تاريخ العرب والمسلمين" للصفوف الثانوية، وقد كان في حينها مقررا ً من وزارة المعارف للطلاب، وقد مدحا في الكتاب الثورة العربية الكبرى. ولما حضرا عند الشيخ ونحن جلوس في منزل توفيق أبو خلف ، طلب منهما الشيخ رحمه الله تعالى أن يُعَدِّلا المفاهيم المغلوطة ويلغيا ما ذكرا بشأن الثورة العربية الكبرى أو يتركا الحزب. وبعد مناقشة الموضوع أظهرا عدم استطاعتهما ذلك لأن الكتاب لا يُعتمد لدى الوزارة إلا بهذه الصيغة. ولمّا شدّد عليهما الشيخ ، غادرا وقرّرا ترك العمل مع الحزب؛ ولم يأس عليهما أحد. وأذكر أنني ذهبت مع الأستاذ شرف النشاشيبي إلى منزل عباس الكرد لمحاولة ثنيه عن الموقف، فلم يقبل وادّعى بأن الكتاب استلمته الوزارة ولا سبيل لاسترداده، فتحدثنا معه بما يستحق وتركناه.
العودة للجذور
لقد قام الحزب على أساس العمل لاستئناف الحياة الإسلامية، وإقامة دولة الخلافة في قـُطـْر أو أقطار في منطقة مجال العمل الحزبي – وقد تمّ تحديد مجال العمل وهي دولة سياسية، أي أن ذلك يوجب على الحزب العمل في السياسية من كشفٍ للخطط، وتـَبـَنٍّ لمصالح الأمة والكفاح المستمر إلى أن يتحقق وعد الله.
أما كشف الخطط فدليله ما ورد في كتاب الله تبارك وتعالى في عدّة سُوَرٍ يكشف فيها جلّ و علا اليهود والمنافقين كما في سور النساء و التوبة والمنافقون. كما كشف الكفار في آيات عديدة لا يتسع المقام لذكرها. وكذلك الاهتمام بالأمور السياسية من العهد المكـّي، ونزلت سورة الروم في مكـّة وفيها ما يدلّ على الاهتمام بالسياسة الدولية. وكذلك بتبني المصالح كما في قوله تعالى: " وَيْلٌ للمُطفِّفين " – " ويلٌ لكل هُمَزة لـُمَزة " – والآيات في هذا الباب عديدة. لذلك صار واجبا ً ولازما ً لزوم الماء والهواء للإنسان العمل بقوة، وخاصّة في هذه المرحلة، والسعي الحثيث لاستئناف الحياة الإسلامية وإقامة دولة الإسلام التي لا عزّة للمسلمين إلا بها، ولا نصر لهم إلا في ظلّ رايتها.
وقد رأيتم كيف حرص المؤسّس في عمله الدؤوب وسعيه المتواصل لتحقيق ذلك حتى وافاه الأجل؛ رحمه الله تعالى رحمةً واسعةً وجعله مع الذين أنعم عليهم من النبيّين والصّدّيقين والشهداء والصالحين، وحَسُنَ أولئك رفيقا ً.
والله من وراء القصد.
مقابلة الشيخ تقي الدين للملك عبد الله الأول
من الذاكرة:
ذهب الشيخ رحمه الله تعالى إلى نابلس لإعطاء حلقة فيها, وكانت الدعوة في تلك الأيام في المرحلة السِّرِّية. وقد وافق ذهابه إليها يوم جمعة، فمرّ بالمسجد الكبير لأداء صلاة الجمعة.ومما يجدر ذكره أن الأوقاف في تلك الأثناء كانت مديرية تابعة للقضاء الشرعي؛ فما كان من الإمام الراتب إلا أن أصرّ على الشيخ أن يلقي خطبة الجمعة ورفض صعود المنبر. وعلى الرغم من اعتذار الشيخ لكونه مشغولا ً بعد الصلاة إلا أنه اضطر لإلقاء الخطبة مكرها ً. وقد ابتدأ الخطبة بقوله تعالى: "إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزّة أهلها أذلّة وكذلك يفعلون" صدق الله العظيم.
وكانت نكبة فلسطين في تلك الأثناء لم يمضِ عليها سنتان، والمناوشات بين الطرفين- العرب واليهود- لم تنتهِ، بل كانت تقع بين الحين والحين خاصّة على المناطق الحدودية وفي القدس بالذات مع وجود الهدنة.وقام الشيخ بشرح المؤامرة على فلسطين وكيف تمّ تسليمها ليهود. وكان يكرّر قوله تعالى "وكذلك يفعلون" بعد شرح الآية. وعرّج على المؤامرة على دولة الخلافة وكرّر "وكذلك يفعلون". ثمّ شرح عملهم الدؤوب لتمكين دولة يهود في أرض المقدسات وبيّن خطورة ذلك على أهل فلسطين وعلى المنطقة بأسرها وكرّر "وكذلك يفعلون".
