ابو اسيد
23-08-2012, 10:41 PM
المخــابرات الأميــركيــة في سوق الثقافة تحول العلماء الى جواسيس
المؤلفة : فرانسيس ستونور ساوندرز
لم تكد الحرب العالمية الثانية تؤذن بالنهاية معلنة هزيمة الفاشية حتى اندلع الصراع العقائدي بين الفكر الديمقراطي الغربي وبين الفكر الشيوعي الذي أنعشه الانتصار في تلك الحرب، مما أدى لاتساع دائرة خطرة بالنسبة لدول العالم الحر الذي خرجت الولايات المتحدة من الحرب زعيمة له. فكانت بداية الحرب الباردة بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة. وعلى الرغم من عشرات المواجهات غير المباشرة بين القطبين ومواجهتهما المباشرة (أزمة خليج الخنازير) فإن هذه الحرب بقيت ذات طابع سيكولوجي مهيمن. والحرب النفسية هي تعريفاً حرب معنويات وهي تستخدم كافة أوجه النشاط الإنساني (بغضل السيكولوجيا المعنية بهذه الأوجه المتصلة بها) لتحقيق غاياتها. وامتداد هذه الحرب لأكثر من نصف قرن خلق ميادين مبارزة لم تكن مألوفة من قبل، بحيث نجد متابعات متفرقة لهذه الميادين. ومنها متابعات ناحوم تشومسكي على الصعيد الإعلامي والنشرات الدعائية المقاذفة بين القطبين…الخ. إلاّ أننا لا نجد كتابعة شاملة الصعد لميادين هذه الحرب. فصحيح أن مثل هذه المتابعة تقارب المستحييل لأنها تصطدم بالأسرار العسكرية والمخابراتية والأهم لأنها لم تدون في حينه وبالتالي فإن أية متابعة من هذا النوع ستكون استرجاعية. والإسترجاع، في هذه الحالة يزداد بعداً عن الموضوعية بعد زوال أحد القطبين. وأيضاً عندما يكون صاحب المتابعة منحازاً لأحدهما. لكن جملة هذه التحفّظات لا تقلل من أهمية كتاب "وكالة المخابرات الأميركية والحرب الثقافية الباردة" لمؤلفته فرانسيس ستونور ساوندرز والصادر عن دار غرانتا. وحسبنا أننا عرضنا هذه التحفظات قبل عرض الكتاب. بل أننا نضيف إليها إغراء الرواج الذي تلاقيه الكتب الجاسوسية وخصوصاً منها تلك المرتبطة بوكالة المخابرات الأميركية.
ترد المؤلفة بداية هذه الحرب إلى شتاء العام 1947 الذي تصفه بأنه كان شديد القساوة ببرودته التي تحملها ثلاثة عشر مليوناً من النازحين والمهجرين. وكانت تعاسة ألمانيا المهزومة تتضاعف مع تقسيمها إلى أربع مناطق نفوذ ومع مهجريها والجليد الذي أدى لانهيار ماتبقى من بناها التحتية. وكأن كل ذلك لم يكف فجاء التّضخم الاقتصادي، كنتيجة طبيعية للحرب، ليجعل من ثمن سيارة المرسيدس طراز 1939 مساوياً لثمن 24 صندوقاً من السجائر الأميركية حسب ما تنقله المؤلفة. وتورد المؤلفة ذكر حفلة موسيقية اوبرالية، أقامها السوفيات ببرلين في قاعة الأدميرالية الحمراء وعزفت فيها أوبرا أورفيوس للموسيقار غلوك، استضاف فيها الضباط الروس زملاءهم الأميركيين الذين شعروا بالدونية في مواجهة هذا التحدي الثقافي بحسب ما تؤكده المؤلفة، التي ترى أيضاً أن هذه الحفلة لم تكن مجرد مناسبة بل كانت ضمن استراتيجية مدروسة أثبتت فاعليتها فيما بعد. حتى بدا هذا الانفتاح الثقافي وكأنه حصان طروادة الذي يركبه السوفيات ليصلوا إلى بولندا وليحاولوا الوصول إلى فرنسا وإيطاليا. حتى راجت شائعات، في حينه، مفادها أن الشيوعية لن تستغرق وقتاً طويلاً لتسيطر على هذين البلدين. ولكن ما لم تذكره المؤلفة هو القول الشهير للشيوعي الفرنسي جورج مارشيه الذي قال في العام 1950 ما نصه: إذا لم تلتحق أوروبا بركب الشيوعية فإن عليها أن تنتظر إلى مستعمرة أميركية تابعة.
