عمر
24-02-2012, 02:15 AM
الجارح الراجحي
سألت أستاذي أبا يعرب عن خطاب غنيم الذي يزعمه صاحبه مستندا إلى العلم الديني القطعي في الأحكام ورد علمائنا المزعومين عليه بمنطقين هزيلين يسلمان بأمرين حولا كلامهم إلى مهزلة فجعلا الشيخ فحلا رغم كون خطابه ضحلا:
الأول يقدم على أنه رأي النهضة فكان شبه دليل قاطع على أنها قائلة بازدواج الخطاب. ذلك أن حرص الشيخ مورو على اشتراط السرية قبل أن يجبر على البوح الفاضح لحجة المرحلية يجعل غاية النهضة استعمال الحكم في وظيفة دعوية لأسلمة البلاد. أفيكون وصفك أستاذي النهضة بكونها تمثل ذروة الإصلاح دليل على انخداعك بخطاب مزدوج أو تواطئك معه؟ لست أشك في كلتا الخليتين مما أربأ بك أن تكون عليهما. لكن تسليم الشيخ مورو بصحة خطاب الشيخ غنيم من حيث المبدأ والاكتفاء بالاعتراض على المناسبة للظرف يجعل موقفه الذي يبدو مدافعا عن النهضة متهما لها بازدواج الخطاب: أفيكون تصورها الحالي وقولها بالديموقراطية مرحليا فتكون في الغاية ذاهبة مذهب غنيم أي إنها في الحقيقة لا تؤمن بالديموقراطية؟
والثاني هو التسليم للشيخ غنيم بوجوب أن يكون كل محاوريه مسلمين. فسخف القول بأن الجميع في تونس مسملون وأن الخلاف في الموقف من آراء الشيخ غنيم ليس خلافا بين مسلمين وغير مسلمين بل هو خلاف بين فهوم متعددة للإسلام ليس فوقه سخف. وهذا دليل إما على نفاق لا يطاق أو على نسبة خطاب مزدوج للعلمانيين علته كذلك عدم المناسبة للتصريح بالموقف الحقيقي فلا يكون هذا الكلام إلا حيلة لإعداد حملة انتخابية تتجنب الفشل الذي حصل في الانتخابات السالفة بمحاولة تحييد هذه المسألة في الانتخابات القادمة. وهذا أيضا فيه تسليم للشيخ غنيم بأن أجوبته المستندة إلى تقديم سيف ديموقليس مسلطا على رقبة كل من يحاوره أجوبة مقبولة: هل أنت مسلم أم لا ؟ ومعنى ذلك أن التونسي إذا كان غير مسلم يعتبر خارج حلبة الحوار في مسألة النظام السياسي الذي يحقق أهداف الثورة. وهو لعمري من العجائب في خطاب الرجل ودليل على فظاظة لا نظير لها.
فكان جوابه على هذا النحو:
اسمع يا بني. تأكدت الآن أن الجدل الفكري عندنا لم يصل بعد إلى المرحلة التي تحرره من المخاتلة المتبادلة بين طرفيه. فكلا الموقفين يفيدان بأن أصحابهما أنفسهم حذاق في الاستغباء المتبادل غير دارين بأن كل من يعامل غيره وكأنه "عداها عليه" لم يعدها إلا على نفسه. لذلك فسأكتفي بقضية واحدة من خطاب غنيم وردود محاوريه عليه: الموقف من الديموقراطية. أما الأمران اللذان أشرت إليهما فحكمك فيهما كاف وزيادة ولا حاجة لأن أجيب فقد أجبت ووفيت. لكني أضيف ملاحظتين بخصوصهما:
