muslem
19-09-2012, 11:35 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
التدرُّج في تطبيق الشريعة وموقف الإسلام منه
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}.
لم ولن تعرف الأمة الإسلامية الراحة في حياتها، ذلك أن طبيعة قضيتها في الحياة تفرض عليها العمل الدؤوب والمتواصل، وهي لا تنفك عن دخول المعارك؛ المعركة تلو المعركة في حربها التي تخوضها لجعل كلمة الله هي العليا أبداً، فالله يقول {أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} وكان صلى الله عليه وعلى آله وسلم شهيداً علينا بالإسلام وأمرنا الله بالشهادة به على الناس والأمم {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} ويجب على الأمة أن تكون كما أمر الله {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آَمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُون}.
وهذه سنة الله التي لا تتخلف؛ أعني حمل الاسلام ومواجهة الباطل {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16) أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَال}.
{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (42) اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا}.
لقد أدرك الغرب الكافر _في ثمانينات القرن الماضي_ أن الأمة قد توحّد هدفها بأنه الحكم بما أنزل الله؛ لذلك لجأ إلى تمييع هذا الهدف سواء عن طريق تشجيع المشاركة في الحكومات القائمة في العالم الإسلامي، أو عن طريق إظهار بعض الدول أنها تطبق الإسلام كما في الباكستان وفي إيران وفي السودان.
ومعلوم أن الغرب الكافر يلجأ إلى تسويق أفكاره في بلاد المسلمين على اعتبار أنها أفكار إسلامية أو لا تخالف الإسلام، فيروّج للديمقراطية على أنها الشورى، أو أنها ضد القمع والاستبداد، ولا يجرؤ أن يروّج لها باعتبارها تعطي حق التشريع للإنسان وتنكره على خالق الإنسان، كما اندفع الغرب بقوة في محاولة تمييع المجتمع من ناحية الإسلام حتى يتمكن من إخراج الإسلام من المجتمع، فإلى جانب الديمقراطية صار يروج عن طريق عملائه تحت اسم الإسلام لفكرة وحدة الأديان، والتسامح الديني، والوسطية الإسلامية، والتعددية السياسية.
وتتردد على الألسنة هذه الايام فكرة التدرُّج في تطبيق الإسلام في كل الأوساط وبخاصة بعد وصول ما يسمى أصحاب الإسلام المعتدل للحكم في أكثرمن بلد من بلاد المسلمين؛ لذلك كان لا بد من وقفة مع هذه الفكرة لبيان حقيقتها وحكم الاسلام فيها :
التدرُّج لغة: قال ابن فارس: «الدَّالُ وَالرَّاءُ وَالْجِيمُ أَصْلٌ وَاحِدٌ يَدُلُّ عَلَى مُضِيِّ الشَّيْءِ وَالْمُضِيِّ فِي الشَّيْءِ».
فلفظ (درج) دال على المشي والمضي.
وأما (درَّج) بالتشديد فقال في اللسان: «وَيُقَالُ: دَرَّجْتُ الْعَلِيلَ تَدْريجاً إِذا أَطعمته شَيْئاً قَلِيلاً، وَذَلِكَ إِذا نَقِهَ، حَتَّى يَتَدَرَّجَ إِلى غَايَةِ أَكله، كَمَا كَانَ قَبْلَ الْعِلَّةِ، دَرَجَةً دَرَجَة».
فهو دال على التأني في تناول الشيء أو بلوغه، و (تدرج) مُطَاوع دَرَجه وَإِلَيْهِ تقدم شَيْئاً فَشَيْئاً وَفِيه تصعد دَرَجَة دَرَجَة.
فجماع دلالات التدرُّج لغة هو: أنه أَخْذ الأمر شيئاً فشيئاً لا دفعة واحدة.
