الفاروق
23-08-2012, 02:30 AM
السلام عليكم
اما بعد فقد لفت نظري طرح الاخ حبيبي محمد لموضوع الاجتهاد حيث حثني ذلك على ان اتقدم ببحث قام به احد الشباب وهو بخصوص موضوع الاجتهاد ويتمحور البحث حول كيفية استخراج الاحكام الشرعية اي استنباطها ويبين ان مسالة الاجتهاد هي طلب للظن والله نهانا عن اتباع الظن واليكم البحث
طريقة معرفة الأحكام الشرعية
علم أم ظن
استنباط أم اجتهاد
إن الله تعالى وصف القرآن وبيان القرآن بأنهما علم, وهذا يعني أنهما علم وليسا ظن ولا يدخلهما الظن مطلقاً.
كما بين لنا ضوابط فهم القرآن من خلال بيان خصائص القرآن الكريم في آيات كثيرة, فوصفه أنه نزل بلسان عربي مبين أي لغة عربية واضحة فاللغة العربية هي أداة فهم القرآن, ووصفه بأنه قرآن مبين أي واضح بذاته ولا حاجة للاستعانة بغيره لفهم مدلولاته, ووصفه بأنه تبياناً لكل شيء وتفصيلاً لكل شيء, كما وصفه بأن منه آيات محكمات هن أم الكتاب أي وّضُحَ معناها وظهر دون حاجة للاستعانة بأي شيء آخر ووصفه بأن منه آيات متشابهات أي يشتبه معناها على السامع, وقال أيضاً أنه يُحكم آياته.
لكن هل بيَّن الله تعالى لنا في هذا القرآن المبين بعد بيان خصائص القرآن كيفية التعامل مع هذا القرآن المبين الذي وصفه بالعلم أي طريقة تحصيل العلم بالأحكام الشرعية؟
بمعنى هل بين الله في القرآن المبين طريقة فهم الأحكام أم تركها للناس ليضعوا تلك الطريقة؟.
لقد بين الله تعالى طريقة فهم الأحكام بشكل دقيق جداً, ولكن الناس ومنهم (خاصة الناس) المهتمين بفهم هذا القرآن المبين مختلفين في فهمه وفي تفسيره وفي فهم الأحكام الموجودة فيه واتفقوا على أمر أساسي واحد وهو شرعية الاختلاف فيه.
واتفقوا جميعهم على وصف جزء من آياته بالظن من خلال وصفها بأنها ظنية الدلالة, وهذا الاتفاق نتج عنه اتفاقهم على طريقة معرفة الأحكام أنها الاجتهاد, وكل منهم وضع ضوابط خاصة للتعامل مع هذا الظن لضمان أن يكون الفهم الظني مما يحتمله النص, واتفقوا على أن الفهم الناتج عن عملية الاجتهاد هو فهم ظني.
واتفقوا على قاعدة اعتبروها قاعدة ذهبية وهي: أن كل مجتهد يعتبر فهمه واجتهاده صواب يحتمل الخطأ, وفهم واجتهاد غيره خطأ يحتمل الصواب.
أما اتفاقهم على أن جزء من آيات الأحكام ظنية الدلالة فهو آت من جهتين:
الأولى: واقع اللغة العربية أن فيها مفردات كثيرة لها أكثر من معنى, واستنتجوا خطأً أن هذا يعني أن الآية تحتمل أكثر من معنى.
ويكمن الخطأ في أن هذه الخاصية هي من خواص مفردات اللغة وليست من خواص النصوص اللغوية, إذ أن المفردة يمكن استخدامها بأي معنى من المعاني الواردة لها في اللغة, وفي كل نص يكون للمفردة معنى واحد فقط ولا تُستخدم كل معاني المفردة في النص الواحد, وكذلك كلام الله تستخدم فيه المفردة الواحدة في النص الواحد بمعنى واحد فقط, ولا تُستخدم كل تلك المعاني وكل إنسان يختار المعنى الذي يريد.
ولا يعني أن العرب صاغوا نصوص بتركيبة معينة فيها مفردات لها أكثر من معنى تحتمل معنى المدح أو الهجاء في النص الواحد أن هذا الأمر يُطبق على كلام الله, فلا وجود لمثل هذا الأمر في كلام الله.
