عبد الواحد جعفر
17-01-2012, 06:45 PM
بناء شبكات الاعتدال الإسلامي 02/12/2008
نبسط فيما يلي ملخصا وافيا للتقرير الأخير الذي أصدره مركز دراسات الشرق الأوسط للسياسات العامة، التابع لمؤسسة راند الأميركية. ويعد هذا التقرير الثالث من نوعه الذي يصدر عن هذه المؤسسة البحثية الأميركية. حاول التقرير الأول الذي صدر بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول تشخيص الخارطة الفكرية والسياسية في العالم الإسلامي، في حين عمل التقرير الثاني الذي صدر سنة 2004 على تصنيف القوى الفكرية والسياسية الفاعلة في الساحة الإسلامية.
أما هذا التقرير الذي نضعه بين يدي القارئ العربي فهو يضبط آليات دعم ما يسميه المعتدلين المسلمين، والتي يلخصها في بناء المؤسسات والهياكل ثم الإسناد المالي، وهو ما من شأنه أن يعطي سبقا لهذا التيار على قوى "التطرف" الإسلامي على ما يقول التقرير.
ترجمة وتلخيص/ د. رفيق عبد السلام
مدخل عام
الملخص العام
دروس الحرب الباردة
مشاريع أميركا للتواصل مع المسلمين
دعم الديمقراطية وبناء المجتمع المدني
خارطة طريق.. بناء شبكة اعتدال
مدخل عام
إن الصراع الذي تجري أطواره اليوم في أغلب مناطق العالم الإسلامي هو في جوهره صراع أفكار. لا غرو أن يحدد هذا الصراع طبيعة الوجهة المستقبلية التي سيتخذها العالم الإسلامي، كما أنه كفيل بالإجابة عما إذا كان التهديد الذي يمثله الإرهابيون الجهاديون سيستمر في التفاقم، أم سينحسر؟ وما إذا كانت بعض المجتمعات الإسلامية ستمعن في السير أكثر فأكثر نحو تقاليد العنف والتعصب، أم لا؟
ورغم أن الراديكاليين الإسلاميين يمثلون في البلاد الإسلامية أقلية محدودة غالبا، فإنهم مع ذلك يحرزون قصب السبق قياسا بالمعتدلين. سبب ذلك يعود إلى كون هؤلاء الراديكاليين قد نجحوا في إقامة شبكة واسعة من المؤسسات تمتد على عموم العالم الإسلامي، بل تتعداه في بعض الأحيان إلى ما هو أبعد من ذلك لتشمل الأقليات الإسلامية المنتشرة في أميركا الشمالية وأوروبا.
وخلافا لكل ذلك لم يتسن للمسلمين المعتدلين والليبراليين، الذين يشكلون أغلبية في مجتمعاتهم إقامة مثل هذه الشبكات، وعليه فإن المبادرة بسد هذا الفراغ المؤسسي من شأنه أن يوفر لهم أرضية مناسبة لإبلاغ صوت الاعتدال الذي يمثلونه، فضلا عن حماية أنفسهم من التحرش الذي يواجهونه.
عند التمحيص يتبين أن المعتدلين المسلمين ليست في مكنتهم إقامة مثل هذه الرافعات بجهدهم الذاتي، وذلك بسبب شح الموارد التي بين أيديهم، مما يجعلهم في أمس الحاجة إلى الدعم الخارجي. وبناء على ذلك فإن الولايات المتحدة الأميركية تشغل دورا حيويا في توسيع حضور المعتدلين، وشد أزرهم، وذلك نسجا على منوال تجربة الحرب الباردة، حينما لعبت دورا متقدما في دعم الشبكات التابعة لتلك التيارات التي كانت تتبنى أفكار الحرية والديمقراطية.
إن من أوكد الأولويات في المرحلة الراهنة، أولا: استخلاص العبر من تجربة الحرب الباردة، ومعرفة ما الذي بقي منها صالحا للتطبيق على العالم الإسلامي اليوم. ثانيا: بناء "خارطة طريق" من أجل إقامة شبكات للاعتدال والليبرالية الإسلامية، وهذا ما تقترحه هذه الورقة التي نبسطها بين يدي القارئ.