وما ان انتهى من خطبته وتمت الصلاة حتى خرج الناس وقد ثارت ثائرتهم وكأنهم قنابل موقوتة، وساروا إلى مركز المتصرفية وأنزلوا العلم الأردني وداسوه بنعالهم، كما رشقوا الشرطة بالحجارة. وكان من بين المصلين من رجالات الحكم بعض وزراء الضفة الغربية بالإضافة لقائد المنطقة والمتصرف وعدد من المسؤولين من المقربين للملك، فكتبوا تقاريرهم بالحادثة للملك، فاستدعاه إلى القصر باعتباره من كبار موظفي الدولة في القضاء الشرعي ( محكمة الاستئناف ).
ولما حضر الشيخ إلى القصر ، ذ ُكِر بأنه خالف البروتوكول فسلـّم على الحاضرين سلاما ً عامّا ًبقوله: السلام عليكم؛ ولم يصافح الملك وجلس حيث انتهى به المجلس. ويُقال أنه كان من بين الحضور بعض علماء فلسطين وبعض المسؤولين ومن ضمنهم السيد عباس ميرزا باشا – ويظهر أنه كان وزيرا ً وكان يحافظ على الصلاة. وكان يزور القدس بين الحين والحين، ولعله سمع خطبا ً للشيخ وأُعجب به كثيرا ً.
قام الملك بعد أن رأى من الشيخ ما رأى وجلس بجواره وسأله عن الخطبة فذكر له بأن ما ورد في الخطبة هو تفسير لآية من كتاب الله تعالى. فسكت الملك برهة ثم قال له: هل تعاهدني على أن توالي من نوالي وتعادي من نعادي؟ فسكت الشيخ، فسأله الملك: لمَ لا تجيب؟ فردّ عليه بقوله: لا أسمع. فرفع الملك صوته وأعادها للمرة الثانية، فسكت الشيخ، فسأله: لمَ لا تجيب؟ فردّ عليه بقوله: لا أسمع. فوقف الملك ورفع صوته بشكل ملحوظ وأعادها للمرة الثالثة. فسكت الشيخ ثم ردّ عليه بقوله: لا أسمع. فقال له الملك: ماذا تريد يا أخي؟ فأجابه الشيخ: إنني عاهدت الله على أن أناصر دينه وأوالي من والى دينه وأعادي النفاق والمنافقين..... فقال له الملك: أخرج يا رجل أنت خطير. خرج الشيخ فلحق به الحرس وقيّدوه وذهبوا به لقسم شرطة البادية لإرساله للمعتقل في (باير) المنطقة الحدودية.
أما الملك فقد ترك المجلس لبعض الوقت، وخلال غيبته تداول المجتمعون كيفية التدخل لإطلاق سراح الشيخ. ولمّا عاد الملك نهضوا جميعا ً وقبلوا يده، ويُقال أن عباس ميرزا قال له: يا مولانا هذا عالِم كبير من علماء بلادنا، وأنتم آل هاشم تقدّرون العلماء وتجلـّونهم، فلا نحب أن يسمع الناس في الشام أو غيرها أنكم تعتدون على العلماء، مع أن ذلك ليس من شيمكم، لاسيما وأن الشيخ من العلماء المعروفين في كل بلاد العرب.
نائل سيد أحمد
27-01-2013, 05:51 PM
فهي بحق توثيق تاريخي لنشأة الحزب ومن الممكن أن يستفيد منها الحزب بمجموعه
للرفع والتذكير ...
ابو عصام
27-01-2013, 08:14 PM
وهذه البادرة جعلت الملك يعفي عنه ويتصل بنفسه مع قيادة البادية ليطلقوا سراح الشيخ. وبعد فترة كـُلـِّف سمير الرفاعي بتشكيل الوزارة ووضع تقي الدين النبهاني وزيرا ً للمعارف وقاضيا ً للقضاة. اتصل سمير مع الاستئناف الشرعية في القدس لإبلاغ الشيخ – وقد كانت المحكمة الوحيدة للاستئناف في الدولة – قائلا ً: مولانا له رغبة في أن تتولى وزارة المعارف بالإضافة لمنصب قاضي القضاة. فردّ عليه الشيخ قائلا ً: أخبر مولاك أنني لا أشترك في نظام حكم فاسد. وبعدها قام بتقديم استقالته من عضوية محكمة الاستئناف الشرعية وتفرّغ للعمل الحزبي؛ وكانت الدعوة في بدايتها في المرحلة السّرّية.
