عبد الواحد جعفر
22-05-2012, 12:20 PM
الإتفاق الأميركي الفرنسي في ساحل العاج
مقدمة
إن مراقبة التغير على الموقف الدولي باستمرار هو من أهم ما ينبغي أن ينشغل به السياسي. ولا يصح أن يستمر البناء على خطوط عريضة في السياسة باعتبارها ثوابت لا تقبل الجدل أو التغيير؛ لأن من شأن ذلك أن يشل الفهم السياسي أو يؤدي إلى نتائج غير سليمة في فهم الأحداث السياسية. وعليه فقد لوحظت ملامح تغيير جذري على العلاقات الأميركية الفرنسية اقتضى التنبه إليها حتى يستقيم النظر إلى الأحداث والحكم عليها.
فمنذ بروز نيكولا ساركوزي ضمن الحزب الديغولي "التجمع من أجل الحركة الشعبية" في العام 2006 حدث تغيير مهم في الوسط السياسي الفرنسي كان له تأثير كبير في تغير مسار العلاقات الأميركية الفرنسية. فقد ركَّز ساركوزي أثناء حملته الإنتخابية الأولى على أمرين أساسيين، هما: 1_ تصحيح العلاقة مع أميركا 2_ تغيير مفهوم دولة الرعاية الفرنسية واستبدالها بنموذج على الطراز الأميركي، وهو ما جعله محط سخرية من قبل خصومه في اليسار الفرنسي الذين اعتبروه "محافظاً جديداً أميركياً يحمل جواز سفر فرنسي"؛ إلى درجة أن الرئيس جاك شيراك قال لبعض محدثيه وقتها إنه "في حال انتخاب هذا الشخص (ساركوزي) فإنه سيضع فرنسا في مواجهة العالم، فهو أطلسي التفكير ومؤيد لجورج بوش بالإضافة إلى أنه ليكودي"، مضيفاً "سيؤدي هذا الأمر إلى تغيير حاد في سياسة فرنسا". وبالفعل مثل صعود ساكوزي إلى الحكم عند الكثير من الفرنسيين ميلاد الجمهورية السادسة بسبب النقلة النوعية التي أخذ إليها فرنسا في علاقتها بالولايات المتحدة من خلال صفقة التفاهم التي تم إنجازها بين البلدين. ولعل أهم معالم هذه الصفقة تظهر كالتالي:
أ ـ دعم أميركا سياسة الدفاع الأوروبي المشترك مقابل عودة فرنسا إلى هيكل القيادة العسكرية للناتو، وهو ما جعل فرنسا تقوم بدور أكثر نشاطاً في إطار التحالف العسكري مع الولايات المتحدة وتحت مظلة الناتو لكنها تقوم بتسخير القوات الأوروبية في خدمة المخططات العسكرية الأميركية. ولقد ظهر ذلك جلياً عندما قامت قوات اليوروفور الأوروبية في تشاد بقيادة فرنسا في بداية العام 2008 بأكبر عملية انتشار عسكري لها ينفذها الإتحاد الأوروبي خارج القارة الأوروبية ومن دون مساعدة حلف شمال الأطلسي، وذلك في إطار الدعم والإسناد لقوات اليوناميد الأممية في دارفور.
ب ـ قبول فرنسا بتفرد أميركا لقيادة العالم مقابل سماح أميركا لفرنسا بقيادة أوروبا على حساب ألمانيا دون إخلال فعلي بسياسة التوازن وتحت مظلة حلف الناتو. فقد أدركت فرنسا أن ألمانيا استعادت قوتها الإقتصادية على إثر تكاليف الوحدة التي كانت تقف وراءها أميركا لتجعل منها نداً لفرنسا، وهي الآن تسير بدفع أميركي لتصبح قوة سياسية. ولذلك باتت فرنسا تحتاج لأميركا استراتيجياً لمواجهة منافستها الرسمية في القارة الأوروبية أي ألمانيا.
