أبو فارس
29-05-2012, 03:27 AM
مصدر المقال: http://www.alukah.net/Culture/0/39916
شريف محمد جابر
يتداول الكثير من النَّاس الحديثَ عن الفِرَق التي افترقتْ عليها الأمة الإسلامية، مصداقًا لحديث الرسول الكريم - صلَّى الله عليه وسلّم - ويختلفون كثيرًا حول الفئات المقصودة بمسمَّى "الفِرَق"، والتي توعَّدها الحديث النبوي بالخُسران؛ لانحرافها عن جادَّة السنة والجماعة؛ فقد جاء في الحديث عن عبدالله بن عمرو بن العاص: ((ليأتينَّ على أمتي ما أتى على بني إسرائيل حَذْوَ النعل بالنعل، حتى إنْ كان منهم مَن أتى أمَّه علانيةً، لكان في أمتي مَن يصنع ذلك، وإنَّ بني إسرائيل تفرَّقت على ثِنْتين وسبعين ملَّة، وتفترق أمتي على ثلاثٍ وسبعين ملَّة، كلُّهم في النَّار إلا ملة واحدة))، قال: من هي يا رسول الله؟ قال: ((ما أنا عليه وأصحابي))؛ رواه التِّرمذي، وصحَّحه الألباني، وقد ورد في رواياتٌ أخرى.
وقد أحببتُ في هذا المقالِ الموجز أن أردَّ على قول من قال: إنَّ الحركاتِ والجماعات والأحزابَ الإسلامية الموجودةَ في واقعنا المعاصر تقع تحت وصف التفرُّق المذموم هذا، وهي بذلك محرَّمة على الإطلاق، وهو قول بعيد عن الفهم الشرعي الصحيح، وبعيدٌ عن مفهوم "الفِرَق" كما هو في الأحاديث النبوية، والسبب الأكبر في عدم تحقيق المعنى الصحيح للفِرَق عند هؤلاء هو التعامل مع النصوص الشرعية وَفْقَ منهج "انتقائي"، يتجاهل الكثير من الرِّوايات، ويتجاهل الكثير من الأحكام الشرعية الأخرى، فيأخذ روايةً من حديث ويبني على فهمه الخاطئ لها صرحَ استدلالاته المغلوطة، وقد تجاهل هذا وغيرُه مِمَّن ذهب هذا المذهبَ في الفهم منهجَ: "الجمع بين أطراف الأدلَّة"، وهو من طرائق الاستدلال الصَّحيحة عند أهل السنة والجماعة، بخلاف أهل البدع ومتَّبعي المتشابه.
يقول الإمام الشاطبي في كتابه "الموافقات - الجزء الثالث": "وكذلك الخوارج حيث اتَّبعوا قوله - تعالى -: ﴿ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ﴾ [الأنعام: 57]، وتركوا مبيِّنَه: ﴿ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ ﴾ [المائدة: 95]، وقوله: ﴿ فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا ﴾ [النساء: 35]، واتَّبع الجبريَّةُ قولَه: ﴿ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [الصافات: 96]، وتركوا بيانَه وهو قولُه: ﴿ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [التوبة: 82].. وما أشبهه، وهكذا سائر من اتَّبع هذه الأطراف من غير نظَرٍ فيما وراءها، ولو جمعوا بين ذلك، ووصَلوا ما أمر الله به أن يُوصَل، لوصلوا إلى المقصود، فإذا ثبَت هذا، فالبيان مقترنٌ بالمبين، فإذا أُخذ المبين من غير بيان صار متشابهًا، وليس المتشابهَ في نفسه، بل الزائغون أدخلوا فيه التَّشابه على أنفسهم، فضلُّوا عن الصراط المستقيم"؛ اهـ.
فإنَّنا لو تتبَّعنا روايات هذا الحديثِ الذي يذكر الفِرق، لوجدنا رواية أخرى تبيِّن أحد أوصافها الذي من أجله آلت إلى مصيرها نحو الهاوية، كما جاء في الحديث الصحيح؛ فعن عوف بن مالك الأشجعي أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((تفترق أمَّتي على بضع وسبعين فرقةً، أعظمُها فتنةً على أمَّتي قوم يقيسون الأمور برأيهم؛ فيُحلُّون الحرام، ويحرِّمون الحلال))؛ أخرجه الهيثميُّ في مجمع الزوائد، ورجاله رجال الصحيح.
