سيفي دولتي
01-02-2012, 05:57 PM
محاضرات وندوات خارجية - أمريكا - الرحلة2 - المحاضرة ( 2 - 10 ) : المائدة المستديرة - العلم والدين ( إذاعة واشنطن ).
لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي بتاريخ: 1998-11-09
بسم الله الرحمن الرحيم
المائدة المستديرة من إذاعة الشبكة العربية في واشنطن نتحاور مع الأستاذ شاكر السيد أمين عام الجمعية الإسلامية الأمريكية في واشنطن، والدكتور محمد راتب النابلسي المحاضر في كلية التربية بجامعة دمشق وذلك حول قضايا العلم والدين.
كثيراً ما يقف المرء حائراً أمام قضايا العلم عندما يقارن بين الحلال والحرام، ومعظم الاختراعات والاكتشافات العلمية لا تجد القبول إلا بعد جدل بين رجال الدين مثل قضايا نقل الدم ونقل الأعضاء والاستنساخ واستبدال الأنسجة، لقد جاءت الأديان لتنظم حياة الكائنات من أجل الحفاظ عليها، واستخدم الإنسان العلم وتوصل به إلى ما ينفع الكائنات وإلى ما هو مدمر مثل القنابل النووية، والأسلحة الجرثومية، وغير الجرثومية، لهذا العالم الغير مستقر بما فيه من متغيرات صالحة وطالحة، يبقى العلم هاماً لكل كائن، الدين منظماً ومرشدا، و نتساءل الخلافات التي تحدث في أنحاء العالم مرجعها التضارب، وأما التقارب بين العلم والدين، ثم إذا تمكن الإنسان من تسخير العلم لحاجاته المادية ما هي طرق إشباع الجانب الروحي ؟ ثم هل هناك تعارض أو توافق بين العقل والنقل ؟ أسئلة تطرحها المائدة المستديرة على الدكتور محمد راتب النابلسي المحاضر في كلية التربية بجامعة دمشق، والأستاذ شاكر السيد أمين عام الجمعية الإسلامية الأمريكية في واشنطن، ونرحب بمشاركتكم مع رقم الهاتف...
معكم المائدة المستديرة من إذاعة الشبكة العربية في واشنطن وسنحاول الاتصال بالدكتور النابلسي وإن شاء الله سيكون معنا عما قريب.
س: أستاذ شاكر قضايا العلم والدين كلها ترتكز على العقل، حتى ولو كان مصدر الدين سابق للعقل، فهل هناك إشكالية بين العقل والدين ؟
ج: الحمد لله والصلاة على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وبعد: الدين هو مصدر الهداية للعقل والعقل مناط التلقي والتكليف فالعقل له مهمة والدين له مهمة، العقل يتلقى الدين ويتعلم ويحاول أن يفهم وقد حث الدين الإسلامي على وجه التحديد أن يستعلم الناس عقولهم في فهم الدين، قال تعالى:
﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ(191)﴾
[ سورة آل عمران ]
فالقرآن يحث العقل على التفكر والتدبر في آيات الله الكونية وآيات الله الخلقية، وآيات الله في الإنسان، هذا التدبر ينتج عنه الإيمان، قال تعالى:
﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)﴾
[ سورة آل عمران ]
وهو محاولة من الإنسان أن يستلهم هداية الدين بالاعتماد على آيات الله في الكون للإيمان ثم للعمل الصالح، فليس هناك تعارض بين الدين والعقل.
س: أحياناً يقف العقل أو يقف الإنسان حيال بعض ما أتى به الدين ربما من آيات وربما من تفسيرات فسرها السابقون، فهل هناك اختلاف بين نظرة السابقين إلى هذه الآية أو هذا الوضع الذي أنزل أو أن هناك إشكالية في الزمن ؟
ج: الحقيقة أن قراءة العقل لنصوص الوحي في القرآن والسنة قد تختلف من عصر إلى عصر فلذلك كان من فضل الله علينا أن أثبت لنا نصوص القرآن في كتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ومن خلفه فثبوت هذه النصوص وجمعها في مكان واحد يوحد المرجعية ويوحد الفهم، ولكن تبقى قدرة الإنسان على الكشف، وتبقى مسألة أن الله سن هذا الأمر فقال تعالى في كتابه:
﴿سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53)﴾
[ سورة فصلت ]
فجعل الآيات الكونية سبيلاً لرؤية الحق، وذكر ذلك بصيغة المستقبل، قال سنريهم أي سيريهم في القرن الأول من الإسلام كما سيريهم في القرن الخامس عشر من الإسلام.