وقد ثبتت هذه القصة بالتواتر لكثرة رواتها في تلك الأيام.
من الذاكرة
ومن الذاكرة أيضا ً، أنه جاء يوما ً إلى مكتب الحزب في الصباح وكنت جالسا ً هناك، فلاحظت في وجهه الانبساط والسرور، فقلت: لعل هناك خبرا ً سارا ً، فقال لي رحمه الله تعالى: رأيت رؤيا هذه الليلة، فقد رأيت نفسي وقد دخلت المسجد الأقصى للصلاة فيه، وإذا بمدرِّس على كرسي الأقصى والناس يتحلـّقون حوله، وما ان وصلت حتى نهض المدرّس وأمسك بي وأجلسني على الكرسي وراح يقول لي: أكمل. فقال لي أحدهم: هذا رسول الله (صلى الله عليه وسلم). وبعد أن أخذت مجلسي على الكرسي صار يدبّ على ظهري، وإذا بآخر يفعل الفعل نفسه على الجهة الأخرى. نظرت إليهما وقد غمرهما السرور وإذا برسول الله (صلى الله عليه وسلم) وابنته فاطمة الزهراء عليها السلام. وظلا كذلك حتى أصابني الخجل لكثرة ما دبّا على ظهري. وقد سررت حقا ً بهذه الرؤيا الصادقة.
ومن الذاكرة في أوائل الخمسينات من القرن الماضي، أرسلت قيادة الحزب السيد عبد الفتاح زيد الكيلاني - أحد الشباب – إلى العراق لإجراء اتصالات هناك لنقل الدعوة. وكانت نتيجة الاتصالات أن أرسل أشخاصا ً
من العراق إلى القدس معظمهم من أهل السُّـنـّة ومن بينهم بعض الشباب من
الشيعة ليقابلوا الأستاذ تقي الدين رحمه الله تعالى. وبعد المقابلة اتفق معهم على الدراسة معه، فعُقِدت لهم حلقات مدة أظنها قرابة الشهرين. كانت الحلقات فيها مستمرة لا يقطعها إلا الصلاة والطعام في منزل أبي خلف، فقد كانت حلقات مكثــّفة درسوا فيها معظم الكتب الصادرة في حينها. ثم قام بعدها بتحزيبهم وأسّس منهم لجنة ما في العراق، وقد انطلقت الدعوة على أيديهم فيما بعد. ثم جاءت مجموعة أخرى إلى القدس.وكان في المجموعة الأولى الشيخ عبد العزيز البدري رحمه الله تعالى وطالب السامرائي وإبراهيم مكي وشاب من آل الجمالي وشاب شيعي اسمه نزار على ما أذكر وآخرون غيرهم. وقد انطلقت الدعوة هناك، ثم حصل خلاف لا أذكر ماهيته بين السيد عبد الفتاح زيد والشيخ تقي رحمه الله تعالى، ولعله يتعلق بأسلوب العمل في العراق. فقام الشيخ بسحب عبد الفتاح من العراق ثم فصله من الحزب حيث أرسل بدلا ً منه عبد القديم زلوم للإشراف على الحزب هناك، وكان ذلك بعد أن نـُقل عبد القديم من قبل وزارة المعارف من الخليل إلى الكرك ومعه الشيخ أسعد بيوض التميمي وغيرهم من الشباب. ومن الكرك استقال الشباب من وزارة المعارف بمن فيهم الشيخ عبد القديم، وتمّ إرسالي للإشراف على حلقات الكرك؛ إلا انني اعتـُقِلت بعد وصولي هناك وأُدخلت السجن ثم نـُفيت إلى الشوبك، لأن العمل في الكرك كان مكشوفا ً.
ومن الذاكرة كذلك أن الشيخ عبد الحميد السائح كانت تأتيه قضايا معقدة في الاستئناف لمجلس القضاء الشرعي، فكان يأتي للمكتب ليسأل الشيخ ويناقشه في القضية المعروضة بكل ملابساتها، وكان رحمه الله تعالى يصل معه بعد البحث والنقاش إلى الحل. وكان ذلك حتى بعد خروج الشيخ من السجن وطرده للوفد الذي كان على رأسه الشيخ عبد الحميد السائح ومقابلتهم بشدة كما ذكرت آنفا ً.
