المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الديمقراطية الأميركية وإنقلاب غينيا بيساو



عبد الواحد جعفر
22-05-2012, 12:25 PM
الديمقراطية الأميركية وإنقلاب غينيا بيساو

جاء الإنقلاب العسكري في غينيا بيساو بتاريخ 12/4/2012 ليوقف ما بدأته أميركا من عملية إعادة هيكلة وتغيير في المؤسسة العسكرية سواءٌ من حيث دروها في الحياة السياسية أو من حيث عدد المنتسبين إليها. وهذا يدخل ضمن خطة أميركا العامة وعلى مستوى العالم فيما يتعلق بتركيز مفاهيمها في الديمقراطية والدولة المدنية والحكم الرشيد والإقتصاد الحر. وبالتالي فلا يعدو أن يكون هذا الإنقلاب سوى صراع داخلي بين مراكز النفوذ في الأحزاب والمؤسسة العسكرية على حكم البلاد، ولا مجال للحديث هنا عن صراع دولي أو إقليمي بين أميركا وسواها من الدول الإستعمارية السابقة وعلى رأسها البرتغال المستعمرة السابقة لغينيا بيساو. فمنذ استقلال غينيا بيساو قدمت لها الولايات المتحدة 65 مليون دولار في شكل منح ومساعدات، ومنذ العام 1998، وهو العام الذي تم فيه اتفاق غينيا بيساو للسلام بين الرئيس جاو برناردو فيرا وبين رئيس أركان الجيش أنسومان ماني وقتها على إثر الصراع الداخلي بين مؤسسة الرئاسة والمؤسسة العسكرية والذي حصل في أبوجا (نيجيريا) بتاريخ 1/11/1998، فقد كثفت أميركا من معوناتها المالية للمنظمات غير الحكومية وعمليات نزع الألغام، وهي اليوم تلتزم بمبلغ 20 مليون دولار سنوياً لغينيا بيساو من أجل دعم الديمقراطية وإصلاح النظام العدلي وتركيز دولة القانون وإعادة تدريب وهيكلة قطاعي الجيش والشرطة.
إن المتابعة لحيثيات الإنقلاب وإجماع ردود الفعل الدولية والإقليمية على إدانته تظهر بما لا يدع مجالاً للشك أن أميركا ضد الحركة الإنقلابية وقد سخرت كل أدوات ضغطها الدبلوماسية والسياسية والمالية لإفشاله وهي تعمل على إعادة غينيا بيساو على خط الإصلاحات التي بدأت فيها منذ 8/5/1990 عندما دخلت البلاد في مرحلة التعددية السياسية والحزبية. ولتوضيح ذلك وتفصيله نقول التالي:
على إثر هذا الإنقلاب تم إيقاف رئيس الدولة المؤقت ريموندو بريرا ورئيس الحكومة كارلوس غوميز جونيور ورئيس أركان الجيش الجنرال أنتونيو إيندجاي. وكان من المتوقع أن يتم اغتيال كارلوس غوميز لولا الحماية التي لقيها من عناصر الشرطة وجزءٍ من العسكريين الأوفياء له ودعم البعثة الأنغولية. وإنه وإن ظهر للمتابع أن الغرض المباشر لهذا الإنقلاب هو وقف الدورة الثانية من الإنتخابات الرئاسية التي كان يتوجب وقوعها في 29 نيسان/أبريل والتي من المتوقع أن يفوز بها رئيس الوزراء الحالي غوميز الفائز بالجولة الأولى في 18/3/2012، إلا أن المجلس العسكري صرَّح في بيان له لاحقاً أن السبب الحقيقي للإنقلاب هو "اكتشاف اتفاق عسكري سري موقع بين الوزير الأول كارلوس غوميز ورئيس الدولة المؤقت ريموندو بيريرا باسم حكومة غينيا بيساو وبين أنغولا"، و"يشرع هذا الإتفاق تواجد قوات أجنبية؛ أي البعثة الأنغولية (ميسانغ Missang) في غينيا بيساو من أجل حماية الحكومة في صورة وجود أزمة". وفي بيان لاحق للقيادة العسكرية جاء فيه: أن "القيادة ليس لديها أي طموحات للسلطة" مضيفاً أنها "اٌرغمت على التحرك على هذا النحو دفاعاً عن نفسها من المناورات الدبلوماسية لحكومة غينيا بيساو الرامية إلى تصفية القوات المسلحة بواسطة قوة خارجية".