فأعظم هذه الفِرَق فتنةً، هي التي تستبدل معايير الرأي والهوى الشخصي بالمعيار الشرعي، فتُحلُّ الحرام وتحرِّم الحلال، ومن هنا كان وصف "الانتساب إلى غير الشرع في الأحكام" هو أحدَ الأوصاف الأساسية الملاصقة للفِرَق التي قصَدها الحديث.
وكذلك فإن "الافتراق" هو نقيض "الاجتماع"، قال - تعالى -: ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ﴾ [آل عمران: 103]؛ فقد أمر بالاعتصام بحبل الله على هيئة "الاجتماع"، وكان ضده "الافتراق".
ويَزيد في إيضاح مفهوم "التفرُّق" قولُه - تعالى -: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ﴾ [الأنعام: 159]؛ فمعنى التفرُّق هنا يدور حول "الدِّين"؛ أي: الافتراق في الدين، ويعني ذلك أن "الاجتماع على غير دين الإسلام" يُدخل في وصف الفِرَق المذمومة في الحديث.
وبِناءً على هذه المدلولات الواضحة في أوصاف الفِرَق، تكون الأوضاع التي تجتمع على غير الإسلام "تتولَّى بغير ولاية الإسلام"، وتنتسب إلى غير الشرع "في الأحكام" - تكونُ داخلةً في وصف "الفِرَق" التي ذُكرت في الحديث الشريف.
وزيادة في تأكيد هذا المعنى، أنقلُ تأصيلاً شرعيًّا رائعًا على طريقة "الجمع بين أطراف الأدلة" لفضيلة الشيخ الأصوليِّ عبدالمجيد بن يوسف الشاذلي، فقد جاء في كتابه "البلاغ المبين":
"...وهذه رواياتُ حديث حذيفة الذي ترجم له العلماء "كيف الأمرُ إذا لم تكن جماعةٌ": جاء في صحيح البخاريِّ باب "كيف الأمر إذا لم تكن جماعة": حدَّثنا محمد بن المثنى حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا ابن جابر - في مسلم: عبدالرحمن بن يزيد بن جابر - حدثني بُسر بن عبيدالله الحضري، أنه سمع أبا إدريسَ الخَولانيَّ، أنه سمع حذيفةَ بن اليمان يقول: "كان الناس يسألون رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن الخير وكنتُ أسأله عن الشرِّ مخافةَ أن يدركني، فقلت: يا رسول الله، إنَّا كنَّا في جاهلية وشر، فجاءنا اللهُ بهذا الخير[1] ، فهل بعد هذا الخير من شر[2] ؟ قال: ((نعم))، قلتُ [3]: وهل بعد ذلك الشِّر من خير؟ قال: ((نعَم، وفيه دَخَنٌ))، قلت: وما دَخَنُه؟ قال: ((قومٌ[4] يهدون بغير هديِى، تعرِف منهم وتُنكر [5]))، قلتُ: فهل بعد ذلك الخيرِ من شرٍّ؟ قال: ((نعم، دعاةٌ على أبواب جهنَّم، مَن أجابهم إليها، قذفوه فيها))، قلت: يا رسول الله، صِفْهم لنا، قال: ((هم من جِلْدتنا [6] ويتكلَّمون بألسنتنا))، قلت: فما تأمرني إن أدرَكني ذلك؟ قال: ((تلزمُ جماعة المسلمين [7] وإمامهم [8]))، قلت [9]: فإن لم يكن لهم جماعةٌ ولا إمام؟ قال: ((فاعتزل [10] تلك الفِرَق كلَّها، ولو أن تعَضَّ بأصل شجرة حتى يدركَك الموت وأنت على ذلك)).
أقول: واضح جدًّا من الروايات "7"، "8"، "9" أن المقصود بالجماعة هو: الخليفةُ السلطان صاحبُ الشَّوكة والسلطة، وهذا واضح ليس فقط من المعنى؛ وإنما اللَّفظ الصريح، وأن المراحل السابقة أيضًا هي في جماعة التَّمكين: الخير الخالص، الخير المشوب بالدَّخَن، والفتنة، وأن الفِرَق أيضًا أوضاعٌ ممكَّنة، ولكن اجتماع على غير الإسلام، وانتساب إلى غير الشرع، فخرجت عن معنى الخلافة، أو الخليفة، وخرجت عن معنى الشرعيَّة، فوجب اعتزالُها، وليس المقصود بها الجماعاتِ غير الممكَّنة.