هذه الدراسة مستوحاة في أصلها من أعمال تمهيدية سابقة حول ما أسميناه الإسلام المعتدل، وخاصة الورقة التي أعدتها الباحثة أنجلا رباسا تحت عنوان "العالم الإسلامي بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول" ثم الدراسة التي أعدتها شيرلي برنار تحت عنوان "الإسلام المدني الديمقراطي".
الملخص العام
إن التأويل الراديكالي والوثوقي للإسلام قد عرف شيوعا واسعا في الكثير من البلاد الإسلامية خلال السنوات الأخيرة، وإذا كان من المسلم به وجود أسباب عديدة تقف خلف هذه الظاهرة، وعلى رأسها انتشار عدد واسع من الأدبيات المغذية للتطرف، فإن الأسباب البنيوية مع ذلك تظل المؤثر الأكبر، والفاعل الأقوى في ذلك.
إن شيوع البنى السياسية التسلطية، وضمور دور مؤسسات المجتمع المدني في أغلب مناطق العالم الإسلامي، قد جعلا من المسجد واحدة من أهم قنوات التعبير -القليلة في أصلها- عن حالة التذمر الشعبي من الأوضاع السياسية الاقتصادية والاجتماعية السائدة.
وهكذا يقدم الإسلاميون الراديكاليون أنفسهم في بعض البلدان التي تعاني من حكومات تسلطية باعتبارهم البديل الممكن والوحيد عن حالة الجمود السياسي السائدة.
وعلى سبيل الجملة يمكن القول إن الراديكاليين المسلمين (كما هو شأن الحكومات التسلطية) قد نجحوا، إلى حد كبير، في التحرش بالمعتدلين المسلمين، وكل من يشاركهم نفس الثقافة الديمقراطية، كما نجحوا في تهميشهم وإخماد أصواتهم.
فقد واجه المفكرون الليبراليون والمعتدلون في بعض الأحيان عقوبة الموت، واضطر بعضهم الآخر للهجرة خارج بلدانهم، كما هو واقع الحال في مصر والسودان وإيران.
وحتى في بعض البلدان ذات التقاليد الليبرالية بعض الشيء، مثل إندونيسيا، فإن الراديكاليين لا يتورعون عن استخدام العنف، والتهديد باستخدامه في مواجهة خصومهم، بل إن نفس هذه الأساليب باتت تستخدم بين الأقليات الإسلامية المنتشرة في الغرب.
وإذا وضعنا جانبا قضية العنف، يتبين أن الراديكاليين الإسلاميين يتمتعون في حقيقة الأمر بعنصريْ سبق قياسا بالمسلمين الليبراليين والمعتدلين: أولهما المال، وثانيهما قوة التنظيم والمؤسسات.
فعلى الصعيد الأول، كان للتمويل السعودي الهادف إلى تصدير نسخة وهابية من الإسلام، خلال العقود الثلاثة الأخيرة، كبير الأثر في نشر التطرف الديني على امتداد العالم الإسلامي، سواء كان ذلك بوعي أم من دون وعي.
أما على الصعيد التنظيمي فقد نجح المسلمون المتشددون في بناء شبكة واسعة من المؤسسات على امتداد سنين متتالية، وهي مؤسسات مندرجة بدورها ضمن شبكة دولية واسعة النطاق.
وبما أن المسلمين الليبراليين والمعتدلين لا يملكون ما يكفي من المؤسسات والهياكل التي تتيح لهم مواجهة المتطرفين، فإن إقامة مثل هذه الشبكات من شأنها أن توفر لهم من بواعث العزم ومقدرات القوة ما يتيح لهم نشر رسالتهم، وحماية أنفسهم من مخاطر المتطرفين.
وعلى الجهة الأخرى، فإن مثل هذا الدعم من شأنه أن يوفر لهم الحماية اللازمة في وجه حكوماتهم التسلطية الضائقة بهم، بحكم كونهم يمثلون البديل الأكثر قبولا عن نظام الاستبداد مقارنة بالمتطرفين.