س: دكتور النابلسي قضايا العلم والدين كلها ترتكز على العقل حتى ولو كان مصدر الدين سابق للعقل، فهل هناك إشكالية بين العقل والدين؟
ج: هناك نقل وهناك عقل، النقل ما جاء في الكتاب والسنة الصحيحة وفق التأويل الصحيح، والعقل مقياس أودعه الله فينا، لا يمكن أن يتناقض العقل مع النقل إلا في حالات هي كما يلي:
حينما نتوهم أن هذه حقيقة علمية وهي ليست كذلك إنما هي نظرية هذه النظرية التي لم تثبت بعد ربما تناقضت مع نص من الوحيين الكتاب والسنة، أو حينما يكون النص موضوعاً أو ضعيفاً أو لا أصل له هذا قد يتناقض مع العلم، أما حينما يكون النص قطعي الثبوت قطعي الدلالة، وحينما يكون العلم حقيقةً وليست نظرية العقل الصريح والنص الصحيح لا يمكن أن يتناقضا لأن العلم قوانين مستنبطة من خلق الله والوحي كلام الله والمصدر هو الله فلابد من توافق العلم مع الدين، لابد من توافق النقل مع العقل، وإذا كان هناك دور للعقل فهو مكلف أن يتحقق من ثبوت النقل، هذا من مهمة العقل ؛ وبعد النقل مكلف أن يفهمه ؛ أما أن يكون العقل حكماً على النقل فهذا لا يمكن أن يكون لأن العقل قد يكون قاصراً عن فهم أبعاد النقل، مهمته أن يتحقق من ثبوت النقل قبل النقل، ومهمته أن يحاول فهم النقل بعد النقل، لا يمكن أن يكون العقل حكماً على النقل، بل النقل حكم على العقل.
ويأتي قبل هذا أن يعترف العقل بالنقل أولاً.
لابد أن يعترف به وأن يتحقق من ثبوته، لأن النقل كلمةٌ واسعة فنحن نعلم أن القرآن قطعي الثبوت آياته بعضها قطعية الدلالة وبعضها ظنية الدلالة.
س: قلتم أستاذ النابلسي عند التوهم بحقيقة علمية إذا اعترفتم أنها حقيقة علمية من أين يأتي التوهم ؟
ج: حينما تكون نظرية وليست حقيقة، التوهم غير صحيح، هي نظرية لم تثبت بعد إلا أننا توهمنا أنها حقيقة، ربما هذه النظرية التي لم تقم عليها أدلة كافية هذه ربما تناقضت مع النقل وهناك مناسبة دقيقة جداً وهي أن النقل منه ما هو قطعي الدلالة ومنه ما هو ظني الدلالة، لو قلت مثلاً لأوضح الحقيقة أعطي فلان ألفاً وخمسة مائة درهم، هذا نص قطعي الدلالة لا يختلف فيه اثنان ولا يحتاج إلى مجتهدين ولا إلى مفسرين ولا إلى مؤولين نص قطعي الدلالة، الأشياء الثابتة في الإنسان في أي مكان وزمان غطتها نصوص قطعية الدلالة، الثوابت في الإنسان مغطاة بنصوص قطعية الدلالة ولا تحتاج إلى تفسير ولا إلى تأويل ولا إلى اختلاف ولا إلى اجتهاد.
أما نصوص ظنية الدلالة أضرب لك مثلاً عليها، لو قلت أعطي فلان ألف درهم ونصفه، فهذه الهاء تعود على الألف أم على الدرهم إن عادت على الألف فهي ألف وخمس مائة درهم، وإن عادت على الدرهم فهي ألف ونصف درهم، هذا النص اسمه ظني الدلالة، هذا النص يحتاج إلى تفسير وإلى تأويل وإلى اجتهادات وإلى علة لغوية وإلى علة بيئية وإلى العرف وإلى ما هنالك.
