khilafa
03-05-2011, 12:44 PM
نشرت جريدة "السلام اليوم" اليومية الجزائرية في عددها 16 ليوم السبت 30 أفريل 2011م، حوار رائعاً مع السيد نوار بيوض.
"نوار بيوض" المترجم الإعلامي السابق لـ"سي.بي.آس نيوز" (CBS News) لـ"السلام اليوم":
مشكلة الترجمة مشكلة إيديولوجية ومشكلة اللغة العربية مشكلة سياسية
حاوره: أحمد فلاح
يعاني المشهد الثقافي العربي ومنه الجزائري، من مشكلة تتعلق بالترجمة من وإلى العربية، وإذا كان البعض يشير إلى أن حركة الترجمة تسيطر عليها العشوائية والعلاقات الشخصية، يرى آخرون أن الترجمة في عالمنا العربي تمارس كهواية فردية في ظل عدم وجود مؤسسات متخصصة بالترجمة، بينما يذهب فريق ثالث إلى أن المشكلة تكمن في المترجم حيث لا يتوافر العدد الكافي من المترجمين المهرة.
إلتقت "السلام اليوم" بالمترجم "نوار بيوض"، الأستاذ الزائر لدى المعهد العربي العالي للترجمة بالجزائر، منذ 5 سنوات تقريبا، وهو المقيم ببريطانيا منذ بداية الثمانينيات، لتتناول معه واقع مشكلة الترجمة من وإلى العربية، في العالم العربي والدور الذي تلعبه في الحوار أو الصراع بين الحضارات. خاصة وأن مُحاورنا، مع اشتعال أولى حروب القرن الحادي والعشرين، في 11 سبتمبر 2011م، قد تعاقد مع وكالة أنباء سي.بي.آس نيوز (CBS News) كمترجم إعلامي ومترجم فوري. كما شارك في ترجمة محاكمة الرئيس العراقي الراحل صدام حسين. علماً أن معظم القضايا التي ترجم لها تتمحور حول الهجرة غير الشرعية، والتعامل مع طالبي اللجوء السياسي. وفيما يلي نص الحوار.
"السلام اليوم": ما هي مشكلة الترجمة من وإلى اللغة العربية اليوم؟
نوار بيوض: أولا وقبل كل شيء، يجب أن نعلم أن المشكلة لا تتعلق بالترجمة من وإلى العربية، بل المشكلة الحقيقية إيديولوجية تتعلق بما يجب أو لا يجب ترجمته، لأن المترجم، حين يترجم، يساهم في نقل المعارف من شعب إلى آخر، ومن أمة إلى أخرى، وهذا يعني أنه ينقل ثقافةً و/أو علماً معبّر عليهما بكلمات وجمل. ونقل المترجم لثقافة أجنبية كالأدب والدين وغيرهما من لغة الشعوب أو الأمم الأخرى إلى لغة شعبه أو أمته قد تكون محطمة للكيان الفكري والثقافي لأمته، أمّا نقله للعلوم من اكتشافات واختراعات فإنه يساعد على مسايرة شعبه وأمته مع متطلبات الحياة.
"السلام اليوم": هل من مثال عن الدور الذي تلعبه ترجمة ثقافة أجنبية في تحطيم ثقافة الأمة؟
نوار بيوض: سأضرب لك مثالان أحدهما يتعلق بفكرة إختلاط تفسير القرآن بالإسرائيليات والثاني بفكرة القدر. فالإسرائيليات التي أصبحت عند المفسرين مصدراً ثالثاً من مصادر التفسير، بدأ الأخذ بها في العصر الذي جاء بعد وجود ترجمة الكتب الفلسفية والتأثر بها. أما فكرة القدر، فإن معناه كان مفهوماً عند المسلمين بشكل لا لبس فيه، وهو كتابة كل شيء في الوجود في اللوح المحفوظ منذ الأزل، وكان معنى الإيمان بالقدر واضحاً في أذهانهم كل الوضوح، ولم يُسمَع أنه قد حصل نقاش أو تساؤلات في هذه المسألة، وقد ظل الحال كذلك حتى النصف الثاني من القرن 2هـ، أي حتى أواسط عصر العباسيين، فحصل من جراء ترجمة الفلسفات الأجنبية كاليونانية والفارسية والهندية غشاوات على الأذهان فنشأ عن معرفة المسلمين لهذه الفلسفات فكرة "القضاء والقدر" وفشت وطغت على مفهوم القدر، ثم بعد ذلك نشأت القدرية الغيبية ثم فشت في الناس جميعاً وأثرت عليهم وتحكمت في سلوكهم، وكانت من أسباب انحطاط المسلمين، ولما جاء العصر الهابط كانت من أهم العوامل التي حالت دون نهضة المسلمين من كبوتهم. وقد استمر الحال كذلك حتى يومنا هذا.