ومن الذاكرة أيضا ً أن الشيخ فتح الله السلوادي كان شاعرا ً ينشر قصائده في الصحف، وكان عندما تجود قريحته بقصيدة يحرص أن يأتي إلى مكتب الحزب ليعرضها على الشيخ قبل نشرها ليرى رأيه فيها من ناحية أدبية. وكان الشيخ رحمه الله تعالى يتجاوب معه ويناقشه في بعض الألفاظ أو حتى في المعاني. ومن المعلوم أن الشيخ لو أراد أن يؤلف الشعر
لفعل وهو قادر على ذلك بجدارة، لكنه كان يخشى الابتعاد عن جو الدعوة. ومن شعره قوله في الوطنية والقومية الزائفة ما يلي:
وما مثله إلا كفارغ بندق ٍ خـُلـّي من المعنى ولكن يفرقع
ومن الذاكرة أن الشيخ رحمه الله تعالى ذهب لينام في الخليل عند الشيخ عبد الحي عرفة رحمه الله تعالى فقال له: لعلك تريد زيارتي لتحبسني. وقد سمعت أن رجال المباحث باتوا تلك الليلة حول بيت الشيخ عبد الحي ولم يغادروا إلا بعد أن غادر الشيخ منزل عبد الحي في الصباح إلى القدس.
أذكر مرة أنه قال لي: أترك الدخان. فقلت له بكل بساطة: لا أستطيع. فقال: كيف تستطيع غدا ً قيادة الأمة، وأنت لا تستطيع أن تسيطر على نفسك؟ فتركت الدخان بعدها خمس سنوات، وقد سـُرَّ عندما علم بذلك.
ومن الذاكرة أن من أوائل الذين التحقوا بالحزب في أول الدعوة هم من الإخوان المسلمين، وذلك أن شباب دار الإخوان في القدس كانوا يوجهون الدعوة لأبي إبراهيم لإلقاء محاضرات في الدار هناك. وكان يختار لهم المواضيع التي تتعلق بالنهضة. وقد تأثر الإخوان بذلك، خاصة وأنه كان بعد كل محاضرة يعطي فرصة لمناقشته في كل بحث، وقد ساعد ذلك على تغيير وجهة نظرهم. علم الإخوان في مصر بذلك فأرسلوا سعيد رمضان لمعالجة الموضوع، فجاء سعيد وطلب من الشيخ عدم إلقاء محاضرات في دار الإخوان قائلا ً بأننا ضـُربنا في مصر ضربة قاسية ولا نريد أن تتكرر في غيرها. فردّ عليه الشيخ ردا ً مفحما ً وأخيرا ً قال له: لم آتِ بدون دعوة. ولمّا علم بعض الإخوان بما حصل، ترك عدد لا بأس به منهم العمل مع الإخوان والتحقوا بأبي إبراهيم وكانوا نواة الحزب في القدس. وقد علمت فيما بعد أن الإخوان في عمّان والسلط وأماكن أخرى التحقوا بالحزب وأخذوا يدرسون في حلقاته. ولا أذكر ولو لمرة واحدة أن الشيخ رحمه الله تعالى ذكر أن اتصالاته مع شباب الإخوان ظلت مستمرة رغم قيامه بتأسيس حركة أخرى. وممن درسوا في تلك الأيام المراقب العام السابق للإخوان المسلمين محمد عبد الرحمن خليفة، وشوكت تفاحة؛ إلا أن محمد خليفة عُرض عليه مركز المراقب العام للإخوان المسلمين فترك الدراسة في الحزب وعاد للعمل مع جماعة الإخوان. ومما أذكره أننا كشباب في الحزب كنا نذهب لحضور محاضرات في دار الإخوان، وكان المحاضر في كثير من الأحيان هو سعيد رمضان، وكنا نناقشه ولكنه يتهرب من الإجابة ويقول: تفضلوا عندي إلى مكتب المؤتمر الإسلامي في القدس للبحث والنقاش. فنردّ عليه: دع مكتبك لك.
ومن الذاكرة
في فترة الانقلابات في سوريا في الخمسينات من القرن الماضي، كان الشيخ في دمشق، وكانت الدعوة تسير على ما يرام. إلا أن بعض ضباط الانقلابات شعروا بأن الدعوة تشكل خطرا ً عليهم – ولربما كان ذلك بإيعاز من السفارات الأجنبية بدمشق التي كانت وراء الانقلابات. على أثر ذلك تمّ إخراج الشيخ من دمشق بسيارة عسكرية سورية أوصلته إلى الحدود اللبنانية في مركز المصنع. وبما أن دخول الشيخ إلى لبنان كان محظورا ً فقد احتجزه ضابط المركز الحدودي ومنعه من مواصلة سفره إلى بيروت.