فالذي يقول: إن الجماعات الإسلامية فِرَق - من فَهْم هذا الحديث - مخطئ تمامًا، والذي يقول: إن واحدًا من هذه الجماعات خلافةٌ إسلامية، مُلزِمة بالسمع والطاعة، وأنَّ مَن لم يلزمها ويسمعْ ويُطعْ لأميرها - فلان - فهو كافر، مخطئ تمامًا، ومبتدع.
فنحن الآن في الوقت الذي ترجم له البخاري: "كيف الأمرُ إذا لم تكن جماعة"، وأمرُ رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - لحذيفة هو أمرٌ لنا: اعتزالُ كلِّ الأوضاع التي تقوم على الاجتماع على غير الإسلام، والانتساب إلى غير الشرع، لم يأمرْنا بلزوم فلان، ولا بإقامة جماعةٍ من ثلاثة تكون ملزِمةً لغيرنا، ومَن خرج عنها يكون كافرًا، ولا بشيء من هذه البدع المحدثة"؛ اهـ من كتاب "البلاغ المبين" لفضيلة الشيخ عبدالمجيد بن يوسف الشاذلي.
ولئن كان فضيلة الشيخ يردُّ في هذا البيان وغيره على الفِرَق التي تقول: مَن ليس في جماعتنا، فهو كافر، فإنَّ ما توصَّل إليه يردُّ فيه - كذلك - على من يقول: إنَّ جماعات العمل الإسلامي المعاصرة هي "فِرَق" مذمومة، فيسقط مدلول الفرق الوارد في هذا الحديث وغيره عليها! وهذا خطأ محضٌ، وقد تبيَّن لنا ذلك من خلال الاستدلال الصَّحيح المعتمِد على أصول الاستدلال عند أهل السنة والجماعة، وعلى وجه الخصوص قاعدة: "الجمع بين أطراف الأدلة"، وعدم الركون إلى فهم قاصر لرواية واحدة.
ويظهر لنا - إذًا - من خلال بيان الأحاديث - وقبلها الآيات التي أوردناها في مفهوم "الفِرَق" - أنها تحمل بشكل أساسي أوصافَ:
• الانتسابِ إلى غير الشرع في الأحكام؛ أي: اتخاذ معايير أخرى للتحاكم، والإعراض عن المصادر الشرعية المعصومة.
• الاجتماعِ على غير الإسلام (وصف التفرُّق عن الدِّين، والتولِّي بغير ولاية الإسلام).
ومن خلال الوصف الأول "الانتساب إلى غير الشرع" تدخل في معنى الفِرَق: المجتمعات والأوضاع العَلْمانية؛ على اعتبار أنَّها كِيانات ممكَّنة؛ كالنُّظم العربية وغير العربية التي نبَذت شريعة الله، واتَّخذت لها دساتير وضعيَّة تتحاكم إليها، ونسبت مهمة التشريع إلى البشر القاصرين، فيُصدرون القوانين ويلتزمون بهذه الدساتير الوضعية، وبهذا هم منتسبون إلى غير شريعة الله في الأحكام، بل إلى شرائعهم الوضعيَّة التي وضعوها بآرائهم وأهوائهم، وتدخل فيه الكِيانات المجتمعة على البدع المنحرفة عن أصول الدين؛ كالنظام الإيراني الشِّيعي، والذي تختلط فيه المفاهيم الغربية غيرُ الشرعية بالمفاهيم البِدْعية الشيعية، فهو لا يمثِّل "جماعة" بمعنى: خلافة، أو وضع ممكَّن تجب طاعتُه كما ورد في الحديث؛ لأنَّه وقع في وصف الفِرَق التي أوجب الحديثُ اعتزالَها، وكذا هو حال جميع النُّظم العَلْمانية والبدعية التي تنتسب إلى غير الشرع.