"السلام اليوم": هل من مثال آخر عن الدور الذي تلعبه ترجمة العلوم في سير الأمة مع الحياة؟
نوار بيوض: إن المعاني تتجدد كل يوم، والأشياء تتجدد كل يوم، والأمة بحكم حاجتها إلى العلوم والاكتشافات والاختراعات، لابدّ لها أن تأخذ عن الشعوب والأمم الأخرى هذه العلوم والاكتشافات والاختراعات. وهذا كله يفرض عليها الترجمة والتعريب والاشتقاق والمجاز فرضاً ويضعها أمامه وجهاً لوجه، إذ لابدّ لها أن تضع أسماء العلوم والاكتشافات والمخترعات الحديثة. ومن هنا كان لزاماً عليها أن تترجم وأن توجد ألفاظاً جديدة لم تكن موجودة من قبل للأشياء والمعاني الجديدة، ولا مناص لها من الترجمة ومن إيجاد هذه الألفاظ الجديدة وإلاّ ووقفت عن السير مع الحياة ومتطلباتها.
"السلام اليوم": نفهم من كل ذلك أن هناك فرقاً بين اللغة والفكر؟
نوار بيوض: ليست اللغة جزءاً من الفكر، وإنما هي قالب للتعبير عن هذا الفكر وذاك، فهي وعاؤه، أما الفكر فيطلَق ويراد منه العملية التفكيرية، وقد يطلَق ويراد منه نتيجة العملية التفكيرية، وهذه العملية التفكيرية تتم بنقل الواقع بواسطة الحواس إلى الدماغ مع معلومات سابقة يفسَّر بواسطتها هذا الواقع. ولذلك يعبَّر عن هذا الفكر بأية لغة من اللغات. فمثلاً أفكار الإسلام وأحكامه يمكن أن يعبَّر عنها باللغة الفارسية والتركية أو الإنجليزية.. الخ. ولا يشترط التعبير عنها باللغة العربية وحدها بل يمكن التعبير عنها بأي لغة. وقد أجاز الشرع ترجمة أفكار الإسلام وأحكامه لأي لغة.
"السلام اليوم": ولكن هناك من أجاز وهناك من حرّم ترجمة القرآن؟
نوار بيوض: بالنسبة للقرآن الكريم فلأنه كلام الله لفظاً ومعنى، ونحن مأمورون بالتعبّد به لفظاً ومعنى، لا يجوز أن يترجم القرآن لأنه يصبح حينئذ ليس قرآناً. وقراءة الترجمة لا تكون قراءة للقرآن، لأن معنى قوله تعالى: (فاقرأوا) أي اقرأوا ألفاظه، ولا يمكن أن يكون معناه اقرأوا ترجمته. ولذلك تجوز ترجمة ما عدا القرآن من أفكار الإسلام وأحكامه وحتى يجوز ترجمة الحديث الشريف.
"السلام اليوم": هناك قول بأن الثقافات الأجنبية من فارسية ورومانية ويونانية وهندية وغيرها أثّرت في الثقافة الإسلامية. ما مدى صحته؟
نوار بيوض: من الخطأ الفاحش القول بهذا القول الذي يتعمده المستشرقون، ويقع فيه بعض علماء المسلمين، ومن التضليل الواضح ذلك التعليل الذي يقولونه من أن كثيراً من هذه الثقافات الأجنبية قد دخلت في الثقافة الإسلامية. بل الذي جرى تاريخيا هو أن الثقافة الإسلامية انتفعت بالثقافات الأجنبية واستفادت منها، وجعلت منها وسيلة لخصبها وتنميتها. ولكن ذلك ليس تأثراً وإنما هو انتفاع، وهو ما لابد منه لكل ثقافة.