والتدرُّج موضوع البحث هنا هو التدرُّج في تطبيق الشريعة الاسلامية أي هو السكوت عن إنفاذ وتطبيق الشريعة وتحقيق مقتضياتها والعمل على انفاذها من قبل صاحب السلطة شيئا فشيئا لا دفعة واحدة وذلك للعجز عن إنفاذ الشريعة والإلزام بها أو مع وجود القدرة على إنفاذ الشريعة، ولكن مع غلبة مفسدة ترك التدرُّج على مصلحة الإلزام بالشريعة أو مع وجود القدرة وقلة المفسدة، ولكن إرادة صاحب السلطان الرفق بالناس وتهيئتهم وحُسْن سياستهم.
أما أدلة هذا التدرُّج في تطبيق الشريعة عند من يقول بها ، فيندرج تحت واحـدة من هذه القواعد الكبار:
أحدهما: سقوط التكليف بالعجز.
والثانية: (فأتوا منه ما استطعتم).
والثالثة: ارتكاب أخف الضررين.
والرابعة: تقديم الأرجح عند التعارض بين المصالح والمفاسد.
وإذا علم أنَّ تطبيق الشريعة في نظام الدولة وليس على نفس الإنسان ومن تحت يده فحسب _قد يعني_ في بعض البلاد تغيير واقع كبيـر مخالف للشريعة، كثيـر التفاصيل، في حياة معقَّدة، تطرأ فيها آلاف المسائل الجديدة، التي تحتاج إلى علماء، وقضاة، على دراية بما يقضون فيه، فلا يقول أنَّه يمكن فعل ذلك بغير تدريج مطلقاً إلاَّ جاهل لم يتصوَّر المشروع أصلاً، وهو لا يعرف ماذا يعني هذا العنوان الكبير، وإنما أخذ عنواناً وطار فيه مطار الغوغاء، والدهماء.
فإذا انضمِّ إلى أنَّ المشروع في مثل هذه البيئة، كونها بيئـةً ذات تحفــُّز دائم لحرب عدوّ متربّص، وحصار خانق منغِّص، مع قلّة الإمكانات، وضعف القدرات، فإنَّ من يظن تحريم التدرُّج مطلقاً، فهو من أجهل الناس، ولا يقول هذا _أصلاً_ إلاَّ من لم يمارس الفتوى، ولا القضاء، ولا يعرف أعباءهما في الناس، وإنما قصر نظره على مسائل محددة، وتعصّب عليها.
ولهذا كان لا بد لمعالجة هذه الأوضاع البائسة، ورتق هذه الفتوق الواسعة، من الأناة والروية، وتهيئة الأجواء، وتمهيد الأرض، وإصلاح المجتمع، وتصحيح عقيدته وأخلاقه، وأخذ الناس بالتدريج شيئاً فشيئاً، حتى يسهل عليهم الانقياد لشريعة الله، والتسليم لحكمه وأمره، وحتى لا تكون فتنة ومجال للطعن في دين الله، والتمرد عليه وعلى القائمين بتنفيذه.
وهو تدرج في التنفيذ، وليس تدرجاً في التشريع، لأن التشريع قد تم واكتمل في حياة النبي _صلى الله عليه وسلم_، قال الله تعالى: {...الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا...}، فالشريعة قد اكتملت ولا شك، لكن التطبيق الشامل لها في عصرنا الحاضر يحتاج إلى تهيئة وإعداد لتحويل المجتمع إلى الالتزام الشرعي الصحيح، بعد عصر الاغتراب والتغريب.
ومما يدل على ضرورة التدرُّج في تطبيق الشريعة في مثل هذه المجتمعات، وأنه أمر تقتضيه السنن الكونية، والأصول والمقاصد الشرعية: أن شرائع الإسلام لم تنزل على الرعيل الأول جملة واحدة، وإنما نزلت شيئاً فشيئاً، وحكماً بعد حكم، وسلك الله بعباده مسلك التدريج مما سهل عليهم الالتزام بدينه، والاستجابة لأمره، والانقياد لشريعته وأحكامه، ولو نزل عليهم أول الأمر تحريم الخمر، والزنا، والربا، ونحوها، وتغليظ العقوبة على من يفعل ذلك، لأدى ذلك إلى النفور والإعراض، ولربما كان لبعضهم فتنة، وسبباً للكفر والردة.