وبالنظر إلى كون المعتدلين المسلمين لا يمتلكون ما يكفي من مصادر التمويل التي تتيح لهم بناء مؤسساتهم، فإن إقامة مثل هذه الرافعات تتيح لهم دعما خارجيا هم في أمس الحاجة إليه.
دروس مستخلصة من الحرب الباردة
لا شك أن جهود الولايات المتحدة الأميركية وشركائها في المساعدة على بناء مؤسسات ومنظمات حرة وديمقراطية خلال حقبة الحرب الباردة، تحمل في طياتها من الدروس والعبر ما يصلح للاستلهام ضمن سياقات الحرب الدولية ضد الإرهاب.
لم يعتمد الاتحاد السوفياتي في أوروبا، خلال حقبة الحرب الباردة على الأحزاب الشيوعية فحسب، والتي كان بعضها أكثر الأحزاب تنظيما وانتشارا، بل هو أكثر من ذلك اعتمد شبكة واسعة ومعقدة من الهيئات والمنظمات، مثل النقابات العمالية، والمنظمات الشبابية والطلابية والجمعيات الصحفية، الأمر الذي أتاح له التحكم في قطاعات واسعة ومهمة من المجتمع.
أما خارج أوروبا فقد تمكن الاتحاد السوفياتي من كسب العديد من حركات التحرر التي كانت تقاوم الحكم الاستعماري إلى جانبه. بيد أنه عند التأمل يتبين أن نجاح سياسة الاحتواء التي نهجتها الولايات المتحدة الأميركية في مواجهة الاتحاد السوفياتي ما كان لها أن تنجح لولا أنها اعتمدت، بالتوازي مع الردع العسكري، بناء شبكة واسعة من المؤسسات الديمقراطية على خلفية إضعاف الهيمنة الشيوعية على المجتمع المدني.
ثمة صلة وثيقة ما بين الإستراتيجية الكبرى (أي إستراتيجية المواجهة العسكرية)، وجهود الولايات المتحدة الأميركية في بناء المؤسسات الديمقراطية. لقد كانت هذه السياسة الشاملة من بين العناصر الأساسية التي ساهمت في نجاح سياسة الاحتواء، وبهذا المعنى يمكن القول إنها تمثل نموذجا ملهما يمكن النسج على منواله من طرف صانعي السياسيات اليوم.
ومن المعلوم في هذا الصدد أنه كانت هناك حركة فكرية معادية للشيوعية وقتها، خصوصا بين اليسار غير الشيوعي في الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا، وقد احتاج الأمر إلى ضرب من الدعم المالي، والبناء المؤسسي الأميركي حتى تتحول هذه الجهود الفردية إلى تيار منظم ومنسجم. طبعا الولايات المتحدة الأميركية لم تصنع مثل هذه المؤسسات من فراغ، بل هي ولدت في أجواء حركات ثقافية وسياسية واسعة، وكل ما كانت تحتاجه هو نوع من الدعم الصامت من لدن الولايات المتحدة الأميركية وبعض الحكومات الأخرى وليس أكثر.
ثمة ثلاثة عناصر أساسية تجعل الحرب الباردة المنصرمة، شبيهة بالحرب الدولية على الإرهاب التي تدور رحاها اليوم، وهذه العناصر يمكن رصدها على النحو الآتي:
أولا: إن الولايات المتحدة الأميركية اليوم، كما هو شأنها في أربعينيات القرن الماضي، تواجه محيطا جغرافيا/سياسيا مضطربا، ومصحوبا بتهديدات أمنية جديدة. ففي بداية الحرب الباردة كان التهديد يتمثل في حركة شيوعية عالمية يقودها اتحاد سوفياتي نووي. أما اليوم فإن التهديد يتجسد في حركة جهادية دولية تعمل على ضرب الغرب بأعمال إرهابية واسعة النطاق.
ثانيا: كما كان عليه الأمر خلال حقبة الحرب الباردة، نحن اليوم بصدد إقامة بيروقراطية حكومية واسعة وجديدة لمواجهة هذه التهديدات الناشئة.
