الفاروق
03-09-2012, 04:39 AM
(2) .
كثير من الفرق القديمة والحديثة لا تنتبه لهذا القيد المذكور في هذه الآية، وفي هذا الحديث = حديث الفرق الضَّالة، حيث جعل من علامة الفرقة النَّاجية أنَّها تكون على ما كان عليه الرسول صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وأصحابه، وقريب من هذا الحديث حديث العرباض بن سارية - وهو من أصحاب النَّبي ومن أهل الصُّفة، الذين كانوا فقراء يلزمون المسجد، ويلزمون حلقات الرسول عليه السَّلام، من أجل تلقي العلم من كتاب الله، ومن فم رسول الله غضًّا طريًّا - قال العرباض هذا: «وعظنا رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم موعظة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا: كأنَّها موعظة مودع فأوصنا يا رسول الله؛ قال: «أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن ولِّي عليكم عبد حبشي، وإنَّه من يَعِيشْ منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي، وسُنَّة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار» (3) ، الشاهد من هذا الحديث أنَّ النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم لم يقتصر في حض المسلمين حين يختلفون على سنته، بل أجاب بأسلوبه الحكيم، ومن أحكم منه بعد أحكم الحاكمين؟ لذلك حينما قال: «وإنَّه من يَعِيشْ منكم فسيرى اختلافاً كثيراً» أجاب عن سؤال مفروض، هو: ما نفعل يا رسول الله؟ فقال: «عليكم بسنتي»، لم يكتف عليه السَّلام بأمر الذين يعيشون في وقت الاختلاف بقوله: «عليكم بسنتي»، وإنَّما عطف على ذلك فقال: «وسنة الخلفاء الراشدين» إذاً ليضم المسلم الناصح لنفسه في عقيدته بأنَّه لا بدَّ من الرجوع إلى سبيل المؤمنين، بالإضافة إلى الكتاب والسُّنَّة الصَّحيحة، بدلالة الآية، وحديث الفرق، وحديث العرباض بن سارية.
هذه حقيقة مع الأسف الشديد يغفل عنها كل الأحزاب الإسلاميَّة المعاصرة، كشأن من سبقها من الفرق الضَّالة، وبخاصة منها حزب التحرير، الَّذي يتميز عن أي حزب إسلامي آخر أنَّه يقيم للعقل البشري وزناً أكثر ممَّا أقامه الإسلام له، نحن نعلم يقيناً أن الله عزَّ وجلَّ حينما يكلم النَّاس بكلامه، إنَّما يخاطب العقلاء، ويخاطب العلماء، ويخاطب الذين يتفكرون، ولكننا نعلم أن العقل البشري مختلف؛ فالعقل عقلان: عقل مسلم، وعقل كافر، هذا العقل الكافر ليس عقلاً، قد يكون فيه ذكاء، ولكنَّه لا يكون عقلاً، لأنَّ العقل في أصل اللغة العربية هو الَّذي يعقل صاحبه، ويربطه، ويقيده من أن ينفلت يميناً وشمالاً، ولا يمكن للعاقل أن لا ينفلت يميناً وشمالاً إلَّا إذا اتبع كتاب الله، وسُنَّة رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، وتقيد بفهم السلف، ولذلك حكى الله عزَّ وجلَّ عن الكفار والمشركين اعترافهم يوم القيامة بأنَّهم لا يعقلون، قال تعالى: ﴿وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾ [الملك: 10] يعترفون بأنَّهم حينما كانوا في الحياة الدنيا لم يكونوا عقلاء، مع أن منهم أذكياء يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا، كما ذكر الله ذلك في كتابه العزيز حيث قال: ﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُون﴾ [الروم: 7] إذاً هناك عقلان: عقل حقيقي، وعقل مجازي، فالعقل الحقيقي هو عقل المسلم الَّذي آمن بالله ورسوله، والعقل المجازي هو عقل الكفار الذين قالوا: ﴿لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ الْسَّعِير﴾ وقال ربنا بصفة عامة عن الكفار: ﴿لَهُم قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا﴾ [الأعراف: 179]؛ فالكفار لهم قلوب، ولكنَّهم لا يفقهون بها، أي: لا يفهمون الحق بها.
