المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الإتفاق الأميركي الفرنسي في ساحل العاج



عبد الواحد جعفر
22-05-2012, 12:20 PM
الإتفاق الأميركي الفرنسي في ساحل العاج

مقدمة
إن مراقبة التغير على الموقف الدولي باستمرار هو من أهم ما ينبغي أن ينشغل به السياسي. ولا يصح أن يستمر البناء على خطوط عريضة في السياسة باعتبارها ثوابت لا تقبل الجدل أو التغيير؛ لأن من شأن ذلك أن يشل الفهم السياسي أو يؤدي إلى نتائج غير سليمة في فهم الأحداث السياسية. وعليه فقد لوحظت ملامح تغيير جذري على العلاقات الأميركية الفرنسية اقتضى التنبه إليها حتى يستقيم النظر إلى الأحداث والحكم عليها.
فمنذ بروز نيكولا ساركوزي ضمن الحزب الديغولي "التجمع من أجل الحركة الشعبية" في العام 2006 حدث تغيير مهم في الوسط السياسي الفرنسي كان له تأثير كبير في تغير مسار العلاقات الأميركية الفرنسية. فقد ركَّز ساركوزي أثناء حملته الإنتخابية الأولى على أمرين أساسيين، هما: 1_ تصحيح العلاقة مع أميركا 2_ تغيير مفهوم دولة الرعاية الفرنسية واستبدالها بنموذج على الطراز الأميركي، وهو ما جعله محط سخرية من قبل خصومه في اليسار الفرنسي الذين اعتبروه "محافظاً جديداً أميركياً يحمل جواز سفر فرنسي"؛ إلى درجة أن الرئيس جاك شيراك قال لبعض محدثيه وقتها إنه "في حال انتخاب هذا الشخص (ساركوزي) فإنه سيضع فرنسا في مواجهة العالم، فهو أطلسي التفكير ومؤيد لجورج بوش بالإضافة إلى أنه ليكودي"، مضيفاً "سيؤدي هذا الأمر إلى تغيير حاد في سياسة فرنسا". وبالفعل مثل صعود ساكوزي إلى الحكم عند الكثير من الفرنسيين ميلاد الجمهورية السادسة بسبب النقلة النوعية التي أخذ إليها فرنسا في علاقتها بالولايات المتحدة من خلال صفقة التفاهم التي تم إنجازها بين البلدين. ولعل أهم معالم هذه الصفقة تظهر كالتالي:
أ ـ دعم أميركا سياسة الدفاع الأوروبي المشترك مقابل عودة فرنسا إلى هيكل القيادة العسكرية للناتو، وهو ما جعل فرنسا تقوم بدور أكثر نشاطاً في إطار التحالف العسكري مع الولايات المتحدة وتحت مظلة الناتو لكنها تقوم بتسخير القوات الأوروبية في خدمة المخططات العسكرية الأميركية. ولقد ظهر ذلك جلياً عندما قامت قوات اليوروفور الأوروبية في تشاد بقيادة فرنسا في بداية العام 2008 بأكبر عملية انتشار عسكري لها ينفذها الإتحاد الأوروبي خارج القارة الأوروبية ومن دون مساعدة حلف شمال الأطلسي، وذلك في إطار الدعم والإسناد لقوات اليوناميد الأممية في دارفور.
ب ـ قبول فرنسا بتفرد أميركا لقيادة العالم مقابل سماح أميركا لفرنسا بقيادة أوروبا على حساب ألمانيا دون إخلال فعلي بسياسة التوازن وتحت مظلة حلف الناتو. فقد أدركت فرنسا أن ألمانيا استعادت قوتها الإقتصادية على إثر تكاليف الوحدة التي كانت تقف وراءها أميركا لتجعل منها نداً لفرنسا، وهي الآن تسير بدفع أميركي لتصبح قوة سياسية. ولذلك باتت فرنسا تحتاج لأميركا استراتيجياً لمواجهة منافستها الرسمية في القارة الأوروبية أي ألمانيا.
ج ـ مساعدة أميركا لفرنسا في حل مشاكلها الإقتصادية من خلال رفع مبيعاتها من السلاح والطائرات المقاتلة التابعة لشركة داسو وتمكينها من عقد صفقات بمليارات الدولارات خاصة في مجال النفط وبناء محططات الطاقة النووية خاصة مع دول الخليج وعلى رأسها السعودية وقطر الإمارات، وذلك على إثر الزيارة التي قام بها ساركوزي للمنطقة في كانون الثاني/يناير 2008؛ كما مثلت زيارة ساركوزي للعراق في شباط/فبراير 2009 وما نتج عنه من عقود كبيرة أنجزها دليلاً على رفع أميركا الفيتو الذي وضعه رامسفيلد حول نصيب فرنسا من الكعكة بعد أن رفض شيراك الإنخراط في التحالف الأميركي لإسقاط نظام صدام حسين عام 2003.
أما الذي تجنيه أميركا من وراء هذه الصفقة مع فرنسا فيظهر ذلك في الأهداف التالية:

أ ـ إزاحة فرنسا من المنافسة الإقليمية بعد إزاحتها من المنافسة الدولية عام 1961 مع إشباع طموحاتها الدولية في سياسة العظمة ضمن الفلك الأميركي: فقد ذكر ساركوزي أن فرنسا ستكون "أكثر نفوذاً وأقوى" بعد إتمام عملية الانضمام إلى القيادات العسكرية للناتو التي انسحبت منها عام 1966، وقال "لأن الغائبين دائماً على خطأ ولأن فرنسا يجب أن تقود وليس أن تخضع ولأنه علينا أن نكون حيث تتخذ القرارات والمعايير بدلاً من الانتظار في الخارج لتبلغ هذه القرارات"، مضيفا "ليس لنا أي منصب عسكري مسؤول ولا كلمتنا (مسموعة) عندما يحدد الحلفاء أهداف العمليات العسكرية ووسائلها (...) وقد حان الوقت لنضع حداً لهذا الوضع لأن ذلك في مصلحة فرنسا وأوروبا".

