بوفيصيل
15-08-2012, 06:30 AM
د. وليد عبد الحي
تبدو السياسة الأمريكية في المنطقة العربية كما لو أن أحد أهدافها الاستراتيجية العليا هو تحقيق الديمقراطية في الوطن العربي، وأن مساندتها لثورات 'الربيع العربي' بشكل عام تشير إلى جديتها في هذا التوجه، غير أن التمحيص في يوميات السياسة الخارجية الأمريكية يشير لبعض الملاحظات التي تستحق التوقف عندها:
أ- انتقائية المساندة الأمريكية للثورات الديمقراطية العربية: فعندما فازت الجبهة الإسلامية في انتخابات الجزائر في بداية التسعينات من القرن الماضي،لم تساند الولايات المتحدة هذه النتائج،وعندما فازت حركة حماس عام 2006 بذلت الولايات المتحدة جهدا هائلا لمحاصرة هذا الفوز وإجهاضه، وعندما فاز فريق 8 آذار في لبنان بقيادة حزب الله في الانتخابات اللبنانية، سعت الولايات المتحدة لخنق هذه الحكومة بكل السبل العلنية والسرية...ولا أريد التوقف عند نماذج غير عربية أخرى.
كذلك تتضح الانتقائية الأمريكية في الموقف من الربيع البحراني وبذور ربيع سعودي وأردني، إذ تبدو الولايات المتحدة أقل جهدا دبلوماسيا في هذا الجانب، وأقل تركيزا إعلاميا عليها.
ب- إن النموذج العراقي لنظم الحكم والذي اشرف على أدق تفاصيله صناع القرار الأمريكي أنجز حربا أهلية لم تتوقف منذ عام 2003 رغم كل محاولات المالكي تغطية هذه الحرب. كما أن الموقف الأمريكي من الربيع 'السوري' أو الربيع 'الليبي' كان من خلال تعطيل الحوار بين المختلفين رغم أن العمود الفقري للديمقراطية هو الحوار السلمي بين المختلفين لكسب ألاصوات، والاستعاضة عن ذلك بالتدخل العسكري المباشر (ليبيا) أو شبه المباشر(سوريا).
ذلك يعني أن التحليل لهذه التوجهات الأمريكية يكشف عن الأمر ليس أمر الديمقراطية بل شيء آخر،إنه تغيير البنية السياسية للمنطقة باتجاه بناء نموذج 'كوريا جنوبية' عربية في المنطقة..ماذا يعني ذلك؟
إنه يعني السماح بالتطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي (على غرار كوريا الجنوبية) مقابل الارتهان الاستراتيجي في مجال العلاقات الدولية، وما يضمن هذا الارتهان العربي هو التواجد العسكري (هناك أكثر من 40 ألف عسكري أمريكي في عدد من القواعد العسكرية في الدول العربية مقابل حوالي 28 ألف في كوريا الجنوبية)، وضمان حصة كبيرة من السوق العربي (لا سيما في مجال السلع التي تتفوق فيها الولايات المتحدة على غيرها مثل الأسلحة حيث بلغ نصيبها أكثر من 52،4' من مجموع المبيعات العالمية للشرق الأوسط خلال الفترة من 2006-2010 طبقا لتقرير أصدرته هيئة البحوث في الكونجرس الأمريكي (Congreional Research Service)، ناهيك عن المساعدات الاقتصادية لدول عربية أهمها مصر.
ولكن ما هي أهداف الارتهان الاستراتيجي العربي للولايات المتحدة؟
ضمان أمن إسرائيل
ضمان الوصول لمصادر البترول في كل الظروف
توظيف إمكانيات المنطقة في نطاق التنافس مع القوى الكبرى الصاعدة.