وتروي المؤلفة أن الحفلة الموسيقية لم تكن إلا قمة جبل الجليد الذي يخفي تحته استراتيجية معدة منذ العام 1940 (تسميها المؤلفة رأس الأفعى) ومتمحورة حول الترويج للفكر الشيوعي، عبر حملات دعائية، في أوساط اتحادات العمال وجمعيات المرأة وجماعات الشباب والثقفين والصحافة ودور النشر (أي في الأوساط القابلة للعدوى). وتلمح المؤلفة إلى أن اعتماد السوفيات لمبدأ الحرب النفسية الباردة يعود إلى عجزهم الإقتصادي (عقب الحرب) وإلى عدم ملكيتهم للسلاح النووي (حتى ذلك الوقت). لذلك لجأوا إلى الدعاية لترويج فكرهم تعويضاً من هذا العجز. من هنا كانت سرعة تحركهم الثقافي. فبعد فترة بسيطة من الحفلة الموسيقية أعلن السوفيات عن إنشائهم لبيت الثقافة في برلين نفسها. وجهزوه بأثاث كلاسيكي وطنافس وإضاءة مشعة وتدفئة مركزية. وذلك بحسب وصف الملحق الثقافي البريطاني في تقرير إلى رؤسائه بيّن فيه أن السوفيات يتفوقون ثقافياً على كل جهود الحلفاء. ويضيف أنهم قد نجحوا في محاولاتهم للوصول إلى أعداد كبيرة من الناس نحو الفكرة المسبقة السائدة بأن الروس غير متحضرين. وذكر الملحق رؤساءه بأن غرفة المطالعة التابعة لملحقيته باردة وتحتاج إلى فحم للتدفئة!.
بريطانيا الخارجة من الحرب لم تعر بالاً إلى هذه الإقتراحات والملاحظات الثقافية، لكن الأميركيين تلقفوها وبادروا إلى إنشاء "المركز الأميركي".
وكان هدفهم الخلاص من فكرة سائدة ضدهم وهي التي عبر عنها مدير العلاقات التربوية والثقافية في افتتاحه للمركز بقوله:"على الرغم من المساهمات التي قدمتها أميركا في حقل الثقافة فلا أحد يعرف بذلك ولا حتى ألمانيا. ناهيك عن بقية أنحاء العالم. فالحياة الأميركية تعتبر حياة يغلب عليها الطابع المادي. وغالباً ما نسمع تعليقاً: نحن لدينا المهارة والعقول وأنتم لديكم النقود!".
وكان هذا المركز الأميركي قاعدة للثقافة الأميركية ودعاية لها تتبدى واضحة خلف كل نشاطات المركز. إلاّ أن المركز كان يضم غرف مطالعة مريحة ومدفأة بشكل جيد.
في تعليقها على فاعلية هذه المراكز تقول المؤلفة: كانت أميركا تعتبر آنئذ قاحلة ثقافياً ويعيش شعبها رفاهية اللبان وسيارات الشفروليه. ولقد ساهمت هذه المراكز الثقافية في تشجيع قسم من الكتاب الأوروبيين، النافرين من السوفيا، للإقتراب من أميركا. كمثل أندريه جيد في كتابه"العودة من الإتحاد السوفياتي" وآرثر كويستر وغيرهما.