ومن خلال الوصف الثاني "الاجتماع على غير الإسلام" تدخل في معنى الفرق كذلك: المجتمعات والأوضاع العلمانية؛ باجتماعها على غير الإسلام كالوطنيَّة والقومية، فهي تتولَّى بغير ولاية الإسلام، فتجعل "المواطنة" بديلاً لمفهوم "الأمة" في الإسلام، وتُساوي بها بين المسلمِ والكافر بدعوى تقول: إنَّهما مواطنان، لهما ذات الحقوق والواجبات، وأمَّا المسلم الذي لا يحمل مواطنةَ هذه الكيانات، فلا ينال حقوق الكافر الحامل لمواطنتها! أو تجعل الولاء في نظامِها للقوم، فتكون "القومية" هي "الراية" التي تناضل من أجلها، وتوالي وتعادي عليها، فتدخل بهذا في وصف الافتراق عن الدين، والاجتماع على غير الإسلام، عن طريق التولِّي بغير ولايته مِمَّا دخل على الأمَّة من المفاهيم الجاهلية؛ (للبيان المستفيض حول هذا الموضوع؛ راجع كتَابنا: "الهوية والشرعية: دراسة في التأصيل الإسلامي لمفهوم الهوية ورفع الالتباسات عنه).
ويدخل فيها أيضًا - كما يقول الشيخ عبدالمجيد الشاذلي في كتاب "البلاغ المبين" -: "مجتمعات الردَّة إلى بدعة مكفِّرة، المجتمعات التي يغلب عليها عقائد الصوفية الفاسدة: الحلول، الوَحدة، الاتحاد، إسقاط التكاليف، الفيض... إلخ، المجتمعات التي يغلب عليها الممارسات الشركيَّة في العبادة، المتغلِّبون أصحاب الرايات العميَّة الذين فرَّقوا أمر الأمَّة وهو جميع، أصول البدع: الخوارج، الرَّوافض، الجهمية، المرجئة، القدَرية نفاة ومثبتة، أصحاب الاتجاه العقلي الذي يعارضون به الشَّرع ويخرجون به عن الأصول، كل ما يستجدُّ من ابتداع في أصل كلِّي من الدين"؛ اهـ.
تكملة المقال في التعليق التالي...............
شريف محمد جابر
يتداول الكثير من النَّاس الحديثَ عن الفِرَق التي افترقتْ عليها الأمة الإسلامية، مصداقًا لحديث الرسول الكريم - صلَّى الله عليه وسلّم - ويختلفون كثيرًا حول الفئات المقصودة بمسمَّى "الفِرَق"، والتي توعَّدها الحديث النبوي بالخُسران؛ لانحرافها عن جادَّة السنة والجماعة؛ فقد جاء في الحديث عن عبدالله بن عمرو بن العاص: ((ليأتينَّ على أمتي ما أتى على بني إسرائيل حَذْوَ النعل بالنعل، حتى إنْ كان منهم مَن أتى أمَّه علانيةً، لكان في أمتي مَن يصنع ذلك، وإنَّ بني إسرائيل تفرَّقت على ثِنْتين وسبعين ملَّة، وتفترق أمتي على ثلاثٍ وسبعين ملَّة، كلُّهم في النَّار إلا ملة واحدة))، قال: من هي يا رسول الله؟ قال: ((ما أنا عليه وأصحابي))؛ رواه التِّرمذي، وصحَّحه الألباني، وقد ورد في رواياتٌ أخرى.
وقد أحببتُ في هذا المقالِ الموجز أن أردَّ على قول من قال: إنَّ الحركاتِ والجماعات والأحزابَ الإسلامية الموجودةَ في واقعنا المعاصر تقع تحت وصف التفرُّق المذموم هذا، وهي بذلك محرَّمة على الإطلاق، وهو قول بعيد عن الفهم الشرعي الصحيح، وبعيدٌ عن مفهوم "الفِرَق" كما هو في الأحاديث النبوية، والسبب الأكبر في عدم تحقيق المعنى الصحيح للفِرَق عند هؤلاء هو التعامل مع النصوص الشرعية وَفْقَ منهج "انتقائي"، يتجاهل الكثير من الرِّوايات، ويتجاهل الكثير من الأحكام الشرعية الأخرى، فيأخذ روايةً من حديث ويبني على فهمه الخاطئ لها صرحَ استدلالاته المغلوطة، وقد تجاهل هذا وغيرُه مِمَّن ذهب هذا المذهبَ في الفهم منهجَ: "الجمع بين أطراف الأدلَّة"، وهو من طرائق الاستدلال الصَّحيحة عند أهل السنة والجماعة، بخلاف أهل البدع ومتَّبعي المتشابه.