فإذا عرفنا الحقيقة، وما أظن أنَّه يختلف فيها اثنان، وينتطح فيها عنزان؛ لأنَّها صريحة في القرآن، وفي أحاديث الرسول عليه السَّلام، لكني أريد أن أتوصل من هذه الحقيقة إلى حقيقة أخرى؛ هي نقطة البحث في هذه الشواهد والأدلة: إذا كان عقل الكفار ليس عقلاً، فعقل المسلم أيضاً ينقسم إلى قسمين: عقل عالم، وعقل جاهل، فعقل المسلم الجاهل لا يمكن أن يكون مساوياً في فهمه لعقل المسلم العالم أبداً، لذلك قال الله تعالى: ﴿وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ﴾ [العنكبوت: 43] وقال أيضاً: ﴿فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 43] إذاً لا يجوز للمسلم المؤمن بالله ورسوله حقاً أن يحكِّمَ عقله، وإنَّما يخضع عقله لما قال الله وقال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، من هنا نضع نقطة في دعوة حزب التحرير أنَّهم تأثروا بالمعتزلة في منطلقهم في طريق الإيمان، وطريق الإيمان هو عنوان بحث لهم في كتاب نظام الإسلام، الَّذي ألفه رئيسهم تقي الدِّين النبهاني رحمه الله تعالى، وقد التقيت به أكثر من مرة، وأنا عارف به تماماً، وعارف بما عليه حزب التحرير أحسن ما تكون عليه المعرفة، ولذلك أنا أتكلم إن شاء الله عن علم لما تقوم عليه دعوتهم، فهذه أول نقطة تؤخذ عليهم؛ أنَّهم جعلوا للعقل مزية أكثر ممَّا ينبغي، - وسأكرر هنا -: أنني لا أنفي مكانة العقل في الإسلام، ولكنَّ أقرر أنَّه ليس للعقل أن يحكم على الكتاب والسُّنَّة، وإنَّما عليه أن يخضع لحكم الكتاب والسُّنَّة، وأخبارهما، وما عليه إلَّا أن يفهم ما جاء في الكتاب والسُّنَّة؛ من هنا انحرف المعتزلة قديماً، فأنكروا حقائق شرعيَّة كبيرة وكثيرة جداً، بسبب أنَّهم سلطوا عقولهم على نصوص الكتاب والسُّنَّة، فحرَّفوها، وبدَّلوا فيها، وغيَّروا، وبتعبير علماء السَّلف: عطَّلوا نصوص الكتاب والسُّنَّة، هذه نقطة أريد أن ألفت نظر القارئ إليها؛ وهي: أنَّه ينبغي إخضاع العقل المسلم لنصوص الكتاب والسُّنَّة وفهمهما، فالحاكم هو الله ورسوله، وليس الحاكم هو عقل البشر، لما ذكرنا بأنَّ عقل البشر يختلف من عقل مسلم وعقل كافر، ثمَّ إنَّه يختلف أيضاً ما بين عقل مسلم عالم، وعقل مسلم جاهل، لذلك قال تعالى - ولا بأس من تكرار الدليل؛ لأنَّ هذا الموضوع قليلاً ما يطرق أسماع الكثير من الملايين المُمَلْيَنة من المسلمين، من الرِّجال فضلاً عن المخدَّرات من النساء، ولذلك فأنا مضطر إلى تكرير هذه النقاط، وهذه الأدلة، ومنها قوله تعالى -: ﴿وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُون﴾ وهنا نقف قليلاً؛ من هم العالمون؟ أهم العلماء الكفار؟ كلا؛ فنحن لا نقيم لهم وزناً؛ لأنَّهم ليسوا عقلاء، إنَّما حقيقة أمرهم أنَّهم أذكياء؛ لأنَّهم اخترعوا، وابتدعوا، وارتقوا في الحضارة المادية المعروفة لدى الجميع، كذلك العقل عند المسلمين؛ فهذا العقل ليسوا فيه سواء، فلا يستوي عقل العالم مع عقل الجاهل، وسأقول شيئاً آخر هو: أنَّه لا يستوي عقل العالم العامل بعلمه، مع عقل العالم غير العامل بعلمه، لا يستوون مثلاً، لذلك انحرفت المعتزلة في كثير من الأصول الَّتي وضعوها، مخالفين فيها طريق الشرع كتاباً وسُنةً، ومنهج السَّلف الصَّالح، وهذه هي النقطة الأولى؛ وهي اعتماد حزب التحرير على العقل أكثر ممَّا ينبغي.