بعد ذلك تنتقل المؤلفة للحديث عن "مشروع مارشال" وعندها يفهم القارئ أسباب إطالتها وإسهابها في وصف الظروف المحيطة بنهاية الحرب في أوروبا بعامة وألمانيا بخاصة. كما يفهم إصرارها على إيراد تفصيلات الحفلة الموسيقية وديكورات المراكز السوفياتية والأميركية الثقافية. فهذه التفصيلات ضرورية لفهم أهمية مشروع مارشال واستيعاب دوره على الصعيد الإقتصادي في الحرب النفسية الباردة. فتذكر ما قاله الجنرال مارشال في حزيران 1947 وفي حفل تخرّج في هارفرد في سياق عرضه لمشروعه الإقتصادي لإنقاذ أوروبا. فتنقل تحذيره من انهيار القيم التي يعرفونها في العالم القديم، وذلك بسبب جهود مستمرة لتغيير وجه أوروبا الحضاري الذي يعرفونه (يقصد الجهود السوفياتية طبعاً). وذلك بهدف إسقاطها ووضعها بموقع المخالفة للإنسان الحر (أي مفهوم العالم الحر الأميركي). وبذلك خلص الجنرال مارشال إلى ضرورة مساعدة أوروبا ببرامج مالية ضخمة تمنع انهيارها (أي وقوعها في الشيوعية).
الرئيس الأميركي، في حينه، ترومان أكد منطلقات مارشال (القائد العام للحربية الأميركية) في خطبة له أمام الكونغرس مركزاً على اليونان الذي يكاد يتحول إلى الشيوعية. وخلص إلى القول بلهجة سفر الرؤية الدينية:" في هذه اللحظة من تاريخ العالم، يجب على كل شعب أن يختار طريقه في الحياة… وأحياناً لا يكون هذا الاختيار حراً.
هذا ن الخطابان أعلنا تحول الصراع من صراع ثقافي محدود إلى حرب حقيقية على صعيد التكلفة الإقتصادية كما على صعيد الإهتمام الرسمي. وقد جاء إعلان هذا التطور في الكونغرس وفي قلب الثقافة الأميركية (جامعة هارفرد) واشترك فيه رئيس أميركا وقائد حربيتها. فماذا كان رد الفعل السوفياتي؟.
جاء الرد السوفياتي على لسان أندريه غيدانوف (مخطط الثقافة الستالينية) الذي يوجه الدعوة إلى مثقفي العالم كي تقعقع أقلامهم تحت راية الشيوعية. مشيراً إلى نجاحات الأحزاب الشيوعية الأوروبية التي نجحت في ضم غالبية المبدعين والعلماء إلى صفوفها. وتكتفي المؤلفة بذكر هذا النداء دون أن تجري مقارنة بين حاجة أميركا إلى هدر مئات ملايين الدولارات، لإعادة إعمار أوروبا كي تحافظ على مركزها، وبين قدرة الشيوعية على التوغل في صفوف المثقفين كونها تقدم لهم مشروعاً فكرياً تعجز الديمقراطية الغربية حتى اليوم عن تقديم بديل له حتى بعد سقوطه. كما تهمل المؤلفة التطرق لموضوع أن بداية هذا السقوط مقترنة بمشروع مارشال الذي أعاد إعمار أوروبا الرأسمالية وحاصر دولها الشرقية. مما أدى بعد أكثر من نصف قرن لسقوط اقتصادي أكثر منه سياسياً للشيوعية. كما تجاهلت المؤلفة هلع مسؤولي المخابرات في أميركا من الإختراقات الشيوعية لأجهزة المخابرات الأوروبية والبريطانية خصوصاً (وهو هلع مبرر لم يلبث أن تحول إلى واقع مثلته بشكل مهالي فضيحة كيم فيلبي وفضائح عديدة أخرى). وهذا الهلع كان الدافع للإسراع بإنشاء وكالة الإستخبارات الأميركية (cia) في شهر تموز 1947، أي بعد شهر واحد من الإعلان عن مشروع مارشال. ولعل هذا الهلع هو سبب غموض تحديد صلاحيات الوكالة حيث أضيف إلى دورها كمنسق بين المعلومات العسكرية والدبلوماسية دور آخر في غاية الغموض ثم تعريفه بإلحاق عبارة "خدمة المصلحة العامة". هذه العبارة التي سمحت للوكالة بالقيام أحرجت المبادىء الليبرالية الأميركية. وهي عمليات تتجاهله المؤلفة مكتفية بالإشارة إلى تمدّد ملكية الوكالة لواجهات عديدة تراوح بين دور النشر ومحطات الإذاعة وشركات التأمين وغيرها من مؤسسات التغطية التي يعكس حجمها مدى تطور نفوذ الوكالة. وتحولها إلى أسطورة جعلت الجمهور العالمي يعتقد بأنها وراء كل ظلمة أو أذيّة أو عمل ضار.