ب ـ دعم فرنسا للمخططات والأهداف الإستراتيجية الأميركية والتي على رأسها:
1/ـ محاربة الإسلام والمسلمين والحيلولة دون عودة الخلافة تحت مسميات محاربة الإرهاب والتطرف ودعم الثورات العربية.
2/ـ الوصول غير المحدود إلى مصادر الطاقة وغيرها من الموارد الأولية.
3/ـ التحكم بالأسواق العالمية لتصريف المنتجات الغربية.
4/ تأمين سلامة طرق المواصلات عسكرياً بشبكة من القواعد والإتفاقات المحلية والإقليمية والدولية.

ج ـ إبعاد فرنسا عن التحالف مع روسيا: باعتبار أن هذا التحالف أو التعاون الروسي الفرنسي يشكل واحداً من المحاور المهمة في السياسة الخارجية الفرنسية وبغض النظر عن التيارات السياسية الحاكمة، وهو تحالف يمتد إلى ما قبل الجنرال شارل ديغول فيما عرف بالإتفاقية الفرنسية السوفياتية في 21/5/1935. ثم تدعم هذا التحالف مع ديغول بالتوقيع في 1/12/1944 على "اتفاقية التحالف والمساعدة المتبادلة" بين البلدين بعد شهرين من تحرير فرنسا من النازية وسقوط حكومة فيشي برئاسة الماريشال فيليب بيتان. ويكفي هنا أن نقارن بين تصريح شيراك وتصريح ساركوزي لندرك مقدار التحول في سياسة فرنسا الخارجية تجاه روسيا. فقد ذكر جاك شيراك في خطاب له بتاريخ 26/9/1997 أنه "لن يكون هناك أمن أوروبي من غير روسيا التي عليها أن ترتبط بهذا الموضوع وتعطيه انتباهاً وتركيزًا عميقاً ومشاركة فعالة". أما ساركوزي فقد ذكر في خطاب له بمناسبة المؤتمر الخامس عشر للسفراء بتاريخ 27/9/2007 قائلاً: "وتفرض روسيا عودتها على الساحة الدولية حيث تلعب بنوع من الفظاظة على مقومات نجاحها، لا سيما النفطية والغازية منها، في الوقت الذي يأمل فيه العالم منها، ولا سيما أوروبا، مساهمة مهمة وإيجابية في تسوية مشكلات عصرنا، مساهمة تبررها استعادة هذه الدولة لمكانتها. عندما تكون دولة قوة كبرى، فيجب أن تنحي الفظاظة جانباً". كما ورد عن ساركوزي أنه أبلغ نظيره الروسي مدفيدف في لقاء معه بأن على موسكو أن تدرك جيداً أن "الحرب الباردة انتهت وسقط جدار برلين، وأنه لم يعد هناك دول صغيرة مستضعفة في جوارها"، في إشارة إلى علاقتها مع جورجيا وأوكرانيا.


الإتفاق الأميركي الفرنسي في ساحل العاج

مثلت الأزمة التي وقعت في ساحل العاج بين الحسن وتارا ولوران غباغبو في تشرين الثاني/نوفمبر 2010 دليلاً إضافياً على التحول الجذري في العلاقات الدولية بين فرنسا وأميركا سواء فيما يتعلق بالسياسات الدولية أو بالقضايا الإقليمية. ومن دون فهم هذا المتغير السياسي الدولي فإنه يستحيل علينا فهم حقيقة كثير من الأحداث الجارية في أوروبا وإفريقيا والشرق الأوسط وشمال إفريقيا وعلى صعيد القضايا الدولية.

والآن وبعد بيان ملامح التغير الجذري في العلاقات الفرنسية الأميركية كما ورد في المقدمة نعود للحديث عن ساحل العاج بشيء من التفصيل، فنبدأ بالقول كما يلي:
بناءً على الإتفاق الأميركي مع فرنسا ساركوزي وما نتج عنه من تحول في العلاقات بين الدولتين نجحت أميركا في إيصال عميلها الحسن وتارا إلى سدة الحكم في ساحل العاج في انتخابات تشرين الثاني/نوفمبر 2010. وبالتالي فإن تساؤل البعض عن كيفية حصول هذا الاتفاق الأميركي الفرنسي في بلد كساحل العاج عرفت صراع النفوذ بين الدولتين منذ عدة سنوات، غير ذي معنى بعد الذي أسلفناه من حقيقة التفاهم الفرنسي الأميركي بخصوص سياستيهما الخارجيتين. لقد كانت فرنسا تعتبر ساحل العاج إحدى القلاع المتقدمة للفرنكفونية في إفريقيا، وذلك منذ أن احتلتها نهاية القرن التاسع عشر. بل إن فرنسا جعلت من ساحل العاج أنموذجاً للاحتلال الفرنسي المعروف بشراسته في فرض الثقافة واللغة الفرنسيتين، هذا فضلاً عن سيطرتها الإقتصادية. فساحل العاج كانت تمثل نحو 40% من الكتلة النقدية لمنطقة الفرنك الفرنسي في إفريقيا، كما أن 60% من جملة المستثمرين في البلاد هم من الفرنسيين. لذا عملت فرنسا على بناء المدن الاقتصادية على سواحل هذا البلد الإسلامي حتى يسهل عليها نقل المواد اللازمة إلى باريس بأقل تكلفة، وخاصة محصول الكاكاو الذي تُنْتِج منه ساحل العاج نحو 40% من الإنتاج العالمي، زيادة عن كونها مصدراً رئيسيّاً للموز والبن والقطن وزيت النخيل والأناناس والمطاط والأخشاب، وغيرها من الموارد. وبناء عليه نجحت فرنسا من قبل في تمكين عميلها "لوران غباغبو" رئيس حزب الجبهة الشعبية من حسم نتائج الانتخابات الرئاسية لصالحه في 22/10/2000، بفضل الإنقلاب الذي قام به "روبرت غي" في 25/12/1999 والذي قام على إثره باستبعاد 14 مرشحاً من أصل 19 عن المشاركـة في الانتخابات، كان من ضمنهم "الحسن وتارا" رئيس تجمع الجمهوريين، متذرعاً بقانون الهوية الإيفوارية الذي ينص على حرمان أي مواطن عاجي لا يتمتع بالنقاء العرقي من خوض هذه الانتخابات، ذلك أن والدة وتارا كانت من أصول بوركينية.