قال الله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا * وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا}
فالله تعالى قادر على أن ينزل شرعه جملة واحدة، ويكلف به عباده دفعة واحدة، لكنها حكمة العليم الحكيم الذي خلق الإنسان ويعلم حاله وما يُصلحه ويصلح له يقول الله تعالى: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}
وروى البخاري في صحيحه عن عائشة _رضي الله عنها_ أنها قالت عن القرآن الكريم: "إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصّل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام، نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر لقالوا: لا ندع الخمر أبداً، ولو نزل لا تزنوا لقالوا: لا ندع الزنى أبداً..." الحديث.
ولعل من الشواهد التي يسترشد بها في مثل هذا المقام، ما ذكره المؤرخون عن عمر بن عبد العزيز، وقد ولّي الخلافة بعد أناس انحرفوا عن منهج الراشدين، وارتكبوا مظالم، ضيّعوا بها حقوق الناس، وتعدوا حدود الله.
فقد دخل عليه ابنه التقي الصالح عبد الملك، وقال له في حماس متوقد: يا أبت ما لك تبطيء في إنفاذ الأمور؟! فوالله ما أبالي لو أن القدور غلت بي وبك في الحق! فقال الأب الحكيم الموفق: "لا تعجلْ يا بني، فإن الله ذم الخمر في القرآن مرتين، وحرمها في الثالثة، وإني أخشى أن أحمل الناس على الحق جملة، فيدفعوه جملة، ويكون من ذا فتنة"
فتأمل كيف نبّه _رحمه الله_ على ضرورة الأخذ بسنة التدرُّج في تنفيذ الشرع وتطبيقه مستدلاً بالتدرُّج في التشريع، الذي سلكه الله تعالى في إيجاب بعض الواجبات، وتحريم بعض المحرمات، مثل تحريم الخمر.
وليس المقصود بالتدرُّج في التنفيذ أن نتدرج في إيجاب الواجبات وتحريم المحرمات، كما كان الحال عليه قبل استقرار الشريعة وتمام النعمة، فنبيح الخمر مثلاً ونبين أن إثمها أكبر من نفعها، ثم نحرم شربها أوقات الصلوات المفروضة، ثم بعد حين نحرمها تحريماً قاطعاً، فهذا أمر لا يمكن أن يقول به من كان له أدنى معرفة بنصوص الشريعة، وفهم لمقاصدها.
وفي موقف مشابه، قال له: "يا بني، إن قومك - يعني بني أمية - قد شدوا هذا الأمر عقدة عقدة، وعروة عروة، ومتى أردت مكابرتهم على انتزاع ما في أيديهم، لم آمن أن يفتقوا عليّ فتقاً، تكثر فيه الدماء. والله لزوال الدنيا أهون عليّ من أن يراق بسببي محجمة من دم، أو ما ترضى ألا يأتي على أبيك يوم من أيام الدنيا، إلا وهو يميت فيه بدعة ويحيي فيه سنة، حتى يحكم الله بيننا وبين قومنا بالحق، وهو خير الحاكمين؟!"
وفي موطن آخر قال له: "إني أروض الناس رياضة الصعب، فإن أبقاني الله مضيت لرأيي، وإن عجلت علي منيّة فقد علم الله نيتي، إني أخاف إن بادهت الناس بالتي تقول أن يلجئوني إلى السيف، ولا خير في خير لا يجيء إلا بالسيف".
ويدل على الحاجة إلى الأخذ بسنة التدرُّج في تطبيق الشريعة، أن كثيراً من الجرائم التي تعاقب عليها الشريعة الإسلامية، مباحة في القوانين الوضعية، وذلك كجريمة الربا، والردة، ومنع الزكاة الواجبة، واتخاذ الأخدان والخليلات، وخروج النساء كاسيات عاريات، واختلاطهن بالرجال الأجانب في المدارس والجامعات.. وغير ذلك.
بل إن بعض جرائم الحدود التي رتبت عليها الشريعة عقوبات مقدرة رادعة، هي مباحة في هذه القوانين، وذلك كالزنا وشرب الخمر. وما اعتبرته منها جريمة مخلة بالقانون، فإن العقوبة المرتبة عليه، لا تمت إلى العقوبة الشرعية بصلة.
