المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : التدرُّج في تطبيق الشريعة وموقف الإسلام منه



muslem
19-09-2012, 11:35 PM
بسم الله الرحمن الرحيم

التدرُّج في تطبيق الشريعة وموقف الإسلام منه

قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}.

لم ولن تعرف الأمة الإسلامية الراحة في حياتها، ذلك أن طبيعة قضيتها في الحياة تفرض عليها العمل الدؤوب والمتواصل، وهي لا تنفك عن دخول المعارك؛ المعركة تلو المعركة في حربها التي تخوضها لجعل كلمة الله هي العليا أبداً، فالله يقول {أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} وكان صلى الله عليه وعلى آله وسلم شهيداً علينا بالإسلام وأمرنا الله بالشهادة به على الناس والأمم {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} ويجب على الأمة أن تكون كما أمر الله {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آَمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُون}.

وهذه سنة الله التي لا تتخلف؛ أعني حمل الاسلام ومواجهة الباطل {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16) أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَال}.



{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (42) اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا}.

لقد أدرك الغرب الكافر _في ثمانينات القرن الماضي_ أن الأمة قد توحّد هدفها بأنه الحكم بما أنزل الله؛ لذلك لجأ إلى تمييع هذا الهدف سواء عن طريق تشجيع المشاركة في الحكومات القائمة في العالم الإسلامي، أو عن طريق إظهار بعض الدول أنها تطبق الإسلام كما في الباكستان وفي إيران وفي السودان.

ومعلوم أن الغرب الكافر يلجأ إلى تسويق أفكاره في بلاد المسلمين على اعتبار أنها أفكار إسلامية أو لا تخالف الإسلام، فيروّج للديمقراطية على أنها الشورى، أو أنها ضد القمع والاستبداد، ولا يجرؤ أن يروّج لها باعتبارها تعطي حق التشريع للإنسان وتنكره على خالق الإنسان، كما اندفع الغرب بقوة في محاولة تمييع المجتمع من ناحية الإسلام حتى يتمكن من إخراج الإسلام من المجتمع، فإلى جانب الديمقراطية صار يروج عن طريق عملائه تحت اسم الإسلام لفكرة وحدة الأديان، والتسامح الديني، والوسطية الإسلامية، والتعددية السياسية.

وتتردد على الألسنة هذه الايام فكرة التدرُّج في تطبيق الإسلام في كل الأوساط وبخاصة بعد وصول ما يسمى أصحاب الإسلام المعتدل للحكم في أكثرمن بلد من بلاد المسلمين؛ لذلك كان لا بد من وقفة مع هذه الفكرة لبيان حقيقتها وحكم الاسلام فيها :

التدرُّج لغة: قال ابن فارس: «الدَّالُ وَالرَّاءُ وَالْجِيمُ أَصْلٌ وَاحِدٌ يَدُلُّ عَلَى مُضِيِّ الشَّيْءِ وَالْمُضِيِّ فِي الشَّيْءِ».

فلفظ (درج) دال على المشي والمضي.

وأما (درَّج) بالتشديد فقال في اللسان: «وَيُقَالُ: دَرَّجْتُ الْعَلِيلَ تَدْريجاً إِذا أَطعمته شَيْئاً قَلِيلاً، وَذَلِكَ إِذا نَقِهَ، حَتَّى يَتَدَرَّجَ إِلى غَايَةِ أَكله، كَمَا كَانَ قَبْلَ الْعِلَّةِ، دَرَجَةً دَرَجَة».

فهو دال على التأني في تناول الشيء أو بلوغه، و (تدرج) مُطَاوع دَرَجه وَإِلَيْهِ تقدم شَيْئاً فَشَيْئاً وَفِيه تصعد دَرَجَة دَرَجَة.

فجماع دلالات التدرُّج لغة هو: أنه أَخْذ الأمر شيئاً فشيئاً لا دفعة واحدة.

والتدرُّج موضوع البحث هنا هو التدرُّج في تطبيق الشريعة الاسلامية أي هو السكوت عن إنفاذ وتطبيق الشريعة وتحقيق مقتضياتها والعمل على انفاذها من قبل صاحب السلطة شيئا فشيئا لا دفعة واحدة وذلك للعجز عن إنفاذ الشريعة والإلزام بها أو مع وجود القدرة على إنفاذ الشريعة، ولكن مع غلبة مفسدة ترك التدرُّج على مصلحة الإلزام بالشريعة أو مع وجود القدرة وقلة المفسدة، ولكن إرادة صاحب السلطان الرفق بالناس وتهيئتهم وحُسْن سياستهم.

أما أدلة هذا التدرُّج في تطبيق الشريعة عند من يقول بها ، فيندرج تحت واحـدة من هذه القواعد الكبار:

أحدهما: سقوط التكليف بالعجز.

والثانية: (فأتوا منه ما استطعتم).

والثالثة: ارتكاب أخف الضررين.

والرابعة: تقديم الأرجح عند التعارض بين المصالح والمفاسد.

وإذا علم أنَّ تطبيق الشريعة في نظام الدولة وليس على نفس الإنسان ومن تحت يده فحسب _قد يعني_ في بعض البلاد تغيير واقع كبيـر مخالف للشريعة، كثيـر التفاصيل، في حياة معقَّدة، تطرأ فيها آلاف المسائل الجديدة، التي تحتاج إلى علماء، وقضاة، على دراية بما يقضون فيه، فلا يقول أنَّه يمكن فعل ذلك بغير تدريج مطلقاً إلاَّ جاهل لم يتصوَّر المشروع أصلاً، وهو لا يعرف ماذا يعني هذا العنوان الكبير، وإنما أخذ عنواناً وطار فيه مطار الغوغاء، والدهماء.