ثالثا: وهذا هو الأهم، كانت هنالك قناعة عامة بين صانعي السياسات الأميركيين خلال حقبة الحرب الباردة مفادها أن الولايات المتحدة الأميركية وحلفاءها هم منخرطون فعلا في صراع أيديولوجي واسع النطاق، وأن مثل هذا الصراع حري بأن يخاض على الواجهات الدبلوماسية والاقتصادية والعسكرية والنفسية على السواء. أما اليوم -وعلى نحو ما أقر ذلك في وزارة الدفاع- فإن الولايات المتحدة الأميركية تخوض حربا قوامها معركة السلاح والأفكار في نفس الوقت، وهي حرب لا يمكن كسبها إلا عندما تفقد الأيديولوجيا المتطرفة مصداقيتها في أعين الشعوب، ويخبو بريقها بين المتعاطفين معها.
مشاريع التواصل مع العالم الإسلامي
يمكن اعتبار مجمل الوثائق والخطب التي ألقاها الرئيس بوش في إطار "أجندة الحرية" بمثابة إستراتيجية أميركية كبرى في مواجهة الإرهاب، إلا أنه عند التحقيق يتبين أنه لم تتبلور بعد الكيفية التي سيتم على ضوئها تحديد الشركاء المحتملين في "حرب الأفكار" هذه، ولم تضبط بعد مسالك دعمهم.
من الواضح أنه لا توجد، وإلى حد الآن، سياسة أميركية صريحة وجلية في المساعدة على بناء شبكات إسلامية معتدلة، رغم وجود شيء من هذا الدعم من طرف بعض المؤسسات الأميركية، وعلى هذا الأساس فإننا نقترح أن يكون بناء شبكات إسلامية معتدلة هدفا معلنا وصريحا في برنامج الحكومة الأميركية.
إن بناء شبكات الاعتدال الإسلامي يمكن أن يجري على ثلاثة وجوه رئيسية:
أولا: دعم مؤسسات هي أصلا موجودة.
ثانيا: ضبط شبكات معينة ذات أولوية والعمل على بعثها ورعايتها.
ثالثا: المشاركة في إشاعة ثقافة التعدد والتسامح، التي تعد شرطا لازما لتطور مثل هذه المؤسسات.
نبسط فيما يلي ملخصا وافيا للتقرير الأخير الذي أصدره مركز دراسات الشرق الأوسط للسياسات العامة، التابع لمؤسسة راند الأميركية. ويعد هذا التقرير الثالث من نوعه الذي يصدر عن هذه المؤسسة البحثية الأميركية. حاول التقرير الأول الذي صدر بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول تشخيص الخارطة الفكرية والسياسية في العالم الإسلامي، في حين عمل التقرير الثاني الذي صدر سنة 2004 على تصنيف القوى الفكرية والسياسية الفاعلة في الساحة الإسلامية.
أما هذا التقرير الذي نضعه بين يدي القارئ العربي فهو يضبط آليات دعم ما يسميه المعتدلين المسلمين، والتي يلخصها في بناء المؤسسات والهياكل ثم الإسناد المالي، وهو ما من شأنه أن يعطي سبقا لهذا التيار على قوى "التطرف" الإسلامي على ما يقول التقرير.
ترجمة وتلخيص/ د. رفيق عبد السلام
مدخل عام
الملخص العام
دروس الحرب الباردة
مشاريع أميركا للتواصل مع المسلمين
دعم الديمقراطية وبناء المجتمع المدني
خارطة طريق.. بناء شبكة اعتدال
مدخل عام
إن الصراع الذي تجري أطواره اليوم في أغلب مناطق العالم الإسلامي هو في جوهره صراع أفكار. لا غرو أن يحدد هذا الصراع طبيعة الوجهة المستقبلية التي سيتخذها العالم الإسلامي، كما أنه كفيل بالإجابة عما إذا كان التهديد الذي يمثله الإرهابيون الجهاديون سيستمر في التفاقم، أم سينحسر؟ وما إذا كانت بعض المجتمعات الإسلامية ستمعن في السير أكثر فأكثر نحو تقاليد العنف والتعصب، أم لا؟
ورغم أن الراديكاليين الإسلاميين يمثلون في البلاد الإسلامية أقلية محدودة غالبا، فإنهم مع ذلك يحرزون قصب السبق قياسا بالمعتدلين. سبب ذلك يعود إلى كون هؤلاء الراديكاليين قد نجحوا في إقامة شبكة واسعة من المؤسسات تمتد على عموم العالم الإسلامي، بل تتعداه في بعض الأحيان إلى ما هو أبعد من ذلك لتشمل الأقليات الإسلامية المنتشرة في أميركا الشمالية وأوروبا.