وفي هذه الحال أصبح الشيخ في موقف حرج، فلا هو يستطيع العودة إلى سوريا، وفي الوقت نفسه لا يستطيع الدخول إلى لبنان حيث احتـُجـِز جواز سفره في مركز المصنع اللبناني. وبعد أخذ وردّ ، سُمِح للشيخ أن يتصل بأحد معارفه في بيروت هاتفيا ً فأخبره بالوضع الذي هو فيه. فما كان من ذلك الشخص إلا أن اتصل مع مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ عبد الله علايا وأخبره بالتفاصيل. انتفض سماحة المفتي انتفاضة الرجال واتصل توّا ً مع مدير الأمن العام اللبناني وأبلغه قائلا ً: إن لم يتم إخلاء سبيل الشيخ حالا ً وبلا تردّد سأشعلها طائفية تحرق الأخضر واليابس، وستكون العواقب وخيمة. شعر مدير الأمن العام بجدّية الموضوع، فما كان منه إلا أن أصدر تعليماته بإعادة جواز سفر الشيخ ونقله بسيارة المركز إلى بيروت فورا ً، بل وإيصاله إلى المكان الذي يريد. وهكذا عاد الشيخ رحمه الله تعالى إلى بيته في بيروت معزّزا ً مكرّما ً.
وما ان استقر في بيروت ووجد فيها سندا ً من قِبل بعض علماء المسلمين حتى بدأ ينشط لنشر الدعوة فيها، ثم أرسل بعض الدعاة إلى مدينة طرابلس في شمال لبنان، وبدأت حلقات الدعوة تنتشر وأقبل عليها كثير من شباب المسلمين هناك.
ولكن عيون السفارات الأجنبية – وخصوصا ً سفارتي أمريكا وبريطانيا – كانت للدعوة والدعاة بالمرصاد، فكان عملاؤهما يلاحقون الدعاة ويتجسسون عليهم، حتى ان كثيرا ً من شباب الدعوة اعتـُقِلوا من قِبل رجال الأمن العام وعُذبوا في المعتقلات والمخافر اللبنانية بمجرد توزيع نشرات لحزب التحرير، كما قـُدِّم بعضهم للمحاكم العسكرية.
هذا ولم ينجُ الشيخ من ملاحقة رجال الأمن العام في بيروت حيث كانوا يعدّون عليه أنفاسه. وبسبب تلك المضايقات والملاحقات ترك بيروت خفية والتحق بمدينة طرابلس وكان يعيش وحده في شقة لا يعلم مكانها إلا القليل من شباب الدعوة وذلك من أجل الاتصال معه لتسيير شؤون الدعوة.
وأذكر انه سنة 1960م وبسبب شدة الملاحقة وبناءً على إخبارية خبيثة ترك الشقة التي كان يقيم فيها وخرج متخفيا ً إلى بيت أحد شباب الدعوة وطلب منه أن تبقى الغرفة التي يقيم فيها مغلقة بغض النظر عمّن كان يدخل لزيارة ذلك الشاب، وهذا ما كان. وبقدر الله عز وجل خلت شقة في العمارة نفسها فاستأجرها له باسم مستعار، وبقي فيها الشيخ حتى سنة 1964م، وكان يتردد عليه شباب الحزب المسموح لهم معرفة مكان إقامته. كما أن زوجته أم إبراهيم كانت تحضر على فترات متقطعة وتزوره فيها. كان رحمه الله تعالى يعيش عيشة الكفاف وكان ذلك الشاب يقدّم له الطعام الذي يُحضـّر في بيته، كما كان يقوم بمساعدته على تنظيف البيت وما يطلبه الشيخ منه طوال مدة إقامته التي استمرت أكثر من أربع سنوات، حتى انه كان يقص له شعر رأسه في تلك الشقة.
كان رحمه الله تعالى ينام على سرير متواضع جدا ً، وكان أثاث بيته عبارة عن طاولة صغيرة عليها رزمة من الأوراق البيضاء غير المسطـّرة وبضعة أقلام من الرصاص ومذياع صغير(راديو ترانزيستور)، وكان حريصا ً جدا ً على سماع الأخبار حيث كان يحلـّلها ويكتب الملاحظات السياسية خصوصا ً من محطة لندن الإذاعية. كان دقيقا ً جدا ً في تحليلاته السياسية التي يكتبها ثم يأمر شباب الحزب بطباعتها كمنشورات.
( غدا باذن الله تعالى القسم الاخير )
ابو عصام
28-01-2013, 10:16 AM
كمنشورات.