فإذا انضمِّ إلى أنَّ المشروع في مثل هذه البيئة، كونها بيئـةً ذات تحفــُّز دائم لحرب عدوّ متربّص، وحصار خانق منغِّص، مع قلّة الإمكانات، وضعف القدرات، فإنَّ من يظن تحريم التدرُّج مطلقاً، فهو من أجهل الناس، ولا يقول هذا _أصلاً_ إلاَّ من لم يمارس الفتوى، ولا القضاء، ولا يعرف أعباءهما في الناس، وإنما قصر نظره على مسائل محددة، وتعصّب عليها.
ولهذا كان لا بد لمعالجة هذه الأوضاع البائسة، ورتق هذه الفتوق الواسعة، من الأناة والروية، وتهيئة الأجواء، وتمهيد الأرض، وإصلاح المجتمع، وتصحيح عقيدته وأخلاقه، وأخذ الناس بالتدريج شيئاً فشيئاً، حتى يسهل عليهم الانقياد لشريعة الله، والتسليم لحكمه وأمره، وحتى لا تكون فتنة ومجال للطعن في دين الله، والتمرد عليه وعلى القائمين بتنفيذه.

وهو تدرج في التنفيذ، وليس تدرجاً في التشريع، لأن التشريع قد تم واكتمل في حياة النبي _صلى الله عليه وسلم_، قال الله تعالى: {...الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا...}، فالشريعة قد اكتملت ولا شك، لكن التطبيق الشامل لها في عصرنا الحاضر يحتاج إلى تهيئة وإعداد لتحويل المجتمع إلى الالتزام الشرعي الصحيح، بعد عصر الاغتراب والتغريب.

ومما يدل على ضرورة التدرُّج في تطبيق الشريعة في مثل هذه المجتمعات، وأنه أمر تقتضيه السنن الكونية، والأصول والمقاصد الشرعية: أن شرائع الإسلام لم تنزل على الرعيل الأول جملة واحدة، وإنما نزلت شيئاً فشيئاً، وحكماً بعد حكم، وسلك الله بعباده مسلك التدريج مما سهل عليهم الالتزام بدينه، والاستجابة لأمره، والانقياد لشريعته وأحكامه، ولو نزل عليهم أول الأمر تحريم الخمر، والزنا، والربا، ونحوها، وتغليظ العقوبة على من يفعل ذلك، لأدى ذلك إلى النفور والإعراض، ولربما كان لبعضهم فتنة، وسبباً للكفر والردة.

قال الله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا * وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا}

فالله تعالى قادر على أن ينزل شرعه جملة واحدة، ويكلف به عباده دفعة واحدة، لكنها حكمة العليم الحكيم الذي خلق الإنسان ويعلم حاله وما يُصلحه ويصلح له يقول الله تعالى: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}

وروى البخاري في صحيحه عن عائشة _رضي الله عنها_ أنها قالت عن القرآن الكريم: "إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصّل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام، نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر لقالوا: لا ندع الخمر أبداً، ولو نزل لا تزنوا لقالوا: لا ندع الزنى أبداً..." الحديث.

ولعل من الشواهد التي يسترشد بها في مثل هذا المقام، ما ذكره المؤرخون عن عمر بن عبد العزيز، وقد ولّي الخلافة بعد أناس انحرفوا عن منهج الراشدين، وارتكبوا مظالم، ضيّعوا بها حقوق الناس، وتعدوا حدود الله.

فقد دخل عليه ابنه التقي الصالح عبد الملك، وقال له في حماس متوقد: يا أبت ما لك تبطيء في إنفاذ الأمور؟! فوالله ما أبالي لو أن القدور غلت بي وبك في الحق! فقال الأب الحكيم الموفق: "لا تعجلْ يا بني، فإن الله ذم الخمر في القرآن مرتين، وحرمها في الثالثة، وإني أخشى أن أحمل الناس على الحق جملة، فيدفعوه جملة، ويكون من ذا فتنة"
فتأمل كيف نبّه _رحمه الله_ على ضرورة الأخذ بسنة التدرُّج في تنفيذ الشرع وتطبيقه مستدلاً بالتدرُّج في التشريع، الذي سلكه الله تعالى في إيجاب بعض الواجبات، وتحريم بعض المحرمات، مثل تحريم الخمر.

وليس المقصود بالتدرُّج في التنفيذ أن نتدرج في إيجاب الواجبات وتحريم المحرمات، كما كان الحال عليه قبل استقرار الشريعة وتمام النعمة، فنبيح الخمر مثلاً ونبين أن إثمها أكبر من نفعها، ثم نحرم شربها أوقات الصلوات المفروضة، ثم بعد حين نحرمها تحريماً قاطعاً، فهذا أمر لا يمكن أن يقول به من كان له أدنى معرفة بنصوص الشريعة، وفهم لمقاصدها.