يقول الإمام الشاطبي في كتابه "الموافقات - الجزء الثالث": "وكذلك الخوارج حيث اتَّبعوا قوله - تعالى -: ﴿ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ﴾ [الأنعام: 57]، وتركوا مبيِّنَه: ﴿ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ ﴾ [المائدة: 95]، وقوله: ﴿ فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا ﴾ [النساء: 35]، واتَّبع الجبريَّةُ قولَه: ﴿ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [الصافات: 96]، وتركوا بيانَه وهو قولُه: ﴿ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [التوبة: 82].. وما أشبهه، وهكذا سائر من اتَّبع هذه الأطراف من غير نظَرٍ فيما وراءها، ولو جمعوا بين ذلك، ووصَلوا ما أمر الله به أن يُوصَل، لوصلوا إلى المقصود، فإذا ثبَت هذا، فالبيان مقترنٌ بالمبين، فإذا أُخذ المبين من غير بيان صار متشابهًا، وليس المتشابهَ في نفسه، بل الزائغون أدخلوا فيه التَّشابه على أنفسهم، فضلُّوا عن الصراط المستقيم"؛ اهـ.
فإنَّنا لو تتبَّعنا روايات هذا الحديثِ الذي يذكر الفِرق، لوجدنا رواية أخرى تبيِّن أحد أوصافها الذي من أجله آلت إلى مصيرها نحو الهاوية، كما جاء في الحديث الصحيح؛ فعن عوف بن مالك الأشجعي أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((تفترق أمَّتي على بضع وسبعين فرقةً، أعظمُها فتنةً على أمَّتي قوم يقيسون الأمور برأيهم؛ فيُحلُّون الحرام، ويحرِّمون الحلال))؛ أخرجه الهيثميُّ في مجمع الزوائد، ورجاله رجال الصحيح.
فأعظم هذه الفِرَق فتنةً، هي التي تستبدل معايير الرأي والهوى الشخصي بالمعيار الشرعي، فتُحلُّ الحرام وتحرِّم الحلال، ومن هنا كان وصف "الانتساب إلى غير الشرع في الأحكام" هو أحدَ الأوصاف الأساسية الملاصقة للفِرَق التي قصَدها الحديث.
وكذلك فإن "الافتراق" هو نقيض "الاجتماع"، قال - تعالى -: ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ﴾ [آل عمران: 103]؛ فقد أمر بالاعتصام بحبل الله على هيئة "الاجتماع"، وكان ضده "الافتراق".
ويَزيد في إيضاح مفهوم "التفرُّق" قولُه - تعالى -: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ﴾ [الأنعام: 159]؛ فمعنى التفرُّق هنا يدور حول "الدِّين"؛ أي: الافتراق في الدين، ويعني ذلك أن "الاجتماع على غير دين الإسلام" يُدخل في وصف الفِرَق المذمومة في الحديث.
وبِناءً على هذه المدلولات الواضحة في أوصاف الفِرَق، تكون الأوضاع التي تجتمع على غير الإسلام "تتولَّى بغير ولاية الإسلام"، وتنتسب إلى غير الشرع "في الأحكام" - تكونُ داخلةً في وصف "الفِرَق" التي ذُكرت في الحديث الشريف.