أما أزمة 2010 فقد بدأت في ساحل العاج على إثر الانتخابات التي تمت في 28 /11/2010 والتي كان يفترض أن تجرى في أواخر 2005 عندما انتهت ولاية غباغبو الذي تولي الحكم منذ العام 2000 إلا أنه نجح بتأجيلها أكثر من ست مرات لكي يبقى في السلطة طويلاً بدعم فرنسي واضح في ذلك الوقت. وإنه بدلاً من أن تحسم الانتخابات في ساحل العاج السباق لصالح أحد المرشحين أفضت النتائج إلى وضع خطير ضاعف من الأزمة السياسية والعسكرية التي شهدتها البلاد منذ عام 2002 عندما اندلع التمرد الشمالي ضد حكم غباغبو بدفع أميركي، والذي أدى إلى إرسال قوات حفظ سلام دولية للفصل بين الأطراف المتنازعة. لقد فوجئ العالم في 4/12/2010 بأن ساحل العاج أصبحت دولة برئيسين، حيث أعلن التلفزيون الحكومي الرسمي أن الرئيس لوران غباغبو أدى اليمين الدستورية لفترة رئاسية جديدة، في وقت أعلن فيه زعيم المعارضة الحسن وتارا نفسه رئيساً للبلاد بعد فوزه بالانتخابات الرئاسية الأخيرة. فعندما أعلنت لجنة الانتخابات فوز وتارا بنسبة 54% مقابل 46% من الأصوات لغباغبو، سارع رئيس المجلس الدستوري بول ياو أندري بالخروج على الملأ في 3/12/2010 ليؤكد أن غباغبو هو الفائز بعد أن أحرز 51% من الأصوات، موضحاً أن نتائج التصويت في سبع من المناطق الشمالية المؤيدة لوتارا ألغيت بسبب ما أسماها تجاوزات انتخابية خطيرة.

عبد الواحد جعفر
22-05-2012, 12:21 PM
وبعد أن أعلن باغبو ووتارا نفسيهما رئيسين للبلاد سارع قادة الجيش وعلى رأسهم الجنرال فيليب مانجو قائد القوات المسلحة في إعلان ولائهم لغباغبو، بينما أعلن رئيس الوزراء غيوم سورو استقالته من منصبه وتأييده للحسن وتارا. هذا على المستوى الداخلي أما على المستوى الدولي والإقليمي فقد بادر الرئيس الأميركي باراك أوباما والرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، ومن بعدهما الأمم المتحدة والإتحاد الأوروبي والإتحاد الإفريقي، إلى إعلان تهنئة وتارا باعتباره الفائز الشرعي، داعين غباغبو إلى تسليم السلطة بشكل سلس وداعين الجيش الإيفواري إلى الوقوف إلى جانب الرئيس المنتخب الحسن وتارا. وأعلنت وزارة الخارجية الأميركية فرض حظر على سفر مساعدي غباغبو، بعد حظر مماثل فرضه الإتحاد الأوروبي على سفر غباغبو وكبار مساعديه، وهددت الأمم المتحدة بفرض عقوبات دولية، مؤكدة أنها ستعزز قواتها بساحل العاج هناك، والبالغ عددها 10 آلاف جندي، فيما أكدت فرنسا أن من حقِّ قواتها هناك _نحو 950 جنديّاً_ الرد في حال تعرضها لهجوم.
والسؤال المحوري هنا: كيف وافقت فرنسا على التخلص من عميلها السابق لوران غباغبو وتثبيت عميل أميركا الجديد الحسن وتارا؟
وللجواب على هذا السؤال نذكر سببين:
أولاً، فشل اتفاق ماركوسي:
بعد وصول غباغبو إلى الحكم في عام 2000 بالتنسيق مع الجيش والشرطة العاجية وبدعم مطلق من فرنسا شيراك، تحرك المسلمون في الشمال بتحريض أميركي، بعد انحياز رئيس الوزراء النصراني غيوم سورو إلى وتارا والشماليين وقيادة التمرد على قوات غباغبو. واستطاع التمرد في أيلول/سبتمبر سنة 2002 من الانقلاب على غباغبو والسيطرة على نصف البلاد، وكان على وشك السيطرة على العاصمة لولا أن القوات الفرنسية المرابطة في ساحل العاج حالت دون ذلك. لقد تحركت فرنسا وقتها لتوفير الأمن والاستقرار الاقتصادي لعميلها وللفرنسيين المستوطنين في ساحل العاج، وجمعت أطراف النزاع للاتفاق على هدنة عسكرية وتشكيل حكومة وحدة وطنية، يتولى المسلمون فيها رئاسة الوزراء ووزارتي الداخلية والدفاع، مع إقرار برئاسة غباغبو حتى موعد انتخابات 2005، التي يكون من حقِّ جميع العاجيين خوضها. وقد تم هذا الإتفاق قرب باريس والذي عرف باسم اتفاق ماركوسي في كانون الثاني/يناير 2003.