لقد أدانت بشدة كل من الولايات المتحدة وفرنسا والبرتغال وإسبانيا والأمم المتحدة والمجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا الإنقلاب وطالبوا جميعاً بضرورة "الحفاظ على النظام الدستوري" و"حل الخلافات سلمياً". من ذلك ما قالته سفيرة الولايات المتحدة في الأمم المتحدة سوزان رايس التي تتولى الرئاسة الدورية لمجلس الأمن أن الدول الـ15 "تدين العمل العسكري في غينيا بيساو، وتطالب بإلحاج بإعادة الحكم على الفور إلى السلطات المدنية". وكذلك ما قاله جاي كارني الناطق الرسمي باسم باراك أوباما في 14/4/2012: "نحن ندعو إلى تحرير كل المسؤولين الحكوميين ونحث كل الأطراف على حل خلافاتهم عبر المسار الديمقراطي".
وفي استجابة صورية لهذه الدعوة عقد المجلس العسكري بتاريخ 18 نيسان/أبريل اجتماعاً مع كل أحزاب المعارضة لتشكيل حكومة وحدة وطنية تقطع الطريق على فوز غوميس الذي لا يحظى بدعم من بعض عناصر الجيش وكذلك من بعض أعضاء حزبه (الحزب الإفريقي لاستقلال غينيا بيساو والرأس الأخضر) الذي تم استثناؤه من حضور الإجتماع أو المشاركة في حكومة الوحدة. ورغم إعلان المجلس العسكري أنه سيجري انتخابات في البلاد في غضون سنتين بعد أن أعلن عن حل البرلمان وتأسيس مجلس وطني انتقالي يعهد إليه بمهمة تسمية رئيس جديد مؤقت وتشكيل حكومة انتقالية، إلا أن اتحاد دول غرب إفريقيا (ايكواس) والاتحاد الإفريقي وعدد من المؤسسات الدولية الأخرى أدانوا الاتفاق "غير الشرعي" لنقل السلطة في غينيا بيساو، وقام الإتحاد الإفريقي بتعليق عضوية غينيا بيساو حتى يعود الحكم الدستوري، كما علق كل من البنك الدولي وبنك التنمية الإفريقي معونات قيمتها عدة ملايين الدولارات لغينيا بيساو.
أما الأمين العام للحزب الإفريقي لإستقلال غينيا بيساو والرأس الأخضر لويس أوليفاراس فقد طالب في حوار مع وكالة الأنباء الفرنسية "الأمم المتحدة بإرسال قوة استقرار إلى غينيا بيساو لحماية الديمقراطية الجديدة" رافضاً الإعتراف "بأي حل انتقالي" من قبل المجلس العسكري، مضيفاً "يجب إعادة كل المؤسسات المنحلة وتسليمها للمسؤولين السابقين"، و"إن العودة للحياة الدستورية تعني أن يعود الرئيس المؤقت ريموندو بيريرا والوزير الأول كارلوس غوميز جونيور إلى وظائفهم".
وفي بادرة لتنفيذ وعودهم أعلن المجلس العسكري بتاريخ 19 نيسان/أبريل أنه عين مانوال سريفو نامادجو المتحدر من الحزب الافريقي لاستقلال غينيا بيساو والرأس الأخضر والخاسر في الدورة الأولى من الإنتخابات رئيساً مؤقتاً للبلاد. لقد جاء هذا الإنقلاب بعد يوم واحد من دعوة زعيم المعارضة كومبا يالا الذي سبق له أن تولى رئاسة البلد بين عامي 2000 ـ 2003 وحل في المركز الثاني في الجولة الأولى من الانتخابات، دعا إلى مقاطعة الجولة الثانية المقررة في 29 نيسان/أبريل الجاري،وتحدث كومبا يالا عن "عمليات تزوير كثيفة" في الجولة الأولى، علماً أنه نال نسبة 23.26 في المئة من الأصوات مقابل 48.97 في المئة لغوميز الذي تعمل أميركا على إيصاله إلى حكم البلاد. إلا أن المعارضة وعلى رأسها كومبا يالا لم تعترف بالجولة الأولى من الإنتخابات رغم أن المراقبين الدوليين أثنوا على شفافيتها، ورغم تدخل ألفا كوندي رئيس غينيا للوساطة لكن كومبا يالا رفض ذلك، بل هدد قائلاً "كل من يجرؤ على خوض الحملة سيكون مسؤولاً عما يحدث"، وبعد ساعات من هذا التحذير حدث الإنقلاب.