وزيادة في تأكيد هذا المعنى، أنقلُ تأصيلاً شرعيًّا رائعًا على طريقة "الجمع بين أطراف الأدلة" لفضيلة الشيخ الأصوليِّ عبدالمجيد بن يوسف الشاذلي، فقد جاء في كتابه "البلاغ المبين":
"...وهذه رواياتُ حديث حذيفة الذي ترجم له العلماء "كيف الأمرُ إذا لم تكن جماعةٌ": جاء في صحيح البخاريِّ باب "كيف الأمر إذا لم تكن جماعة": حدَّثنا محمد بن المثنى حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا ابن جابر - في مسلم: عبدالرحمن بن يزيد بن جابر - حدثني بُسر بن عبيدالله الحضري، أنه سمع أبا إدريسَ الخَولانيَّ، أنه سمع حذيفةَ بن اليمان يقول: "كان الناس يسألون رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن الخير وكنتُ أسأله عن الشرِّ مخافةَ أن يدركني، فقلت: يا رسول الله، إنَّا كنَّا في جاهلية وشر، فجاءنا اللهُ بهذا الخير[1] ، فهل بعد هذا الخير من شر[2] ؟ قال: ((نعم))، قلتُ [3]: وهل بعد ذلك الشِّر من خير؟ قال: ((نعَم، وفيه دَخَنٌ))، قلت: وما دَخَنُه؟ قال: ((قومٌ[4] يهدون بغير هديِى، تعرِف منهم وتُنكر [5]))، قلتُ: فهل بعد ذلك الخيرِ من شرٍّ؟ قال: ((نعم، دعاةٌ على أبواب جهنَّم، مَن أجابهم إليها، قذفوه فيها))، قلت: يا رسول الله، صِفْهم لنا، قال: ((هم من جِلْدتنا [6] ويتكلَّمون بألسنتنا))، قلت: فما تأمرني إن أدرَكني ذلك؟ قال: ((تلزمُ جماعة المسلمين [7] وإمامهم [8]))، قلت [9]: فإن لم يكن لهم جماعةٌ ولا إمام؟ قال: ((فاعتزل [10] تلك الفِرَق كلَّها، ولو أن تعَضَّ بأصل شجرة حتى يدركَك الموت وأنت على ذلك)).
أقول: واضح جدًّا من الروايات "7"، "8"، "9" أن المقصود بالجماعة هو: الخليفةُ السلطان صاحبُ الشَّوكة والسلطة، وهذا واضح ليس فقط من المعنى؛ وإنما اللَّفظ الصريح، وأن المراحل السابقة أيضًا هي في جماعة التَّمكين: الخير الخالص، الخير المشوب بالدَّخَن، والفتنة، وأن الفِرَق أيضًا أوضاعٌ ممكَّنة، ولكن اجتماع على غير الإسلام، وانتساب إلى غير الشرع، فخرجت عن معنى الخلافة، أو الخليفة، وخرجت عن معنى الشرعيَّة، فوجب اعتزالُها، وليس المقصود بها الجماعاتِ غير الممكَّنة.
فالذي يقول: إن الجماعات الإسلامية فِرَق - من فَهْم هذا الحديث - مخطئ تمامًا، والذي يقول: إن واحدًا من هذه الجماعات خلافةٌ إسلامية، مُلزِمة بالسمع والطاعة، وأنَّ مَن لم يلزمها ويسمعْ ويُطعْ لأميرها - فلان - فهو كافر، مخطئ تمامًا، ومبتدع.
فنحن الآن في الوقت الذي ترجم له البخاري: "كيف الأمرُ إذا لم تكن جماعة"، وأمرُ رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - لحذيفة هو أمرٌ لنا: اعتزالُ كلِّ الأوضاع التي تقوم على الاجتماع على غير الإسلام، والانتساب إلى غير الشرع، لم يأمرْنا بلزوم فلان، ولا بإقامة جماعةٍ من ثلاثة تكون ملزِمةً لغيرنا، ومَن خرج عنها يكون كافرًا، ولا بشيء من هذه البدع المحدثة"؛ اهـ من كتاب "البلاغ المبين" لفضيلة الشيخ عبدالمجيد بن يوسف الشاذلي.
ولئن كان فضيلة الشيخ يردُّ في هذا البيان وغيره على الفِرَق التي تقول: مَن ليس في جماعتنا، فهو كافر، فإنَّ ما توصَّل إليه يردُّ فيه - كذلك - على من يقول: إنَّ جماعات العمل الإسلامي المعاصرة هي "فِرَق" مذمومة، فيسقط مدلول الفرق الوارد في هذا الحديث وغيره عليها! وهذا خطأ محضٌ، وقد تبيَّن لنا ذلك من خلال الاستدلال الصَّحيح المعتمِد على أصول الاستدلال عند أهل السنة والجماعة، وعلى وجه الخصوص قاعدة: "الجمع بين أطراف الأدلة"، وعدم الركون إلى فهم قاصر لرواية واحدة.