لكن هذا الاتفاق لم يحظ برضى جميع الأطياف السياسية في حكومة غباغبو الذين رأوا فيه انحيازاً فرنسيا إلى المعارضة، وبداية لتجريد الحكومة المركزية من مواقعها الحيوية للسيطرة على البلاد، فخرجت عدة تظاهرات في العاصمة تطالب الفرنسيين بالرحيل، وانتشرت موجة من الغضب على الجاليات الفرنسية التي تقدر بأكثر من ثمانين ألفاً يمسكون بأهم دواليب الاقتصاد العاجي، ومست تلك الموجة رموز الوجود الفرنسي خاصة المركز الثقافي الفرنسي ومدارس البعثات الثقافية الفرنسية التي أغلقت أبوابها منذ ذلك الوقت، وأصيبت باريس بصفعة قوية في أهم معاقلها الإفريقية. إلا أن أهم خرق لوقف إطلاق النار كان في تشرين الثاني/نوفمبر 2004 عندما قصف غباغبو _بواسطة طائرتين قالت فرنسا إنهما صناعة إسرائيلية_ مواقع للقوات الشمالية وموقعا تابعاً للقوات الفرنسية. وردت باريس بشكل قوي ومباشر على تحرشات غباغبو العسكرية، وما صاحبها من رسائل أميركية في الشارع، وذلك بتدمير كامل للقوة الجوية للجيش العاجي المتمركز في جنوب البلاد. وكشفت فرنسا عن مقر تنصت تابع للموساد، وقامت بطرد 46 خبيراً عسكريّاً إسرائيلياً، كما وجهت رسالة شديدة اللهجة للحكومة الإسرائيلية بوقف العبث في ساحل العاج.
وعلى إثر القصف الفرنسي خرجت مسيرات جماهيرية تطالب بطرد القوات الفرنسية والتنديد بسياسة الرئيس جاك شيراك، وحمل المتظاهرون أعلاماً أميركيةً وصوراً للرئيس الأميركي جورج بوش. أما على مستوى هرم السلطة فقد صرَّح رئيس البرلمان العاجي مامادو كوليبالي (وهو من صقور النظام) بتاريخ 7/11/2004 قائلاً: "يظهر أننا دخلنا في حرب صعبة وطويلة الأمد، (ستكون) مستنقعاً للفرنسيين. ولا تبدو فيتنام شيئاً مقابل ما نحن مقبلون على القيام به هنا" مضيفاً: "إن دولة ساحل العاج غير موجودة، ما هو موجود هو امتداد للدولة الفرنسية".
لقد تزامنت كل تلك الأحداث في ساحل العاج، ومنذ توقيع اتفاق ماركوسي بين المعارضة والحكومة المركزية، مع انطلاق الأزمة العراقية في العام 2003 وتأهب أميركا في ذلك الوقت لإسقاط نظام صدام حسين؛ حيث شكلت فرنسا أول الدول التي رفضت التصويت على قرار داخل منظمة الأمم المتحدة يمنح الولايات المتحدة الأميركية الضوء الأخضر لشن الحرب على العراق. وردت أميركا وقتها على فرنسا بإعاقة التصويت على قرار في منظمة الأمم المتحدة لإرسال قوات أممية إلى ساحل العاج بهدف رعاية تنفيذ اتفاق ماركوسي. لقد أرادت أميركا وقتها الدفع بفرنسا نحو التورط في المستنقع العاجي.
فمن مقر حلف الأطلسي في بروكسل تهجم دونالد رامسفيلد في كانون الثاني/يناير 2003 على فرنسا معلناً أنه لولا الولايات المتحدة لكان الفرنسيون يتكلمون اليوم اللغة الألمانية. بل إن رامسفيلد هدد الفرنسيين بأن للأميركيين القدرة على معاقبتهم، وستحتاج فرنسا إلى أميركا لتحريرها من ثورات كثيرة قادمة. ومضى رامسفيلد في تهديده قائلاً بأنه قد حان الوقت كي تبحث دول إفريقيا عن حرياتها وديمقراطيتها بعيداً عن "السيطرة الكولونيالية"، في إشارة إلى فرنسا. ولم تتأخر أميركا في تنفيذ تصريحاتها فقام الرئيس الأميركي جورج بوش بزيارة تاريخية إلى 5 دول إفريقية في تموز/يوليو 2003، كان من بينها ساحل العاج بدعوى محاولة انتشالها من الأزمات السياسية.

عبد الواحد جعفر
22-05-2012, 12:22 PM
ثانياً، تراجع النفوذ الإقتصادي:
مثل اندلاع الأزمة في ساحل العاج عام 2002 بداية أفول النفوذ الفرنسي ليس في ساحل العاج وحدها بل في القارة الإفريقية. ففي ساحل العاج تقلصت الجالية الفرنسية إلى أقل من ثمانية آلاف، كما تراجعت سيطرة الشركات الفرنسية على أهم الثروات الإقتصادية التي تملكها البلاد، مثل الموز والقهوة والكاكاو، أمام الشركات الأميركية والبريطانية والإيرلندية متعددة الجنسيات. ولم يقف هذا التراجع في النفوذ لفرنسا في ساحل العاج عند المجال الإقتصادي بل تعداه إلى المجال السياسي وعلى المستوى الدولي؛ لأن القارة الإفريقية كانت تعتبر خزان ثروات وأصوات مؤيدة لفرنسا سواء داخل منظمة الأمم المتحدة أو في المحافل الدولية والإقليمية.