ج ـ مساعدة أميركا لفرنسا في حل مشاكلها الإقتصادية من خلال رفع مبيعاتها من السلاح والطائرات المقاتلة التابعة لشركة داسو وتمكينها من عقد صفقات بمليارات الدولارات خاصة في مجال النفط وبناء محططات الطاقة النووية خاصة مع دول الخليج وعلى رأسها السعودية وقطر الإمارات، وذلك على إثر الزيارة التي قام بها ساركوزي للمنطقة في كانون الثاني/يناير 2008؛ كما مثلت زيارة ساركوزي للعراق في شباط/فبراير 2009 وما نتج عنه من عقود كبيرة أنجزها دليلاً على رفع أميركا الفيتو الذي وضعه رامسفيلد حول نصيب فرنسا من الكعكة بعد أن رفض شيراك الإنخراط في التحالف الأميركي لإسقاط نظام صدام حسين عام 2003.
أما الذي تجنيه أميركا من وراء هذه الصفقة مع فرنسا فيظهر ذلك في الأهداف التالية:
أ ـ إزاحة فرنسا من المنافسة الإقليمية بعد إزاحتها من المنافسة الدولية عام 1961 مع إشباع طموحاتها الدولية في سياسة العظمة ضمن الفلك الأميركي: فقد ذكر ساركوزي أن فرنسا ستكون "أكثر نفوذاً وأقوى" بعد إتمام عملية الانضمام إلى القيادات العسكرية للناتو التي انسحبت منها عام 1966، وقال "لأن الغائبين دائماً على خطأ ولأن فرنسا يجب أن تقود وليس أن تخضع ولأنه علينا أن نكون حيث تتخذ القرارات والمعايير بدلاً من الانتظار في الخارج لتبلغ هذه القرارات"، مضيفا "ليس لنا أي منصب عسكري مسؤول ولا كلمتنا (مسموعة) عندما يحدد الحلفاء أهداف العمليات العسكرية ووسائلها (...) وقد حان الوقت لنضع حداً لهذا الوضع لأن ذلك في مصلحة فرنسا وأوروبا".
ب ـ دعم فرنسا للمخططات والأهداف الإستراتيجية الأميركية والتي على رأسها:
1/ـ محاربة الإسلام والمسلمين والحيلولة دون عودة الخلافة تحت مسميات محاربة الإرهاب والتطرف ودعم الثورات العربية.
2/ـ الوصول غير المحدود إلى مصادر الطاقة وغيرها من الموارد الأولية.
3/ـ التحكم بالأسواق العالمية لتصريف المنتجات الغربية.
4/ تأمين سلامة طرق المواصلات عسكرياً بشبكة من القواعد والإتفاقات المحلية والإقليمية والدولية.
ج ـ إبعاد فرنسا عن التحالف مع روسيا: باعتبار أن هذا التحالف أو التعاون الروسي الفرنسي يشكل واحداً من المحاور المهمة في السياسة الخارجية الفرنسية وبغض النظر عن التيارات السياسية الحاكمة، وهو تحالف يمتد إلى ما قبل الجنرال شارل ديغول فيما عرف بالإتفاقية الفرنسية السوفياتية في 21/5/1935. ثم تدعم هذا التحالف مع ديغول بالتوقيع في 1/12/1944 على "اتفاقية التحالف والمساعدة المتبادلة" بين البلدين بعد شهرين من تحرير فرنسا من النازية وسقوط حكومة فيشي برئاسة الماريشال فيليب بيتان. ويكفي هنا أن نقارن بين تصريح شيراك وتصريح ساركوزي لندرك مقدار التحول في سياسة فرنسا الخارجية تجاه روسيا. فقد ذكر جاك شيراك في خطاب له بتاريخ 26/9/1997 أنه "لن يكون هناك أمن أوروبي من غير روسيا التي عليها أن ترتبط بهذا الموضوع وتعطيه انتباهاً وتركيزًا عميقاً ومشاركة فعالة". أما ساركوزي فقد ذكر في خطاب له بمناسبة المؤتمر الخامس عشر للسفراء بتاريخ 27/9/2007 قائلاً: "وتفرض روسيا عودتها على الساحة الدولية حيث تلعب بنوع من الفظاظة على مقومات نجاحها، لا سيما النفطية والغازية منها، في الوقت الذي يأمل فيه العالم منها، ولا سيما أوروبا، مساهمة مهمة وإيجابية في تسوية مشكلات عصرنا، مساهمة تبررها استعادة هذه الدولة لمكانتها. عندما تكون دولة قوة كبرى، فيجب أن تنحي الفظاظة جانباً". كما ورد عن ساركوزي أنه أبلغ نظيره الروسي مدفيدف في لقاء معه بأن على موسكو أن تدرك جيداً أن "الحرب الباردة انتهت وسقط جدار برلين، وأنه لم يعد هناك دول صغيرة مستضعفة في جوارها"، في إشارة إلى علاقتها مع جورجيا وأوكرانيا.