فبالنسبة إلى الأمر الأول: الخلاف مع خطاب غنيم مبدئي وليس مجرد خلاف حول المناسبة كما يتصور الأستاذ مورو. خطابه مرفوض جملة وتفصيلا. فحتى لو سلمنا بأن الشورى كما يفهمها هو باعتبارها محررة مما يمكن أن تؤدي إليه الديموقراطية من تجاوز لحدود الله فتكون بذلك الحل الأمثل وحتى لو سلمنا بأن حلول الخلفاء الراشدين أفضل الممكن بشريا (وهي بالجوهر ليست كذلك إلا إذا تصورنا الفكر البشري قد توقف عند ما توصل إليه اجتهادهم الذي لا يمكن أن يعد وحيا وإلا خلطنا بين الاجتهاد البشري والوحي) فإن ذلك لا يعني أننا مطالبون بالخيار بين حلولهم الأربعة. فالثابت من تعددها هو تعددها. وتعددها يعني انفتاح كل واحد منها على غيره تعيينا للشورى بحسب الاجتهاد: السابق منفتح على اللاحق واللاحق باختلافه مع السابق منفتح على السابق. فيكون ذلك دالا على أن المبدأ هو تعدد أشكال تعيين الشورى. والحكم في ذلك ما تراه الجماعة المؤمنة كما حددت ذلك الآية 38 من الشورى. ولما كان التعدد في هذه الحالة غير مصحوب بالحصر فإنه دليل على الاجتهاد المفتوح إلى غير غاية لأن العناية بالمصالح العامة تنتسب إلى العمل وهو بالطبع من مجال الاجتهاد (انظر رد ابن خلدون على الموقف الشيعي من مسألة الحكم وصلته بالعقد).
وبالنسبة إلى الأمر الثاني: الخلاف مع غنيم مطلق وهو يعم كل البشر بصرف النظر عن عقائدهم وليس مقصورا على الآراء بين المسلمين وحدهم. فالتونسي ليس بالضرورة مسلما. ولا حاجة له لإخفاء عدم إسلامه سواء كان على دين آخر أو ملحدا بل هو -لمجرد كونه مواطنا تونسيا- له الحق كل الحق في أن يسهم في خيار الشعب التونسي لنظامه الدستوري وقواعد عيشه المشترك. وهذا القول يصح عقلا ويصح كذلك نقلا. ولنكتف بإثبات الحصة النقلية إذ لا حاجة لإثبات الصحة العقلية: فذلك هو معنى المواطنة. إنه يصح نقلا لأن القرآن الكريم يفرض على الدولة الإسلامية أن ترعى حق أهل الأديان الأخرى في تطبيق شرائعهم بينهم (المائدة عامة والآية 48 خاصة). وحتى الإلحاد أو الكفر بلغة دينية فهو معدود نوعا من الدين في القرآن الكريم الذي يؤجل الأديان الخمسة ومعهم الكافرون (دينا سادسا إن صح التعبير) إلى يوم الدين للفصل بينهم.
ولأعد الآن إلى بيت القصيد لأبين علل عجز محاوري الشيخ غنيم عن الرد. ذلك أن ما يقوله عن الديموقراطية أكثر مطابقة لحقيقتها في التصورين الفلسفي والديني التقليديين مما يقوله الرادون عليه. فهي ليست مجرد آلية كما يقول الشيخ مورو وغيره من الرادين على الشيخ غنيم بل هي نظرة لطبيعة الحقيقة العملية والخلقية تجعلها مقصورة على ما تجمع عليه إرادة الجماعة من قيم وقوانين وقواعد وجود مشترك. فالمشرع فيها ليس العقل ولا الوحي المتجاوزان لإرادة الجماعة بل هو إرادة الشعب. ومن ثم فرفضه لها أكثر منطقية وفهما لحقيقتها من قول الرادين عليه من القائلين بها. رفضه للديموقراطية مطابق لما كانت تقول به الفلسفة القديمة والوسيطة وكذلك لما تقول به كل الأديان لكونه رفضا مستندا إلى قصر الحقيقة العملية على إرادة الجماعة. ولا خلاف بين الفلاسفة ورجال الدين في هذه المسألة إلا بخصوص طبيعة تأسيسهما لذم الديموقراطية ورفضها:
فأفلاطون وأرسطو كلاهما يعتبرها أدنى أشكال الحكم لأنها دكتاتورية النزوات قبالة الحكمة وجهل العامة قبالة علم العقل والفلاسفة. وعلى منوالهم نسجت الفلسفة القديمة والوسيطة في الشرق والغرب على حد سواء.