إلا أن المشهد السياسي في ساحل العاج تغير بعد وصول نيكولا ساركوزي إلى الحكم في فرنسا عام 2007 وما نتج عن ذلك من توافقه مع أميركا على مستوى السياسات الدولية والإقليمية خاصة في أوروبا وإفريقيا. فلم تعد فرنسا تزاحم أميركا بل صارت ترضى بالسير في مخططاتها مقابل حصول فرنسا على الحضور الدولي، إشباعاً لشعور العظمة، وعلى الصفقات الإقتصادية الكبرى إشباعاً لنهم شركاتها وعلى تولي قيادة أوروبا تحت ظل حلف شمال الأطلسي. لقد أدى هذا التغيير الجذري في السياسة الفرنسية إلى إرباك كبير عند عملائها خاصة في إفريقيا، مثلما حصل مع إدريس ديبي في تشاد وما حصل مع لوران غباغبو في ساحل العاج.
ومما ساعد على توافق أميركا وفرنسا في ساحل العاج، زيادة على ما ذكرنا هو انهيار الوضع الإقتصادي بسبب التدهور الأمني الشديد الذي يكاد يعصف بما تبقى من اقتصاد البلاد. فقد انخفض إنتاج ساحل العاج من الكاكاو، وهي المادة الأولية لصناعة الشيكولاتة، إلى نصف الكمية السابقة، هذا فضلاً عن أن ساحل العاج تعتبر بحكم موقعها بوابة إلى أسواق "الاتحاد الاقتصادي والمالي لإفريقيا الغربية" و"المجموعة الاقتصادية لبلدان غرب إفريقيا، إيكواس". كما أدى عناد غباغبو وإصراره على المضي في الحرب الأهلية وعدم التزامه باتفاق ماركوسي إلى تأليب الجميع عليه وفي مقدمتهم فرنسا، وهذا ما أجبره، في النهاية، على توقيع اتفاقية واغادوغو للسلام وتوحيد البلاد في 4/3/2007 مع رئيس المعارضة غيوم سورو بحضور رئيس بوركينافاسو بلاز كمباوري.

والسؤال الذي طرح وقتها هو، ماذا كانت خيارات أميركا وفرنسا في التعاطي مع ساحل العاج في ظل تمسك غباغبو بالحكم وتأييد الجيش العاجي له؟
كانت أميركا وفرنسا وبقية دول الإتحاد الأوروبي تعلم أن نظام غباغبو على وشك الإنهيار رغم تأييد الجيش له، فقد فشل هو ونظامه وجيشه في القضاء على الإنقلاب والتمرد الذي قاده اتحاد المعارضة في الشمال على مدار ثماني سنوات. ولذلك فإن الجميع بات يفضل تولي الحسن وتارا للحكم، بسبب "سمعته الجيدة" في مجال الإدارة الاقتصادية، وطواعيته لتنفيذ السياسات الغربية ولا سيما الأميركية، فهو العميل المخلص لواشنطن في ساحل العاج، منذ أن كان يعمل في البنك الدولي بتسعينيات القرن الماضي. ثم إن وصول وتارا للحكم كان فيه إرضاءٌ للأغلبية السكانية في البلاد، وهم المسلمون الذين يشكلون 65% من السكان، بينما المسيحيون 15% والبقية هم من الوثنيين. إن الحسن وتارا هو من أقدر العملاء في غرب إفريقيا لتثبيت أقدام أميركا في هذه المنطقة التي تحمل في جوفها 10% من احتياطات النفط العالمي في ظل حديث بعض الدراسات الإستراتيجية عن أن ساحل العاج بموقعها الإستراتيجي يمكنها أن تحتوي على النفط مثله مثل دارفور الذي تدفع به أميركا نحو الإنفصال على شاكلة ما حصل لجنوب السودان.
ولذلك لم تقبل أميركا باقتسام السلطة بين وتارا وغباغبو على شاكلة ما حدث بين كيباكي ورائيلا أودينقا في كينيا في شباط/فبراير 2008 أو كما حدث في زمبابوي بين موغابي ومورجان تسفانجيراي في أيلول/سبتمبر 2008. وبناءً عليه استمرت أميركا في ضغوطاتها الإقليمية والدولية لإسقاط نظام غباغبو ملوحة بإمكانية استعمال العمل العسكري ضد عناصر الشرطة والجيش من الموالين لغباغبو عبر الإستعانة بالقوات الأممية والفرنسية المرابطة في ساحل العاج. وحتى لا تدخل البلاد في مستنقع عودة الإقتتال الداخلي استنفدت أميركا كل الوسائل السياسية والدبلوماسية الممكنة وحاولت استمالة الجيش العاجي أو بعض العناصر في محيط غباغبو. بل قامت بمحاولات لإغراء غباغبو نفسه إذا تخلى عن الحكم طواعية؛ ومن ذلك ما صرح به رئيس وزراء كينيا رايلا أودينغا _الذي زار ساحل العاج مرتين في إطار الوساطة الأفريقية_ فقد قال بعد عودته إلى العاصمة الكينية نيروبي، إنه سيتم العفو عن غباغبو في حال تركه السلطة، وإنه لن يتعرض لأي ملاحقة قانونية من طرف المحكمة الجنائية الدولية.