وفي موقف مشابه، قال له: "يا بني، إن قومك - يعني بني أمية - قد شدوا هذا الأمر عقدة عقدة، وعروة عروة، ومتى أردت مكابرتهم على انتزاع ما في أيديهم، لم آمن أن يفتقوا عليّ فتقاً، تكثر فيه الدماء. والله لزوال الدنيا أهون عليّ من أن يراق بسببي محجمة من دم، أو ما ترضى ألا يأتي على أبيك يوم من أيام الدنيا، إلا وهو يميت فيه بدعة ويحيي فيه سنة، حتى يحكم الله بيننا وبين قومنا بالحق، وهو خير الحاكمين؟!"

وفي موطن آخر قال له: "إني أروض الناس رياضة الصعب، فإن أبقاني الله مضيت لرأيي، وإن عجلت علي منيّة فقد علم الله نيتي، إني أخاف إن بادهت الناس بالتي تقول أن يلجئوني إلى السيف، ولا خير في خير لا يجيء إلا بالسيف".

ويدل على الحاجة إلى الأخذ بسنة التدرُّج في تطبيق الشريعة، أن كثيراً من الجرائم التي تعاقب عليها الشريعة الإسلامية، مباحة في القوانين الوضعية، وذلك كجريمة الربا، والردة، ومنع الزكاة الواجبة، واتخاذ الأخدان والخليلات، وخروج النساء كاسيات عاريات، واختلاطهن بالرجال الأجانب في المدارس والجامعات.. وغير ذلك.

بل إن بعض جرائم الحدود التي رتبت عليها الشريعة عقوبات مقدرة رادعة، هي مباحة في هذه القوانين، وذلك كالزنا وشرب الخمر. وما اعتبرته منها جريمة مخلة بالقانون، فإن العقوبة المرتبة عليه، لا تمت إلى العقوبة الشرعية بصلة.

muslem
19-09-2012, 11:36 PM
لهذا، فليس من الممكن أن نأتي إلى هذه المجتمعات، التي أشربت هذه القوانين الوضعية، واستمرأتها ونشأت عليها، فنطبق عليها العقوبات الشرعية، فنجلد الزاني البكر ونغربه عاماً، ونرجم المحصن بالحجارة حتى الموت، وقد كان الزنا بالأمس القريب أمراً مباحاً، ونوعاً من الحرية الشخصية التي يحميها القانون. والمثيرات التي تهيج الغرائز، وتشعل الشهوات، لا تزال تدعو إلى الفاحشة وتحرض عليها بشتى الأسباب والسبل، بل وجد للفاحشة والدعارة في بعض البلاد الإسلامية شوارع وأحياء مشهورة، يثري من ورائها عشرات الألوف من تجار الأعراض، وأصحاب الفن الرخيص، والساعين لنشر الفاحشة بين المؤمنين.

وليس من الممكن أن يجلد شارب الخمر ثمانين جلدة، ومصانع الخمر لا تزال مرخصاً لها ومحمية من قبل الجهات الرسمية، والخمر لا يزال يباع في الأسواق والفنادق والأماكن العامة والخاصة.

وحد السرقة لا يمكن أن يطبق، وبعض الناس يبيت طاوياً لا يجد كسرة خبز تسد رمقه وتكسر جوعته، والاحتكار والربا والرشاوى، وسرقة المال العام من قبل بعض المتنفذين وكبار اللصوص، قائمة على قدم وساق. وعلى ذلك فقس بقية الجرائم والمنكرات.
فلا بد إذاً من تجفيف منابع الفتن، وإزالة أسباب الجرائم، وقطع ذرائع الفساد، وتحذير الناس من المنكرات والمعاصي، وبيان شؤمها وسوء عاقبتها في الدنيا والآخرة، ولا بد من السعي الجاد لتحقيق مصالح الناس، وكفاية حاجاتهم الأصلية، وإشباع الدوافع المادية والمعنوية قدر الإمكان، ثم من أصر بعد ذلك على المعصية، فلا عذر له، وهو دليل على انحرافه واستهتاره، وهنا يستحق أن تطبق في حقه العقوبة الشرعية الرادعة، من أجل زجره عن التكرار والمعاودة، وإعانته على الاستقامة وسلوك الجادة.

هذه خلاصة لمن يقول بفكرة التدرُّج في تطبيق الإسلام وهذه هي أدلتهم.


وقبل الرد على هذه الأدلة أقول:

نزل القرآن الكريم على رسول الله صلى الله عليه وسلم منجّماً حسب الوقائع والأحداث، وكان كلما نزلت آية يبادر بتبليغها، فإن اشتملت على أمر بادر هو والمسلمون بتنفيذه، وأن اشتملت على نهي بادر هو والمسلمون باجتنابه والابتعاد عنه، فكان تنفيذ الأحكام يتم بمجرد نزولها، دون أدنى مهلة، ودون أي تأخير. فالحكم الذي ينزل يصبح واجب التطبيق والتنفيذ بمجرد نزوله أياً كان هذا الحكم، إلى أن أتم الله هذا الدين، وأنزل قوله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا}، فأصبح المسلمون بعد نزول هذه الآية الكريمة مطالبين مطالبة كلية بتنفيذ وتطبيق جميع أحكام الإسلام كاملة، سواء كانت تتعلق بالعقائد أو العبادات أو الأخلاق أو المعاملات، وسواء أكانت هذه المعاملات بين المسلمين بعضهم مع بعض أم بينهم وبين الحاكم الذي يحكمهم، أم بينهم وبين الشعوب والأمم والدول الأخرى، وسواء كانت هذه الأحكام تتعلق بناحية الحكم، أو الاقتصاد، أو الاجتماع، أو السياسة الخارجية في حالة السلم أو في حالة الحرب. قال تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب} أي خذوا واعملوا بجميع ما آتاكم الرسول، وانتهوا وابتعدوا عن كل ما نهاكم عنه، لأن (ما) في الآية من صيغ العموم، فتشمل وجوب العمل بجميع الواجبات، ووجوب الانتهاء والابتعاد عن جميع المنهيات. والطلب بالأخذ والانتهاء الوارد في الآية هو طلب جازم، وهو للوجوب، بقرينة ما ورد في نهاية الآية من الأمر بالتقوى، والوعيد بالعذاب الشديد لمن لم يأخذ جميع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ولم ينته عن جميع ما نهى عنه. وقال تعالى: {وأنِ احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتوك عن بعض ما أنزل الله إليك}.