النقطة الثانية، وهي تتفرع في ظنِّي من النقطة الأولى:
لقد قسَّموا نصوص الكتاب والسُّنَّة إلى قسمين؛ من حيث روايتها، ومن حيث دلالتها.
أمَّا من حيث روايتها، فقالوا: الرواية قد تكون قطعية الثبوت، وقد تكون ظنية الثبوت.
أمَّا الدَّلالة؛ فهي كذلك: قد تكون قطعية الدَّلالة، وقد تكون ظنية الدَّلالة.
لا نناقش في هذا الاصطلاح، فإنَّ الأمر كما قيل: لا مشاحة في الاصطلاح، لكننا نناقش فيما إذا ما رتبوا على هذا الاصطلاح مفارقات تخالف ما كان عليه المسلمون الأولون، ومن هنا يظهر للجميع أهمية سبيل المؤمنين، لأنَّها قيد يمنع من أن ينفلت العالم المسلم - فضلاً عن الجاهل المسلم - من نص الكتاب والسُّنَّة، برجوعه لمثل هذا الاصطلاح الَّذي لا يجوز أن يكون له الثمرة التالية، وهي: أنَّهم قد رتبوا على ذلك الاصطلاح ما يلي:
فقالوا: إذا جاء النص في القرآن الكريم - وهو بلا شك في الاصطلاح السابق ذكره قطعي الثبوت -، وإذا جاء النص قطعي الثبوت ظنِّي الدَّلالة، فلا يجب على المسلم أن يأخذ بما فيه من المعنى؛ لأنَّه ظنِّي الدَّلالة، فلا يجوز له أن يبني عقيدته على نص قطعي الثبوت، ولكنَّه ظنِّي الدَّلالة وكذلك العكس عندهم تماماً، إذا جاء الدليل قطعي الدَّلالة، لكن ليس قطعي الثبوت - كما هو شأن الغالبيَّة العظمى من الأحاديث - فإنَّهم لا يأخذون منه عقيدة، ومن هنا جاؤوا بعقيدة لا يعرفها السَّلف الصَّالح، ووضعوا اصطلاحاً لهم، وكتبهم الَّتي سطروا فيها هذا معروفة، وأعني بكتبهم القديمة؛ لأنَّهم قد أجروا فيها تعديلاً، وأنا من أعرف النَّاس بهذا التعديل، لكنَّه في الواقع تعديل شكلي، وهو لو سلمنا به؛ فإنَّما يدلّ أنَّ القوم كانوا حتَّى في عقيدتهم مضطربين، حيث قالوا: إن العقيدة لا تثبت إلَّا بدليل قطعي الثبوت، قطعي الدَّلالة، وهي أن الحديث الصحيح رواية، والقطعي دلالة، لا يؤخذ منه عقيدة!
فقلنا لهم فيما ناقشناهم وجادلناهم: هذه العقيدة من أين جئتم بها؟ وما الدليل على أنَّه لا يجوز للمسلم أن يبني عقيدته على حديث صحيح لم يصل إلى درجة التواتر، ولا على نص متواتر ولكنَّه ليس قطعي الدَّلالة من أين جئتم بهذا؟
فاضطربوا بالجواب، والبحث هنا طويل وطويل جداً، واستدلوا بمثل قوله تعالى: ﴿إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ﴾ [النجم: 23]، ﴿إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً﴾ [يونس: 36] وهذا البحث يخرجنا عما نحن بصدده من بيان ما نعرفه عن حزب التحرير؛ لأنَّ مناقشة هذه القاعدة وبيان ما عليها من اعتراضات، وأنَّها أقيمت على دليل كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء (4) ، ولذلك نكتفي بما بيناه حول قاعدتهم الضَّالة، والَّتي تقول: ليس للمسلم أن يبني عقيدته على حديث صحيح، ليس قطعي الثبوت، لكنَّه قطعي الدَّلالة!! فمن أين لهم هذا؟ لا دليل عليه من الكتاب والسُّنَّة، وما كان عليه السَّلف، بل ما كان عليه السلف ينقض هذا، وهذه الفكرة تبناها بعض الخلف - وهم المعتزلة قديماً، وأتباعهم المعاصرون في العقيدة على الأقل، وهم: (حزب التحرير) - أقول: كلنا يعلم أن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم حينما أرسله الله عزَّ وجلَّ بشيراً ونذيراً، وقال له: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾ [المائدة: 67] كان تبليغه عليه الصَّلاة والسَّلام رسالته إلى النَّاس تارة بشخصه؛ حينما كان يحضر ندواتهم، ومجتمعاتهم، فيخاطبهم مباشرة، وتارة يرسل رسولاً من