وخلافا لكل ذلك لم يتسن للمسلمين المعتدلين والليبراليين، الذين يشكلون أغلبية في مجتمعاتهم إقامة مثل هذه الشبكات، وعليه فإن المبادرة بسد هذا الفراغ المؤسسي من شأنه أن يوفر لهم أرضية مناسبة لإبلاغ صوت الاعتدال الذي يمثلونه، فضلا عن حماية أنفسهم من التحرش الذي يواجهونه.
عند التمحيص يتبين أن المعتدلين المسلمين ليست في مكنتهم إقامة مثل هذه الرافعات بجهدهم الذاتي، وذلك بسبب شح الموارد التي بين أيديهم، مما يجعلهم في أمس الحاجة إلى الدعم الخارجي. وبناء على ذلك فإن الولايات المتحدة الأميركية تشغل دورا حيويا في توسيع حضور المعتدلين، وشد أزرهم، وذلك نسجا على منوال تجربة الحرب الباردة، حينما لعبت دورا متقدما في دعم الشبكات التابعة لتلك التيارات التي كانت تتبنى أفكار الحرية والديمقراطية.
إن من أوكد الأولويات في المرحلة الراهنة، أولا: استخلاص العبر من تجربة الحرب الباردة، ومعرفة ما الذي بقي منها صالحا للتطبيق على العالم الإسلامي اليوم. ثانيا: بناء "خارطة طريق" من أجل إقامة شبكات للاعتدال والليبرالية الإسلامية، وهذا ما تقترحه هذه الورقة التي نبسطها بين يدي القارئ.
هذه الدراسة مستوحاة في أصلها من أعمال تمهيدية سابقة حول ما أسميناه الإسلام المعتدل، وخاصة الورقة التي أعدتها الباحثة أنجلا رباسا تحت عنوان "العالم الإسلامي بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول" ثم الدراسة التي أعدتها شيرلي برنار تحت عنوان "الإسلام المدني الديمقراطي".
الملخص العام
إن التأويل الراديكالي والوثوقي للإسلام قد عرف شيوعا واسعا في الكثير من البلاد الإسلامية خلال السنوات الأخيرة، وإذا كان من المسلم به وجود أسباب عديدة تقف خلف هذه الظاهرة، وعلى رأسها انتشار عدد واسع من الأدبيات المغذية للتطرف، فإن الأسباب البنيوية مع ذلك تظل المؤثر الأكبر، والفاعل الأقوى في ذلك.
إن شيوع البنى السياسية التسلطية، وضمور دور مؤسسات المجتمع المدني في أغلب مناطق العالم الإسلامي، قد جعلا من المسجد واحدة من أهم قنوات التعبير -القليلة في أصلها- عن حالة التذمر الشعبي من الأوضاع السياسية الاقتصادية والاجتماعية السائدة.
وهكذا يقدم الإسلاميون الراديكاليون أنفسهم في بعض البلدان التي تعاني من حكومات تسلطية باعتبارهم البديل الممكن والوحيد عن حالة الجمود السياسي السائدة.
وعلى سبيل الجملة يمكن القول إن الراديكاليين المسلمين (كما هو شأن الحكومات التسلطية) قد نجحوا، إلى حد كبير، في التحرش بالمعتدلين المسلمين، وكل من يشاركهم نفس الثقافة الديمقراطية، كما نجحوا في تهميشهم وإخماد أصواتهم.
فقد واجه المفكرون الليبراليون والمعتدلون في بعض الأحيان عقوبة الموت، واضطر بعضهم الآخر للهجرة خارج بلدانهم، كما هو واقع الحال في مصر والسودان وإيران.