ويظهر لنا - إذًا - من خلال بيان الأحاديث - وقبلها الآيات التي أوردناها في مفهوم "الفِرَق" - أنها تحمل بشكل أساسي أوصافَ:
• الانتسابِ إلى غير الشرع في الأحكام؛ أي: اتخاذ معايير أخرى للتحاكم، والإعراض عن المصادر الشرعية المعصومة.
• الاجتماعِ على غير الإسلام (وصف التفرُّق عن الدِّين، والتولِّي بغير ولاية الإسلام).
ومن خلال الوصف الأول "الانتساب إلى غير الشرع" تدخل في معنى الفِرَق: المجتمعات والأوضاع العَلْمانية؛ على اعتبار أنَّها كِيانات ممكَّنة؛ كالنُّظم العربية وغير العربية التي نبَذت شريعة الله، واتَّخذت لها دساتير وضعيَّة تتحاكم إليها، ونسبت مهمة التشريع إلى البشر القاصرين، فيُصدرون القوانين ويلتزمون بهذه الدساتير الوضعية، وبهذا هم منتسبون إلى غير شريعة الله في الأحكام، بل إلى شرائعهم الوضعيَّة التي وضعوها بآرائهم وأهوائهم، وتدخل فيه الكِيانات المجتمعة على البدع المنحرفة عن أصول الدين؛ كالنظام الإيراني الشِّيعي، والذي تختلط فيه المفاهيم الغربية غيرُ الشرعية بالمفاهيم البِدْعية الشيعية، فهو لا يمثِّل "جماعة" بمعنى: خلافة، أو وضع ممكَّن تجب طاعتُه كما ورد في الحديث؛ لأنَّه وقع في وصف الفِرَق التي أوجب الحديثُ اعتزالَها، وكذا هو حال جميع النُّظم العَلْمانية والبدعية التي تنتسب إلى غير الشرع.
ومن خلال الوصف الثاني "الاجتماع على غير الإسلام" تدخل في معنى الفرق كذلك: المجتمعات والأوضاع العلمانية؛ باجتماعها على غير الإسلام كالوطنيَّة والقومية، فهي تتولَّى بغير ولاية الإسلام، فتجعل "المواطنة" بديلاً لمفهوم "الأمة" في الإسلام، وتُساوي بها بين المسلمِ والكافر بدعوى تقول: إنَّهما مواطنان، لهما ذات الحقوق والواجبات، وأمَّا المسلم الذي لا يحمل مواطنةَ هذه الكيانات، فلا ينال حقوق الكافر الحامل لمواطنتها! أو تجعل الولاء في نظامِها للقوم، فتكون "القومية" هي "الراية" التي تناضل من أجلها، وتوالي وتعادي عليها، فتدخل بهذا في وصف الافتراق عن الدين، والاجتماع على غير الإسلام، عن طريق التولِّي بغير ولايته مِمَّا دخل على الأمَّة من المفاهيم الجاهلية؛ (للبيان المستفيض حول هذا الموضوع؛ راجع كتَابنا: "الهوية والشرعية: دراسة في التأصيل الإسلامي لمفهوم الهوية ورفع الالتباسات عنه).
ويدخل فيها أيضًا - كما يقول الشيخ عبدالمجيد الشاذلي في كتاب "البلاغ المبين" -: "مجتمعات الردَّة إلى بدعة مكفِّرة، المجتمعات التي يغلب عليها عقائد الصوفية الفاسدة: الحلول، الوَحدة، الاتحاد، إسقاط التكاليف، الفيض... إلخ، المجتمعات التي يغلب عليها الممارسات الشركيَّة في العبادة، المتغلِّبون أصحاب الرايات العميَّة الذين فرَّقوا أمر الأمَّة وهو جميع، أصول البدع: الخوارج، الرَّوافض، الجهمية، المرجئة، القدَرية نفاة ومثبتة، أصحاب الاتجاه العقلي الذي يعارضون به الشَّرع ويخرجون به عن الأصول، كل ما يستجدُّ من ابتداع في أصل كلِّي من الدين"؛ اهـ.
تكملة المقال في التعليق التالي...............