طرفه، يدعو المشركين إلى اتباع دعوة النبي الكريم، وتارة يرسل خطاباً - كما هو معلوم من السيرة - إلى هرقل ملك الروم، وإلى كسرى ملك فارس، وإلى المقوقس، وإلى أمراء العرب، كما هو مشروح في كتب السيرة، ومن ذلك أنَّه أرسل إلى اليمن معاذ بن جبل، وأبا موسى الأشعري، وعلي بن أبي طالب، وأرسل إلى الروم دحية الكلبي، وهؤلاء أفراد لا يمثل خبرهم الخبر القطعي؛ لأنَّهم أفراد، فمعاذ في مكان، وأبو موسى في مكان، وعليٌّ في مكان، وقد يختلف أيضاً الزمان، وهناك حديث في «الصَّحيحين»، أخرجاه بسند صحيح، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أنَّ النَّبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم لما أرسل معاذاً إلى اليمن، قال له: «ليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلَّا الله» الحديث، فمن يشك من المسلمين أن هذه الشهادة هي الأصل الأول من الإسلام؟ أي: هي العقيدة الأولى الَّتي يبنى عليها الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله؟ فقد ذهب معاذ - رضي الله عنه - وحده مبلغاً، وداعياً المشركين أن يؤمنوا بدين الإسلام، ترى هل قامت الحجة بمعاذ بن جبل حينما دعا المشركين إلى الإسلام، وأمرهم أن يقيموا خمس صلوات في اليوم والليلة، وأنَّها ركعتان وأربع وثلاث، إلى آخر ما هناك من تفصيلات معلومة لدينا، والحمد لله، ويأمرهم بالزكاة، وإلى آخر تفاصيل الزكاة؛ فيما يتعلق بالذهب والفضة، وفيما يتعلق بالثمار، والبقر، والجمال، وإلى آخره... والسؤال الآن: هل قامت حجة الإسلام على أولئك المشركين بإرسال النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم معاذاً وحده؟
يتبع
كثير من الفرق القديمة والحديثة لا تنتبه لهذا القيد المذكور في هذه الآية، وفي هذا الحديث = حديث الفرق الضَّالة، حيث جعل من علامة الفرقة النَّاجية أنَّها تكون على ما كان عليه الرسول صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وأصحابه، وقريب من هذا الحديث حديث العرباض بن سارية - وهو من أصحاب النَّبي ومن أهل الصُّفة، الذين كانوا فقراء يلزمون المسجد، ويلزمون حلقات الرسول عليه السَّلام، من أجل تلقي العلم من كتاب الله، ومن فم رسول الله غضًّا طريًّا - قال العرباض هذا: «وعظنا رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم موعظة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا: كأنَّها موعظة مودع فأوصنا يا رسول الله؛ قال: «أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن ولِّي عليكم عبد حبشي، وإنَّه من يَعِيشْ منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي، وسُنَّة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار» (3) ، الشاهد من هذا الحديث أنَّ النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم لم يقتصر في حض المسلمين حين يختلفون على سنته، بل أجاب بأسلوبه الحكيم، ومن أحكم منه بعد أحكم الحاكمين؟ لذلك حينما قال: «وإنَّه من يَعِيشْ منكم فسيرى اختلافاً كثيراً» أجاب عن سؤال مفروض، هو: ما نفعل يا رسول الله؟ فقال: «عليكم بسنتي»، لم يكتف عليه السَّلام بأمر الذين يعيشون في وقت الاختلاف بقوله: «عليكم بسنتي»، وإنَّما عطف على ذلك فقال: «وسنة الخلفاء الراشدين» إذاً ليضم المسلم الناصح لنفسه في عقيدته بأنَّه لا بدَّ من الرجوع إلى سبيل المؤمنين، بالإضافة إلى الكتاب والسُّنَّة الصَّحيحة، بدلالة الآية، وحديث الفرق، وحديث العرباض بن سارية.