الإتفاق الأميركي الفرنسي في ساحل العاج
مثلت الأزمة التي وقعت في ساحل العاج بين الحسن وتارا ولوران غباغبو في تشرين الثاني/نوفمبر 2010 دليلاً إضافياً على التحول الجذري في العلاقات الدولية بين فرنسا وأميركا سواء فيما يتعلق بالسياسات الدولية أو بالقضايا الإقليمية. ومن دون فهم هذا المتغير السياسي الدولي فإنه يستحيل علينا فهم حقيقة كثير من الأحداث الجارية في أوروبا وإفريقيا والشرق الأوسط وشمال إفريقيا وعلى صعيد القضايا الدولية.
والآن وبعد بيان ملامح التغير الجذري في العلاقات الفرنسية الأميركية كما ورد في المقدمة نعود للحديث عن ساحل العاج بشيء من التفصيل، فنبدأ بالقول كما يلي:
بناءً على الإتفاق الأميركي مع فرنسا ساركوزي وما نتج عنه من تحول في العلاقات بين الدولتين نجحت أميركا في إيصال عميلها الحسن وتارا إلى سدة الحكم في ساحل العاج في انتخابات تشرين الثاني/نوفمبر 2010. وبالتالي فإن تساؤل البعض عن كيفية حصول هذا الاتفاق الأميركي الفرنسي في بلد كساحل العاج عرفت صراع النفوذ بين الدولتين منذ عدة سنوات، غير ذي معنى بعد الذي أسلفناه من حقيقة التفاهم الفرنسي الأميركي بخصوص سياستيهما الخارجيتين. لقد كانت فرنسا تعتبر ساحل العاج إحدى القلاع المتقدمة للفرنكفونية في إفريقيا، وذلك منذ أن احتلتها نهاية القرن التاسع عشر. بل إن فرنسا جعلت من ساحل العاج أنموذجاً للاحتلال الفرنسي المعروف بشراسته في فرض الثقافة واللغة الفرنسيتين، هذا فضلاً عن سيطرتها الإقتصادية. فساحل العاج كانت تمثل نحو 40% من الكتلة النقدية لمنطقة الفرنك الفرنسي في إفريقيا، كما أن 60% من جملة المستثمرين في البلاد هم من الفرنسيين. لذا عملت فرنسا على بناء المدن الاقتصادية على سواحل هذا البلد الإسلامي حتى يسهل عليها نقل المواد اللازمة إلى باريس بأقل تكلفة، وخاصة محصول الكاكاو الذي تُنْتِج منه ساحل العاج نحو 40% من الإنتاج العالمي، زيادة عن كونها مصدراً رئيسيّاً للموز والبن والقطن وزيت النخيل والأناناس والمطاط والأخشاب، وغيرها من الموارد. وبناء عليه نجحت فرنسا من قبل في تمكين عميلها "لوران غباغبو" رئيس حزب الجبهة الشعبية من حسم نتائج الانتخابات الرئاسية لصالحه في 22/10/2000، بفضل الإنقلاب الذي قام به "روبرت غي" في 25/12/1999 والذي قام على إثره باستبعاد 14 مرشحاً من أصل 19 عن المشاركـة في الانتخابات، كان من ضمنهم "الحسن وتارا" رئيس تجمع الجمهوريين، متذرعاً بقانون الهوية الإيفوارية الذي ينص على حرمان أي مواطن عاجي لا يتمتع بالنقاء العرقي من خوض هذه الانتخابات، ذلك أن والدة وتارا كانت من أصول بوركينية.