ولكن أستاذ نابلسي التلاعب في الألفاظ ليس يعطي دلالة لحقيقة ما نعني، فإذا قلنا درهم ونصف أو نصفه فأعتقد أنه مجرد لفظ، فعند التحقق من ثبوت المصدر لأن ما يعنيه المصدر هناك تكون الحقيقة.
دقيقة واحدة أنا فهمت عليك، القرآن الكريم حينما يأتي بنص ظني الدلالة غير إذا تكلم إنسان نصاً ظني الدلالة، هناك فرق كبير القرآن الكريم حينما يأتي فيه نص ظني الدلالة الله عز وجل جعل هذه الظنية في النص من أجل أن تغطي كل الحاجات التي تتبدل في الحياة الإنسانية، فالإنسان ثوابته مغطاة بنص قطعي الدلالة ومغيراته البيئة، والعادات، والتقاليد، والتقدم، والتأخر، والغنى، هذه الأشياء التي تتغير في حياة الإنسان يغطيها نص ظني الدلالة، والله عز وجل حينما يكون في كلامه نص ظني الدلالة يريد كل الحالات التي يحتملها النص رحمة بالعباد، هذا من علم الله عز وجل، وكان من الممكن أن لا يكون في القرآن أي نص ظني الدلالة ولكن الظني الدلالة هذا من عمل المجتهدين وعندئذٍ نرى أن كل الحالات التي تطرأ في المستقبل، أضرب لك مثلاً: المرأة تأتيها الدورة وهي في الحج قبل طواف الإفاضة، هناك اجتهاد أن عليها بدنة أن تذبح ناقة تطعمها للفقراء ولها ثمن باهظ جداً، وهناك اجتهاد أن قومها ينتظرونها سبعة أيام، وهناك اجتهاد ثالث أنها تطوف البيت ولا شيء عليها، فإن كانت امرأة ميسرةً ذبحت بدنةً وأطعمتها للفقراء، وإن كانت ليست مقيدة بنظام معين في الحج ولا بفوج معين تنتظر سبعة أيام، وإن كانت لا تستطيع الانتظار ولا تملك ثمن البدنة تطوف البيت ولا شيء عليها، هذه الاجتهادات غطت كل الحالات، وهذه قاعة لو فرضنا دفع الزكاة قد ندفعها في المدينة نقداً، وقد ندفعها في الريف عيناً، أعطي الإنسان الريفي كيس من القمح يأكله طوال العام وأعطي الإنسان الذي يسكن في المدينة ماذا يفعل به؟ حينما تأتي النصوص ظنية الدلالة أراد الله منها أن تغطي كل الحالات الطارئة في المستقبل، إذاً في الإنسان ثوابت تغطيها النصوص قطعية الدلالة وفي الإنسان متغيرات تغطيها نصوص ظنية الدلالة والله أعلم.
دكتور شاكر.
الحقيقة أن حديث الدكتور النابلسي وتقسيمه أعطى المجال الواضح، ثوابت الدين الأصلية أتت بنصوص ثابتة واضحة الدلالة قطعية الدلالة، أما متغيرات الدين التي تأتي لتتجاوب مع متغيرات الحياة فهي تأتي بنصوص ظنية الدلالة، وظنية الدلالة معناها أنها قد تدل على أكثر من احتمال كقوله تعالى:
﴿وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56)﴾
[ سورة النور ]
علة وجه العموم، ثم يأتي التفصيل في السنة ليبين لنا، أو استعمال لفظ القرء، قال تعالى:
﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228)﴾
[ سورة البقرة ]
فالقرء قد يعني الحيض وقد يعني الطهر، المرأة تستطيع أن تستعمل هذا المعنى وهذا المعنى على حسب ما فصل الفقهاء في ذلك فالهدف من النصوص هو نقل أوامر وتوجيهات إلهية والإنسان يتلقى النص الثابت التي أجمعت الأمة على دلالته بدلالة معينة فيتلقاه بالقبول ولذلك قال العلماء: ما دخل إليه الاحتمال بطل به الاستدلال، أي إذا كان هناك نص له أكثر من احتمال فلا يصح أن يحمل واحد فهمه لهذا النص على محمل معين وأن يفرض هذا المحمل على غيره من الناس، مادام هذا النص يحتمل أكثر من فهم فلا يعيب فاهم على فاهم آخر.