وكل الأنبياء ورجال الدين يعتبرونها أدنى أشكال الحكم لأنها دكتاتورية الهوى قبالة الهداية وجهل العامة قبالة علم علماء الدين. وذلك ما يعلل التلاقي بين الموقفين في اللاهوت والكلام اللذين سيطرا على القرون الوسطى وهما المسيطران على فكر من هم من جنس غنيم.
والرادون عليه دونه فهما لحقيقة الديموقراطية لأنهم يتصورونها مجرد آلية. والعلة هي أنهم لم يتخلوا بعد عن القول بقدرة العقل على إدراك الحقيقة العملية المطلقة المستندة إلى العقل أو الوحي أو عليهما معا العقل والنقل المدركين للحقيقة المطلقة التي في ضوئها يكون التقويم والتشريع حسب رأيهم. وهم يتصورون وصفها بكونها آلية حكم يمكن أن يحيدها فيترك للعقل وللوحي علوية على إرادة الشعوب. الشيخ غنيم محق لما يخيرهم بين الديموقراطية التي لا تكون إلا مستندة إلى معرفة نسبية وهي عين إرادة الجماعة والقول بهذه العلوية المشروطة بدعوى إطلاق المعرفة العقلية أو النقلية أو كليهما معا (أن تكون الحقيقة العقلية والنقلية في ذاتها مطلقة وموجودة في العلم الإلهي ليس موضوع كلامنا بل دعوى أن علمنا الإنساني بهما مطلق فذلك هو المشكل). الديموقراطية لا تسلم بعلوية أي شيء على إرادة الشعوب: فلا عقل الفلاسفة ولا وحي الأنبياء بمتعاليين على الديموقراطية من حيث هو موقف عملي أساسه نسبية المعرفة وإرادة الشعوب في التشريع لذاتها. والرد على غنيم لا يكون مقنعا إذا جاء ممن يعتبر الديموقراطية مجرد آلية دون أن يثبت أمرا وينفي أمرا آخر وكلاهما ممتنع:
فعليه أن يثبت أن العلماء العقليين والنقليين يعلمون حقيقة علمية متعالية على النسبية في المعرفة بحيث يمكن أن تكون متعالية على الإرادة الشعبية.
وعليه أن ينفي إمكانية أن تجمع الجماعة على الضلالة بالمعنى الديني وعلى الخطأ بالمعنى الفلسفي (بالنسبة إلى المؤمن بقدرة المعرفة الإنسانية العقلية والنقلية على تجاوز الاجتهاد النسبي إلى العلم القطعي).
والإثبات والنفي لا يمكن أن يقول بهما إلا من بقي قائلا بالتصور القديم والوسيط للحقيقة الفلسفية والدينية أعني بمن يقيس علمه على علم الله فيتصور نفسه قادرا على معرفة الأشياء على ما هي عليه: وهو بذلك ينفي الغيب مدعيا أن الراسخين في العلم يمكن أن يؤولوا المتشابه فلا يكون موقفهم إلا موقف من قلبه مرض ويسعى إلى الفتنة. وتلك هي العلة في مآل خطاب الشيخ مورو إلى اتهام النهضة بغير قصد بازدواجية الخطاب: إذ هو يتصور الديموقراطية مجرد آلية ويعتبر القبول بالتعدد في إدراك الحقيقة العملية ظرفيا ومرحليا وليس أمرا مبدئيا لا مفر منه.