إلا أنه وفي ظل تمسك غباغبو ومؤيديه بالسلطة وعدم اكتراثهم بالضغوط الدولية ولا المبادرات الإقليمية ولا بالعقوبات توالت دعوات الحسن وتارا إلى استخدام القوة ضد غباغبو لإجباره على التنحي، فقد ناشد الحسن وتارا المجموعة الاقتصادية لغرب إفريقيا (إيكواس) القيام بعملية عسكرية خاصة "غير عنيفة" لتنحية غباغبو عن الحكم. وقال وتارا في مؤتمر صحفي بأبيدجان "إذا استمر (غباغبو) في عناده، فيجب على إيكواس اتخاذ الإجراءات الضرورية، ومن بينها استعمال القوة المشروعة". وأضاف أن "استعمال القوة المشروعة لا يعني أنها قوة ضد العاجيين.. إنها قوة لطرد غباغبو"، موضحا أن "هناك عمليات خاصة غير عنيفة تمكن فقط من القبض على الشخص غير المرغوب فيه ونقله خارج البلاد". ومن جهتها حذرت مجموعة التعاون الاقتصادي لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، من أنه إذا لم يثمر الطريق السلمي، فيمكن اعتبار الخيار العسكري وسيلة لحل الأزمة في ساحل العاج. كما أعلنت الأمم المتحدة أنها ستطلب من مجلس الأمن الموافقة على زيادة قواتها في ساحل العاج بقرابة ألفي جندي للمساعدة في حماية وتارا. وقد تجاوب رئيس هيئة الأركان للقوات المسلحة بنيجيريا أولوسيغون بتينرين مع هذه الدعوات في تصريحات له بتاريخ 13/1/2011 عندما أكد أن قوات دول غرب أفريقيا على أهبة الاستعداد للتدخّل في ساحل العاج، ولا تنتظر سوى الضوء الأخضر من السياسيين. لقد جاءت تصريحات الجنرال النيجيري في ختام اجتماع لقادة أركان جيوش دول غرب أفريقيا في باماكو عاصمة مالي حيث بحث المجتمعون احتمال القيام بعمل عسكري لخلع غباغبو.
في أثناء تلك التحركات الإقليمية والدولية بدأت قوات وتارا تجمع نفسها وتحاصر أبيدجان دون الدخول في قتال مباشر مع قوات غباغبو عدا مناوشات هنا وهناك، وكانت القوات الموالية لوتارا قد استولت على مدينة سان بيدرو الساحلية باعتبارها الميناء الرئيسى لتصدير الكاكاو فى البلاد ومكان الحصول على إمدادات من البحر، كما أحكمت قوات وتارا سيطرتها على ياموسوكرو العاصمة السياسية للبلاد وعدة مدن أخرى دون أن تلقى مقاومة كبيرة من القوات الموالية للوران غباغبو التي باتت تسيطر تقريباً على أبيدجان فقط الواقعة على بعد 240 كيلومتراً جنوبي ياموسوكرو. وبنهاية شهر آذار/مارس 2011 أعلن غيوم سورو رئيس حكومة الحسن وتارا أن قوات وتارا تحاصر أبيدجان، داعياً لوران غباغبو إلى "الرحيل الآن" و مؤكداً أن عدداً كبيراً من جنرالات الجيش أعلنوا انشقاقهم، وخاصة رئيس الأركان في الجيش العاجي الجنرال فيليب مانجو الذي لجأ مع زوجته وأطفاله الخمسة إلى منزل السفير الجنوب إفريقي في أبيدجان. وأضاف سورو في حديث لمحطة تلفزة فرنسية "نعتبر أنه ينبغي تجنب حمام دم في أبيدجان وبالتالي فإننا نعطي الإمكانية للراغبين في أن تتم السيطرة سلمياً في بضع ساعات". وزيادة في الضغط أعلن جوني غارسون مساعد وزيرة الخارجية الأميركية أن غباغبو وزوجته سيحاسبان على اندلاع موجة العنف في البلاد.
من ناحيتها أرسلت المجموعة الإقتصادية لدول غرب إفريقيا (إيكواس) برئاسة النيجيري جودلاك جوناثان عدة وفود إلى غباغبو تطالبه بالتنحي السلمي عن السلطة لصالح وتارا، آخرها كان وفدا بتاريخ 5/4/2011 يضم رؤساء بنين وسيراليون والرأس الأخضر. ولم تمض أيام بعد أن رفع الوفد الإفريقي تقريره إلى الرئيس الدوري للإيكواس حتى قامت قوات الحسن وتارا بدعم مباشر من القوات الفرنسية(Licorne) والقوات الأممية (Onuci) بهجوم على مقر إقامة لوران غباغبو بالقصر الرئاسي وتم اعتقاله مع وزوجته وأكثر من 120 شخصاً من اتباعه بتاريخ 11/4/2011. وفي الحين وضع غباغبو وزوجته قيد الإقامة الجبرية في مدينتين منفصلتين في شمال البلاد وتم إطلاق سراح نصف الاشخاص الذين تم اعتقالهم معه. وهكذا أنهى اعتقال لوران غباغبو أربعة أشهر من النزاع المسلح لم تشهد ساحل العاج مثله منذ عقود. وكان أول ما صرَّحه الحسن وتارا في التلفزة الوطنية على إثر اعتقال غباغبو: "ها إننا أخيراً [نقف] أمام فجر مرحلة جديدة من الأمل"، مضيفاً " كنا نود ككل الإيفواريين أن يتم انتقال السلطة بشكل آخر"، ومع ذلك "وحتى نستطيع أن نبني دولة القانون طلبت من وزير الداخلية اتخاذ إجراءٍ عدليٍ ضد لوران غباغبو وزوجته ومعاونيه. الذين سيحصلون على معاملة محترمة وستكون حقوقهم محفوظة". كما طالب الحسن وتارا في هذا الخطاب كل الإيفواريين "بالإمتناع عن كل عمل انتقامي حتى يعود السلام" في البلاد. وأخيراً وعد وتارا بتشكيل لجنة "الحقيقة والنور لمعرفة حقيقة المجازر" التي حصلت في ساحل العاج.