أما أزمة 2010 فقد بدأت في ساحل العاج على إثر الانتخابات التي تمت في 28 /11/2010 والتي كان يفترض أن تجرى في أواخر 2005 عندما انتهت ولاية غباغبو الذي تولي الحكم منذ العام 2000 إلا أنه نجح بتأجيلها أكثر من ست مرات لكي يبقى في السلطة طويلاً بدعم فرنسي واضح في ذلك الوقت. وإنه بدلاً من أن تحسم الانتخابات في ساحل العاج السباق لصالح أحد المرشحين أفضت النتائج إلى وضع خطير ضاعف من الأزمة السياسية والعسكرية التي شهدتها البلاد منذ عام 2002 عندما اندلع التمرد الشمالي ضد حكم غباغبو بدفع أميركي، والذي أدى إلى إرسال قوات حفظ سلام دولية للفصل بين الأطراف المتنازعة. لقد فوجئ العالم في 4/12/2010 بأن ساحل العاج أصبحت دولة برئيسين، حيث أعلن التلفزيون الحكومي الرسمي أن الرئيس لوران غباغبو أدى اليمين الدستورية لفترة رئاسية جديدة، في وقت أعلن فيه زعيم المعارضة الحسن وتارا نفسه رئيساً للبلاد بعد فوزه بالانتخابات الرئاسية الأخيرة. فعندما أعلنت لجنة الانتخابات فوز وتارا بنسبة 54% مقابل 46% من الأصوات لغباغبو، سارع رئيس المجلس الدستوري بول ياو أندري بالخروج على الملأ في 3/12/2010 ليؤكد أن غباغبو هو الفائز بعد أن أحرز 51% من الأصوات، موضحاً أن نتائج التصويت في سبع من المناطق الشمالية المؤيدة لوتارا ألغيت بسبب ما أسماها تجاوزات انتخابية خطيرة.
مقدمة
إن مراقبة التغير على الموقف الدولي باستمرار هو من أهم ما ينبغي أن ينشغل به السياسي. ولا يصح أن يستمر البناء على خطوط عريضة في السياسة باعتبارها ثوابت لا تقبل الجدل أو التغيير؛ لأن من شأن ذلك أن يشل الفهم السياسي أو يؤدي إلى نتائج غير سليمة في فهم الأحداث السياسية. وعليه فقد لوحظت ملامح تغيير جذري على العلاقات الأميركية الفرنسية اقتضى التنبه إليها حتى يستقيم النظر إلى الأحداث والحكم عليها.
فمنذ بروز نيكولا ساركوزي ضمن الحزب الديغولي "التجمع من أجل الحركة الشعبية" في العام 2006 حدث تغيير مهم في الوسط السياسي الفرنسي كان له تأثير كبير في تغير مسار العلاقات الأميركية الفرنسية. فقد ركَّز ساركوزي أثناء حملته الإنتخابية الأولى على أمرين أساسيين، هما: 1_ تصحيح العلاقة مع أميركا 2_ تغيير مفهوم دولة الرعاية الفرنسية واستبدالها بنموذج على الطراز الأميركي، وهو ما جعله محط سخرية من قبل خصومه في اليسار الفرنسي الذين اعتبروه "محافظاً جديداً أميركياً يحمل جواز سفر فرنسي"؛ إلى درجة أن الرئيس جاك شيراك قال لبعض محدثيه وقتها إنه "في حال انتخاب هذا الشخص (ساركوزي) فإنه سيضع فرنسا في مواجهة العالم، فهو أطلسي التفكير ومؤيد لجورج بوش بالإضافة إلى أنه ليكودي"، مضيفاً "سيؤدي هذا الأمر إلى تغيير حاد في سياسة فرنسا". وبالفعل مثل صعود ساكوزي إلى الحكم عند الكثير من الفرنسيين ميلاد الجمهورية السادسة بسبب النقلة النوعية التي أخذ إليها فرنسا في علاقتها بالولايات المتحدة من خلال صفقة التفاهم التي تم إنجازها بين البلدين. ولعل أهم معالم هذه الصفقة تظهر كالتالي:
أ ـ دعم أميركا سياسة الدفاع الأوروبي المشترك مقابل عودة فرنسا إلى هيكل القيادة العسكرية للناتو، وهو ما جعل فرنسا تقوم بدور أكثر نشاطاً في إطار التحالف العسكري مع الولايات المتحدة وتحت مظلة الناتو لكنها تقوم بتسخير القوات الأوروبية في خدمة المخططات العسكرية الأميركية. ولقد ظهر ذلك جلياً عندما قامت قوات اليوروفور الأوروبية في تشاد بقيادة فرنسا في بداية العام 2008 بأكبر عملية انتشار عسكري لها ينفذها الإتحاد الأوروبي خارج القارة الأوروبية ومن دون مساعدة حلف شمال الأطلسي، وذلك في إطار الدعم والإسناد لقوات اليوناميد الأممية في دارفور.