ومع كل ذلك فقد عبرت دول الإيكواس أنها لن تعترف "بأي تحول منبثق من الطغمة" العسكرية واصفة ما جرى بأنه "اغتصاب للسلطة"، فيما طالب مجلس الأمن في بيان له بضرورة "الإعادة الفورية للنظام الدستوري وكذلك عودة الحكومة الشرعية".
وأمام هذه التهديدات من قبل الإتحاد الإفريقي والأمم المتحدة تراجع المجلس العسكري خطوة إلى الوراء عندما عبر ناطقه الرسمي بتاريخ 21 نيسان/أبريل عن استعداد المجلس لمراجعة آليات الإنتقال التي تم الإتفاق عليها مع المعارضة وأن تسمية رئيس مؤقت كان مجرد "اقتراح" مضيفاً "نحن ملتزمون بكل عمق مع الإيكواس من أجل الوصول إلى حل للأزمة" و"نظل دائماً منفتحين"، وبعد ذلك أعلن الرئيس المؤقت الذي اختاره الجيش بأنه: "لن يقبل هذه التسمية" مضيفاً "أنا من المدافعين عن الشرعية ولن أعترف بأي مؤسسة خارج إطار الشرعية".

هذا من حيث الإنقلاب والحيثيات المتعلقة به، أما ما تريد أميركا إنجازه في غينيا بيساو باعتبارها جزءاً من غرب إفريقيا فهو إيجاد الإستقرار السياسي من أجل تمكين شركاتها في البحث والتنقيب على ثروات البلاد وخاصة منها المعادن مثل البوكسيت والفوسفات والنفط الذي تم اكتشاف بعض حقوله على الشواطئ الغينية. ولتحقيق ذلك فإن أميركا تعمل على معالجة قضيتين في هذا البلد الذي يبلغ عدد سكانه قرابة 1.6 مليون نسمة، هما إعادة هيكلة المؤسسة العسكرية ومحاربة تجارة المخدرات، باعتبارهما سببين في عدم الإستقرار وكثرة الإنقلابات وخاصة هذا الإنقلاب الأخير. ورغم أن عدد المسلمين في غينيا يفوق نسبة 40% بينما عدد النصارى 10% والبقية من الوثنيين حسب الإحصاءات الأميركية، إلا أن المسلمين لا يوجد لهم تأثير حقيقي في الحياة السياسية وفي مراكز صنع القرار

عبد الواحد جعفر
22-05-2012, 12:27 PM
1) ـ إعادة هيكلة الموسسة العسكرية:
من الواضح أن أميركا تريد أن تنهي تحكم الجيش وتدخله في الحياة المدنية والسياسية، فغينيا بيساو التي استقلت عن البرتغال في العام 1974 شهدت أكبر نسبة انقلابات عرفتها دولة إفريقية، فقد أطيح بثلاثة رؤساء في انقلابات عسكرية واغتيل رئيس رابع هو جواو برناردو فييرا في مكتبه في آذار/مارس 2009، هذا فضلاً عن المحاولات الفاشلة. ورغم أن البلاد دخلت في نظام التعددية الحزبية منذ 1990 إلا أن حركة الإنقلابات لم تتوقف إلى درجة أنه لم يوجد رئيس أتم ولايته كاملة. والسبب في ذلك أن جيش غينيا بيساو يعمل دائماً على التحكم بالحياة السياسية وتهميش دور السياسيين في الحياة العامة ويدعمه في ذلك جملة من زعماء المعارضة منهم كومبا يالا الذي يرفض أيضاً وجود البعثة الأنغولية بخلاف رئيس الوزراء غوميز الذي يعتبر من أكبر الداعمين لهيكلة الجيش وبقاء بعثة الميسانغ.