يتبع
المؤلفة : فرانسيس ستونور ساوندرز
لم تكد الحرب العالمية الثانية تؤذن بالنهاية معلنة هزيمة الفاشية حتى اندلع الصراع العقائدي بين الفكر الديمقراطي الغربي وبين الفكر الشيوعي الذي أنعشه الانتصار في تلك الحرب، مما أدى لاتساع دائرة خطرة بالنسبة لدول العالم الحر الذي خرجت الولايات المتحدة من الحرب زعيمة له. فكانت بداية الحرب الباردة بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة. وعلى الرغم من عشرات المواجهات غير المباشرة بين القطبين ومواجهتهما المباشرة (أزمة خليج الخنازير) فإن هذه الحرب بقيت ذات طابع سيكولوجي مهيمن. والحرب النفسية هي تعريفاً حرب معنويات وهي تستخدم كافة أوجه النشاط الإنساني (بغضل السيكولوجيا المعنية بهذه الأوجه المتصلة بها) لتحقيق غاياتها. وامتداد هذه الحرب لأكثر من نصف قرن خلق ميادين مبارزة لم تكن مألوفة من قبل، بحيث نجد متابعات متفرقة لهذه الميادين. ومنها متابعات ناحوم تشومسكي على الصعيد الإعلامي والنشرات الدعائية المقاذفة بين القطبين…الخ. إلاّ أننا لا نجد كتابعة شاملة الصعد لميادين هذه الحرب. فصحيح أن مثل هذه المتابعة تقارب المستحييل لأنها تصطدم بالأسرار العسكرية والمخابراتية والأهم لأنها لم تدون في حينه وبالتالي فإن أية متابعة من هذا النوع ستكون استرجاعية. والإسترجاع، في هذه الحالة يزداد بعداً عن الموضوعية بعد زوال أحد القطبين. وأيضاً عندما يكون صاحب المتابعة منحازاً لأحدهما. لكن جملة هذه التحفّظات لا تقلل من أهمية كتاب "وكالة المخابرات الأميركية والحرب الثقافية الباردة" لمؤلفته فرانسيس ستونور ساوندرز والصادر عن دار غرانتا. وحسبنا أننا عرضنا هذه التحفظات قبل عرض الكتاب. بل أننا نضيف إليها إغراء الرواج الذي تلاقيه الكتب الجاسوسية وخصوصاً منها تلك المرتبطة بوكالة المخابرات الأميركية.
ترد المؤلفة بداية هذه الحرب إلى شتاء العام 1947 الذي تصفه بأنه كان شديد القساوة ببرودته التي تحملها ثلاثة عشر مليوناً من النازحين والمهجرين. وكانت تعاسة ألمانيا المهزومة تتضاعف مع تقسيمها إلى أربع مناطق نفوذ ومع مهجريها والجليد الذي أدى لانهيار ماتبقى من بناها التحتية. وكأن كل ذلك لم يكف فجاء التّضخم الاقتصادي، كنتيجة طبيعية للحرب، ليجعل من ثمن سيارة المرسيدس طراز 1939 مساوياً لثمن 24 صندوقاً من السجائر الأميركية حسب ما تنقله المؤلفة. وتورد المؤلفة ذكر حفلة موسيقية اوبرالية، أقامها السوفيات ببرلين في قاعة الأدميرالية الحمراء وعزفت فيها أوبرا أورفيوس للموسيقار غلوك، استضاف فيها الضباط الروس زملاءهم الأميركيين الذين شعروا بالدونية في مواجهة هذا التحدي الثقافي بحسب ما تؤكده المؤلفة، التي ترى أيضاً أن هذه الحفلة لم تكن مجرد مناسبة بل كانت ضمن استراتيجية مدروسة أثبتت فاعليتها فيما بعد. حتى بدا هذا الانفتاح الثقافي وكأنه حصان طروادة الذي يركبه السوفيات ليصلوا إلى بولندا وليحاولوا الوصول إلى فرنسا وإيطاليا. حتى راجت شائعات، في حينه، مفادها أن الشيوعية لن تستغرق وقتاً طويلاً لتسيطر على هذين البلدين. ولكن ما لم تذكره المؤلفة هو القول الشهير للشيوعي الفرنسي جورج مارشيه الذي قال في العام 1950 ما نصه: إذا لم تلتحق أوروبا بركب الشيوعية فإن عليها أن تنتظر إلى مستعمرة أميركية تابعة.