ب ـ قبول فرنسا بتفرد أميركا لقيادة العالم مقابل سماح أميركا لفرنسا بقيادة أوروبا على حساب ألمانيا دون إخلال فعلي بسياسة التوازن وتحت مظلة حلف الناتو. فقد أدركت فرنسا أن ألمانيا استعادت قوتها الإقتصادية على إثر تكاليف الوحدة التي كانت تقف وراءها أميركا لتجعل منها نداً لفرنسا، وهي الآن تسير بدفع أميركي لتصبح قوة سياسية. ولذلك باتت فرنسا تحتاج لأميركا استراتيجياً لمواجهة منافستها الرسمية في القارة الأوروبية أي ألمانيا.
ج ـ مساعدة أميركا لفرنسا في حل مشاكلها الإقتصادية من خلال رفع مبيعاتها من السلاح والطائرات المقاتلة التابعة لشركة داسو وتمكينها من عقد صفقات بمليارات الدولارات خاصة في مجال النفط وبناء محططات الطاقة النووية خاصة مع دول الخليج وعلى رأسها السعودية وقطر الإمارات، وذلك على إثر الزيارة التي قام بها ساركوزي للمنطقة في كانون الثاني/يناير 2008؛ كما مثلت زيارة ساركوزي للعراق في شباط/فبراير 2009 وما نتج عنه من عقود كبيرة أنجزها دليلاً على رفع أميركا الفيتو الذي وضعه رامسفيلد حول نصيب فرنسا من الكعكة بعد أن رفض شيراك الإنخراط في التحالف الأميركي لإسقاط نظام صدام حسين عام 2003.
أما الذي تجنيه أميركا من وراء هذه الصفقة مع فرنسا فيظهر ذلك في الأهداف التالية:
أ ـ إزاحة فرنسا من المنافسة الإقليمية بعد إزاحتها من المنافسة الدولية عام 1961 مع إشباع طموحاتها الدولية في سياسة العظمة ضمن الفلك الأميركي: فقد ذكر ساركوزي أن فرنسا ستكون "أكثر نفوذاً وأقوى" بعد إتمام عملية الانضمام إلى القيادات العسكرية للناتو التي انسحبت منها عام 1966، وقال "لأن الغائبين دائماً على خطأ ولأن فرنسا يجب أن تقود وليس أن تخضع ولأنه علينا أن نكون حيث تتخذ القرارات والمعايير بدلاً من الانتظار في الخارج لتبلغ هذه القرارات"، مضيفا "ليس لنا أي منصب عسكري مسؤول ولا كلمتنا (مسموعة) عندما يحدد الحلفاء أهداف العمليات العسكرية ووسائلها (...) وقد حان الوقت لنضع حداً لهذا الوضع لأن ذلك في مصلحة فرنسا وأوروبا".
ب ـ دعم فرنسا للمخططات والأهداف الإستراتيجية الأميركية والتي على رأسها:
1/ـ محاربة الإسلام والمسلمين والحيلولة دون عودة الخلافة تحت مسميات محاربة الإرهاب والتطرف ودعم الثورات العربية.