كما انه رحمه الله تعالى وبوساطة شباب الحزب في بيروت استأجر جريدة لرجل لبناني نصراني اسمها الراية ، وهي جريدة اسبوعية سياسية. وما ان بدأت الجريدة تنشر مقالات إسلامية حتى لفت ذلك أنظار الحكومة اللبنانية فأمرت بإغلاق الجريدة التي لم تر النور أكثر من أسابيع معدودة. وأذكر ان الافتتاحية في العدد الأول من الجريدة ورد فيها ما يلي:
" إن هذه الجريدة ليست كالجرائد ، فهي لا تـُهنـِّىء بمولود ولا تـُعزّي بمفقود ولا تستقبل غائبا ً ولا تودّع مسافرا ً، بل هي جريدة سياسية إسلامية تنشر الأفكار الإسلامية فقط. "
ولسوء الحظ صدرت تعليمات للشاب الذي كان بجوار الشيخ تأمر بنقل مهامّ وظيفته إلى مدينة صيدا في جنوب لبنان. ونزل الخبر على الشيخ نزول الصاعقة. ولم يستطع الشاب إقناع المسؤولين بإلغاء أمر النقل. وهكذا بقي الشيخ في تلك الشقة وقد تولـّى أمر شؤونه الشخصية بعض أفراد الحزب في تلك الفترة العصيبة. وبعد مدّة علم الشاب أن الشيخ ترك طرابلس وعاد إلى بيروت وسكن في الضاحية الجنوبية متخفّياً كعادته.
دارت دورة الأيام إلى أن ألمّ بالشيخ مرض أُدخِل على أثره – باسم مستعار - إلى مستشفى في بيروت بقي فيه حتى وافاه الأجل رحمه الله تعالى، وكان ذلك سنة 1977م حيث دُفِن في مقبرة الشهداء في بيروت. ولم يعلم ذلك الشاب عن وفاته إلا من أحد زملائه في العمل الذي تربطه بالشيخ علاقة نسب.
تغمّده الله تبارك وتعالى بواسع رحمته ونسأله جلّ في علاه أن يدخله فسيح جنّاته مع الذين أنعم عليهم من النّبيين والصِّديقين والشهداء والصالحين وحَسُنَ أولئك رفيقاً، كما ونتضرع إليه سبحانه أن يعوّض المسلمين بعلماء عاملين من أمثاله ليواصلوا حمل الدعوة حتى يأذن الله بعودة الخلافة الراشدة، إنه سميع قريب مجيب الدعاء.
ومن الذاكرة
ذ ُكِر ان الشيخ تقي رحمه الله تعالى عندما أنهى دراسته في الأزهر وعاد إلى فلسطين - وكانت ما تزال ترزخ تحت نير الانتداب ( الاحتلال ) البريطاني - عُيِّن معلـِّما ً في إحدى المدارس الثانوية لتدريس اللغة العربية والدين الإسلامي. وعندما التحق بالمدرسة وجد مديرها رجلا ً نصرانيا ً، وفي المدرسة طلابٌ مسلمون وغير مسلمين، إلا ان غالبية المعلمين والطلاب مسلمون. سأل المعلمين والطلاب فلم يجد فيها من يصلـّي، فدخل في نقاش مع المعلمين وأقنعهم بوجوب التزام أحكام الإسلام وأوّلها الصلاة. ولما رأى منهم استعدادا ً لذلك, طلب من الأذنة البقاء في المدرسة بعد انتهاء الحصص ذات يوم، حيث قاموا بتفريغ إحدى الغرف الكبيرة في المدرسة وكان فيها بعض الأثاث غير المستعمل، ثم ذهب ومعه الأذنة إلى السوق وقام بشراء حُصُر تكفي لتغطية أرض الغرفة. كما اشترى أباريق للوضوء، وهيّأ المكان لإقامة الصلوات فيه. وفي اليوم التالي طلب من أحد المعلمين الأذان وجمع المعلمين المسلمين والطلاب وأقام فيهم الصلوات بأوقاتها، غير آبـِهٍ بما قد يتعرّض له من سؤال. ولما سأله المدير عن تلك التصرفات، أجابه: وهل لديك اعتراض على ذلك، لأن الدين يجب أن يُعمَلَ بأحكامه. لم يستطع المدير أن يفعل شيئا ً واضطر للرضوخ للأمر الواقع لأنه خشي من إثارة النعرة الطائفية. وظل الأمر كذلك إلى أن تمّ نقل الشيخ من تلك المدرسة فيما بعد.
ومن الذاكرة
ومن الأشياء التي أذكرها أن أمريكا وجّهت دعوة لعلماء من العالم الإسلامي لمؤتمر إسلامي في جامعة برنستون، وكان المدعو من الأردن الشيخ عبد الله غوشة حيث كان رئيسا ً للهيئة العلمية الإسلامية.
وكان القصد من المؤتمر في ذلك الحين من عام 1953م استكشاف ما عند المسلمين من آراء وتطلعات. حضر الأستاذ حمدي العريان وأخبر الشيخ تقي أنه يريد الذهاب إلى منزل خاله الشيخ عبد لله غوشة ليرى ما الذي حضـّره للمؤتمر فيناقشه فيه، فسمح له الشيخ بذلك. وعندما ذهب إليه وجد أن محاضرته التي سيلقيها تركـّز على موضوع الحرّيات في الإسلام، فناقشه فيها وبيّن بطلانها وعاد وأخبر الشيخ. وقد علمنا فيما بعد أن الشيخ عبد الله غوشة ألقى محاضرته كما هي دون أي تعديل.