ما غاب عن المتحاورين هو أن الفلسفة الحديثة لما قلبت العلاقة بين أنظمة الحكم فاعتبرت النظام الديموقراطي أسمى من الأنظمة الخمسة الأخرى (أعني الأنظمة الثلاثة الفاضلة أي الملكية والأرستوقراطية والجمهورية والنظامين الراذلين الآخرين أي الدكتاتورية والأوليغارشية) لم تفعل ذلك اعتباطا بل هي غيرت نظرية الحقيقتين العقلية والنقلية دون أن تنفي وجودهما في ذاتهما حصرا إياهما في علم الله (تماما كما تشير إلي ذلك الآية السابعة من آل عمران). وما كان لها أن تفعل لولا حصول الثورة التالية التي أزالت صفة الخاصة على أدعياء العلمين العقلي والنقلي المطلقين (وذلك هو سر فظاظة أهل الدعوة الدعية) بفضل الإصلاحين الديني والفلسفي اللذين جعلا المعرفة الدينية والفلسفية مشروطتين بتنوير الجماعة وتحريرها من سلطان الخاصة التي تدعي ما ليس بذي وجود: العلم العملي المطلق عقليا كان أو نقليا وتحول المعرفة الإنسانية عامة والعملية خاصة إلى معرفة اجتهادية تكون أكثر قربا من الصدق كما كان عدد المسهمين فيها بحيث إن الأخطاء تتعاوض فيكون القرب من الصواب أكثر حظوظا في الحصول من البعد عنه بشرط أن يكون ذلك بمنهجية التنوير والنقد.
النظام الديموقراطي بعد الإصلاح الديني والفلسفي كما يمكن استنتاجهما من فلسفة القرآن عندنا كما حصلا بعد النهضة الحديثة في الغرب اقتضيا ثورة تربوية للجماعة في المعرفتين العقلية والنقلية ثورة جعلت الشعب جله إن ليس كله مسهما في الخيارات العملية التي تكون أقرب إلى الصواب والهداية خاصة إذا تم التنوير المحرر من استبداد الخاصة المزعومة: ما يدعو إليه الشيخ غنيم هو المحافظة على سلطان الخاصة المزعومة ورفض التنوير والتربية النقدية في المجالين العقلي والنقلي وهو ما يلغي كل الثورة الإسلامية التي جمعت بين التنويرين كما يرمز إلى ذلك اشتراط تبين الرشد من الغي في حرية المعتقد عقدا ورمز الجمع بين السياسي والديني في صلاة الجمعة التي هي هذه التربية المغنية عن سلطان الخاصة أو التحرر من المقابلة خاصة عامة بحيث إن الديموقراطية هي النظام الأفضل للإنسان إذا كان الإنسان قد ربي على قيم التنوير العقلي والنقلي كما حددهما القرآن الذي حرر البشرية من سلطان الكهنوت. وذلك هو الفهم الذي جعلني أعتبر النهضة ذروة الإصلاح. ولو صح فهم الشيخ مورو لفكر النهضة لكنت من المخدوعين. وما أظنني منهم وعندما يتبين أني قد خدعت فعندئذ فسيكون لكل مقام مقال.
الديموقراطية تكون أفضل نظام بشروط جماعها هو جوهر السياسة الشرعية أعني التربية التي تحرر الجماعة من سلطان الكهنوت فتحررها مما تصوره الفلاسفة ورجال الدين حائلا دون من جعلوهم عامة باحتكار العلم وتعميم الجهل. فالنزوات والهوى مشتركة بين جميع البشر وليست الخاصة بمنآى عنها بل إن التربية هي السلطان المتدرج عليهما إذا توفرت فجعلت الجميع رشدا قادرين على الاختيار.؟