ويبدو لنا أن الولايات المتحدة أدركت أن البنية السياسية للقوى السياسية في المنطقة تتمركز حول القوى الدينية بأطيافها المختلفة (الإخوان المسلمين، السلفيون، بل وحتى الطرق الصوفية)، ناهيك عن أن الثقافة السائدة بين افراد المجتمع هي ثقافة دينية في مجملها، ويبدو أن الولايات المتحدة أدركت أن التوجه الديمقراطي لا يقدر له النجاح إلا بالتعاون مع الحركة الدينية، كما أن تعطش الحركة الدينية للحصول على الشرعية أولا والسلطة ثانيا أوجد نقطة تلاق بين الطرفين، وهو ما يستدعي وضع قواعد اللعبة بين الفريقين والتي يبدو أنها تشتمل على:
أ- مساندة وصول الإسلاميين للسلطة مقابل قبولهم بفكرة الدولة المدنية،وهو ما أكدته كلينتون في زيارتها الأولى للرئيس مرسي، ويسر التخلص من ثنائية العسكر الإسلاميين في السلطة المصرية بعد عزل المشير طنطاوي وعنان.
ب- استمرار المساعدات الاقتصادية من الولايات المتحدة والدول الغربية ودول النفط العربي مقابل القبول بكل الاتفاقيات مع إسرائيل وفتح المجال لمزيد من التطبيع مع إسرائيل في مراحل لاحقة،ولعل اللقاءات الأولى للرئيس المصري مع زعماء الدول العربية 'الغنية' وزيارة هيلاري كلينتون توحي بذلك، ولن تعطي الولايات المتحدة أهمية كبيرة لبعض النشاطات السياسية الرمزية السلبية تجاه إسرائيل.
ج- يبدو أن التوجه العام للإخوان المسلمين في العالم العربي يسير نحو 'عقلنة حركة حماس'، وهو ما يتضح في إنكفاء حماس عن دمشق نحو بعض عواصم خصومها، وتوقف عملياتها ضد الإحتلال منذ سنين (فمن غير المعقول أن حركة حماس عاجزة عن القيام ولو بعملية واحدة في الضفة الغربية أو فلسطين 1948 منذ أكثر من 5 سنوات).
كل ذلك يشي بمؤشر واحد، أن الديمقراطية المسنودة أمريكيا مرتبطة بارتهان استراتيجي عربي في القضايا التي تضعها الولايات المتحدة ضمن مصالحها الاستراتيجية العليا، وهو النموذج الذي تتبناه كوريا الجنوبية وتايوان، وقد يتصاعد الموقف تدريجيا لتشكيل كتلة سنية تقودها مصر بدلا من تركيا في مرحلة لاحقة لتشديد الطوق على إيران، وعرقلة التوسع الروسي الصيني في المنطقة.
إن الاختبارات التي ستكشف مدى دقة تحليلنا هذا تتمثل في اختبارات ثلاثة :
أ-العلاقات المصرية مع غزة والذي تظهر لا في فتح المعابر فقط بل وفي التوجه السياسي لحماس نحو التسوية مع إسرائيل والقبول التدريجي بالدخول إلى دائرة النقاش السياسي ووضع بنادق المقاومة في مخازنها، فإذا اتجهت نحو هذا المسار تأكد صواب تحليلنا.
ب-مدى تطور العلاقات المصرية الإيرانية أو ترديها، فإذا لم تتطور العلاقات الإيرانية بشكل سريع سياسيا وتجاريا فإن ذلك ينطوي على توجهات تؤكد ما ذهبنا له في تحليلنا
ج- أية توجهات مصرية نحو تنويع مصادر تسليحها بدلا من الاتكاء على السلاح الأمريكي فقط،فإذا عاد المصريون لشراء السلاح من الروس والصينيين والفرنسيين فإن ذلك يدل على عدم صحة تحليلنا، أما إذا استمر التوجه الحالي ففيه تعزيز لما أشرنا له.
ولا ريب عندي أن وصول الإسلاميين للسلطة في الوطن العربي وانغماسهم في السياسات الدولية سيولد نقاشا حادا داخل صفوفهم، سيؤدي بطـــريقة أو أخرى إلى تشققهم، وستنفذ الولايات المتحدة من بين الشقوق كما نفذت من شقوق القوى القومية واليسارية العربية في الستينات من القرن الماضي.
خلاصة القول، أخشى ما أخشاه أن يكــــون ثمــن الديمقراطية هو فلسطين..وتلك الطامة الكبرى، متمنيا أن أكون مخطئا.