ورغم اعتقال غباغبو ظلت بعض قواته تقاتل ضد قوات وتارا ولم تسلم نفسها، مما جعل رئيس الوزراء غيوم سورو يدعوهم إلى إلقاء السلاح والإلتحاق بالقوات النظامية التابعة للرئيس وتارا، تجنباً لتعرضهم إلى الملاحقة القانونية وتحولهم الى مطاردين. ومع ذلك لم يستجيبوا لهذا النداء مما اضطر أحد أشد المناصرين لغباغبو ورئيس وزرائه وزعيم حزب الجبهة الشعبية الإفوارية وهو باسكال آفي نجيسان يدعو الجماعات المسلحة التابعة لغباغبو، ومن داخل الفندق الذي يستخدمه وتارا مقراً له إلى وقف الحرب والتفرغ لعملية إعمار البلاد. فقد قال باسكال نجيسان: "في بعض المواقع يواصل رفاقنا القتال، ونحن في الجبهة الشعبية الإيفوارية عانينا الكثير بسبب تلك المواقف الفوضوية، ونود أن نتقدم بالتعازي لأسر كل من قتلوا في الحرب". وأضاف قائلا: "باسم السلام دعونا ننهي الحرب ونضع نهاية لكل صور العنف والمواجهات ولابد أن نتيح لبلادنا الفرصة كي تستفيق وتشرع في جهود إعادة الإعمار". ومن ناحيته أعلن بول ياو ندريه رئيس المجلس الدستوري وهو من المقربين لغباغبو والذي تسبب في الأزمة الدستورية المتعلقة بنتائج الإنتخابات عندما رفض في 3/12/2010 قرار لجنة الإنتخابات بفوز الحسن وتارا، أعلن بول ياو ندريه بتاريخ 5/5/2011 "أن المجلس الدستوري يعلن الحسن وتارا رئيساً لجمهورية ساحل العاج ويحضه على أداء القسم في المهلة المناسبة". وبالفعل لم يتأخر الحسن وتارا في التجاوب مع هذا النداء، ففي اليوم التالي قام بأداء اليمين الدستورية منهياً بذلك أزمة استمرت في ساحل العاج مدة خمسة أشهر. إلا أن التنصيب الإحتفالي للحسن وتارا كان بتاريخ 21/5/2011 في العاصمة ياموسوكرو بحضور دولي وإقليمي كبيرين، فقد حضر كل من الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي والأمين العام للأمم المتحدة بان كيمون والرئيس السنغالي السابق عبد الله واد والرئيس النيجيري غودلاك جوناثان ورئيس الوزراء الكيني رايل أودينغا. أما الإتحاد الأوروبي فقد أظهر دعمه للحسن وتارا عندما أعلن بتاريخ 20/7/2011 أنه خصص خمس برامج بقيمة 125 مليون يورو من أجل "دفع الإقتصاد والمصالحة الوطنية" في ساحل العاج.

عبد الواحد جعفر
22-05-2012, 12:22 PM
وإذا كانت فرنسا قد قامت من خلال زيارة ساركوزي بإظهار نفسها أنها لا تزال موجودة في ساحل العاج فإن أوباما لم يكلف نفسه عناء السفر بل أرسل في دعوة الحسن وتارا مع قادة أفارقة آخرين بزيارة الولايات المتحدة لتقديم فروض الطاعة والولاء للبيت الأبيض. فقد استقبل بارك أوباما بتاريخ 29/7/2011 أربعة من قادة الدول الإفريقية الفرنكفونية وهم رؤساء بنين، بوني يايي وغينيا، ألفا كوندي والنيجير، محمدو يوسفو وساحل العاج، الحسن وتارا. وقال أوباما عقب اجتماع معهم لم يستغرق أكثر من ساعة :إن "كل هؤلاء القادة انتخبوا في انتخابات حرة ونزيهة وبرهنوا عن ثبات هائل (...) على الرغم من المخاطر الجمة على سلامتهم الشخصية وعلى الرغم من الصعوبات الهائلة، وآخرها في ساحل العاج". وأضاف "بفضل عزيمتهم وعزيمة الناس الراغبين في العيش في مجتمعات ديمقراطية وحرة وصلوا إلى السلطة مدعومين من الإرادة الشرعية لشعوبهم، وبهذا يمكنهم أن يكونوا نموذجاً يحتذى في القارة بأسرها". وأضاف أوباما أيضاً "إن غالبية الدول في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى ينضمون الآن إلى الديمقراطية". وأكد أوباما "شددت على أن الولايات المتحدة كانت وستبقى شريكاً مطلقاً لهذه الدول في هذه العملية لنشر الديمقراطية والتنمية". ثم بعد ذلك بأشهر قامت وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون في منتصف كانون الثاني/يناير 2012 بجولة في إفريقيا كانت ساحل العاج من بينها. وقد استبقت الخارجية الأميركية هذه الزيارة بالقول قبل أسبوع من بدئها أن الهدف منها "هو الإعراب عن الإلتزام الأميركي بعودة السلام والحكم الرشيد والتنمية الاقتصادية والتشديد على الأهمية التي توليها الولايات المتحدة لبسط الديموقراطية". وبالفعل تباحثت وزيرة الخارجية الأميركية بتاريخ 17 كانون الثاني/يناير هذا العام في أبيدجان مع الحسن وتارا. وقد علق مسؤول أميركي كبير عن هذا اللقاء بالقول إن "هذه الزيارة الأولى لوزير خارجية أميركي إلى ساحل العاج منذ 1986" تؤكد التزام الولايات المتحدة "تعزيز المؤسسات الديمقراطية".