فهذا أمر جازم من الله لرسوله، وللحكام المسلمين من بعده بوجوب الحكم بجميع ما أنزل الله من الأحكام، أمراً كانت أم نهياً، لأن لفظ (ما) الوارد في الآية هو من صيغ العموم، فتشمل جميع الأحكام المنزلة.

وقد نهى الله رسوله، والحكام المسلمين من بعده، عن اتباع أهواء الناس والانصياع لرغباتهم، حيث قال: {ولا تتبع أهواءهم}.

كما حذر الله رسوله والحكام المسلمين من بعده أن يفتنه الناس، وأن يصرفوه عن تطبيق بعض ما أنزل الله إليه من الأحكام، بل يجب عليه أن يطبق جميع الأحكام التي أنزلها الله عليه، أوامر كانت أو نواه، دون أن يلتفت إلى ما يريده الناس، حيث قال: {واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك}، وقال تعالى: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} وفي آية ثانية قال تعالى: {فأولئك هم الظالمون}، وفي آية ثالثة قال تعالى: {فأولئك هم الفاسقون}، فجعل الله في هذه الآيات الثلاث من لم يحكم بجميع ما أنزل الله من أحكام، أوامر كانت أو نواه، كافراً، ظالماً، وفاسقاً، لأن (ما) الواردة في الآيات الثلاث من صيغ العموم، فتشمل جميع الأحكام الشرعية التي أنزلها الله، أوامر كانت أو نواه.

فالأحكام في الشريعة الإسلامية المنوط تنفيذها وتطبيقها بالأفراد كالمعتقدات والعبادات والمطعومات والملبوسات والمعاملات والأخلاق، يجب على المسلمين أن يلتزموا به سواء كانوا يعيشون في دار إسلام أم دار كفر، وسواء كانت هناك دولة إسلامية أم لم تكن. فالمسلم الذي يعيش في فرنسا مثلاً، يجب عليه أن يلتزم بجميع أحكام الإسلام الفردية، كالمسلم الذي يعيش في ظل دولة الخلافة، كالمسلم الذي يعيش الآن في لبنان أو في السعودية أو في تركيا أو في إيران أو غيرها من العالم. فإذا وَجد المسلم تضييقاً عليه يمنعه من ممارسة الأحكام الإسلامية الواجبة عليه، وجب عليه أن يهاجر إلى مكان آخر يستطيع أن يؤدي فيه ما أوجبه الله عليه، قال تعالى: {إن الذين توفّاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعَفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيراً إلاّ المستضعَفين من الرجال والنساء والوِلدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً. فأولئك عسى الله أن يعفوا عنهم وكان الله عفواً غفوراً}. والرخصة بموجب هذه الآيات الكريمة هي فقط لمن يعجز عجزاً حقيقياً عن الهجرة.

أما الأحكام التي أنيط تنفيذها بالحاكم، فإنه مفروض على الحاكم أن يلتزم بهذه الأحكام كما نزلت من عند الله، التزاماً صارماً. وهذا الالتزام الصارم بأحكام الشريعة قد وقعت عليه البيعة بين المسلمين والخليفة، إذ يبايعونه ويبايعهم على الحكم بكتاب الله وسنّة رسوله.

وهنا لا بد من الوقوف عند فكرة الحكم فمن المعلوم أن السلطان كامن في الأمة والدولة لا تصبح دولة ذات سيادة إلا إذا كانت قراراتها الداخلية والخارجية بيدها ولا بد أن يكون أمانها الداخلي والخارجي بيدها، وإلا كانت دولة منقوصة السيادة أو كانت دولة على الورق.

وقد اشترط الفقهاء في واقع دار الإسلام بالإضافة لكونها تطبق الإسلام أن يكون أمانها الداخلي والخارجي بأمان المسلمين، وبالتالي فإن الدار لا تصبح دار إسلام إلا إذا وجد الشرطان؛ كونها تطبق الإسلام وأن يكون أمانها بأمان المسلمين، فإن كانت تطبق الإسلام ولكن أمانها بأمان الكفار فإن الدار لا تكون دار إسلام قطعاً.

ثم ها هنا أمر آخر، وهو أن هذا الحاكم لا يصبح حاكماً إلا إذا كان ذا سلطان؛ أي قدرة على الإنفاذ فإن كان غير قادر على ذلك فإنه لا يكون حاكماً.

والحاكم شرعاً والذي يجب على الأمة طاعته هو الحاكم الذي وجدت فيه الشروط الشرعية للإنعقاد، وجاء بالطريقة الشرعية؛ أي البيعة بالرضا والاختيار، ولا بد أن تكون البيعة على تطبيق الإسلام، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وإنما الطاعة في المعروف.