وعندئذ يمكن الاطمئنان إلى أن الجماعة لن تجمع على ضلالة ولا على خطأ في خياراتها القيمية والتشريعية. وبذلك نفهم أن السنة هي الفهم المحمدي للقرآن من حيث هو سياسة تربوية للجماعة وتنويرية للعقول وترشيدية للإرادات. ولما كان الرسول قد أسس هذا الخيار المحرر من الكهنوت على الفطرة التي هي عين الإسلام الجبلي فإنه قد اعتبر الإنسان المتحرر من الجهل والتقليد (هذا ما وجدنا عليه آباءنا) والحاصل على الرشد لن يختار إلا ما لأجله نهى الله الرسول فضلا عن العلماء الزاعمين إرث علمه عن أن يكون وصيا على المؤمنين أو مسيطرا. والله أعلم
سألت أستاذي أبا يعرب عن خطاب غنيم الذي يزعمه صاحبه مستندا إلى العلم الديني القطعي في الأحكام ورد علمائنا المزعومين عليه بمنطقين هزيلين يسلمان بأمرين حولا كلامهم إلى مهزلة فجعلا الشيخ فحلا رغم كون خطابه ضحلا:
الأول يقدم على أنه رأي النهضة فكان شبه دليل قاطع على أنها قائلة بازدواج الخطاب. ذلك أن حرص الشيخ مورو على اشتراط السرية قبل أن يجبر على البوح الفاضح لحجة المرحلية يجعل غاية النهضة استعمال الحكم في وظيفة دعوية لأسلمة البلاد. أفيكون وصفك أستاذي النهضة بكونها تمثل ذروة الإصلاح دليل على انخداعك بخطاب مزدوج أو تواطئك معه؟ لست أشك في كلتا الخليتين مما أربأ بك أن تكون عليهما. لكن تسليم الشيخ مورو بصحة خطاب الشيخ غنيم من حيث المبدأ والاكتفاء بالاعتراض على المناسبة للظرف يجعل موقفه الذي يبدو مدافعا عن النهضة متهما لها بازدواج الخطاب: أفيكون تصورها الحالي وقولها بالديموقراطية مرحليا فتكون في الغاية ذاهبة مذهب غنيم أي إنها في الحقيقة لا تؤمن بالديموقراطية؟
والثاني هو التسليم للشيخ غنيم بوجوب أن يكون كل محاوريه مسلمين. فسخف القول بأن الجميع في تونس مسملون وأن الخلاف في الموقف من آراء الشيخ غنيم ليس خلافا بين مسلمين وغير مسلمين بل هو خلاف بين فهوم متعددة للإسلام ليس فوقه سخف. وهذا دليل إما على نفاق لا يطاق أو على نسبة خطاب مزدوج للعلمانيين علته كذلك عدم المناسبة للتصريح بالموقف الحقيقي فلا يكون هذا الكلام إلا حيلة لإعداد حملة انتخابية تتجنب الفشل الذي حصل في الانتخابات السالفة بمحاولة تحييد هذه المسألة في الانتخابات القادمة. وهذا أيضا فيه تسليم للشيخ غنيم بأن أجوبته المستندة إلى تقديم سيف ديموقليس مسلطا على رقبة كل من يحاوره أجوبة مقبولة: هل أنت مسلم أم لا ؟ ومعنى ذلك أن التونسي إذا كان غير مسلم يعتبر خارج حلبة الحوار في مسألة النظام السياسي الذي يحقق أهداف الثورة. وهو لعمري من العجائب في خطاب الرجل ودليل على فظاظة لا نظير لها.
فكان جوابه على هذا النحو:
اسمع يا بني. تأكدت الآن أن الجدل الفكري عندنا لم يصل بعد إلى المرحلة التي تحرره من المخاتلة المتبادلة بين طرفيه. فكلا الموقفين يفيدان بأن أصحابهما أنفسهم حذاق في الاستغباء المتبادل غير دارين بأن كل من يعامل غيره وكأنه "عداها عليه" لم يعدها إلا على نفسه. لذلك فسأكتفي بقضية واحدة من خطاب غنيم وردود محاوريه عليه: الموقف من الديموقراطية. أما الأمران اللذان أشرت إليهما فحكمك فيهما كاف وزيادة ولا حاجة لأن أجيب فقد أجبت ووفيت. لكني أضيف ملاحظتين بخصوصهما:
فبالنسبة إلى الأمر الأول: الخلاف مع خطاب غنيم مبدئي وليس مجرد خلاف حول المناسبة كما يتصور الأستاذ مورو. خطابه مرفوض جملة وتفصيلا. فحتى لو سلمنا بأن الشورى كما يفهمها هو باعتبارها محررة مما يمكن أن تؤدي إليه الديموقراطية من تجاوز لحدود الله فتكون بذلك الحل الأمثل وحتى لو سلمنا بأن حلول الخلفاء الراشدين أفضل الممكن بشريا (وهي بالجوهر ليست كذلك إلا إذا تصورنا الفكر البشري قد توقف عند ما توصل إليه اجتهادهم الذي لا يمكن أن يعد وحيا وإلا خلطنا بين الاجتهاد البشري والوحي) فإن ذلك لا يعني أننا مطالبون بالخيار بين حلولهم الأربعة. فالثابت من تعددها هو تعددها. وتعددها يعني انفتاح كل واحد منها على غيره تعيينا للشورى بحسب الاجتهاد: السابق منفتح على اللاحق واللاحق باختلافه مع السابق منفتح على السابق. فيكون ذلك دالا على أن المبدأ هو تعدد أشكال تعيين الشورى. والحكم في ذلك ما تراه الجماعة المؤمنة كما حددت ذلك الآية 38 من الشورى. ولما كان التعدد في هذه الحالة غير مصحوب بالحصر فإنه دليل على الاجتهاد المفتوح إلى غير غاية لأن العناية بالمصالح العامة تنتسب إلى العمل وهو بالطبع من مجال الاجتهاد (انظر رد ابن خلدون على الموقف الشيعي من مسألة الحكم وصلته بالعقد).
وبالنسبة إلى الأمر الثاني: الخلاف مع غنيم مطلق وهو يعم كل البشر بصرف النظر عن عقائدهم وليس مقصورا على الآراء بين المسلمين وحدهم. فالتونسي ليس بالضرورة مسلما. ولا حاجة له لإخفاء عدم إسلامه سواء كان على دين آخر أو ملحدا بل هو -لمجرد كونه مواطنا تونسيا- له الحق كل الحق في أن يسهم في خيار الشعب التونسي لنظامه الدستوري وقواعد عيشه المشترك. وهذا القول يصح عقلا ويصح كذلك نقلا. ولنكتف بإثبات الحصة النقلية إذ لا حاجة لإثبات الصحة العقلية: فذلك هو معنى المواطنة. إنه يصح نقلا لأن القرآن الكريم يفرض على الدولة الإسلامية أن ترعى حق أهل الأديان الأخرى في تطبيق شرائعهم بينهم (المائدة عامة والآية 48 خاصة). وحتى الإلحاد أو الكفر بلغة دينية فهو معدود نوعا من الدين في القرآن الكريم الذي يؤجل الأديان الخمسة ومعهم الكافرون (دينا سادسا إن صح التعبير) إلى يوم الدين للفصل بينهم.
ولأعد الآن إلى بيت القصيد لأبين علل عجز محاوري الشيخ غنيم عن الرد. ذلك أن ما يقوله عن الديموقراطية أكثر مطابقة لحقيقتها في التصورين الفلسفي والديني التقليديين مما يقوله الرادون عليه. فهي ليست مجرد آلية كما يقول الشيخ مورو وغيره من الرادين على الشيخ غنيم بل هي نظرة لطبيعة الحقيقة العملية والخلقية تجعلها مقصورة على ما تجمع عليه إرادة الجماعة من قيم وقوانين وقواعد وجود مشترك. فالمشرع فيها ليس العقل ولا الوحي المتجاوزان لإرادة الجماعة بل هو إرادة الشعب. ومن ثم فرفضه لها أكثر منطقية وفهما لحقيقتها من قول الرادين عليه من القائلين بها. رفضه للديموقراطية مطابق لما كانت تقول به الفلسفة القديمة والوسيطة وكذلك لما تقول به كل الأديان لكونه رفضا مستندا إلى قصر الحقيقة العملية على إرادة الجماعة. ولا خلاف بين الفلاسفة ورجال الدين في هذه المسألة إلا بخصوص طبيعة تأسيسهما لذم الديموقراطية ورفضها:
فأفلاطون وأرسطو كلاهما يعتبرها أدنى أشكال الحكم لأنها دكتاتورية النزوات قبالة الحكمة وجهل العامة قبالة علم العقل والفلاسفة. وعلى منوالهم نسجت الفلسفة القديمة والوسيطة في الشرق والغرب على حد سواء.