2/ـ الوصول غير المحدود إلى مصادر الطاقة وغيرها من الموارد الأولية.
3/ـ التحكم بالأسواق العالمية لتصريف المنتجات الغربية.
4/ تأمين سلامة طرق المواصلات عسكرياً بشبكة من القواعد والإتفاقات المحلية والإقليمية والدولية.
ج ـ إبعاد فرنسا عن التحالف مع روسيا: باعتبار أن هذا التحالف أو التعاون الروسي الفرنسي يشكل واحداً من المحاور المهمة في السياسة الخارجية الفرنسية وبغض النظر عن التيارات السياسية الحاكمة، وهو تحالف يمتد إلى ما قبل الجنرال شارل ديغول فيما عرف بالإتفاقية الفرنسية السوفياتية في 21/5/1935. ثم تدعم هذا التحالف مع ديغول بالتوقيع في 1/12/1944 على "اتفاقية التحالف والمساعدة المتبادلة" بين البلدين بعد شهرين من تحرير فرنسا من النازية وسقوط حكومة فيشي برئاسة الماريشال فيليب بيتان. ويكفي هنا أن نقارن بين تصريح شيراك وتصريح ساركوزي لندرك مقدار التحول في سياسة فرنسا الخارجية تجاه روسيا. فقد ذكر جاك شيراك في خطاب له بتاريخ 26/9/1997 أنه "لن يكون هناك أمن أوروبي من غير روسيا التي عليها أن ترتبط بهذا الموضوع وتعطيه انتباهاً وتركيزًا عميقاً ومشاركة فعالة". أما ساركوزي فقد ذكر في خطاب له بمناسبة المؤتمر الخامس عشر للسفراء بتاريخ 27/9/2007 قائلاً: "وتفرض روسيا عودتها على الساحة الدولية حيث تلعب بنوع من الفظاظة على مقومات نجاحها، لا سيما النفطية والغازية منها، في الوقت الذي يأمل فيه العالم منها، ولا سيما أوروبا، مساهمة مهمة وإيجابية في تسوية مشكلات عصرنا، مساهمة تبررها استعادة هذه الدولة لمكانتها. عندما تكون دولة قوة كبرى، فيجب أن تنحي الفظاظة جانباً". كما ورد عن ساركوزي أنه أبلغ نظيره الروسي مدفيدف في لقاء معه بأن على موسكو أن تدرك جيداً أن "الحرب الباردة انتهت وسقط جدار برلين، وأنه لم يعد هناك دول صغيرة مستضعفة في جوارها"، في إشارة إلى علاقتها مع جورجيا وأوكرانيا.
الإتفاق الأميركي الفرنسي في ساحل العاج
مثلت الأزمة التي وقعت في ساحل العاج بين الحسن وتارا ولوران غباغبو في تشرين الثاني/نوفمبر 2010 دليلاً إضافياً على التحول الجذري في العلاقات الدولية بين فرنسا وأميركا سواء فيما يتعلق بالسياسات الدولية أو بالقضايا الإقليمية. ومن دون فهم هذا المتغير السياسي الدولي فإنه يستحيل علينا فهم حقيقة كثير من الأحداث الجارية في أوروبا وإفريقيا والشرق الأوسط وشمال إفريقيا وعلى صعيد القضايا الدولية.