التدرُّج في تطبيق الشريعة وموقف الإسلام منه
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}.
لم ولن تعرف الأمة الإسلامية الراحة في حياتها، ذلك أن طبيعة قضيتها في الحياة تفرض عليها العمل الدؤوب والمتواصل، وهي لا تنفك عن دخول المعارك؛ المعركة تلو المعركة في حربها التي تخوضها لجعل كلمة الله هي العليا أبداً، فالله يقول {أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} وكان صلى الله عليه وعلى آله وسلم شهيداً علينا بالإسلام وأمرنا الله بالشهادة به على الناس والأمم {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} ويجب على الأمة أن تكون كما أمر الله {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آَمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُون}.
وهذه سنة الله التي لا تتخلف؛ أعني حمل الاسلام ومواجهة الباطل {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16) أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَال}.
{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (42) اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا}.
لقد أدرك الغرب الكافر _في ثمانينات القرن الماضي_ أن الأمة قد توحّد هدفها بأنه الحكم بما أنزل الله؛ لذلك لجأ إلى تمييع هذا الهدف سواء عن طريق تشجيع المشاركة في الحكومات القائمة في العالم الإسلامي، أو عن طريق إظهار بعض الدول أنها تطبق الإسلام كما في الباكستان وفي إيران وفي السودان.
ومعلوم أن الغرب الكافر يلجأ إلى تسويق أفكاره في بلاد المسلمين على اعتبار أنها أفكار إسلامية أو لا تخالف الإسلام، فيروّج للديمقراطية على أنها الشورى، أو أنها ضد القمع والاستبداد، ولا يجرؤ أن يروّج لها باعتبارها تعطي حق التشريع للإنسان وتنكره على خالق الإنسان، كما اندفع الغرب بقوة في محاولة تمييع المجتمع من ناحية الإسلام حتى يتمكن من إخراج الإسلام من المجتمع، فإلى جانب الديمقراطية صار يروج عن طريق عملائه تحت اسم الإسلام لفكرة وحدة الأديان، والتسامح الديني، والوسطية الإسلامية، والتعددية السياسية.
وتتردد على الألسنة هذه الايام فكرة التدرُّج في تطبيق الإسلام في كل الأوساط وبخاصة بعد وصول ما يسمى أصحاب الإسلام المعتدل للحكم في أكثرمن بلد من بلاد المسلمين؛ لذلك كان لا بد من وقفة مع هذه الفكرة لبيان حقيقتها وحكم الاسلام فيها :
التدرُّج لغة: قال ابن فارس: «الدَّالُ وَالرَّاءُ وَالْجِيمُ أَصْلٌ وَاحِدٌ يَدُلُّ عَلَى مُضِيِّ الشَّيْءِ وَالْمُضِيِّ فِي الشَّيْءِ».
فلفظ (درج) دال على المشي والمضي.
وأما (درَّج) بالتشديد فقال في اللسان: «وَيُقَالُ: دَرَّجْتُ الْعَلِيلَ تَدْريجاً إِذا أَطعمته شَيْئاً قَلِيلاً، وَذَلِكَ إِذا نَقِهَ، حَتَّى يَتَدَرَّجَ إِلى غَايَةِ أَكله، كَمَا كَانَ قَبْلَ الْعِلَّةِ، دَرَجَةً دَرَجَة».
فهو دال على التأني في تناول الشيء أو بلوغه، و (تدرج) مُطَاوع دَرَجه وَإِلَيْهِ تقدم شَيْئاً فَشَيْئاً وَفِيه تصعد دَرَجَة دَرَجَة.
فجماع دلالات التدرُّج لغة هو: أنه أَخْذ الأمر شيئاً فشيئاً لا دفعة واحدة.
والتدرُّج موضوع البحث هنا هو التدرُّج في تطبيق الشريعة الاسلامية أي هو السكوت عن إنفاذ وتطبيق الشريعة وتحقيق مقتضياتها والعمل على انفاذها من قبل صاحب السلطة شيئا فشيئا لا دفعة واحدة وذلك للعجز عن إنفاذ الشريعة والإلزام بها أو مع وجود القدرة على إنفاذ الشريعة، ولكن مع غلبة مفسدة ترك التدرُّج على مصلحة الإلزام بالشريعة أو مع وجود القدرة وقلة المفسدة، ولكن إرادة صاحب السلطان الرفق بالناس وتهيئتهم وحُسْن سياستهم.