وكل الأنبياء ورجال الدين يعتبرونها أدنى أشكال الحكم لأنها دكتاتورية الهوى قبالة الهداية وجهل العامة قبالة علم علماء الدين. وذلك ما يعلل التلاقي بين الموقفين في اللاهوت والكلام اللذين سيطرا على القرون الوسطى وهما المسيطران على فكر من هم من جنس غنيم.
والرادون عليه دونه فهما لحقيقة الديموقراطية لأنهم يتصورونها مجرد آلية. والعلة هي أنهم لم يتخلوا بعد عن القول بقدرة العقل على إدراك الحقيقة العملية المطلقة المستندة إلى العقل أو الوحي أو عليهما معا العقل والنقل المدركين للحقيقة المطلقة التي في ضوئها يكون التقويم والتشريع حسب رأيهم. وهم يتصورون وصفها بكونها آلية حكم يمكن أن يحيدها فيترك للعقل وللوحي علوية على إرادة الشعوب. الشيخ غنيم محق لما يخيرهم بين الديموقراطية التي لا تكون إلا مستندة إلى معرفة نسبية وهي عين إرادة الجماعة والقول بهذه العلوية المشروطة بدعوى إطلاق المعرفة العقلية أو النقلية أو كليهما معا (أن تكون الحقيقة العقلية والنقلية في ذاتها مطلقة وموجودة في العلم الإلهي ليس موضوع كلامنا بل دعوى أن علمنا الإنساني بهما مطلق فذلك هو المشكل). الديموقراطية لا تسلم بعلوية أي شيء على إرادة الشعوب: فلا عقل الفلاسفة ولا وحي الأنبياء بمتعاليين على الديموقراطية من حيث هو موقف عملي أساسه نسبية المعرفة وإرادة الشعوب في التشريع لذاتها. والرد على غنيم لا يكون مقنعا إذا جاء ممن يعتبر الديموقراطية مجرد آلية دون أن يثبت أمرا وينفي أمرا آخر وكلاهما ممتنع:
فعليه أن يثبت أن العلماء العقليين والنقليين يعلمون حقيقة علمية متعالية على النسبية في المعرفة بحيث يمكن أن تكون متعالية على الإرادة الشعبية.
وعليه أن ينفي إمكانية أن تجمع الجماعة على الضلالة بالمعنى الديني وعلى الخطأ بالمعنى الفلسفي (بالنسبة إلى المؤمن بقدرة المعرفة الإنسانية العقلية والنقلية على تجاوز الاجتهاد النسبي إلى العلم القطعي).
والإثبات والنفي لا يمكن أن يقول بهما إلا من بقي قائلا بالتصور القديم والوسيط للحقيقة الفلسفية والدينية أعني بمن يقيس علمه على علم الله فيتصور نفسه قادرا على معرفة الأشياء على ما هي عليه: وهو بذلك ينفي الغيب مدعيا أن الراسخين في العلم يمكن أن يؤولوا المتشابه فلا يكون موقفهم إلا موقف من قلبه مرض ويسعى إلى الفتنة. وتلك هي العلة في مآل خطاب الشيخ مورو إلى اتهام النهضة بغير قصد بازدواجية الخطاب: إذ هو يتصور الديموقراطية مجرد آلية ويعتبر القبول بالتعدد في إدراك الحقيقة العملية ظرفيا ومرحليا وليس أمرا مبدئيا لا مفر منه.