هذه حقيقة مع الأسف الشديد يغفل عنها كل الأحزاب الإسلاميَّة المعاصرة، كشأن من سبقها من الفرق الضَّالة، وبخاصة منها حزب التحرير، الَّذي يتميز عن أي حزب إسلامي آخر أنَّه يقيم للعقل البشري وزناً أكثر ممَّا أقامه الإسلام له، نحن نعلم يقيناً أن الله عزَّ وجلَّ حينما يكلم النَّاس بكلامه، إنَّما يخاطب العقلاء، ويخاطب العلماء، ويخاطب الذين يتفكرون، ولكننا نعلم أن العقل البشري مختلف؛ فالعقل عقلان: عقل مسلم، وعقل كافر، هذا العقل الكافر ليس عقلاً، قد يكون فيه ذكاء، ولكنَّه لا يكون عقلاً، لأنَّ العقل في أصل اللغة العربية هو الَّذي يعقل صاحبه، ويربطه، ويقيده من أن ينفلت يميناً وشمالاً، ولا يمكن للعاقل أن لا ينفلت يميناً وشمالاً إلَّا إذا اتبع كتاب الله، وسُنَّة رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، وتقيد بفهم السلف، ولذلك حكى الله عزَّ وجلَّ عن الكفار والمشركين اعترافهم يوم القيامة بأنَّهم لا يعقلون، قال تعالى: ﴿وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾ [الملك: 10] يعترفون بأنَّهم حينما كانوا في الحياة الدنيا لم يكونوا عقلاء، مع أن منهم أذكياء يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا، كما ذكر الله ذلك في كتابه العزيز حيث قال: ﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُون﴾ [الروم: 7] إذاً هناك عقلان: عقل حقيقي، وعقل مجازي، فالعقل الحقيقي هو عقل المسلم الَّذي آمن بالله ورسوله، والعقل المجازي هو عقل الكفار الذين قالوا: ﴿لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ الْسَّعِير﴾ وقال ربنا بصفة عامة عن الكفار: ﴿لَهُم قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا﴾ [الأعراف: 179]؛ فالكفار لهم قلوب، ولكنَّهم لا يفقهون بها، أي: لا يفهمون الحق بها.
فإذا عرفنا الحقيقة، وما أظن أنَّه يختلف فيها اثنان، وينتطح فيها عنزان؛ لأنَّها صريحة في القرآن، وفي أحاديث الرسول عليه السَّلام، لكني أريد أن أتوصل من هذه الحقيقة إلى حقيقة أخرى؛ هي نقطة البحث في هذه الشواهد والأدلة: إذا كان عقل الكفار ليس عقلاً، فعقل المسلم أيضاً ينقسم إلى قسمين: عقل عالم، وعقل جاهل، فعقل المسلم الجاهل لا يمكن أن يكون مساوياً في فهمه لعقل المسلم العالم أبداً، لذلك قال الله تعالى: ﴿وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ﴾ [العنكبوت: 43] وقال أيضاً: ﴿فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 43] إذاً لا يجوز للمسلم المؤمن بالله ورسوله حقاً أن يحكِّمَ عقله، وإنَّما يخضع عقله لما قال الله وقال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، من هنا نضع نقطة في دعوة حزب التحرير أنَّهم تأثروا بالمعتزلة في منطلقهم في طريق الإيمان، وطريق الإيمان هو عنوان بحث لهم في كتاب نظام الإسلام، الَّذي ألفه رئيسهم تقي الدِّين النبهاني رحمه الله تعالى، وقد التقيت به أكثر من مرة، وأنا عارف به تماماً، وعارف بما عليه حزب التحرير أحسن ما تكون عليه المعرفة، ولذلك أنا أتكلم إن شاء الله عن علم لما تقوم عليه دعوتهم، فهذه أول نقطة تؤخذ عليهم؛ أنَّهم جعلوا للعقل مزية أكثر ممَّا ينبغي، - وسأكرر هنا -: أنني لا أنفي مكانة العقل في الإسلام، ولكنَّ أقرر أنَّه ليس للعقل أن يحكم على الكتاب والسُّنَّة، وإنَّما عليه أن يخضع لحكم الكتاب والسُّنَّة، وأخبارهما، وما عليه إلَّا أن يفهم ما جاء في الكتاب والسُّنَّة؛ من هنا انحرف المعتزلة قديماً، فأنكروا