أما أدلة هذا التدرُّج في تطبيق الشريعة عند من يقول بها ، فيندرج تحت واحـدة من هذه القواعد الكبار:
أحدهما: سقوط التكليف بالعجز.
والثانية: (فأتوا منه ما استطعتم).
والثالثة: ارتكاب أخف الضررين.
والرابعة: تقديم الأرجح عند التعارض بين المصالح والمفاسد.
وإذا علم أنَّ تطبيق الشريعة في نظام الدولة وليس على نفس الإنسان ومن تحت يده فحسب _قد يعني_ في بعض البلاد تغيير واقع كبيـر مخالف للشريعة، كثيـر التفاصيل، في حياة معقَّدة، تطرأ فيها آلاف المسائل الجديدة، التي تحتاج إلى علماء، وقضاة، على دراية بما يقضون فيه، فلا يقول أنَّه يمكن فعل ذلك بغير تدريج مطلقاً إلاَّ جاهل لم يتصوَّر المشروع أصلاً، وهو لا يعرف ماذا يعني هذا العنوان الكبير، وإنما أخذ عنواناً وطار فيه مطار الغوغاء، والدهماء.
فإذا انضمِّ إلى أنَّ المشروع في مثل هذه البيئة، كونها بيئـةً ذات تحفــُّز دائم لحرب عدوّ متربّص، وحصار خانق منغِّص، مع قلّة الإمكانات، وضعف القدرات، فإنَّ من يظن تحريم التدرُّج مطلقاً، فهو من أجهل الناس، ولا يقول هذا _أصلاً_ إلاَّ من لم يمارس الفتوى، ولا القضاء، ولا يعرف أعباءهما في الناس، وإنما قصر نظره على مسائل محددة، وتعصّب عليها.
ولهذا كان لا بد لمعالجة هذه الأوضاع البائسة، ورتق هذه الفتوق الواسعة، من الأناة والروية، وتهيئة الأجواء، وتمهيد الأرض، وإصلاح المجتمع، وتصحيح عقيدته وأخلاقه، وأخذ الناس بالتدريج شيئاً فشيئاً، حتى يسهل عليهم الانقياد لشريعة الله، والتسليم لحكمه وأمره، وحتى لا تكون فتنة ومجال للطعن في دين الله، والتمرد عليه وعلى القائمين بتنفيذه.
وهو تدرج في التنفيذ، وليس تدرجاً في التشريع، لأن التشريع قد تم واكتمل في حياة النبي _صلى الله عليه وسلم_، قال الله تعالى: {...الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا...}، فالشريعة قد اكتملت ولا شك، لكن التطبيق الشامل لها في عصرنا الحاضر يحتاج إلى تهيئة وإعداد لتحويل المجتمع إلى الالتزام الشرعي الصحيح، بعد عصر الاغتراب والتغريب.
ومما يدل على ضرورة التدرُّج في تطبيق الشريعة في مثل هذه المجتمعات، وأنه أمر تقتضيه السنن الكونية، والأصول والمقاصد الشرعية: أن شرائع الإسلام لم تنزل على الرعيل الأول جملة واحدة، وإنما نزلت شيئاً فشيئاً، وحكماً بعد حكم، وسلك الله بعباده مسلك التدريج مما سهل عليهم الالتزام بدينه، والاستجابة لأمره، والانقياد لشريعته وأحكامه، ولو نزل عليهم أول الأمر تحريم الخمر، والزنا، والربا، ونحوها، وتغليظ العقوبة على من يفعل ذلك، لأدى ذلك إلى النفور والإعراض، ولربما كان لبعضهم فتنة، وسبباً للكفر والردة.