ما غاب عن المتحاورين هو أن الفلسفة الحديثة لما قلبت العلاقة بين أنظمة الحكم فاعتبرت النظام الديموقراطي أسمى من الأنظمة الخمسة الأخرى (أعني الأنظمة الثلاثة الفاضلة أي الملكية والأرستوقراطية والجمهورية والنظامين الراذلين الآخرين أي الدكتاتورية والأوليغارشية) لم تفعل ذلك اعتباطا بل هي غيرت نظرية الحقيقتين العقلية والنقلية دون أن تنفي وجودهما في ذاتهما حصرا إياهما في علم الله (تماما كما تشير إلي ذلك الآية السابعة من آل عمران). وما كان لها أن تفعل لولا حصول الثورة التالية التي أزالت صفة الخاصة على أدعياء العلمين العقلي والنقلي المطلقين (وذلك هو سر فظاظة أهل الدعوة الدعية) بفضل الإصلاحين الديني والفلسفي اللذين جعلا المعرفة الدينية والفلسفية مشروطتين بتنوير الجماعة وتحريرها من سلطان الخاصة التي تدعي ما ليس بذي وجود: العلم العملي المطلق عقليا كان أو نقليا وتحول المعرفة الإنسانية عامة والعملية خاصة إلى معرفة اجتهادية تكون أكثر قربا من الصدق كما كان عدد المسهمين فيها بحيث إن الأخطاء تتعاوض فيكون القرب من الصواب أكثر حظوظا في الحصول من البعد عنه بشرط أن يكون ذلك بمنهجية التنوير والنقد.
النظام الديموقراطي بعد الإصلاح الديني والفلسفي كما يمكن استنتاجهما من فلسفة القرآن عندنا كما حصلا بعد النهضة الحديثة في الغرب اقتضيا ثورة تربوية للجماعة في المعرفتين العقلية والنقلية ثورة جعلت الشعب جله إن ليس كله مسهما في الخيارات العملية التي تكون أقرب إلى الصواب والهداية خاصة إذا تم التنوير المحرر من استبداد الخاصة المزعومة: ما يدعو إليه الشيخ غنيم هو المحافظة على سلطان الخاصة المزعومة ورفض التنوير والتربية النقدية في المجالين العقلي والنقلي وهو ما يلغي كل الثورة الإسلامية التي جمعت بين التنويرين كما يرمز إلى ذلك اشتراط تبين الرشد من الغي في حرية المعتقد عقدا ورمز الجمع بين السياسي والديني في صلاة الجمعة التي هي هذه التربية المغنية عن سلطان الخاصة أو التحرر من المقابلة خاصة عامة بحيث إن الديموقراطية هي النظام الأفضل للإنسان إذا كان الإنسان قد ربي على قيم التنوير العقلي والنقلي كما حددهما القرآن الذي حرر البشرية من سلطان الكهنوت. وذلك هو الفهم الذي جعلني أعتبر النهضة ذروة الإصلاح. ولو صح فهم الشيخ مورو لفكر النهضة لكنت من المخدوعين. وما أظنني منهم وعندما يتبين أني قد خدعت فعندئذ فسيكون لكل مقام مقال.
الديموقراطية تكون أفضل نظام بشروط جماعها هو جوهر السياسة الشرعية أعني التربية التي تحرر الجماعة من سلطان الكهنوت فتحررها مما تصوره الفلاسفة ورجال الدين حائلا دون من جعلوهم عامة باحتكار العلم وتعميم الجهل. فالنزوات والهوى مشتركة بين جميع البشر وليست الخاصة بمنآى عنها بل إن التربية هي السلطان المتدرج عليهما إذا توفرت فجعلت الجميع رشدا قادرين على الاختيار.؟
وعندئذ يمكن الاطمئنان إلى أن الجماعة لن تجمع على ضلالة ولا على خطأ في خياراتها القيمية والتشريعية. وبذلك نفهم أن السنة هي الفهم المحمدي للقرآن من حيث هو سياسة تربوية للجماعة وتنويرية للعقول وترشيدية للإرادات. ولما كان الرسول قد أسس هذا الخيار المحرر من الكهنوت على الفطرة التي هي عين الإسلام الجبلي فإنه قد اعتبر الإنسان المتحرر من الجهل والتقليد (هذا ما وجدنا عليه آباءنا) والحاصل على الرشد لن يختار إلا ما لأجله نهى الله الرسول فضلا عن العلماء الزاعمين إرث علمه عن أن يكون وصيا على المؤمنين أو مسيطرا. والله أعلم