والمعلوم أن قائد الحزب الشيخ تقي رحمه الله تعالى كان ضد المؤتمرات بكافـّة أشكالها, ولا يؤمن بسياستها ويعتبرها ملهاة عن العمل الصحيح؛ شأنها في ذلك شأن الجامعة العربية أو الإسلامية أو غيرهما. وهي من أساليب الكافر المستعمر لإشغال المسلمين فيما لا يُجدي من الأعمال. ولذلك كان من الخطأ بل من الخطر عقد مثل هذه المؤتمرات واتخاذ مثل هذه الأساليب لأنها تكشف الأمة وتعرّيها أمام أعدائها.
ومن الذاكرة
في الخمسينات من القرن الماضي، وفي جلسة مع الشيخ رحمه الله تعالى، كنا نتحدث في موضوع حول تصريحات لرئيس الوزراء الأردني في ذلك الوقت توفيق أبو الهدى، وكان هذا يتهم الحزب بإثارة الطائفية في دعوته وذلك عندما تـَقدّم الحزب بطلب الترخيص. فقال رحمه الله تعالى: هذا تلفيق أبو الضلال. وقد كان فعلا ً كذلك، إذ ما لبث في ذلك الحين أن حرّك رجاله فنزعوا اللافتات المعلقة على مكتب الحزب في القدس وهاجم الحزب واعتقل قيادته. كان هدف الحزب من طلب الترخيص نقل الحزب إلى المرحلة الثانية من مراحل العمل، وهي مرحلة الكفاح. لذلك اشتد الحزب في حينها بمهاجمة الحكام واصفا ً إياهم بالعملاء للكافر المستعمر. وقد أصدر الحزب بعدها بيانات كثيرة تؤكـّد هذا المعنى، حتى ان جريدة الراية التي صدرت فيما بعد نشرت في الافتتاحية مقالا ً بعنوان:
السياسيون عملاء الاستعمار
هذا الهجوم الكاسح من الحزب على السياسيين والحُكـّام دعا هؤلاء للرد على الحزب والكيد له، فقاموا بالاتصال بصاحب جريدة الأنوار اللبنانية الذي كان حينئذٍ في عمّان في فندق فيلادلفيا - ولعلـّه كان ضيفا ً على الحكومة – وطلبوا منه فعل شيء للرد على الحزب، وكان الحزب في تلك الفترة في قمّة النشاط ؛ فأوعز إلى صحيفة الأنوار بنشر خبر مفاده أن الشيخ تقي رئيس حزب التحرير قبض من السفارة الأمريكية تحويلا ً(شيكأ) بقيمة خمسين ألف دينار. ثم قام هاشم السبع صاحب جريدة الصريح الأسبوعية في الأردن بإعادة نشر الخبر، فقامت الدنيا في تلك الأيام وصار الشباب يواجَهون عند إجراء المناقشات مع الناس بهذا الخبر. وكان الشباب في ذلك الحين يرفضون اعتبار الحزب متـّهما ً وقبول التصدّي للدفاع عنه، بل كانوا يصرّون على حصر البحث في الفكر الذي يحمله الحزب كسبيل للنهضة. ولمّا نـُقِل الخبر للشيخ رحمه الله تعالى علـّق بأن ذلك أمر طبيعي لأن سلاح الدعاية استـُعمِل ضد الرسول ( صلى الله عليه وسلـّم ) في مكة من كفار قريش. لكن الذي ضاعف على الحزب الأعباء هو تصدّيه للرئيس المصري جمال عبد الناصر وكشفه وبيان عمالته لأمريكا حتى وصل الحال أنهم كانوا يبحثون عن الشيخ في كل زاوية في لبنان لقتله والتخلص منه.
وقد ذكِر في تلك الأيام وقبل فترة اختفاء الشيخ الذي أجبره الشباب عليها، أن الشيخ التقى بقدر الله عز وجلّ صاحب جريدة الحياة البيروتية كامل مروّة في الطريق فسلـّم عليه وقال: يا أستاذ تقي، الناصريون يكرهونني ولكن كراهيتهم لي لا تعدل عشر كراهيتهم لك لأنك فضحتهم وعريتهم، لذلك لا أستبعد اغتيالك على أيديهم.