حقائق شرعيَّة كبيرة وكثيرة جداً، بسبب أنَّهم سلطوا عقولهم على نصوص الكتاب والسُّنَّة، فحرَّفوها، وبدَّلوا فيها، وغيَّروا، وبتعبير علماء السَّلف: عطَّلوا نصوص الكتاب والسُّنَّة، هذه نقطة أريد أن ألفت نظر القارئ إليها؛ وهي: أنَّه ينبغي إخضاع العقل المسلم لنصوص الكتاب والسُّنَّة وفهمهما، فالحاكم هو الله ورسوله، وليس الحاكم هو عقل البشر، لما ذكرنا بأنَّ عقل البشر يختلف من عقل مسلم وعقل كافر، ثمَّ إنَّه يختلف أيضاً ما بين عقل مسلم عالم، وعقل مسلم جاهل، لذلك قال تعالى - ولا بأس من تكرار الدليل؛ لأنَّ هذا الموضوع قليلاً ما يطرق أسماع الكثير من الملايين المُمَلْيَنة من المسلمين، من الرِّجال فضلاً عن المخدَّرات من النساء، ولذلك فأنا مضطر إلى تكرير هذه النقاط، وهذه الأدلة، ومنها قوله تعالى -: ﴿وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُون﴾ وهنا نقف قليلاً؛ من هم العالمون؟ أهم العلماء الكفار؟ كلا؛ فنحن لا نقيم لهم وزناً؛ لأنَّهم ليسوا عقلاء، إنَّما حقيقة أمرهم أنَّهم أذكياء؛ لأنَّهم اخترعوا، وابتدعوا، وارتقوا في الحضارة المادية المعروفة لدى الجميع، كذلك العقل عند المسلمين؛ فهذا العقل ليسوا فيه سواء، فلا يستوي عقل العالم مع عقل الجاهل، وسأقول شيئاً آخر هو: أنَّه لا يستوي عقل العالم العامل بعلمه، مع عقل العالم غير العامل بعلمه، لا يستوون مثلاً، لذلك انحرفت المعتزلة في كثير من الأصول الَّتي وضعوها، مخالفين فيها طريق الشرع كتاباً وسُنةً، ومنهج السَّلف الصَّالح، وهذه هي النقطة الأولى؛ وهي اعتماد حزب التحرير على العقل أكثر ممَّا ينبغي.
النقطة الثانية، وهي تتفرع في ظنِّي من النقطة الأولى:
لقد قسَّموا نصوص الكتاب والسُّنَّة إلى قسمين؛ من حيث روايتها، ومن حيث دلالتها.
أمَّا من حيث روايتها، فقالوا: الرواية قد تكون قطعية الثبوت، وقد تكون ظنية الثبوت.
أمَّا الدَّلالة؛ فهي كذلك: قد تكون قطعية الدَّلالة، وقد تكون ظنية الدَّلالة.
لا نناقش في هذا الاصطلاح، فإنَّ الأمر كما قيل: لا مشاحة في الاصطلاح، لكننا نناقش فيما إذا ما رتبوا على هذا الاصطلاح مفارقات تخالف ما كان عليه المسلمون الأولون، ومن هنا يظهر للجميع أهمية سبيل المؤمنين، لأنَّها قيد يمنع من أن ينفلت العالم المسلم - فضلاً عن الجاهل المسلم - من نص الكتاب والسُّنَّة، برجوعه لمثل هذا الاصطلاح الَّذي لا يجوز أن يكون له الثمرة التالية، وهي: أنَّهم قد رتبوا على ذلك الاصطلاح ما يلي:
فقالوا: إذا جاء النص في القرآن الكريم - وهو بلا شك في الاصطلاح السابق ذكره قطعي الثبوت -، وإذا جاء النص قطعي الثبوت ظنِّي الدَّلالة، فلا يجب على المسلم أن يأخذ بما فيه من المعنى؛ لأنَّه ظنِّي الدَّلالة، فلا يجوز له أن يبني عقيدته على نص قطعي الثبوت، ولكنَّه ظنِّي الدَّلالة وكذلك العكس عندهم تماماً، إذا جاء الدليل قطعي الدَّلالة، لكن ليس قطعي الثبوت - كما هو شأن الغالبيَّة العظمى من الأحاديث - فإنَّهم لا يأخذون منه عقيدة، ومن هنا جاؤوا بعقيدة لا يعرفها السَّلف الصَّالح، ووضعوا اصطلاحاً لهم، وكتبهم الَّتي سطروا فيها هذا معروفة، وأعني بكتبهم القديمة؛ لأنَّهم قد أجروا فيها تعديلاً، وأنا من أعرف النَّاس بهذا التعديل، لكنَّه في الواقع تعديل شكلي، وهو لو سلمنا به؛ فإنَّما يدلّ أنَّ القوم كانوا حتَّى في عقيدتهم مضطربين، حيث قالوا: إن العقيدة لا تثبت إلَّا بدليل قطعي الثبوت، قطعي الدَّلالة، وهي أن الحديث الصحيح رواية، والقطعي دلالة، لا يؤخذ منه عقيدة!