لقد اٌضطرت أميركا أن تستعين بأنغولا منذ آذار/مارس 2011 من خلال بعثة الميسانغ لتركيز الإستقرار السياسي في البلد باعتبارها من الدول الناطقة بالبرتغالية مثل غينيا بيساو. فقد قامت أنغولا بوضع برنامج بقيمة 30 مليون دولار بهدف إصلاح قطاع الجيش والأمن وتقديم معاشات تقاعدية لآلاف الجنود الذين كانوا من المقرر أن يتقاعدوا منذ سنوات مضت، وقامت بتدريب 600 شرطي في أنغولا. وحسب "مجموعة الأزمات الدولية" فإن الغرض من كل ذلك هو تكوين حرس وطني أو رئاسي يتبع وزير الداخلية ويكون بمثابة "ثقل موازن" للجيش. إلا أن مهمة البعثة الفنية العسكرية لم تكن تحظى بقبول من الضباط النافذين في الجيش ومن السياسيين الموالين لهم. فطبقاً لتقارير أوردتها وكالة الأنباء البرتغالية "لوسا"، قالت مصادر أنغولية، إن شخصيات سياسية مهمة من المعارضة بدعم من عناصر في الجيش تريد إنهاء مهمة "البعثة التقنية العسكرية لأنغولا" (ميسانغ) ورحيل قواتها البالغ عددها 200 عنصراً من غينيا بيساو بسبب سعيها لتكوين حرس رئاسي تابع لرئيس الوزراء غوميز يستعين بها ضد نفوذ الجيش في الحياة السياسية". ولذلك قامت أحزاب المعارضة مدعومة بعناصر فاعلة من الجيش بتظاهرة أمام السفارة الأنغولية في بيساو مطالبين برحيل القوات الأنغولية التي وقعت اتفاقية التعاون العسكري بينها وبين القوات الغينية من أجل السلم والإستقرار، وكانت هذه التظاهرة يوم زيارة وزير الدفاع الأنغولي كانديدو فان دونيم إلى بيساو بتاريخ 3 نيسان/ إبريل حاملاً رسالة من الرئيس الأنغولي خوسي إدواردو دوسانتوس. وقد علق رئيس الوزراء غوميز الذي وجدت فيه أميركا ضالتها السياسية ليقود عملية إعادة هيكلة المؤسسة العسكرية، عن موقفه من رحيل البعثة الأنغولية قائلاً: "بسبب سياسيين كاذبين، جاءنا مبعوث من رئيس أنغولا يقول لنا بأنه للأسف سوف ترحل الوحدة (العسكرية) الأنغولية. كل هذا هو من عمل سياسيين حمقى ومن دون برنامج ويريدون زعزعة غينيا بيساو بكل ثمن".
وبالفعل فبتاريخ 9 نيسان/أبريل أعلن وزير الخارجية الأنغولي جورج ريبالو شيكوتي، أن بعثة الميسانغ سوف ترحل عن غينيا بيساو بينما كتب رئيس الوزراء غوميز رسالة إلى الأمين العام للأمم المتحدة يطالبه فيها بإرسال قوات لحفظ السلام تشارك فيها أنغولا والبرازيل وغانا. وبعد ثلاثة أيام فقط من هذا الحدث جاء الإنقلاب العسكري وذلك بعد أن اطمأن الضباط إلى أن القوات الأنغولية لن تحول دون حصوله. وعليه فإن الإعلان عن رحيل القوات الأنغولية قد فتح الطريق لعملية الإنقلاب.
وإضافة إلى استعانة أميركا بأنغولا عملت على محاصرة العناصر المناوئة لها والرافضة للسير في حزمة الإصلاحات التي تريدها من بين صفوف الحزب الافريقي لاستقلال غينيا بيساو والرأس الأخضر مثل مانوال سريفو ناهامادجو، خاصة بعد انتخاب الرئيس ملام بكاي سانها في 28/6/2009 وفوزه على زعيم المعارضة والرئيس السابق كومبا يالا واستمرار كارلوس غوميز جونيور في رئاسة الحكومة. وقد وصفت أميركا، زيادة على مساهماتها المالية، هذه الإنتخابات "بالشفافة والحرة". إلا أن وفاة الرئيس سانها بمرض السكري في باريس بتاريخ 9/1/2012 دفع بأميركا بتحريك غوميز لخوض الإنتخابات ومن ثم تولي رئاسة الدولة حتى يكمل ما بدأه الرئيس سانها. ويتمثل دور غوميز إذا ما فاز بالإنتخابات أن يقوم بتخفيض عدد المنتسبين للمؤسسة العسكرية من 12000 إلى 3000 وذلك بغرض تحجيم وزن الجيش وتحكمه بالحياة السياسية وإشراف بعض قادته على تجارة المخدرات. فقد بات مطلب تخفيض عدد العسكر في غينيا بيساو مطلباً أميركياً ملحاً على أي حكومة غينية، وهو ما يلقى معارضة من قبل الجيش والموالين له من السياسيين.