بالتدقيق في كلام من يقول بالتدرُّج في تطبيق الشريعة تجدهم يخلطون بين التدرُّج في التشريع؛ أي أن التشريعات لم تنزل جملة واحدة وإنما نزلت تنجيماً، وهذا الأمر لم يعد له وجود الآن؛ لأن الإسلام نزل واكتمل وانتهى الأمر، وبين التدرُّج في التنفيذ فالتدرُّج في التنفيذ مغاير للتدرذُج في التشريع الذي حصل في بداية الإسلام و الذي لا خلاف فيه، وبالتالي فالإستشهاد بالتدرُّج في التشريع على التدرُّج في التنفيذ هو استدلال باطل؛ لأنهما واقعان مختلفان؛ أي أن مناط كل موضوع مغاير لمناط الموضوع الآخر. فمناط موضوع التدرُّج في التشريع أن هناك وحي ينزل تباعاً لا دفعة واحدة، وممكن هنا أن تنزل أحكام لاحقة تنسخ أحكاماً سابقة وهذا خاص بصاحب الحق في التشريع أي الله سبحانه.

والدليل على حصول هذا الأمر أعني التدرُّج في التشريع؛ أي نزول الأحكام تنجيماً لا جملة واحدة، وأن هناك أحكام لاحقة نسخت أحكاماً سابقة، الدليل على ذلك هو النصوص وتاريخ التشريع الثابت الذي لا يختلف فيه أي مسلم.

muslem
19-09-2012, 11:37 PM
أما واقع التدرُّج في التنفيذ فهو أن يكون هناك حكمٌ نزل وبَلَغَ المكلفين ويُريد المكلفُ أن لا يطبقه دفعة واحدة، وإنما يريد أن يتدرَّج في ذلك، فهذا الواقع مغاير لواقع التدرُّج في التشريع ولا علاقة له به، فهل يجوز ذلك؟

أي هل يجوز للمكلف بعد معرفته للحكم الشرعي وثبوته أن يتدرج في تطبيقه؟

هذا هو مناط الموضوع وهذا هو واقع القول بالتدرُّج في التنفيذ، فهل هناك أدلة شرعية على جواز ذلك؟

وبالتدقيق في أدلتهم لا نجد أي دليل شرعي على ذلك أبداً.

فبالنسبة لقاعدة سقوط التكليف وقاعدة (فأتوا منه ما استطعتم). فمعلوم أن هناك شروطاً عامة للتكليف، وهذه الشروط هي البلوغ والعقل والقدرة. فشرط المكلَّف أن يكون بالغاً عاقلاً قادراً على القيام بما كُلّف به، قال عليه الصلاة والسلام: (رُفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلُغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق)، وقال الله تعالى: {لا يكلَّف الله نفساً إلاّ وُسعَها}، ومعنى (رُفع القلم) رفع التكليف، فهو غير مكلَّف وغير مخاطَب بالأحكام، ومعنى (لا يكلف الله) وإن كان نفياً ولكنه يتضمن معنى النهي، ويؤيده قوله عليه السلام: (إذا أمرتُكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) ومفهومه إذا لم تستطع أن تأتي منه شيئاً فلا تأت به.

هذا من حيث شروط التكليف بالأحكام ابتداءً، أمّا رفعُ الأحكام المكلَّف بها بعد التكليف فليست شروطاً للتكليف ولكنها أعذار مبيحة لترك الحكم الذي كُلف به، وذلك كالمكرَه والمخطئ والناسي، فإنه رفع الحرج عنهم في عدم قيامهم بما كُلفوا به لا أنهم غير مكلَّفين ابتداءً، فلا يكون ذلك شرطاً من شروط التكليف، وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: (رُفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استُكرِهوا عليه). ولاحظ الفرق بين قوله: (رُفع القلم) وقوله: (رُفع عن أمّتي)، فقوله: (رُفع القلم) أي رُفع التكليف فلا يُكلَّف، وقوله: (رُفع عن أمّتي) أي رُفعت المؤاخذة عن أمّته وهو لا يستلزم رفع التكليف. والإكراه المعتبَر شرعاً هو الإكراه الملجئ إلى الفعل بحيث لا يسعه تركه، وإذا لم يكن ملجئاً لا يعتبر، فالإكراه إذا وصل إلى حد الاضطرار فإنه لا شيء عليه، وإن لم ينته الإكراه إلى حد الاضطرار فهو مختار، ولذلك يؤاخذ.

فسقوط التكليف هو سقوط لوجوب الأمر، وهذا لا علاقة له بالتدرُّج أبداً، وإنما يدل على عدم وجوب الأمر على من سقط عنه التكليف، وكل الحالات التي يسقط فيها التكليف لا علاقة لها أبداً بالتدرُّج في التطبيق. فالجنون مثلاً حالة من الحالات التي تسقط التكليف، فما علاقة سقوط التكليف عن المجنون بفكرة التدرُّج؟

وسقوط التكليف بالعجز مثلاً وعدم وجود القدرة هي حالة من الحالات التي يسقط فيها التكليف فما علاقة ذلك بالتدرُّج؟؟

فسقوط التكليف يعني أنه لا وجوب أصلاً على من سقط عنه هذا التكليف فقط وهذا لا علاقة له أبداً بواقع التدرُّج في التطبيق.