قال الله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا * وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا}
فالله تعالى قادر على أن ينزل شرعه جملة واحدة، ويكلف به عباده دفعة واحدة، لكنها حكمة العليم الحكيم الذي خلق الإنسان ويعلم حاله وما يُصلحه ويصلح له يقول الله تعالى: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}
وروى البخاري في صحيحه عن عائشة _رضي الله عنها_ أنها قالت عن القرآن الكريم: "إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصّل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام، نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر لقالوا: لا ندع الخمر أبداً، ولو نزل لا تزنوا لقالوا: لا ندع الزنى أبداً..." الحديث.
ولعل من الشواهد التي يسترشد بها في مثل هذا المقام، ما ذكره المؤرخون عن عمر بن عبد العزيز، وقد ولّي الخلافة بعد أناس انحرفوا عن منهج الراشدين، وارتكبوا مظالم، ضيّعوا بها حقوق الناس، وتعدوا حدود الله.
فقد دخل عليه ابنه التقي الصالح عبد الملك، وقال له في حماس متوقد: يا أبت ما لك تبطيء في إنفاذ الأمور؟! فوالله ما أبالي لو أن القدور غلت بي وبك في الحق! فقال الأب الحكيم الموفق: "لا تعجلْ يا بني، فإن الله ذم الخمر في القرآن مرتين، وحرمها في الثالثة، وإني أخشى أن أحمل الناس على الحق جملة، فيدفعوه جملة، ويكون من ذا فتنة"
فتأمل كيف نبّه _رحمه الله_ على ضرورة الأخذ بسنة التدرُّج في تنفيذ الشرع وتطبيقه مستدلاً بالتدرُّج في التشريع، الذي سلكه الله تعالى في إيجاب بعض الواجبات، وتحريم بعض المحرمات، مثل تحريم الخمر.
وليس المقصود بالتدرُّج في التنفيذ أن نتدرج في إيجاب الواجبات وتحريم المحرمات، كما كان الحال عليه قبل استقرار الشريعة وتمام النعمة، فنبيح الخمر مثلاً ونبين أن إثمها أكبر من نفعها، ثم نحرم شربها أوقات الصلوات المفروضة، ثم بعد حين نحرمها تحريماً قاطعاً، فهذا أمر لا يمكن أن يقول به من كان له أدنى معرفة بنصوص الشريعة، وفهم لمقاصدها.
وفي موقف مشابه، قال له: "يا بني، إن قومك - يعني بني أمية - قد شدوا هذا الأمر عقدة عقدة، وعروة عروة، ومتى أردت مكابرتهم على انتزاع ما في أيديهم، لم آمن أن يفتقوا عليّ فتقاً، تكثر فيه الدماء. والله لزوال الدنيا أهون عليّ من أن يراق بسببي محجمة من دم، أو ما ترضى ألا يأتي على أبيك يوم من أيام الدنيا، إلا وهو يميت فيه بدعة ويحيي فيه سنة، حتى يحكم الله بيننا وبين قومنا بالحق، وهو خير الحاكمين؟!"
وفي موطن آخر قال له: "إني أروض الناس رياضة الصعب، فإن أبقاني الله مضيت لرأيي، وإن عجلت علي منيّة فقد علم الله نيتي، إني أخاف إن بادهت الناس بالتي تقول أن يلجئوني إلى السيف، ولا خير في خير لا يجيء إلا بالسيف".
ويدل على الحاجة إلى الأخذ بسنة التدرُّج في تطبيق الشريعة، أن كثيراً من الجرائم التي تعاقب عليها الشريعة الإسلامية، مباحة في القوانين الوضعية، وذلك كجريمة الربا، والردة، ومنع الزكاة الواجبة، واتخاذ الأخدان والخليلات، وخروج النساء كاسيات عاريات، واختلاطهن بالرجال الأجانب في المدارس والجامعات.. وغير ذلك.
بل إن بعض جرائم الحدود التي رتبت عليها الشريعة عقوبات مقدرة رادعة، هي مباحة في هذه القوانين، وذلك كالزنا وشرب الخمر. وما اعتبرته منها جريمة مخلة بالقانون، فإن العقوبة المرتبة عليه، لا تمت إلى العقوبة الشرعية بصلة.