وتروي المؤلفة أن الحفلة الموسيقية لم تكن إلا قمة جبل الجليد الذي يخفي تحته استراتيجية معدة منذ العام 1940 (تسميها المؤلفة رأس الأفعى) ومتمحورة حول الترويج للفكر الشيوعي، عبر حملات دعائية، في أوساط اتحادات العمال وجمعيات المرأة وجماعات الشباب والثقفين والصحافة ودور النشر (أي في الأوساط القابلة للعدوى). وتلمح المؤلفة إلى أن اعتماد السوفيات لمبدأ الحرب النفسية الباردة يعود إلى عجزهم الإقتصادي (عقب الحرب) وإلى عدم ملكيتهم للسلاح النووي (حتى ذلك الوقت). لذلك لجأوا إلى الدعاية لترويج فكرهم تعويضاً من هذا العجز. من هنا كانت سرعة تحركهم الثقافي. فبعد فترة بسيطة من الحفلة الموسيقية أعلن السوفيات عن إنشائهم لبيت الثقافة في برلين نفسها. وجهزوه بأثاث كلاسيكي وطنافس وإضاءة مشعة وتدفئة مركزية. وذلك بحسب وصف الملحق الثقافي البريطاني في تقرير إلى رؤسائه بيّن فيه أن السوفيات يتفوقون ثقافياً على كل جهود الحلفاء. ويضيف أنهم قد نجحوا في محاولاتهم للوصول إلى أعداد كبيرة من الناس نحو الفكرة المسبقة السائدة بأن الروس غير متحضرين. وذكر الملحق رؤساءه بأن غرفة المطالعة التابعة لملحقيته باردة وتحتاج إلى فحم للتدفئة!.
بريطانيا الخارجة من الحرب لم تعر بالاً إلى هذه الإقتراحات والملاحظات الثقافية، لكن الأميركيين تلقفوها وبادروا إلى إنشاء "المركز الأميركي".
وكان هدفهم الخلاص من فكرة سائدة ضدهم وهي التي عبر عنها مدير العلاقات التربوية والثقافية في افتتاحه للمركز بقوله:"على الرغم من المساهمات التي قدمتها أميركا في حقل الثقافة فلا أحد يعرف بذلك ولا حتى ألمانيا. ناهيك عن بقية أنحاء العالم. فالحياة الأميركية تعتبر حياة يغلب عليها الطابع المادي. وغالباً ما نسمع تعليقاً: نحن لدينا المهارة والعقول وأنتم لديكم النقود!".
وكان هذا المركز الأميركي قاعدة للثقافة الأميركية ودعاية لها تتبدى واضحة خلف كل نشاطات المركز. إلاّ أن المركز كان يضم غرف مطالعة مريحة ومدفأة بشكل جيد.
في تعليقها على فاعلية هذه المراكز تقول المؤلفة: كانت أميركا تعتبر آنئذ قاحلة ثقافياً ويعيش شعبها رفاهية اللبان وسيارات الشفروليه. ولقد ساهمت هذه المراكز الثقافية في تشجيع قسم من الكتاب الأوروبيين، النافرين من السوفيا، للإقتراب من أميركا. كمثل أندريه جيد في كتابه"العودة من الإتحاد السوفياتي" وآرثر كويستر وغيرهما.
بعد ذلك تنتقل المؤلفة للحديث عن "مشروع مارشال" وعندها يفهم القارئ أسباب إطالتها وإسهابها في وصف الظروف المحيطة بنهاية الحرب في أوروبا بعامة وألمانيا بخاصة. كما يفهم إصرارها على إيراد تفصيلات الحفلة الموسيقية وديكورات المراكز السوفياتية والأميركية الثقافية. فهذه التفصيلات ضرورية لفهم أهمية مشروع مارشال واستيعاب دوره على الصعيد الإقتصادي في الحرب النفسية الباردة. فتذكر ما قاله الجنرال مارشال في حزيران 1947 وفي حفل تخرّج في هارفرد في سياق عرضه لمشروعه الإقتصادي لإنقاذ أوروبا. فتنقل تحذيره من انهيار القيم التي يعرفونها في العالم القديم، وذلك بسبب جهود مستمرة لتغيير وجه أوروبا الحضاري الذي يعرفونه (يقصد الجهود السوفياتية طبعاً). وذلك بهدف إسقاطها ووضعها بموقع المخالفة للإنسان الحر (أي مفهوم العالم الحر الأميركي). وبذلك خلص الجنرال مارشال إلى ضرورة مساعدة أوروبا ببرامج مالية ضخمة تمنع انهيارها (أي وقوعها في الشيوعية).