وحتى في بعض البلدان ذات التقاليد الليبرالية بعض الشيء، مثل إندونيسيا، فإن الراديكاليين لا يتورعون عن استخدام العنف، والتهديد باستخدامه في مواجهة خصومهم، بل إن نفس هذه الأساليب باتت تستخدم بين الأقليات الإسلامية المنتشرة في الغرب.
وإذا وضعنا جانبا قضية العنف، يتبين أن الراديكاليين الإسلاميين يتمتعون في حقيقة الأمر بعنصريْ سبق قياسا بالمسلمين الليبراليين والمعتدلين: أولهما المال، وثانيهما قوة التنظيم والمؤسسات.
فعلى الصعيد الأول، كان للتمويل السعودي الهادف إلى تصدير نسخة وهابية من الإسلام، خلال العقود الثلاثة الأخيرة، كبير الأثر في نشر التطرف الديني على امتداد العالم الإسلامي، سواء كان ذلك بوعي أم من دون وعي.
أما على الصعيد التنظيمي فقد نجح المسلمون المتشددون في بناء شبكة واسعة من المؤسسات على امتداد سنين متتالية، وهي مؤسسات مندرجة بدورها ضمن شبكة دولية واسعة النطاق.
وبما أن المسلمين الليبراليين والمعتدلين لا يملكون ما يكفي من المؤسسات والهياكل التي تتيح لهم مواجهة المتطرفين، فإن إقامة مثل هذه الشبكات من شأنها أن توفر لهم من بواعث العزم ومقدرات القوة ما يتيح لهم نشر رسالتهم، وحماية أنفسهم من مخاطر المتطرفين.
وعلى الجهة الأخرى، فإن مثل هذا الدعم من شأنه أن يوفر لهم الحماية اللازمة في وجه حكوماتهم التسلطية الضائقة بهم، بحكم كونهم يمثلون البديل الأكثر قبولا عن نظام الاستبداد مقارنة بالمتطرفين.
وبالنظر إلى كون المعتدلين المسلمين لا يمتلكون ما يكفي من مصادر التمويل التي تتيح لهم بناء مؤسساتهم، فإن إقامة مثل هذه الرافعات تتيح لهم دعما خارجيا هم في أمس الحاجة إليه.
دروس مستخلصة من الحرب الباردة
لا شك أن جهود الولايات المتحدة الأميركية وشركائها في المساعدة على بناء مؤسسات ومنظمات حرة وديمقراطية خلال حقبة الحرب الباردة، تحمل في طياتها من الدروس والعبر ما يصلح للاستلهام ضمن سياقات الحرب الدولية ضد الإرهاب.
لم يعتمد الاتحاد السوفياتي في أوروبا، خلال حقبة الحرب الباردة على الأحزاب الشيوعية فحسب، والتي كان بعضها أكثر الأحزاب تنظيما وانتشارا، بل هو أكثر من ذلك اعتمد شبكة واسعة ومعقدة من الهيئات والمنظمات، مثل النقابات العمالية، والمنظمات الشبابية والطلابية والجمعيات الصحفية، الأمر الذي أتاح له التحكم في قطاعات واسعة ومهمة من المجتمع.
أما خارج أوروبا فقد تمكن الاتحاد السوفياتي من كسب العديد من حركات التحرر التي كانت تقاوم الحكم الاستعماري إلى جانبه. بيد أنه عند التأمل يتبين أن نجاح سياسة الاحتواء التي نهجتها الولايات المتحدة الأميركية في مواجهة الاتحاد السوفياتي ما كان لها أن تنجح لولا أنها اعتمدت، بالتوازي مع الردع العسكري، بناء شبكة واسعة من المؤسسات الديمقراطية على خلفية إضعاف الهيمنة الشيوعية على المجتمع المدني.
ثمة صلة وثيقة ما بين الإستراتيجية الكبرى (أي إستراتيجية المواجهة العسكرية)، وجهود الولايات المتحدة الأميركية في بناء المؤسسات الديمقراطية. لقد كانت هذه السياسة الشاملة من بين العناصر الأساسية التي ساهمت في نجاح سياسة الاحتواء، وبهذا المعنى يمكن القول إنها تمثل نموذجا ملهما يمكن النسج على منواله من طرف صانعي السياسيات اليوم.