يتبع
لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي بتاريخ: 1998-11-09
بسم الله الرحمن الرحيم
المائدة المستديرة من إذاعة الشبكة العربية في واشنطن نتحاور مع الأستاذ شاكر السيد أمين عام الجمعية الإسلامية الأمريكية في واشنطن، والدكتور محمد راتب النابلسي المحاضر في كلية التربية بجامعة دمشق وذلك حول قضايا العلم والدين.
كثيراً ما يقف المرء حائراً أمام قضايا العلم عندما يقارن بين الحلال والحرام، ومعظم الاختراعات والاكتشافات العلمية لا تجد القبول إلا بعد جدل بين رجال الدين مثل قضايا نقل الدم ونقل الأعضاء والاستنساخ واستبدال الأنسجة، لقد جاءت الأديان لتنظم حياة الكائنات من أجل الحفاظ عليها، واستخدم الإنسان العلم وتوصل به إلى ما ينفع الكائنات وإلى ما هو مدمر مثل القنابل النووية، والأسلحة الجرثومية، وغير الجرثومية، لهذا العالم الغير مستقر بما فيه من متغيرات صالحة وطالحة، يبقى العلم هاماً لكل كائن، الدين منظماً ومرشدا، و نتساءل الخلافات التي تحدث في أنحاء العالم مرجعها التضارب، وأما التقارب بين العلم والدين، ثم إذا تمكن الإنسان من تسخير العلم لحاجاته المادية ما هي طرق إشباع الجانب الروحي ؟ ثم هل هناك تعارض أو توافق بين العقل والنقل ؟ أسئلة تطرحها المائدة المستديرة على الدكتور محمد راتب النابلسي المحاضر في كلية التربية بجامعة دمشق، والأستاذ شاكر السيد أمين عام الجمعية الإسلامية الأمريكية في واشنطن، ونرحب بمشاركتكم مع رقم الهاتف...
معكم المائدة المستديرة من إذاعة الشبكة العربية في واشنطن وسنحاول الاتصال بالدكتور النابلسي وإن شاء الله سيكون معنا عما قريب.
س: أستاذ شاكر قضايا العلم والدين كلها ترتكز على العقل، حتى ولو كان مصدر الدين سابق للعقل، فهل هناك إشكالية بين العقل والدين ؟
ج: الحمد لله والصلاة على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وبعد: الدين هو مصدر الهداية للعقل والعقل مناط التلقي والتكليف فالعقل له مهمة والدين له مهمة، العقل يتلقى الدين ويتعلم ويحاول أن يفهم وقد حث الدين الإسلامي على وجه التحديد أن يستعلم الناس عقولهم في فهم الدين، قال تعالى:
﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ(191)﴾
[ سورة آل عمران ]
فالقرآن يحث العقل على التفكر والتدبر في آيات الله الكونية وآيات الله الخلقية، وآيات الله في الإنسان، هذا التدبر ينتج عنه الإيمان، قال تعالى:
﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)﴾
[ سورة آل عمران ]
وهو محاولة من الإنسان أن يستلهم هداية الدين بالاعتماد على آيات الله في الكون للإيمان ثم للعمل الصالح، فليس هناك تعارض بين الدين والعقل.
س: أحياناً يقف العقل أو يقف الإنسان حيال بعض ما أتى به الدين ربما من آيات وربما من تفسيرات فسرها السابقون، فهل هناك اختلاف بين نظرة السابقين إلى هذه الآية أو هذا الوضع الذي أنزل أو أن هناك إشكالية في الزمن ؟
ج: الحقيقة أن قراءة العقل لنصوص الوحي في القرآن والسنة قد تختلف من عصر إلى عصر فلذلك كان من فضل الله علينا أن أثبت لنا نصوص القرآن في كتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ومن خلفه فثبوت هذه النصوص وجمعها في مكان واحد يوحد المرجعية ويوحد الفهم، ولكن تبقى قدرة الإنسان على الكشف، وتبقى مسألة أن الله سن هذا الأمر فقال تعالى في كتابه:
﴿سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53)﴾
[ سورة فصلت ]
فجعل الآيات الكونية سبيلاً لرؤية الحق، وذكر ذلك بصيغة المستقبل، قال سنريهم أي سيريهم في القرن الأول من الإسلام كما سيريهم في القرن الخامس عشر من الإسلام.