الرئيس الأميركي، في حينه، ترومان أكد منطلقات مارشال (القائد العام للحربية الأميركية) في خطبة له أمام الكونغرس مركزاً على اليونان الذي يكاد يتحول إلى الشيوعية. وخلص إلى القول بلهجة سفر الرؤية الدينية:" في هذه اللحظة من تاريخ العالم، يجب على كل شعب أن يختار طريقه في الحياة… وأحياناً لا يكون هذا الاختيار حراً.
هذا ن الخطابان أعلنا تحول الصراع من صراع ثقافي محدود إلى حرب حقيقية على صعيد التكلفة الإقتصادية كما على صعيد الإهتمام الرسمي. وقد جاء إعلان هذا التطور في الكونغرس وفي قلب الثقافة الأميركية (جامعة هارفرد) واشترك فيه رئيس أميركا وقائد حربيتها. فماذا كان رد الفعل السوفياتي؟.
جاء الرد السوفياتي على لسان أندريه غيدانوف (مخطط الثقافة الستالينية) الذي يوجه الدعوة إلى مثقفي العالم كي تقعقع أقلامهم تحت راية الشيوعية. مشيراً إلى نجاحات الأحزاب الشيوعية الأوروبية التي نجحت في ضم غالبية المبدعين والعلماء إلى صفوفها. وتكتفي المؤلفة بذكر هذا النداء دون أن تجري مقارنة بين حاجة أميركا إلى هدر مئات ملايين الدولارات، لإعادة إعمار أوروبا كي تحافظ على مركزها، وبين قدرة الشيوعية على التوغل في صفوف المثقفين كونها تقدم لهم مشروعاً فكرياً تعجز الديمقراطية الغربية حتى اليوم عن تقديم بديل له حتى بعد سقوطه. كما تهمل المؤلفة التطرق لموضوع أن بداية هذا السقوط مقترنة بمشروع مارشال الذي أعاد إعمار أوروبا الرأسمالية وحاصر دولها الشرقية. مما أدى بعد أكثر من نصف قرن لسقوط اقتصادي أكثر منه سياسياً للشيوعية. كما تجاهلت المؤلفة هلع مسؤولي المخابرات في أميركا من الإختراقات الشيوعية لأجهزة المخابرات الأوروبية والبريطانية خصوصاً (وهو هلع مبرر لم يلبث أن تحول إلى واقع مثلته بشكل مهالي فضيحة كيم فيلبي وفضائح عديدة أخرى). وهذا الهلع كان الدافع للإسراع بإنشاء وكالة الإستخبارات الأميركية (cia) في شهر تموز 1947، أي بعد شهر واحد من الإعلان عن مشروع مارشال. ولعل هذا الهلع هو سبب غموض تحديد صلاحيات الوكالة حيث أضيف إلى دورها كمنسق بين المعلومات العسكرية والدبلوماسية دور آخر في غاية الغموض ثم تعريفه بإلحاق عبارة "خدمة المصلحة العامة". هذه العبارة التي سمحت للوكالة بالقيام أحرجت المبادىء الليبرالية الأميركية. وهي عمليات تتجاهله المؤلفة مكتفية بالإشارة إلى تمدّد ملكية الوكالة لواجهات عديدة تراوح بين دور النشر ومحطات الإذاعة وشركات التأمين وغيرها من مؤسسات التغطية التي يعكس حجمها مدى تطور نفوذ الوكالة. وتحولها إلى أسطورة جعلت الجمهور العالمي يعتقد بأنها وراء كل ظلمة أو أذيّة أو عمل ضار.
يتبع