فكل المبررات التي يذكرونها ويضعونها تحت عنوان التدرُّج في الشريعة ليست في حقيقتها تدرُّجاً وإن ظهرت بادئ ذي بدء أنها من التدرُّج، ولكنه تطبيق للأحكام بحسب الشروط والأسباب والموانع في مشكلة معينة، وهذا لا يسمى مطلقاً تدرُّجاً، إنما هو من باب الترخُّص والأخذ بالرخصِ أو الإضطرار أو عدم تحقق الشروط أو وجود الموانع التي تجعل الحكم واجب الإنفاذ؛ فمثلاً ما يروونه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه عطَّل حكم قطع يد السارق في عام الرمادة والإستشهاد بذلك على تعطيل إنفاذ الأحكام وبالتالي التدرُّج فإن هذا الكلام مردود على قائله. ذلك أنه معلوم أن إقامة الحدود لها شروط معينة لا بد من تحققها حتى يطبق الحد، وعدم وجود هذه الشروط لا يعني أن الحد قد عطل بل يعني أن الشروط لم تتوفر، وبالتالى فإن الحدَّ من ناحية شرعية لا يجوز إقامته؛ لأن شروطه لم تتوفر، وهذا لا علاقة له بالتدرُّج، ولا يسمى تعطيلاً للحد. فلو أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه طبق الحد على السارقين في عام الرمادة لكان مخالفاً الشرع في ذلك، لما روي عن مكحول رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا قطع في مجاعة مضطر). وذكر الحسن عن رجل قال: (رأيت رجلين مكتوفين ولحماً فذهبت معهم إلى عمر رضي الله عنه، فقال صاحب اللحم: كانت لنا ناقة عشراء، ننتظرها كما ننتظر الربيع، فوجدت هذين قد اجتزراها، فقال عمر رضي الله عنه: هل يرضيك من ناقتك ناقتان عشراوان مربعتان، فإنا لا نقطع في العذق، ولا في عام السنة) فهذا ما حدث مع عمر رضي الله وهذا لا يسمى تعطيلاً للحد وإنما تطبيق لأحكام الشرع في التحقق من وجود الشروط وانتفاء الموانع في تطبيق الحد، والحالة التي كان عليها المسلمون في عام الرمادة أنها شبهة تدرأ الحد، وهذا حكم دائم لا يتغير ولا يتبدل ولا ينطبق على موضوع التدرُّج ولا بوجه من الوجوه.

وهذا ما ينطبق تماماً على القاعدتين أعني قاعدة ارتكاب أخف الضررين، وقاعدة تقديم الأرجح عند التعارض بين المصالح والمفاسد، فهي أحكام ثابتة عند وجود التعارض في الناحية العملية وهذا لا علاقة له أبداً بالتدرُّج.

والذين يقولون بالتدرُّج يقولون بأن الله حرَّم الخمرة بالتدرُّج، ويستدلون بذلك على جواز التطبيق بالتدريج. وبغض النظر عن كيفية تحريم الخمرة فإنها صارت حراماً وستبقى حراماً إلى يوم القيامة، ولا يجوز لأحد أن يستبيحها، ولا يجوز للحاكم أن يُسقط الحد عن شاربها لا تدريجياً ولا غير تدريج، إلاّ في حالة الرخصة الشرعية من الإكراه أو التداوي أو من قوله تعالى: {فمن اضطُر في مخمَصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم}. على أن الحقيقة أن الخمرة حُرمت في السنة الثامنة من الهجرة، يقول تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إنّما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه} الآية. وقبل ذلك لم تكن محرّمة رغم نزول آية {فيهما إثم كبير ومنافع للناس}، ورغم نزول أية {ولا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى}، فقد بقي المسلمون يشربونها حتى نزول آية سورة المائدة المذكورة.

والذين يقولون بالتدرُّج يستدلون بأنهم مضطرون لذلك لأن الظروف صعبة. ونقول لهم: هناك فرق بين الاضطرار والظروف الصعبة، إذ قد وردت رخصة في حالة الاضطرار وفي حالة الإكراه، ولم تَرِد رخصة في حالة الظروف الصعبة. أمّا الاضطرار فقد وضع الأئمة قاعدة (الاضطراريات ترفع الإثم عن المحظورات)، وهذه القاعدة مأخوذة من الآيات التي تحدثت عن المطعومات، مثل قوله تعالى: {فمن اضطُر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم}، أو قوله تعالى: {فمن اضطُر غير باغ ولا عادٍ فلا إثم عليه}. وقد وردت كثير من الآيات في القرآن بهذا المعنى وكلها جاءت بعد ذِكر تحريم المَيْتة والدم ولحم الخنزير وما أُهِلّ به لغير الله. فهذه القاعدة لا بد من تقييدها بالمطعومات، ومن الخطأ إطلاقها في كل شيء.

أمّا الاضطرار بمعنى الإكراه فإن واقعه مختلف وله أدلة أخرى. أمّا واقعه فهو واقع الإكراه المُلجِئ، أي أن يقع المكرَه في وضع من التعذيب أو التهديد يتوقع فيه أن يهلك أو يصاب بأذى بليغ كشلل دائم أو فقدان يد أو رِجل أو إطفاء البصر أو إذهاب السمع. وهذا الإكراه يشكل رخصة كما حصل مع عمار بن ياسر رضي الله عنه ونزل في حقه قوله تعالى: {إلاّ من أُكره وقلبه مطمئن بالإيمان}، وكما ورد في الحديث: (رُفع عن أمّتي الخطأ والنسيان وما استُكرِهوا عليه). ومن هذا القبيل ما هَمّ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عقد اتفاق مع بعض القبائل في غزوة الأحزاب ليرجعوا عن المدينة مقابل إعطائهم من ثمارها.