س: دكتور النابلسي قضايا العلم والدين كلها ترتكز على العقل حتى ولو كان مصدر الدين سابق للعقل، فهل هناك إشكالية بين العقل والدين؟
ج: هناك نقل وهناك عقل، النقل ما جاء في الكتاب والسنة الصحيحة وفق التأويل الصحيح، والعقل مقياس أودعه الله فينا، لا يمكن أن يتناقض العقل مع النقل إلا في حالات هي كما يلي:
حينما نتوهم أن هذه حقيقة علمية وهي ليست كذلك إنما هي نظرية هذه النظرية التي لم تثبت بعد ربما تناقضت مع نص من الوحيين الكتاب والسنة، أو حينما يكون النص موضوعاً أو ضعيفاً أو لا أصل له هذا قد يتناقض مع العلم، أما حينما يكون النص قطعي الثبوت قطعي الدلالة، وحينما يكون العلم حقيقةً وليست نظرية العقل الصريح والنص الصحيح لا يمكن أن يتناقضا لأن العلم قوانين مستنبطة من خلق الله والوحي كلام الله والمصدر هو الله فلابد من توافق العلم مع الدين، لابد من توافق النقل مع العقل، وإذا كان هناك دور للعقل فهو مكلف أن يتحقق من ثبوت النقل، هذا من مهمة العقل ؛ وبعد النقل مكلف أن يفهمه ؛ أما أن يكون العقل حكماً على النقل فهذا لا يمكن أن يكون لأن العقل قد يكون قاصراً عن فهم أبعاد النقل، مهمته أن يتحقق من ثبوت النقل قبل النقل، ومهمته أن يحاول فهم النقل بعد النقل، لا يمكن أن يكون العقل حكماً على النقل، بل النقل حكم على العقل.
ويأتي قبل هذا أن يعترف العقل بالنقل أولاً.
لابد أن يعترف به وأن يتحقق من ثبوته، لأن النقل كلمةٌ واسعة فنحن نعلم أن القرآن قطعي الثبوت آياته بعضها قطعية الدلالة وبعضها ظنية الدلالة.
س: قلتم أستاذ النابلسي عند التوهم بحقيقة علمية إذا اعترفتم أنها حقيقة علمية من أين يأتي التوهم ؟
ج: حينما تكون نظرية وليست حقيقة، التوهم غير صحيح، هي نظرية لم تثبت بعد إلا أننا توهمنا أنها حقيقة، ربما هذه النظرية التي لم تقم عليها أدلة كافية هذه ربما تناقضت مع النقل وهناك مناسبة دقيقة جداً وهي أن النقل منه ما هو قطعي الدلالة ومنه ما هو ظني الدلالة، لو قلت مثلاً لأوضح الحقيقة أعطي فلان ألفاً وخمسة مائة درهم، هذا نص قطعي الدلالة لا يختلف فيه اثنان ولا يحتاج إلى مجتهدين ولا إلى مفسرين ولا إلى مؤولين نص قطعي الدلالة، الأشياء الثابتة في الإنسان في أي مكان وزمان غطتها نصوص قطعية الدلالة، الثوابت في الإنسان مغطاة بنصوص قطعية الدلالة ولا تحتاج إلى تفسير ولا إلى تأويل ولا إلى اختلاف ولا إلى اجتهاد.
أما نصوص ظنية الدلالة أضرب لك مثلاً عليها، لو قلت أعطي فلان ألف درهم ونصفه، فهذه الهاء تعود على الألف أم على الدرهم إن عادت على الألف فهي ألف وخمس مائة درهم، وإن عادت على الدرهم فهي ألف ونصف درهم، هذا النص اسمه ظني الدلالة، هذا النص يحتاج إلى تفسير وإلى تأويل وإلى اجتهادات وإلى علة لغوية وإلى علة بيئية وإلى العرف وإلى ما هنالك.