فاللغة العربية فيها أساليب كلام كثيرة, ففيها الشعر وفيها النثر وكذلك فيها ما يعرف بالتورية, وهي كلها لا وجود لها في كلام الله. فلا تُطبق جميع خصائص اللغة ولا جميع أساليب العرب على كلام الله, وعليه لا وجود لعلاقة سببية بين أن كثير من مفردات اللغة العربية لها أكثر من معنى, وأن نصوص القرآن التي تحتوي على تلك المفردات لها أكثر من معنى, وكل شخص يختار المعنى الذي يراه مناسباً ويجيز لغيره أن يختار معنى آخر.
ونعود للسؤال المحوري في الموضوع:
هل بين الله في القرآن المبين طريقة فهم الأحكام أم تركها للناس ليضعوا تلك الطريقة؟.
لقد بين الله تعالى طريقة فهم الأحكام بشكل دقيق جداً وللوصول إلى تلك الطريقة يجب أن ندرس آيات القرآن الكريم المتعلقة في هذا الأمر والتي هي آيات محكمات, ونرى دلالتها عليه.
إن دراسة آيات القرآن الكريم أوصلتنا إلى ما يلي وسوف أضع المقارنة مباشرة مع القواعد الفقهية المعمول بها حتى الآن:
---------------------------------------------
أولاً: يقول الله تعالى أن الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات, ويقول أيضاً أنه يحكم آياته, أما الفقهاء فيقولون أن فيه آيات ظنية الدلالة وهذا حكم عقلي بلا دليل من القرآن, أنظر قول الله تعالى في سورة آل عمران:
( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ )
أن الله وصف جزء من آيات الكتاب بأنها متشابهات وهي التي يشتبه معناها على السامع, بمعنى أن تلك الآيات تحتمل أكثر من معنى من الناحية اللغوية, ولم ينتبه الفقهاء إلى أن الله يقول في مكان آخر في القرآن الكريم أنه يحكم آياته حيث قال في سورة الحج:
( ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ). فالآيات المتشابهات يحكمها الله تعالى.
إن الأوصاف التي وصفها الله تعالى للقرآن هي أوصاف الكمال وليس النقص.
أما الفقهاء فقد قفزوا خارج موضوع المحكمات والمتشابهات إلى القول بأن تلك الآيات المتشابهات تعتبر ظنِّيَة الدلالة, وجعلوها خاصية من خواص جزء من آيات القرآن بلا دليل من القرآن.
والله تعالى يقول: ( وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (47) وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49) (العنكبوت))
فالله يقول (آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ ) والكلام هنا عن الكتاب كله, والفقهاء يقولون آيات ظنِّيات.
---------------------------------------------
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (54) وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (57) (الحج)
---------------------------------------------
ثانياً: يقول الله تعالى في سورة الإسراء: ( وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ), بمعنى لا تَقْفُ ما لا تعلم, أي لا تَقْفُ الظَّن, فالله لم يقل لا تَقْفُ ما ليس بعلم فقط من حيث الأشياء التي سماها علم, وهذا يعنى أن لا تَقْفُ ما ليس بيقين وليس فقط ما لم يكن أصله يقين.
أما الفقهاء فيقولون بالأخذ بالظن وهو ما ليس بعلم.
أنظر معنى تَقْفُ في لسان العرب:
وقَفاه قَفْواً وقُفُوّاً واقْتَفاه وتَقَفَّاه: تَبِعَه. الليث: القَفْوُ مصدر قولك قَفا يَقْفُو قَفْواً وقُفُوّاً، وهو أَن يتبع الشيء. قال الله تعالى: ولا تَقْفُ ما ليس لك به عِلم؛ قال الفراء: أَكثر القراء يجعلونها من قَفَوْت كما تقول لا تدع من دعوت، قال: وقرأَ بعضهم ولا تَقُفْ مثل ولا تَقُلْ، وقال الأَخفش في قوله تعالى: ولا تقف ما ليس لك به علم؛ أَي لا تَتَّبِع ما لا تعلم، وقيل: ولا تقل سمعت ولم تسمع، ولا رأَيت ولم تر، ولا علمت ولم تعلم، إِن السمع والبصر والفؤاد كل أُولئك كان عنه مسؤولاً. أَبو عبيد: هو يَقْفُو ويَقُوفُ ويَقْتافُ أَي يتبع الأَثر.
وقال مجاهد: ولا تقف ما ليس لك به علم لا تَرُمْ؛ وقال ابن الحنفية: معناه لا تشهد بالزور.
ولنقرأ نص الآية كاملاً:
(وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا ).