والآن وبعد بيان ملامح التغير الجذري في العلاقات الفرنسية الأميركية كما ورد في المقدمة نعود للحديث عن ساحل العاج بشيء من التفصيل، فنبدأ بالقول كما يلي:
بناءً على الإتفاق الأميركي مع فرنسا ساركوزي وما نتج عنه من تحول في العلاقات بين الدولتين نجحت أميركا في إيصال عميلها الحسن وتارا إلى سدة الحكم في ساحل العاج في انتخابات تشرين الثاني/نوفمبر 2010. وبالتالي فإن تساؤل البعض عن كيفية حصول هذا الاتفاق الأميركي الفرنسي في بلد كساحل العاج عرفت صراع النفوذ بين الدولتين منذ عدة سنوات، غير ذي معنى بعد الذي أسلفناه من حقيقة التفاهم الفرنسي الأميركي بخصوص سياستيهما الخارجيتين. لقد كانت فرنسا تعتبر ساحل العاج إحدى القلاع المتقدمة للفرنكفونية في إفريقيا، وذلك منذ أن احتلتها نهاية القرن التاسع عشر. بل إن فرنسا جعلت من ساحل العاج أنموذجاً للاحتلال الفرنسي المعروف بشراسته في فرض الثقافة واللغة الفرنسيتين، هذا فضلاً عن سيطرتها الإقتصادية. فساحل العاج كانت تمثل نحو 40% من الكتلة النقدية لمنطقة الفرنك الفرنسي في إفريقيا، كما أن 60% من جملة المستثمرين في البلاد هم من الفرنسيين. لذا عملت فرنسا على بناء المدن الاقتصادية على سواحل هذا البلد الإسلامي حتى يسهل عليها نقل المواد اللازمة إلى باريس بأقل تكلفة، وخاصة محصول الكاكاو الذي تُنْتِج منه ساحل العاج نحو 40% من الإنتاج العالمي، زيادة عن كونها مصدراً رئيسيّاً للموز والبن والقطن وزيت النخيل والأناناس والمطاط والأخشاب، وغيرها من الموارد. وبناء عليه نجحت فرنسا من قبل في تمكين عميلها "لوران غباغبو" رئيس حزب الجبهة الشعبية من حسم نتائج الانتخابات الرئاسية لصالحه في 22/10/2000، بفضل الإنقلاب الذي قام به "روبرت غي" في 25/12/1999 والذي قام على إثره باستبعاد 14 مرشحاً من أصل 19 عن المشاركـة في الانتخابات، كان من ضمنهم "الحسن وتارا" رئيس تجمع الجمهوريين، متذرعاً بقانون الهوية الإيفوارية الذي ينص على حرمان أي مواطن عاجي لا يتمتع بالنقاء العرقي من خوض هذه الانتخابات، ذلك أن والدة وتارا كانت من أصول بوركينية.
أما أزمة 2010 فقد بدأت في ساحل العاج على إثر الانتخابات التي تمت في 28 /11/2010 والتي كان يفترض أن تجرى في أواخر 2005 عندما انتهت ولاية غباغبو الذي تولي الحكم منذ العام 2000 إلا أنه نجح بتأجيلها أكثر من ست مرات لكي يبقى في السلطة طويلاً بدعم فرنسي واضح في ذلك الوقت. وإنه بدلاً من أن تحسم الانتخابات في ساحل العاج السباق لصالح أحد المرشحين أفضت النتائج إلى وضع خطير ضاعف من الأزمة السياسية والعسكرية التي شهدتها البلاد منذ عام 2002 عندما اندلع التمرد الشمالي ضد حكم غباغبو بدفع أميركي، والذي أدى إلى إرسال قوات حفظ سلام دولية للفصل بين الأطراف المتنازعة. لقد فوجئ العالم في 4/12/2010 بأن ساحل العاج أصبحت دولة برئيسين، حيث أعلن التلفزيون الحكومي الرسمي أن الرئيس لوران غباغبو أدى اليمين الدستورية لفترة رئاسية جديدة، في وقت أعلن فيه زعيم المعارضة الحسن وتارا نفسه رئيساً للبلاد بعد فوزه بالانتخابات الرئاسية الأخيرة. فعندما أعلنت لجنة الانتخابات فوز وتارا بنسبة 54% مقابل 46% من الأصوات لغباغبو، سارع رئيس المجلس الدستوري بول ياو أندري بالخروج على الملأ في 3/12/2010 ليؤكد أن غباغبو هو الفائز بعد أن أحرز 51% من الأصوات، موضحاً أن نتائج التصويت في سبع من المناطق الشمالية المؤيدة لوتارا ألغيت بسبب ما أسماها تجاوزات انتخابية خطيرة.