إنه منذ عام 2006 دخلت غينيا بيساو بضغط أميركي وبتمويل ودعم من الأمم المتحدة في عملية إصلاح للقوات الأمنية والعسكرية، ثم تدعم هذا المسار مع وصول غوميز إلى رئاسة الوزارة بدعم كبير من الولايات المتحدة في الإنتخابات التشريعية التي وقعت في 16/11/2008 حيث تبنت حكومته جملة قوانين تتعلق بإصلاح المؤسسة العسكرية، فصرفت نصف مليون دولار في صندوق إعادة هيكلة الجيش وقامت بسن قوانين لمحاربة تجارة المخدرات. والغاية من ذلك كما يقول غوميز نفسه: "نحن نحتاج إلى تكوين حرس جمهوري يحترم القانون المدني، ولكننا أيضاً نريد قوات أمن حديثة ومجهزة جيداً تعيننا على محاربة تجارة المخدرات".
إلا أن تخفيض عدد المؤسسة العسكرية والقوات الأمنية إلى عدد قابل للسيطرة عليه وتدريبه لاحترام الحياة السياسة سوف يكلف مبلغ 200 مليون دولار حسب أنتيرو لوبيز رئيس القطاع الأمني في برنامج الإصلاح التابع لبعثة الأمم المتحدة في غينيا بيساو.
يجب أن يكون واضحاً أن سيطرة العسكر على البلاد والإعلان عن رحيل بعثة الميسانغ لا يعني أن أميركا قبلت بهذا الوضع الجديد. فقد أعلنت البرتغال بتاريخ 15 نيسان/أبريل وذلك من باب الضغط على أعصاب الإنقلابيين وربما كان تمهيداً لتدخل عسكري، أنها سوف ترسل "قوة التدخل الفوري" التابعة لها والمؤلفة من سفينتين وطائرة عسكرية إلى غينيا بيساو، استعداداً لعملية "اجلاء محتملة لرعايا برتغاليين وغير برتغاليين"، مما جعل المجلس العسكري الحاكم في غينيا بيساو يعلن عن إغلاق كل المعابر الحدودية البحرية والجوية، بينما عبر فرناندو فاز، المتحدث باسم أحزاب المعارضة قائلاً في نفس اليوم: "السفن البرتغالية لن تدخل مياهنا الاقليمية إلا إذا سمح لها بذلك. غينيا بيساو بلد ذو سيادة".
كما دفعت أميركا بمجموعة الدول الناطقة بالبرتغالية وعلى رأسها البرتغال وأنغولا للتحرك داخل مجلس الأمن للمطالبة بإرسال "قوات حفظ استقرار" بتفويض من الأمم المتحدة ويمكن أن تضم هذه القوة الأممية قوات من غرب إفريقيا بما فيها القوات الأنغولية المتواجدة في غينيا بيساو. فقد صرح وزير الخارجية البرتغالي باولو بورتاس قائلاً: "لقد حان الوقت الذي يجب أن نقول فيه لا لسيطرة الأسلحة على الصناديق" وفي أول رد من جانب المجلس العسكري على هذا التحرك الأميركي بالوكالة صرح الناطق الرسمي باسم الإنقلابيين العقيد دابا نا والنا أن الجيش سوف "يدافع عن سلامة الأراضي الغينية" إذا أرسلت الأمم المتحدة قوة عسكرية لإرجاع النظام الدستوري. فردت أميركا عليه بلسان وزير الخارجية البرتغالي الذي طالب بعقوبات دولية مباشرة ضد "الإنقلابيين ومن يدعمهم سياسياً".

2) ـ محاربة تجارة المخدرات:
تعتمد غينيا بيساو رسمياً في مداخيلها أساساً على تصدير بعض المنتوجات الزراعية مثل الكاشو وعلى المساعدات الخارجية إلا أنها تمثل أهم نقطة عبور لتجارة المخدرات القادمة من أميركا الجنوبية والمتجهة إلى أوروبا، وذلك بحكم موقعها على المحيط الأطلسي. فقد ذكرت برقية دبلوماسية أميركية مسربة عام 2009 أن ما يقدر بنحو 800 كغم من الكوكايين تصل جواً إلى غينيا بيساو كل ليلة، إلى جانب كمية غير معروفة تنقل بحراً إلى شبكة جزر تشكل جزءاً كبيراً من ساحل البلاد.