إن الأشياء التي ذكرها الله تعالى في الآية (السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ ) هي المسئولة عن تحصيل العلم الذي ذكره الله, فالسمع والبصر هما حاستين من أصل خمس حواس موجودة في الإنسان, يستخدم منها السمع والبصر في تحصيل العلم, أما الفؤاد فالله تعالى يقول في سورة الأعراف :
( وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179))
---------------------------------------------
ثالثاً: إن الله تعالى سمى كيفية معرفة الأحكام استنباط والفقهاء يقولون اجتهاد:
وهناك فرق شاسع جداً بين الاستنباط والاجتهاد, فالاستنباط هو استخراج الحكم الموجود في النص, أما الاجتهاد فهو طلب الظَّن:
أنظر قول الله تعالى في سورة النساء:
( أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82) وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا (83))
أنظر معنى استنبط في معاجم اللغة:
النون والباء والطاء كلمةٌ تدلُّ على استخراج شيء.
الاسْتِنْباطُ: الاستخراج.
قال الزجّاج: معنى يستنبطونه في اللغة يستخرجونه، وأَصله من النبَط، وهو الماء الذي يخرج من البئر أَوّل ما تحفر.
وأنْبَطَ الحَفَّارُ: بلَغَ الماءَ. و نَبَطَ البئرَ: اسْتَخْرَجَ ماءَها.
نَبَطَ الماءُ ويَنْبِطُ نَبْطاً ونُبُوْطاً: نَبَعَ. وقال ابن دريدٍ: نبطتُ البئرَ: إذا استخرجتَ ماءها.
النَّبَط: الماء الذي يَنْبُطُ من قعر البئر إِذا حُفرت، وقد نبَطَ ماؤها ينْبِطُ ويَنْبُطُ نَبْطاً ونُبوطاً.
وأَنبطنا الماءَ أَي استنبطناه وانتهينا إِليه.
واستنبَطْتُ الماءَ: استخرجتُه، والماء نَفْسُه إذا استُخرِجَ نَبَط. ويقال: إنَّ النَّبَط سُمُّوا به لاستنباطهم المِياه.
وللبحث تتمة حيث ان النص يتجاوز عدد الاحرف المسموح بها في كتابة مشاركة واحدة
اما بعد فقد لفت نظري طرح الاخ حبيبي محمد لموضوع الاجتهاد حيث حثني ذلك على ان اتقدم ببحث قام به احد الشباب وهو بخصوص موضوع الاجتهاد ويتمحور البحث حول كيفية استخراج الاحكام الشرعية اي استنباطها ويبين ان مسالة الاجتهاد هي طلب للظن والله نهانا عن اتباع الظن واليكم البحث
طريقة معرفة الأحكام الشرعية
علم أم ظن
استنباط أم اجتهاد
إن الله تعالى وصف القرآن وبيان القرآن بأنهما علم, وهذا يعني أنهما علم وليسا ظن ولا يدخلهما الظن مطلقاً.
كما بين لنا ضوابط فهم القرآن من خلال بيان خصائص القرآن الكريم في آيات كثيرة, فوصفه أنه نزل بلسان عربي مبين أي لغة عربية واضحة فاللغة العربية هي أداة فهم القرآن, ووصفه بأنه قرآن مبين أي واضح بذاته ولا حاجة للاستعانة بغيره لفهم مدلولاته, ووصفه بأنه تبياناً لكل شيء وتفصيلاً لكل شيء, كما وصفه بأن منه آيات محكمات هن أم الكتاب أي وّضُحَ معناها وظهر دون حاجة للاستعانة بأي شيء آخر ووصفه بأن منه آيات متشابهات أي يشتبه معناها على السامع, وقال أيضاً أنه يُحكم آياته.
لكن هل بيَّن الله تعالى لنا في هذا القرآن المبين بعد بيان خصائص القرآن كيفية التعامل مع هذا القرآن المبين الذي وصفه بالعلم أي طريقة تحصيل العلم بالأحكام الشرعية؟
بمعنى هل بين الله في القرآن المبين طريقة فهم الأحكام أم تركها للناس ليضعوا تلك الطريقة؟.
لقد بين الله تعالى طريقة فهم الأحكام بشكل دقيق جداً, ولكن الناس ومنهم (خاصة الناس) المهتمين بفهم هذا القرآن المبين مختلفين في فهمه وفي تفسيره وفي فهم الأحكام الموجودة فيه واتفقوا على أمر أساسي واحد وهو شرعية الاختلاف فيه.