وبدفع أميركي قام الحسن وتارا بتاريخ 25/1/2012 بزيارة إلى فرنسا اعتبرت حدثاً تاريخياً لأنها وضعت حداً "للعداء الظاهري" بين فرنسا وساحل العاج إبان فترة حكم غباغبو وخاصة بين 2002-2011، وكانت الزيارة فرصة لدعوة الشركات الفرنسية للإستثمار من جديد في ساحل العاج. ففي خطاب له في مقر "حركة شركات فرنسا" (Medef) أعلن وتارا متوجهاً لمئات المستثمرين الفرنسييين والإيفواريين قائلاً: "من دون أمن ولا استقرار ولا سلام، فإن التنمية لا يمكنها أن تكون قوية ودائمة. إني أستطيع التأكيد لكم أن السلام قد عاد إلى ساحل العاج". ومن أجل ذلك "فإني أدعوكم للمشاركة في النهضة الإيفوارية واستعادة استثماراتكم، كما أحضكم، سيداتي وسادتي مدراء الشركات الفرنسية، على التعجيل بعودتكم إلى ساحل العاج". وأضاف وتارا: "إن ساحل العاج وهو بلد الفرص، محتاج إلى مهاراتكم ومعارفكم. إني أعطيكم الضمان بأن المسار الديمقراطي في ساحل العاج لارجعة فيه".
إن الإتفاق الفرنسي الأميركي في ساحل العاج هو الذي ضمن وجود تفاهم بين "تجمع الجمهوريين" التابع للحسن وتارا و"الحزب الديمقراطي لساحل العاج" المتحالف معه في الحكم، وهذا الحزب الأخير الذي أسسه الرئيس الأول لساحل العاج فليكس هوفي بواني وورثه بعد ذلك الرئيس هنري كونان بيدي كان الأداة السياسية لفرنسا في حكم البلاد وتفريخ عملائها. وقد مكن هذا التحالف بين الحزبين من الفوز بأغلبية الأصوات في الإنتخابات التشريعية في 11/12/2011 وذلك بفضل الدعم الذي جاء به الحزب الديمقراطي لساحل العاج في مناطق الجنوب والوسط وبفضل الدعم الذي قدمه زعيم التمرد السابق غيوم سورو وما نتج عنه من اتفاق ماركوسي الذي جعل منه رئيساً للوزراء بين 2007-2012. ورغم مقاطعة الجبهة الشعبية الإيفوارية التابعة لغباغبو الإنتخابات فإن ذلك لم يمنع من تمرير ما أرادته فرنسا وأميركا من تغييرات جذرية في الوسط السياسي الحاكم في ساحل العاج. ذلك أنه بعد اعتقال غباغبو وصحبه أعلن الحسن وتارا في 27/4/2011 أن تحقيقاً قد بدأ في "جرائم اقتصادية" يخضع لها غباغبو الذي يتهم بالنهب والسلب والسطو المسلح والسرقة بالتزوير. أما الجرائم السياسية فإن أميركا قد حولتها إلى جرائم قانونية حتى ترسي تقليداً بين كل الحكام الذين لا يريدون تنفيذ إرادتها في إرساء "الديمقراطية ودولة القانون والحكم الرشيد" من أن مصيرهم الخلع ثم المحاكمة المحلية والدولية. وبالفعل قامت السلطات الإيفوارية بنقل لوران غباغبو بتاريخ 29 تشرين ثاني/نوفمبر إلى لاهاي بطلب سابق من المحكمة الجنائية الدولية التي وجهت له تهماً بارتكاب جرائم ضد الإنسانية منها القتل والإغتصاب والعنف الجنسي وذلك على خلفية النزاع حول الإنتخابات الرئاسية التي جرت في 28/11/2010. وهنا قامت الجبهة الشعبية الإفوارية التابعة لغباغبو بتعليق مشاركتها في "أي عملية مصالحة" وفي المشاركة في الإنتخابات التشريعية، وأضافت أنها "أوقفت المحادثات الجارية مع السلطة"، كما نددت الجبهة الشعبية بما وصفته بـ"عملية غير قانونية وخطف سياسي" وأدانت "السطو المسلح السياسي والقضائي لنقل الرئيس السابق لوران غباغبو إلى لاهاي بينما لا تزال التحقيقات جارية".
لقد كافأت أميركا الأطراف الثلاثة التي سارت معها طوعاً أو كرهاً في ساحل العاج وذلك باتفاق مع فرنسا بتوزيعها مراكز التحكم بالقرار السياسي بعد الإنتخابات الرئاسية والتشريعية كما يلي، فقد أصبح الحسن وتارا رئيساً شرعياً للدولة وتولى غيوم سورو رئيس الوزراء السابق وزعيم "القوات الجديدة" الذي دفعت بها أميركا في عام 2002 للتمرد على غباغبو ليصبح اليوم رئيس الجمعية الوطنية أو البرلمان، أما رئاسة الوزراء فقد أسندت لجانوت أهوسو كواديو من الحزب الديمقراطي لساحل العاج. وفوق ذلك أوعزت أميركا لعملائها في المنطقة بالإعلاء من شأن وتارا فأقدمت قمة قادة دول المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا "الإيكواس"، بتاريخ 17/2/2012، فأختارت الحسن وتارا خلفاً للنيجيري جودلاك جوناثان لرئاسة المجموعة فترة عامين من أجل الإندماج الإقتصادي ومراقبة جهود حل الأزمات في منطقة غرب إفريقيا وضمان تطبيق الديمقراطية على شاكلة الديمقراطيات الناشئة من الربيع الأميركي في المنطقة العربية. وما الدور الذي يقوم به الحسن وتارا العميل الأميركي في بلد كان محسوباً على الإستعمار الفرنسي وهو مالي إلا دليل على هذا التفاهم الأميركي الفرنسي فيما يخص السياسات العامة المتعلقة بشؤون إفريقيا ومناطقها المختلفة.
15/جمادى الآخرة/1433هـ
7/5/2012م