تبدو السياسة الأمريكية في المنطقة العربية كما لو أن أحد أهدافها الاستراتيجية العليا هو تحقيق الديمقراطية في الوطن العربي، وأن مساندتها لثورات 'الربيع العربي' بشكل عام تشير إلى جديتها في هذا التوجه، غير أن التمحيص في يوميات السياسة الخارجية الأمريكية يشير لبعض الملاحظات التي تستحق التوقف عندها:
أ- انتقائية المساندة الأمريكية للثورات الديمقراطية العربية: فعندما فازت الجبهة الإسلامية في انتخابات الجزائر في بداية التسعينات من القرن الماضي،لم تساند الولايات المتحدة هذه النتائج،وعندما فازت حركة حماس عام 2006 بذلت الولايات المتحدة جهدا هائلا لمحاصرة هذا الفوز وإجهاضه، وعندما فاز فريق 8 آذار في لبنان بقيادة حزب الله في الانتخابات اللبنانية، سعت الولايات المتحدة لخنق هذه الحكومة بكل السبل العلنية والسرية...ولا أريد التوقف عند نماذج غير عربية أخرى.
كذلك تتضح الانتقائية الأمريكية في الموقف من الربيع البحراني وبذور ربيع سعودي وأردني، إذ تبدو الولايات المتحدة أقل جهدا دبلوماسيا في هذا الجانب، وأقل تركيزا إعلاميا عليها.
ب- إن النموذج العراقي لنظم الحكم والذي اشرف على أدق تفاصيله صناع القرار الأمريكي أنجز حربا أهلية لم تتوقف منذ عام 2003 رغم كل محاولات المالكي تغطية هذه الحرب. كما أن الموقف الأمريكي من الربيع 'السوري' أو الربيع 'الليبي' كان من خلال تعطيل الحوار بين المختلفين رغم أن العمود الفقري للديمقراطية هو الحوار السلمي بين المختلفين لكسب ألاصوات، والاستعاضة عن ذلك بالتدخل العسكري المباشر (ليبيا) أو شبه المباشر(سوريا).
ذلك يعني أن التحليل لهذه التوجهات الأمريكية يكشف عن الأمر ليس أمر الديمقراطية بل شيء آخر،إنه تغيير البنية السياسية للمنطقة باتجاه بناء نموذج 'كوريا جنوبية' عربية في المنطقة..ماذا يعني ذلك؟
إنه يعني السماح بالتطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي (على غرار كوريا الجنوبية) مقابل الارتهان الاستراتيجي في مجال العلاقات الدولية، وما يضمن هذا الارتهان العربي هو التواجد العسكري (هناك أكثر من 40 ألف عسكري أمريكي في عدد من القواعد العسكرية في الدول العربية مقابل حوالي 28 ألف في كوريا الجنوبية)، وضمان حصة كبيرة من السوق العربي (لا سيما في مجال السلع التي تتفوق فيها الولايات المتحدة على غيرها مثل الأسلحة حيث بلغ نصيبها أكثر من 52،4' من مجموع المبيعات العالمية للشرق الأوسط خلال الفترة من 2006-2010 طبقا لتقرير أصدرته هيئة البحوث في الكونجرس الأمريكي (Congreional Research Service)، ناهيك عن المساعدات الاقتصادية لدول عربية أهمها مصر.
ولكن ما هي أهداف الارتهان الاستراتيجي العربي للولايات المتحدة؟
ضمان أمن إسرائيل
ضمان الوصول لمصادر البترول في كل الظروف
توظيف إمكانيات المنطقة في نطاق التنافس مع القوى الكبرى الصاعدة.