وكانت شعبية عبدالناصر في تلك الأثناء في قمة القمم وفي كل يوم في ازدياد. وصار الهجوم على الحزب على أشدّه من الناصريين ومن الناس أيضا ً. فوُصِفت هذه الأجواء المحيطة بالحزب للشيخ، فراح يردّد بيتاً من الشعر لعنترة العبسي:(البيت لابي فراس الحمداني -ابو عصام-)
سيذكرني قومي إذا جدّ جدّهم وفي الليلة الظلماء يُفتـَقـَد البدر
وأذكر مرة أنه راح يشرح لي كيف ان الإنسان يتأثر بمفاهيم المجتمع الذي يعيش فيه لأنه جزء منه. ومن الواجب على الشباب الاجتهاد في تصحيح المفاهيم والحرص على التنقيب دائما ً عن الحقيقة، وعليهم أن يقلـِّبوا في كل ما عرفوه حتى ينـَقـّوا منه كل ما يمكن أن يَعلق به من الشوائب، ويبعدوا عنه كل فكر غريب لتظلّ الأفكار صافية نقية، فصفاء الفكرة ونقاؤها هو الضمان الوحيد للنجاح واستمرار العمل بإذن الله تعالى.
ومن الذاكرة
كل ما سبق ذكره يتحدث عن مراحل من حياة الشيخ تقي رحمه الله تعالى، والآن لابد أن أذكر شيئا ً عنه بعد وفاته. وقد سلف أن الشيخ توفي في أحد مستشفيات بيروت متخفـّيا ً سنة 1977م، وقد أشرف على دفنه في مقبرة الشهداء في بيروت نفر قليل من أفراد عائلته ومن شباب الحزب. دارت الأيام ومرت السنون فتوفي أحد أبناء الشيخ سنة 2000م أي بعد ثلاثة وعشرين عاما ً من وفاة الشيخ. فكان رأي البعض وكما تجري العادة في بلادنا أن يُدفن الإبن في قبر أبيه حيث تكون العظام قد بليت, وذلك جائز شرعا ً. وبالفعل تمّ نبش القبر وإذا بجثة الشيخ رحمه الله تعالى كما هي. أعيد إغلاق القبر ودُفِن ابنه في قبر آخر. شهد على هذه الحادثة كل من حضر تلك الجنازة وأظنّ أن لذلك دلالة أترك تفسيرها وتأويلها لكل ذي لبّ.
رحمك الله أيها الشيخ الجليل، فقد شهد من عمل معك أنك أدّيت ما عليك معذرة منك إلى الله حباً منك لله ورسوله وجهاداً في سبيل الله من أجل رفعة هذا الدين وتمكين أحكامه في الأرض. تركت متاع الدنيا فكان عيشك كفافاً، وتطلعت إلى ما عند الله فنازعت همتك قمم الجبال .نسأل الله تبارك في علاه أن يجعلك مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.
نحسبك كذلك ولا نزكي على الله أحداً.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
بوفيصيل
29-01-2013, 02:11 AM
نسال الله ان يجمعنا به في جنات النعيم في عليين مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن اؤلئك رفيقا
جزاك الله كل الخير اخي ابو عصام وعسى الله ان لا يحرمنا اجركم وآجر الشيخ تقي
ودمتم في أمان الله وحفظه
muslem
29-01-2013, 10:31 PM
نسال الله ان يجمعنا به في جنات النعيم في عليين مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن اؤلئك رفيقا
جزاك الله كل الخير اخي ابو عصام وعسى الله ان لا يحرمنا اجركم وآجر الشيخ تقي
ودمتم في أمان الله وحفظه
امين يارب العالمين وكحل اعيننا برؤية راية الاسلام خفاقة عالية في ربوع الارض
مجد الاسلام
31-01-2013, 12:30 AM
استغربت منام الشيخ وما يريد الشيخ والكاتب ان يوحي به من خلاله. الحق لا يحتاج الى منامات. وإن كان حصل فعلا فلا داعي لذكره.
ابوزيد
31-01-2013, 01:36 AM
استغربت منام الشيخ وما يريد الشيخ والكاتب ان يوحي به من خلاله. الحق لا يحتاج الى منامات. وإن كان حصل فعلا فلا داعي لذكره.
نعم ان الحق لايحتاج الى منامات ولكن المنام هو فأل حسن فلا ضير منه.
مجد الاسلام
01-02-2013, 12:44 AM
المهم أن لا تضيع العقول وتتعلق بأوهام، وللعلم فإن المنام المذكور لا يعني شيئا، فهل نتفاؤل بالوهم؟؟؟!!!! علاوة عن أنه يشير من بعيد الى ما يشير اليه. دعونا من الأحلام والأوهام، ولنعمل العقل لنرى الحق من الباطل، ولنرى ما يجب فعله لبناء صرح الخلافة....
vBulletin® v4.0.2, Copyright ©2000-2025, Jelsoft Enterprises Ltd.