وعندما وصل غوميز في 16/11/2008 إلى رئاسة الحكومة قام بسن قوانين لمحاربة تجارة المخدرات بدعم من الولايات المتحدة، من ذلك ما ورد في تسريبات ويكليكس بتاريخ 16/10/2008 الوثيقة تحت رقم 08dakar1188، بعنوان:guinea bissau security sector reform
ـ إصلاح القطاع الأمني في غينيا بيساو، أن السفير الأميركي لغينيا بيساو والمقيم في السنغال أعرب لوزير العدل والمدير العام ورئيس الشرطة العدلية الغينيين أثناء زيارتهم له في دكار "أن حكومة الولايات المتحدة سوف تقوم بكل ما في طاقتها لدعم جهود غينيا في حربها على كارثة المخدرات". وبعد أسبوع فقط من وصول غوميز إلى رئاسة الحكومة أي بتاريخ 23 نوفمبر2008 قام قائد البحرية بوبو نا تشوتو بمحاولة انقلاب فاشلة على خلفية هذه القوانين، ثم في 2/3/2009 تم اغتيال رئيس الدولة وقتها جاو برناردو فيرا وقائد جيشه الجنرال باتيستا تاغما نا واج لإيقاف عملية محاربة تجارة المخدرات التي يدور فيها الصراع حسب كثير من المختصين داخل المؤسسة العسكرية بين قائد البحرية نا شوتو ورئيس أركان الجيش الجديد الجنرال أنتونيو إيندجاي. وهذا الصراع بينهما لا يتعلق بإصلاح الجيش بل حول إدارة تجارة المخدرات وتقاسم مرابيحها. وعليه فإن كثيراً من المتابعين يرون أن رئيس الأركان الجنرال أنتونيو إيندجاي الجنرال هو الذي يقف وراء هذا الإنقلاب الأخير في غينيا بيساو، وذلك حسب الأدلة الأربعة التالية:
ـ رغم اعتقال الإنقلابيين لرئيس الأركان إلا أنهم لم يعلنوا عن قائد الإنقلاب كما يحصل عادة، واكتفوا فقط بتعيين ناطق رسمي لهم مما يدلل على أنه هو الذي يدير الحركة الإنقلابية من وراء ستار.
ـ بعد يومين من انتهاء الدورة الأولى من اإنتخابات اتهم السفير الأنغولي في غينيا بيساو الجنرال أنتونيو إندجاي بأنه يعد لإنقلاب عسكري.
ـ رغم أن قائد البحرية خوسي أميركو بوبو نا تشتو قد قاد عدة محاولات للإنقلاب في عام 2008 و2009 وآخرها في 6/12/2011 عندما كان الرئيس سانها بالمستشفى في باريس، إلا أنه كان يعود كل مرة لأخذ موقعه العسكري، ورغم أنه متهم منذ سنوات بالإشراف على تجارة المخدرات إلى درجة أن الولايات المتحدة وضعته مع قائد القوات الجوية إبرايما بابا كامارا في 8/4/2010 على قائمة بارونات تجار المخدرات، ومع كل ذلك أعاده رئيس الأركان أنتونيو إيندجاي إلى موقعه في قيادة البحرية، مما أغضب أميركا وجعلها توقف بتاريخ 30/6/2010 مساعداتها العسكرية إلى غينيا بيساو كما أوعزت إلى الإتحاد الأوروبي فأنهى بعثته العسكرية الخاصة بإصلاح القوات الأمنية.
ـ استقالة رئيس الشرطة العدلية لوسيندا أهوكاري المدعوم أميركيا بتاريخ 6/5/2011 بسبب التهديدات التي يتلقاها من ضباط المؤسسة العسكرية جراء جهوده في محاربة المخدرات. ولعل هذا ما جعل القنصل الشرفي لبريطانيا في غينيا بيساو جان فان مانين يفسر الإنقلاب الأخير بالقول: "المخدرات هي وراء كل شيء، إنها دخل ممتاز بالنسبة للجيش وهو يتخوف من أن يفقد كل ذلك".