ويبدو لنا أن الولايات المتحدة أدركت أن البنية السياسية للقوى السياسية في المنطقة تتمركز حول القوى الدينية بأطيافها المختلفة (الإخوان المسلمين، السلفيون، بل وحتى الطرق الصوفية)، ناهيك عن أن الثقافة السائدة بين افراد المجتمع هي ثقافة دينية في مجملها، ويبدو أن الولايات المتحدة أدركت أن التوجه الديمقراطي لا يقدر له النجاح إلا بالتعاون مع الحركة الدينية، كما أن تعطش الحركة الدينية للحصول على الشرعية أولا والسلطة ثانيا أوجد نقطة تلاق بين الطرفين، وهو ما يستدعي وضع قواعد اللعبة بين الفريقين والتي يبدو أنها تشتمل على:
أ- مساندة وصول الإسلاميين للسلطة مقابل قبولهم بفكرة الدولة المدنية،وهو ما أكدته كلينتون في زيارتها الأولى للرئيس مرسي، ويسر التخلص من ثنائية العسكر الإسلاميين في السلطة المصرية بعد عزل المشير طنطاوي وعنان.
ب- استمرار المساعدات الاقتصادية من الولايات المتحدة والدول الغربية ودول النفط العربي مقابل القبول بكل الاتفاقيات مع إسرائيل وفتح المجال لمزيد من التطبيع مع إسرائيل في مراحل لاحقة،ولعل اللقاءات الأولى للرئيس المصري مع زعماء الدول العربية 'الغنية' وزيارة هيلاري كلينتون توحي بذلك، ولن تعطي الولايات المتحدة أهمية كبيرة لبعض النشاطات السياسية الرمزية السلبية تجاه إسرائيل.
ج- يبدو أن التوجه العام للإخوان المسلمين في العالم العربي يسير نحو 'عقلنة حركة حماس'، وهو ما يتضح في إنكفاء حماس عن دمشق نحو بعض عواصم خصومها، وتوقف عملياتها ضد الإحتلال منذ سنين (فمن غير المعقول أن حركة حماس عاجزة عن القيام ولو بعملية واحدة في الضفة الغربية أو فلسطين 1948 منذ أكثر من 5 سنوات).
كل ذلك يشي بمؤشر واحد، أن الديمقراطية المسنودة أمريكيا مرتبطة بارتهان استراتيجي عربي في القضايا التي تضعها الولايات المتحدة ضمن مصالحها الاستراتيجية العليا، وهو النموذج الذي تتبناه كوريا الجنوبية وتايوان، وقد يتصاعد الموقف تدريجيا لتشكيل كتلة سنية تقودها مصر بدلا من تركيا في مرحلة لاحقة لتشديد الطوق على إيران، وعرقلة التوسع الروسي الصيني في المنطقة.
إن الاختبارات التي ستكشف مدى دقة تحليلنا هذا تتمثل في اختبارات ثلاثة :
أ-العلاقات المصرية مع غزة والذي تظهر لا في فتح المعابر فقط بل وفي التوجه السياسي لحماس نحو التسوية مع إسرائيل والقبول التدريجي بالدخول إلى دائرة النقاش السياسي ووضع بنادق المقاومة في مخازنها، فإذا اتجهت نحو هذا المسار تأكد صواب تحليلنا.
ب-مدى تطور العلاقات المصرية الإيرانية أو ترديها، فإذا لم تتطور العلاقات الإيرانية بشكل سريع سياسيا وتجاريا فإن ذلك ينطوي على توجهات تؤكد ما ذهبنا له في تحليلنا
ج- أية توجهات مصرية نحو تنويع مصادر تسليحها بدلا من الاتكاء على السلاح الأمريكي فقط،فإذا عاد المصريون لشراء السلاح من الروس والصينيين والفرنسيين فإن ذلك يدل على عدم صحة تحليلنا، أما إذا استمر التوجه الحالي ففيه تعزيز لما أشرنا له.
ولا ريب عندي أن وصول الإسلاميين للسلطة في الوطن العربي وانغماسهم في السياسات الدولية سيولد نقاشا حادا داخل صفوفهم، سيؤدي بطـــريقة أو أخرى إلى تشققهم، وستنفذ الولايات المتحدة من بين الشقوق كما نفذت من شقوق القوى القومية واليسارية العربية في الستينات من القرن الماضي.
خلاصة القول، أخشى ما أخشاه أن يكــــون ثمــن الديمقراطية هو فلسطين..وتلك الطامة الكبرى، متمنيا أن أكون مخطئا.