ومن المعلوم في هذا الصدد أنه كانت هناك حركة فكرية معادية للشيوعية وقتها، خصوصا بين اليسار غير الشيوعي في الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا، وقد احتاج الأمر إلى ضرب من الدعم المالي، والبناء المؤسسي الأميركي حتى تتحول هذه الجهود الفردية إلى تيار منظم ومنسجم. طبعا الولايات المتحدة الأميركية لم تصنع مثل هذه المؤسسات من فراغ، بل هي ولدت في أجواء حركات ثقافية وسياسية واسعة، وكل ما كانت تحتاجه هو نوع من الدعم الصامت من لدن الولايات المتحدة الأميركية وبعض الحكومات الأخرى وليس أكثر.
ثمة ثلاثة عناصر أساسية تجعل الحرب الباردة المنصرمة، شبيهة بالحرب الدولية على الإرهاب التي تدور رحاها اليوم، وهذه العناصر يمكن رصدها على النحو الآتي:
أولا: إن الولايات المتحدة الأميركية اليوم، كما هو شأنها في أربعينيات القرن الماضي، تواجه محيطا جغرافيا/سياسيا مضطربا، ومصحوبا بتهديدات أمنية جديدة. ففي بداية الحرب الباردة كان التهديد يتمثل في حركة شيوعية عالمية يقودها اتحاد سوفياتي نووي. أما اليوم فإن التهديد يتجسد في حركة جهادية دولية تعمل على ضرب الغرب بأعمال إرهابية واسعة النطاق.
ثانيا: كما كان عليه الأمر خلال حقبة الحرب الباردة، نحن اليوم بصدد إقامة بيروقراطية حكومية واسعة وجديدة لمواجهة هذه التهديدات الناشئة.
ثالثا: وهذا هو الأهم، كانت هنالك قناعة عامة بين صانعي السياسات الأميركيين خلال حقبة الحرب الباردة مفادها أن الولايات المتحدة الأميركية وحلفاءها هم منخرطون فعلا في صراع أيديولوجي واسع النطاق، وأن مثل هذا الصراع حري بأن يخاض على الواجهات الدبلوماسية والاقتصادية والعسكرية والنفسية على السواء. أما اليوم -وعلى نحو ما أقر ذلك في وزارة الدفاع- فإن الولايات المتحدة الأميركية تخوض حربا قوامها معركة السلاح والأفكار في نفس الوقت، وهي حرب لا يمكن كسبها إلا عندما تفقد الأيديولوجيا المتطرفة مصداقيتها في أعين الشعوب، ويخبو بريقها بين المتعاطفين معها.
مشاريع التواصل مع العالم الإسلامي
يمكن اعتبار مجمل الوثائق والخطب التي ألقاها الرئيس بوش في إطار "أجندة الحرية" بمثابة إستراتيجية أميركية كبرى في مواجهة الإرهاب، إلا أنه عند التحقيق يتبين أنه لم تتبلور بعد الكيفية التي سيتم على ضوئها تحديد الشركاء المحتملين في "حرب الأفكار" هذه، ولم تضبط بعد مسالك دعمهم.
من الواضح أنه لا توجد، وإلى حد الآن، سياسة أميركية صريحة وجلية في المساعدة على بناء شبكات إسلامية معتدلة، رغم وجود شيء من هذا الدعم من طرف بعض المؤسسات الأميركية، وعلى هذا الأساس فإننا نقترح أن يكون بناء شبكات إسلامية معتدلة هدفا معلنا وصريحا في برنامج الحكومة الأميركية.
إن بناء شبكات الاعتدال الإسلامي يمكن أن يجري على ثلاثة وجوه رئيسية:
أولا: دعم مؤسسات هي أصلا موجودة.
ثانيا: ضبط شبكات معينة ذات أولوية والعمل على بعثها ورعايتها.
ثالثا: المشاركة في إشاعة ثقافة التعدد والتسامح، التي تعد شرطا لازما لتطور مثل هذه المؤسسات.