وعليه فإن تجارة المخدرات في غينيا بيساو تعتبر من العوائق الكبيرة بالنسبة لأميركا لأنها تحول دون تحقيق الإستقرار السياسي والأمني اللازمين للإستثمار الخارجي خاصة في مجالي النفط والمعادن. فقد أصبحت غينيا بيساو في السنوات الأخيرة المحور الأساسي في تجارة المخدرات بين أميركا الجنوبية وأوروبا وذلك بفضل مجموعة من قادة الجيش وبعض المسؤولين السياسيين في البلاد. وهذا ما جعل وزير الخارجية البرتغالي باولو بورتاس يقول في خطابه أمام مجلس الأمن بعد الإنقلاب الأخير: "إن المشكلة هنا تكمن في الإختيار بين دولة مبنية على النظام الدستوري وبين دولة مارقة مبنية على سلطة تجارة المخدرات".

عبد الواحد جعفر
22-05-2012, 12:28 PM
3) ـ نتائج الضغط الأميركي:
لقد آتى ضغط أميركا ووكلائها الإقليميين اٌكله عندما أعلن رؤساء دول غرب إفريقيا المجتمعون في قمة في أبيدجان الخميس يوم 26/4/2012 برئاسة الحسن وتارا عزمهم على إرسال قوة إقليمية إلى غينيا بيساو ما بين 500 إلى 600 عسكري "لتوفير أمن للعملية الانتقالية"، وهم ينتمون إلى أربع دول على الأقل هي نيجيريا وتوغو وساحل العاج والسنغال. وطلب المجتمعون من أعضاء القيادة العسكرية "العودة إلى الثكنات" وحذروهم من "أي عمل عشوائي وأحادي يقومون به لأن ذلك سيعرضهم لعقوبات شخصية محتملة". وأوضح البيان الختامي أنه في حال "لم ترضخ القيادة العسكرية خلال الساعات الـ72 المقبلة" فان المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا "ستفرض على الفور عقوبات موجهة ضد أعضاء القيادة العسكرية ومساعديهم وكذلك فرض عقوبات دبلوماسية واقتصادية ومالية على غينيا بيساو مع عدم استبعاد ملاحقات أمام المحكمة الجنائية الدولية".
وقبل أقل من 48 ساعة من انتهاء المهلة التي حددتها الإيكواس وافق المجلس العسكري بتاريخ 27 أبريل على مطالبها بخصوص مدة المرحلة الانتقالية التي صارت 12 شهرا بدل سنتين وعلى القبول بنشر قوة عسكرية من غرب إفريقيا وعلى إطلاق سراح القادة المعتقلين. وبالفعل وصل الرئيس السابق بالوكالة لغينيا بيساو رايموندو بيريرا ورئيس الوزراء السابق كارلوس غوميس جونيور إلى أبيدجان للقاء الحسن وتارا ومسؤولي الإيكواس، ولم يكن معهما قائد الجيش أنتونيو ايندجاي الذي ودعهما في مطار بيساو بعد اجتماع مغلق معهما. وقد أعلن الناطق باسم الإنقلابيين على إثر ذلك: في مؤتمر صحافي "نجحنا في إسماع صوتنا لمجموعة غرب إفريقيا التي سترسل اعتباراً من السبت فريقاً فنياً لوضع اللمسات الأخيرة على نشر قوة اقليمية". وأكد الناطق نفسه أن "عودة السلطة إلى المدنيين تسير في الطريق الصحيح" لأن "مكان العسكريين هو الثكنات". وأوضح الناطق الرسمي العقيد وانالنا أن الحكومة الانتقالية المقبلة ستكون "حكومة تكنوقراط وشخصيات حيادية مهمتها إدارة المرحلة الانتقالية 12 شهراً". وأضاف أن المحادثات مع وفد مجموعة غرب إفريقيا تناولت أيضاً "وضع آلية لمراقبة تهريب المخدرات ومكافحتها"، مشدداً على أنها قضية "تثير قلق القادة"..
وبتاريخ 1/5/2012 عاد الناطق الرسمي للقيادة العسكرية دابا نا والنا ليصرح أنه تم قبول "كل مطالبات" المجموعة الإقتصادية لغرب إفريقيا ما عدا عودة الرئيس المؤقت ريموندو بيريرا إلى وظيفته، وقد علل ذلك بالقول: "إذا عاد ريموندو بيريرا فإنه سوف يكون القائد الأعلى للقوات المسلحة. فأي قوات سوف يقودها علماً بأن هذه القوات نفسها هي من قامت باعتقاله في 12 نيسان/أبريل؟" إلا أن اتهام الإيكواس لرئيس أركان الجيش الجنرال أنتونيو إيندجاي بعرقلة الإتفاق جعلت الناطق الرسمي للجيش يصرح قائلاً: "لقد طلبنا من الإيكواس أن يعطونا وقتاً إضافياً. ونحن نظن أن حالته (الرئيس بيريرا) تستأهل نقاشاً داخلياً".