ولكن أستاذ نابلسي التلاعب في الألفاظ ليس يعطي دلالة لحقيقة ما نعني، فإذا قلنا درهم ونصف أو نصفه فأعتقد أنه مجرد لفظ، فعند التحقق من ثبوت المصدر لأن ما يعنيه المصدر هناك تكون الحقيقة.
دقيقة واحدة أنا فهمت عليك، القرآن الكريم حينما يأتي بنص ظني الدلالة غير إذا تكلم إنسان نصاً ظني الدلالة، هناك فرق كبير القرآن الكريم حينما يأتي فيه نص ظني الدلالة الله عز وجل جعل هذه الظنية في النص من أجل أن تغطي كل الحاجات التي تتبدل في الحياة الإنسانية، فالإنسان ثوابته مغطاة بنص قطعي الدلالة ومغيراته البيئة، والعادات، والتقاليد، والتقدم، والتأخر، والغنى، هذه الأشياء التي تتغير في حياة الإنسان يغطيها نص ظني الدلالة، والله عز وجل حينما يكون في كلامه نص ظني الدلالة يريد كل الحالات التي يحتملها النص رحمة بالعباد، هذا من علم الله عز وجل، وكان من الممكن أن لا يكون في القرآن أي نص ظني الدلالة ولكن الظني الدلالة هذا من عمل المجتهدين وعندئذٍ نرى أن كل الحالات التي تطرأ في المستقبل، أضرب لك مثلاً: المرأة تأتيها الدورة وهي في الحج قبل طواف الإفاضة، هناك اجتهاد أن عليها بدنة أن تذبح ناقة تطعمها للفقراء ولها ثمن باهظ جداً، وهناك اجتهاد أن قومها ينتظرونها سبعة أيام، وهناك اجتهاد ثالث أنها تطوف البيت ولا شيء عليها، فإن كانت امرأة ميسرةً ذبحت بدنةً وأطعمتها للفقراء، وإن كانت ليست مقيدة بنظام معين في الحج ولا بفوج معين تنتظر سبعة أيام، وإن كانت لا تستطيع الانتظار ولا تملك ثمن البدنة تطوف البيت ولا شيء عليها، هذه الاجتهادات غطت كل الحالات، وهذه قاعة لو فرضنا دفع الزكاة قد ندفعها في المدينة نقداً، وقد ندفعها في الريف عيناً، أعطي الإنسان الريفي كيس من القمح يأكله طوال العام وأعطي الإنسان الذي يسكن في المدينة ماذا يفعل به؟ حينما تأتي النصوص ظنية الدلالة أراد الله منها أن تغطي كل الحالات الطارئة في المستقبل، إذاً في الإنسان ثوابت تغطيها النصوص قطعية الدلالة وفي الإنسان متغيرات تغطيها نصوص ظنية الدلالة والله أعلم.
دكتور شاكر.
الحقيقة أن حديث الدكتور النابلسي وتقسيمه أعطى المجال الواضح، ثوابت الدين الأصلية أتت بنصوص ثابتة واضحة الدلالة قطعية الدلالة، أما متغيرات الدين التي تأتي لتتجاوب مع متغيرات الحياة فهي تأتي بنصوص ظنية الدلالة، وظنية الدلالة معناها أنها قد تدل على أكثر من احتمال كقوله تعالى:
﴿وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56)﴾
[ سورة النور ]
علة وجه العموم، ثم يأتي التفصيل في السنة ليبين لنا، أو استعمال لفظ القرء، قال تعالى:
﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228)﴾
[ سورة البقرة ]
فالقرء قد يعني الحيض وقد يعني الطهر، المرأة تستطيع أن تستعمل هذا المعنى وهذا المعنى على حسب ما فصل الفقهاء في ذلك فالهدف من النصوص هو نقل أوامر وتوجيهات إلهية والإنسان يتلقى النص الثابت التي أجمعت الأمة على دلالته بدلالة معينة فيتلقاه بالقبول ولذلك قال العلماء: ما دخل إليه الاحتمال بطل به الاستدلال، أي إذا كان هناك نص له أكثر من احتمال فلا يصح أن يحمل واحد فهمه لهذا النص على محمل معين وأن يفرض هذا المحمل على غيره من الناس، مادام هذا النص يحتمل أكثر من فهم فلا يعيب فاهم على فاهم آخر.
يتبع