واتفقوا جميعهم على وصف جزء من آياته بالظن من خلال وصفها بأنها ظنية الدلالة, وهذا الاتفاق نتج عنه اتفاقهم على طريقة معرفة الأحكام أنها الاجتهاد, وكل منهم وضع ضوابط خاصة للتعامل مع هذا الظن لضمان أن يكون الفهم الظني مما يحتمله النص, واتفقوا على أن الفهم الناتج عن عملية الاجتهاد هو فهم ظني.
واتفقوا على قاعدة اعتبروها قاعدة ذهبية وهي: أن كل مجتهد يعتبر فهمه واجتهاده صواب يحتمل الخطأ, وفهم واجتهاد غيره خطأ يحتمل الصواب.
أما اتفاقهم على أن جزء من آيات الأحكام ظنية الدلالة فهو آت من جهتين:
الأولى: واقع اللغة العربية أن فيها مفردات كثيرة لها أكثر من معنى, واستنتجوا خطأً أن هذا يعني أن الآية تحتمل أكثر من معنى.
ويكمن الخطأ في أن هذه الخاصية هي من خواص مفردات اللغة وليست من خواص النصوص اللغوية, إذ أن المفردة يمكن استخدامها بأي معنى من المعاني الواردة لها في اللغة, وفي كل نص يكون للمفردة معنى واحد فقط ولا تُستخدم كل معاني المفردة في النص الواحد, وكذلك كلام الله تستخدم فيه المفردة الواحدة في النص الواحد بمعنى واحد فقط, ولا تُستخدم كل تلك المعاني وكل إنسان يختار المعنى الذي يريد.
ولا يعني أن العرب صاغوا نصوص بتركيبة معينة فيها مفردات لها أكثر من معنى تحتمل معنى المدح أو الهجاء في النص الواحد أن هذا الأمر يُطبق على كلام الله, فلا وجود لمثل هذا الأمر في كلام الله.
فاللغة العربية فيها أساليب كلام كثيرة, ففيها الشعر وفيها النثر وكذلك فيها ما يعرف بالتورية, وهي كلها لا وجود لها في كلام الله. فلا تُطبق جميع خصائص اللغة ولا جميع أساليب العرب على كلام الله, وعليه لا وجود لعلاقة سببية بين أن كثير من مفردات اللغة العربية لها أكثر من معنى, وأن نصوص القرآن التي تحتوي على تلك المفردات لها أكثر من معنى, وكل شخص يختار المعنى الذي يراه مناسباً ويجيز لغيره أن يختار معنى آخر.
ونعود للسؤال المحوري في الموضوع:
هل بين الله في القرآن المبين طريقة فهم الأحكام أم تركها للناس ليضعوا تلك الطريقة؟.
لقد بين الله تعالى طريقة فهم الأحكام بشكل دقيق جداً وللوصول إلى تلك الطريقة يجب أن ندرس آيات القرآن الكريم المتعلقة في هذا الأمر والتي هي آيات محكمات, ونرى دلالتها عليه.
إن دراسة آيات القرآن الكريم أوصلتنا إلى ما يلي وسوف أضع المقارنة مباشرة مع القواعد الفقهية المعمول بها حتى الآن:
---------------------------------------------
أولاً: يقول الله تعالى أن الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات, ويقول أيضاً أنه يحكم آياته, أما الفقهاء فيقولون أن فيه آيات ظنية الدلالة وهذا حكم عقلي بلا دليل من القرآن, أنظر قول الله تعالى في سورة آل عمران:
( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ )
أن الله وصف جزء من آيات الكتاب بأنها متشابهات وهي التي يشتبه معناها على السامع, بمعنى أن تلك الآيات تحتمل أكثر من معنى من الناحية اللغوية, ولم ينتبه الفقهاء إلى أن الله يقول في مكان آخر في القرآن الكريم أنه يحكم آياته حيث قال في سورة الحج:
( ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ). فالآيات المتشابهات يحكمها الله تعالى.
إن الأوصاف التي وصفها الله تعالى للقرآن هي أوصاف الكمال وليس النقص.
أما الفقهاء فقد قفزوا خارج موضوع المحكمات والمتشابهات إلى القول بأن تلك الآيات المتشابهات تعتبر ظنِّيَة الدلالة, وجعلوها خاصية من خواص جزء من آيات القرآن بلا دليل من القرآن.