وبغض النظر عما سوف تسفر عنه المناقشات بين مجموعة الإتصال التابعة للإيكواس والقيادة العسكرية في غينيا بيساو بخصوص مصير الرئيس ريموندو بيريرا فإن أميركا ووكلاءها في إفريقيا وأوروبا والأمم المتحدة سوف يستمرون في الضغط بكل الوسائل نحو العودة للحياة الدستورية التي كانت قبل الإنقلاب وذلك من أجل الإستمرار فيما بدأت به من إعادة هيكلة المؤسسة العسكرية ومحاربة تجارة المخدرات لأنها تحتاج إلى الإستقرارالسياسي والأمني لإكمال عمليات التنقيب وإستخراج النفط من شواطئ هذا البلد الإسلامي الواقع في غرب إفريقيا. فرغم كل هذه العوائق المتعلقة بالمؤسسة العسكرية وتجارة المخدرات في غينيا بيساو، فقد استطاعت أميركا مع مجموعة من الشركات منذ 8/6/2011 أن تبدأ البحث والتنقيب في حقل كورا (Kora) الواقع قبالة الشواطئ الغينية السنغالية بعمق 65 ميلاً، والشركة التي تمسك المشروع هي شركة أوفير للطاقة (Ophir Energy ) البريطانية بنسبة 44.2% وشركة نوبل للطاقة (Noble Energy) الأميركية بنسبة 33%، بالإضافة إلى شركة أستراليا الأولي للموارد (8.8%) والشركة الحكومية الغينية (12%). ويحتوي هذا الحقل حسب المسح المبدئي على مخزون بمقدار نصف مليار برميل من النفط حسب تقدير الحكومة الأميركية.
والذي يجب لفت الإنتباه إليه أن اهتمام الولايات المتحدة بغينيا بيساو يرجع إلى وجودها في غرب إفريقيا التي تعتبر أهم منطقة تهتم بها الإستراتيجية الأميركية داخل إفريقيا نظراً لما تمتلكه من ثروة بترولية هائلة حالياً بالمقارنة مع بقية أجزاء القارة. فغرب إفريقيا يوفر الآن حوالي 15% من واردات النفط الأميركية، هذا بالإضافة إلى جودته العالية وخطوط الشحن إلى الولايات المتحدة هي من أقصر خطوط الإمداد مقارنة بأي منطقة إنتاج أخرى للنفط. ولذلك كثفت أميركا من قواعدها ووجودها وتعاونها العسكري مع دول هذه المنطقة لتأمين منابع وخطوط النفط فيها وخاصة في خليج غينيا الذى يتعدى إنتاجه النفطى خمسة مليون برميل من النفط يومياً، وكذلك خط النفط الذي يربط تشاد بالكاميرون والذى يتجه مباشرة إلى السواحل الأطلسية في أميركا. وهذا يدخل في صلب "سياسة الطاقة الأميركية" الصادرة في 16/5/2001 على يد نائب الرئيس وقتها ديك تشيني، وما نتج عنها بعد ذلك في آذار/مارس 2003 من إعلان قائد القيادة الأميركية في أوروبا جيمس جونز عن رغبة الولايات المتحدة في إقامة قيادة عسكرية أميركية خاصة بإفريقيا، وهو ما عرف لاحقاً باسم أفريكوم. فلقد ذكر تقرير تشيني "أنه يٌتوقع أن تكون غرب إفريقيا، بالإضافة إلى أميركا اللاتينية، من مصادر النفط والغاز الأسرع نمواً بالنسبة للسوق الأميركية"، وبناءً عليه يذهب التقرير إلى أنه يجب على الولايات المتحدة الأميركية أن تنشىء قواعد عسكرية فى كل المناطق التى تحتوى على النفط فى العالم بدءاً من كازخستان وحتى أنغولا فى أفريقيا.
15/جمادى الآخرة/1433هـ
7/5/2012م