فقلنا لهم فيما ناقشناهم وجادلناهم: هذه العقيدة من أين جئتم بها؟ وما الدليل على أنَّه لا يجوز للمسلم أن يبني عقيدته على حديث صحيح لم يصل إلى درجة التواتر، ولا على نص متواتر ولكنَّه ليس قطعي الدَّلالة من أين جئتم بهذا؟
فاضطربوا بالجواب، والبحث هنا طويل وطويل جداً، واستدلوا بمثل قوله تعالى: ﴿إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ﴾ [النجم: 23]، ﴿إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً﴾ [يونس: 36] وهذا البحث يخرجنا عما نحن بصدده من بيان ما نعرفه عن حزب التحرير؛ لأنَّ مناقشة هذه القاعدة وبيان ما عليها من اعتراضات، وأنَّها أقيمت على دليل كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء (4) ، ولذلك نكتفي بما بيناه حول قاعدتهم الضَّالة، والَّتي تقول: ليس للمسلم أن يبني عقيدته على حديث صحيح، ليس قطعي الثبوت، لكنَّه قطعي الدَّلالة!! فمن أين لهم هذا؟ لا دليل عليه من الكتاب والسُّنَّة، وما كان عليه السَّلف، بل ما كان عليه السلف ينقض هذا، وهذه الفكرة تبناها بعض الخلف - وهم المعتزلة قديماً، وأتباعهم المعاصرون في العقيدة على الأقل، وهم: (حزب التحرير) - أقول: كلنا يعلم أن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم حينما أرسله الله عزَّ وجلَّ بشيراً ونذيراً، وقال له: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾ [المائدة: 67] كان تبليغه عليه الصَّلاة والسَّلام رسالته إلى النَّاس تارة بشخصه؛ حينما كان يحضر ندواتهم، ومجتمعاتهم، فيخاطبهم مباشرة، وتارة يرسل رسولاً من طرفه، يدعو المشركين إلى اتباع دعوة النبي الكريم، وتارة يرسل خطاباً - كما هو معلوم من السيرة - إلى هرقل ملك الروم، وإلى كسرى ملك فارس، وإلى المقوقس، وإلى أمراء العرب، كما هو مشروح في كتب السيرة، ومن ذلك أنَّه أرسل إلى اليمن معاذ بن جبل، وأبا موسى الأشعري، وعلي بن أبي طالب، وأرسل إلى الروم دحية الكلبي، وهؤلاء أفراد لا يمثل خبرهم الخبر القطعي؛ لأنَّهم أفراد، فمعاذ في مكان، وأبو موسى في مكان، وعليٌّ في مكان، وقد يختلف أيضاً الزمان، وهناك حديث في «الصَّحيحين»، أخرجاه بسند صحيح، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أنَّ النَّبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم لما أرسل معاذاً إلى اليمن، قال له: «ليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلَّا الله» الحديث، فمن يشك من المسلمين أن هذه الشهادة هي الأصل الأول من الإسلام؟ أي: هي العقيدة الأولى الَّتي يبنى عليها الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله؟ فقد ذهب معاذ - رضي الله عنه - وحده مبلغاً، وداعياً المشركين أن يؤمنوا بدين الإسلام، ترى هل قامت الحجة بمعاذ بن جبل حينما دعا المشركين إلى الإسلام، وأمرهم أن يقيموا خمس صلوات في اليوم والليلة، وأنَّها ركعتان وأربع وثلاث، إلى آخر ما هناك من تفصيلات معلومة لدينا، والحمد لله، ويأمرهم بالزكاة، وإلى آخر تفاصيل الزكاة؛ فيما يتعلق بالذهب والفضة، وفيما يتعلق بالثمار، والبقر، والجمال، وإلى آخره... والسؤال الآن: هل قامت حجة الإسلام على أولئك المشركين بإرسال النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم معاذاً وحده؟
يتبع