أمّا الظروف الصعبة فإنها لا تشكل رخصة شرعية لا للحاكم ولا للأفراد لأن يرتكبوا الحرام لا في تدريج ولا في غير تدريج. الظروف الصعبة دواؤها الصبر. قال تعالى يمتدح المؤمنين: {والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس}، وقال: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولَمّا يأتكم مَثَل الذين خلوا من قبلكم مسّتهم البأساء والضرّاء وزُلزِلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب}، وجاء في الحديث الصحيح عن خباب بن الأرت قال: قلنا يا رسول الله ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو الله لنا؟ فقال: (إنّ مَن كان قبلكم كان أحدهم يوضع المنشار على مِفرق رأسه فيَخلُص إلى قدميه لا يصرفه ذلك عن دينه، مُشّط بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه لا يصرفه ذلك عن دينه). ومع أن الرخصة حاصلة في الحالات التي ذكرها الحديث، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم فضّل الصبر والأخذ بالعزيمة.

أما ما رووه عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله حتى لو ثبت جدلاً أنه صحيح فلا قيمة له أبداً من ناحيتين: الأولى من ناحية أن فعله وفهمه لا يعتبر دليلاً شرعياً بالاتفاق، فأفعاله وأقواله ليست حجة أبداً، الناحية الثانية أنه لم يثبت عنه أنه تدرج في تطبق أحكام الإسلام على الرعية لا في القضاء ولا في الاقتصاد ولا في غير ذلك، فلم يثبت أنه أجل تطبيق الحد بعد ثبوت شروط وانتفاع موانع التطبيق، ولم يثبت أنه أجَّل تطبيق أحكام الزكاة أو أقر التعامل بالربا...إلخ كل ما ورد هو متعلق بإخضاع وإضعاف نفوذ بني أمية بل إن الثابت أنه رد مظالم بني أمية للناس ونزع منهم الأموال التي هي حق للمسلمين.

على كل حال يبقى كلامه وأفعاله وأقواله أعني عمر بن عبد العزيز رحمه الله لا حجة فيها إنما الحجة فيما أنزل الله سبحانه.

فهل ثبت عن الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه كان يتدرج في تطبيق الأحكام بعد نزولها وثبوت وجوبها؟.

فهل أجَّل وتدرَّج في تحويل القبلة مثلاً بعد نزول الحكم بالتوجه لمكة؟

وهل أجَّل وتدرَّج في تطبيق حكم تحريم الخمر بعد نزول تحريمه؟

لا لم يفعل ذلك أبداً، فوجوب الامتثال عند ثبوت التشريع أمر لا خلاف فيه بين علماء المسلمين، قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا}.

وهذا نص في هذا الموضوع ويدل على وجوب الإمتثال قطعاً دون أي تأخير، بل إن الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان يرفض رفضاً باتاً أي تنازل عن حكم واحد من الأحكام فرفض ممن جاء ليؤمن أن يعفيه من بعض الأحكام، كما أخرج أحمد في مسنده وغيره: عن أبى المثنى العبدي قال سمعت السدوسي يعنى بن الخصاصية قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم لأبايعه قال فاشترط على شهادة أن لا إله الا الله وأن محمداً عبده ورسوله وأن أقيم الصلاة وأن أؤدي الزكاة وأن أحج حجة الإسلام وان أصوم شهر رمضان وأن أجاهد في سبيل الله فقلت يا رسول الله أما اثنتان فوالله ما أطيقهما الجهاد والصدقة فإنهم زعموا انه من ولى الدبر فقد باء بغضب من الله فأخاف ان حضرت تلك جشعت نفسي وكرهت الموت والصدقة فوالله مالي الا غنيمة وعشر ذودهن رسل أهلي وحمولتهم قال فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم يده ثم حرك يده ثم قال فلا جهاد ولا صدقة فلم تدخل الجنة إذا قال قلت يا رسول الله أنا أبايعك قال فبايعت عليهن كلهن.

وثبت أن الرسول لم يرضَ من أهل الطائف إلا هدم طواغيتهم وبنى مسجداً بدلاً منها ولم يقبل التأجيل.
فالواقع أن التطبيق الفوري الإنقلابي ممكن وهو أسهل من التدرُّج لأن تطبيق الإسلام هو الذي يعالج مشاكل الإنسان علاجاً صادقاً لا غيره، وتطبيق أحكام الإسلام على غير المسلمين من الناس يعتبر من الطريقة العملية للدعوة، فقد كان لهذا التطبيق الأثرُ الأكبر في إيجاد هذا العالم الإسلامي المترامي الأطراف.

muslem
19-09-2012, 11:38 PM
قال تعالى: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون}

فقد أوجب على الدولة أن تخضع غير المسلمين لسلطان الإسلام ولا بد أن تنفذ عليهم أحكام الله بحسب التفصيل الذي جاء به الشرع.

وعليه فالشرع الإسلامي يحرِّم التدرُّج ويفرض التطبيق الفوري، فالآيات الكريمة {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون- الفاسقون- الظالمون} قطعية الدلالة في إيجاب الحكم بما أنزل الله وتحريم الحكم بغيره. وهذا يشمل كل جزئية يحكم فيها الحاكم أو القاضي. ولا يُعذر في ذلك إلاّ إذا كان مكرَهاً بحسب التعريف الشرعي للإكراه، وليس بحسب المزاج.

هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الرسول عليه وآله السلام ذكر أمام أصحابه أنه سيكون خلفاء تظهر في أيامهم المعاصي، فقالوا: أفلا ننابذهم بالسيف؟ قال: {لا، إلاّ أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان}، أي أن المسلمين إذا رأوا بعض أحكام الكفر، ولو حكماً واحداً، صارت تمارَس علناً أمام سمع الحاكم وبصره، وأمام سمع الناس وبصرهم، فيجب عليهم أن يأطُروا الحاكم على الحق أطراً كي يقمع أحكام الكفر، وإن لم يفعل كان عليهم أن يغيّروه _أي يغيروا الحاكم_ فإن امتنع كان عليهم أن يناجزوه بالسيف أي يثوروا عليه بالسلاح، وإن كانوا مقهورين وعاجزين فعليهم أن يتهيأوا ويعدّوا ما يلزم ليقوموا بما أوجبه الله عليهم. وليس وارداً أن يتعايش المسلمون وأنظمة الكفر ويكيّفوا أنفسهم معها.

ولا بد من ملاحظة هنا، وهو أنه ليس كل من عمل بنظام كفر يكون كافراً، فنظام الربا هو من أنظمة الكفر ولا شك، فالمسلم الذي يتعامل بالربا لا يكون قد كفر وخرج من الملّة بل يكون قد اقترف معصية. أمّا الذي يتعامل بالربا ويستحل هذا التعامل فإنه يكفر ويخرج من الملّة لأنه لم يقترف معصية فقط بل استحل ما حرّم الله.

وبناءً على ما تقدم فإنه يتضح بشكل قطعي، لا لبس فيه، أنه يجب على المسلمين جميعاً، أفراداً، وجماعات، ودولة، أن يطبقوا أحكام الإسلام كاملة، كما طلب الله سبحانه وتعالى تطبيقها، دون تأخير، أو تسويف، أو تدريج، وأنه لا عذر لفرد، أو جماعة، أو دولة في عدم التطبيق.

والتطبيق يجب أن يكون كاملاً وشاملاً، ودفعة واحدة، وليس بالتدريج. والتطبيق بالتدريج يتناقض مع أحكام الإسلام كل المناقضة، ويجعل المطبِّق لبعض الأحكام، والتارك لبعضها آثماً عند الله، فرداً كان أو جماعة أو دولة.

فالواجب واجب، ويبقى واجباً، ويجب أن يقام به، والحرام حرام، ويبقى حراماً، ويجب الابتعاد عنه، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يقبل من وفد ثقيف عندما وفد عليه أن يَدَع لهم صنمهم اللات ثلاث سنين، وأن يعفيهم من الصلاة على أن يدخلوا الإسلام، فلم يقبل منهم ذلك، وأبى عليهم كل الإباء، وأصر على هدم الصنم دون تأخير، وعلى الالتزام بالصلاة دون تأخير.

وقد جعل الله الحاكم الذي لا يطبق جميع أحكام الإسلام، أو يطبق بعضها ويترك بعضها الآخر، كافراً إن كان لا يعتقد بصلاحية الإسلام، أو لا يعتقد بصلاحية بعض الأحكام التي ترك تطبيقها، وجعله ظالماً وفاسقاً إن كان لا يطبق جميع أحكام الإسلام، أو لا يطبق بعضها، لكنه يعتقد بصلاحية الإسلام للتطبيق.

والرسول صلى الله عليه وسلم أوجب قتال الحاكم، وإشهار السيف في وجهه إذا أظهر الكفر البواح، الذي عندنا فيه من الله برهان، أي إذا حكم بأحكام الكفر، التي لا شبهة أنها أحكام كفر، كثيرة كانت هذه الأحكام أم قليلة، كما ورد في حديث عبادة بن الصامت، حيث جاء فيه (... وأن لا ننازع الأمر أهله، إلاّ أن تروا كفراً بواحاً، عندكم من الله فيه برهان).

فلا تساهل في تطبيق أحكام الشرع، ولا تدريج في تطبيق أحكام الإسلام، إذ لا فرق بين واجب وواجب، ولا بين حرام وحرام، ولا بين حكم وحكم آخر، فأحكام الله جميعاً سواء، يجب أن تطبق وأن تنفذ دون تأخير أو تسويف أو تدريج، وإلاّ انطبق علينا قول الله تعالى: (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلاّ خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب).

لذلك لا عذر لأية دولة قائمة في العالم الإسلامي في عدم تطبيق الإسلام بحجة عدم القدرة على تطبيقه، أو بعدم ملاءمة الظروف لتطبيقه، أو لأن الرأي العام العالمي لا يقبل بتطبيقه، أو أن الدول الكبرى في العالم لا تترك لنا مجالاً لتطبيقه، أو غير ذلك من الذرائع والحجج الواهية التي لا قيمة لها. بل الواجب على كل المسلمين العمل على إيجاد من ينفذ شرع الله عليهم، ويطبقه في حياتهم ويحمله إلى الخارج لإنقاذ العالم من هذا الضلال الذي يتردى فيه.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

حزب التحرير

ولاية الأردن

25/شوال/1433هـ

12/9/2012

التدرُّج في تطبيق الشريعة وموقف الإسلام منه - نص محاضرة ألقيت في الأردن
http://arabic.hizbuttahrir.org/index.php/component/content/article/17-featured/354-2012-09-16-19-41-22