والله تعالى يقول: ( وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (47) وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49) (العنكبوت))
فالله يقول (آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ ) والكلام هنا عن الكتاب كله, والفقهاء يقولون آيات ظنِّيات.
---------------------------------------------
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (54) وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (57) (الحج)
---------------------------------------------
ثانياً: يقول الله تعالى في سورة الإسراء: ( وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ), بمعنى لا تَقْفُ ما لا تعلم, أي لا تَقْفُ الظَّن, فالله لم يقل لا تَقْفُ ما ليس بعلم فقط من حيث الأشياء التي سماها علم, وهذا يعنى أن لا تَقْفُ ما ليس بيقين وليس فقط ما لم يكن أصله يقين.
أما الفقهاء فيقولون بالأخذ بالظن وهو ما ليس بعلم.
أنظر معنى تَقْفُ في لسان العرب:
وقَفاه قَفْواً وقُفُوّاً واقْتَفاه وتَقَفَّاه: تَبِعَه. الليث: القَفْوُ مصدر قولك قَفا يَقْفُو قَفْواً وقُفُوّاً، وهو أَن يتبع الشيء. قال الله تعالى: ولا تَقْفُ ما ليس لك به عِلم؛ قال الفراء: أَكثر القراء يجعلونها من قَفَوْت كما تقول لا تدع من دعوت، قال: وقرأَ بعضهم ولا تَقُفْ مثل ولا تَقُلْ، وقال الأَخفش في قوله تعالى: ولا تقف ما ليس لك به علم؛ أَي لا تَتَّبِع ما لا تعلم، وقيل: ولا تقل سمعت ولم تسمع، ولا رأَيت ولم تر، ولا علمت ولم تعلم، إِن السمع والبصر والفؤاد كل أُولئك كان عنه مسؤولاً. أَبو عبيد: هو يَقْفُو ويَقُوفُ ويَقْتافُ أَي يتبع الأَثر.
وقال مجاهد: ولا تقف ما ليس لك به علم لا تَرُمْ؛ وقال ابن الحنفية: معناه لا تشهد بالزور.
ولنقرأ نص الآية كاملاً:
(وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا ).
إن الأشياء التي ذكرها الله تعالى في الآية (السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ ) هي المسئولة عن تحصيل العلم الذي ذكره الله, فالسمع والبصر هما حاستين من أصل خمس حواس موجودة في الإنسان, يستخدم منها السمع والبصر في تحصيل العلم, أما الفؤاد فالله تعالى يقول في سورة الأعراف :
( وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179))
---------------------------------------------
ثالثاً: إن الله تعالى سمى كيفية معرفة الأحكام استنباط والفقهاء يقولون اجتهاد:
وهناك فرق شاسع جداً بين الاستنباط والاجتهاد, فالاستنباط هو استخراج الحكم الموجود في النص, أما الاجتهاد فهو طلب الظَّن:
أنظر قول الله تعالى في سورة النساء:
( أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82) وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا (83))
أنظر معنى استنبط في معاجم اللغة:
النون والباء والطاء كلمةٌ تدلُّ على استخراج شيء.
الاسْتِنْباطُ: الاستخراج.
قال الزجّاج: معنى يستنبطونه في اللغة يستخرجونه، وأَصله من النبَط، وهو الماء الذي يخرج من البئر أَوّل ما تحفر.
وأنْبَطَ الحَفَّارُ: بلَغَ الماءَ. و نَبَطَ البئرَ: اسْتَخْرَجَ ماءَها.
نَبَطَ الماءُ ويَنْبِطُ نَبْطاً ونُبُوْطاً: نَبَعَ. وقال ابن دريدٍ: نبطتُ البئرَ: إذا استخرجتَ ماءها.
النَّبَط: الماء الذي يَنْبُطُ من قعر البئر إِذا حُفرت، وقد نبَطَ ماؤها ينْبِطُ ويَنْبُطُ نَبْطاً ونُبوطاً.
وأَنبطنا الماءَ أَي استنبطناه وانتهينا إِليه.
واستنبَطْتُ الماءَ: استخرجتُه، والماء نَفْسُه إذا استُخرِجَ نَبَط. ويقال: إنَّ النَّبَط سُمُّوا به لاستنباطهم المِياه.
وللبحث تتمة حيث ان النص يتجاوز عدد الاحرف المسموح بها في كتابة مشاركة واحدة