"السلام اليوم": وما هو الفرق بين التأثر والإنتفاع الثقافي؟
نوار بيوض: الفرق بين التأثر والانتفاع، هو أن التأثر بالثقافة هو دراستها وأخذ الأفكار التي تحويها، وإضافتها إلى أفكار الثقافة الأولى، لمجرد وجود شبه بينهما، أو لمجرد استحسان هذه الأفكار. والتأثر بالثقافة يؤدي إلى الاعتقاد بأفكارها. وأما الانتفاع فهو دراسة الثقافة دراسة عميقة ومعرفة الفرق بين أفكارها، وأفكار الثقافة الإسلامية، ثم أخذ المعاني التي في تلك الثقافة والتشبيهات التي تحويها، وإخصاب الثقافة الأدبية، وتحسين الأداء بهذه المعاني وتلك التشبيهات، دون أن يتطرق إلى أفكار الإسلام أي تناقض، ودون أن يؤخذ من أفكارها عن الحياة، وعن التشريع وعن العقيدة، أي فكر.
"السلام اليوم": هذا يعني أن المسلمين في الماضي قد انتفعوا دون أن يتأثروا بالثقافات الأجنبية؟
نوار بيوض: نعم... المجتمع الإسلامي منذ أوائل الفتح الإسلامي حتى العصر الهابط الذي حصل فيه الغزو الثقافي والتبشيري، في منتصف القرن 18م، كان يجعل العقيدة الإسلامية أساس ثقافته، وكان يدرس الثقافات غير الإسلامية للانتفاع بما فيها من معانٍ عن الأشياء في الحياة، لا لإعتناق ما فيها من أفكار، ولذلك لم يتأثر بها، وإنما انتفع بها... غير أن هذا لا يعني عدم وجود بعض أفراد هذا المجتمع الإسلامي، ممن تأثروا بالثقافات الأجنبية، دون أن يمتد هذا التأثير إلى المجتمع كمجتمع، مثل تأثر ما يسمى بالفلاسفة المسلمين بالفلسفة اليونانية من أمثال ابن رشد والفارابي وغيرهما.
"السلام اليوم": وماذا عن المسلمين اليوم؟
نوار بيوض: للأسف فإن المجتمع الإسلامي بعد الغزو الثقافي الغربي له، درس الثقافة الغربية واستحسن أفكارها. فوجدت فيه فئات تأثرت كلها بالثقافة الغربية، إلا بعض الأفراد، فهناك فئة اعتنقت الثقافة الغربية وتخلت عن الثقافة الإسلامية مثل التيار العلماني، وفئة أخرى استحسنت الثقافة الغربية وأضافت أفكارها للثقافة الإسلامية باعتبارها منها، وصارت بعض أفكارها من الأفكار الإسلامية بالرغم من تناقضها مع الإسلام، مثل ما يسمى بالتيارات الإسلامية المعتدلة والتيار الوطني أو القومي الإسلامي. وهناك فئة قليلة جداً درست الثقافة الغربية وفرقت بينها وبين الثقافة الإسلامية، ثم أخذت المعاني التي في الثقافة الأولى والتشبيهات التي تحويها، وإخصاب الثقافة الثانية، مثل ما قام به مصطفى صادق الرافعي، من إبداع أسلوب جديد في الأدب العربي ظهر بشكل جلي في مؤلفاته مثل السحاب الأحمر، وأوراق الورد، ورسائل الأحزان.
"السلام اليوم": ما هي مشكلة اللغة العربية اليوم، في وقت طغت فيه اللغة العامية على اللغة الفصحى حتى في الجامعات، فضلاً عن اللغات العالمية؟
نوار بيوض: مشكلة اللغة العربية مشكلة سياسية بحتة، لا علاقة لها باللغة العربية كلغة، ولا علاقة لها بالمجامع اللغوية وأعضائها، ولا بالجامعات وأساتذتها، فكثير منهم لا يريدون إلاّ الخير للغة الغربية.
"السلام اليوم": ماذا تقصدون بكون مشكلتها سياسية؟!
نوار بيوض: أقصد أن مشكلة اللغة العربية تكمن في إقصائها وتثبيت غيرها سياسياً في الإدارات العمومية والجامعات والمؤسسات الإقتصادية والهيئات. فحكامنا على طول البلاد العربية، بتوجيه من القوى اللغوية العالمية، قد استبدلوا العربية بغيرها من اللغات، أو جعلوا إلى جانبها لغة من اللغات. ولم ولا ولن يسمحوا أبداً أن تعمّ اللغة العربية في بلادنا.
"السلام اليوم": وماذا عن مشكلة التعريب؟
نوار بيوض: التعريب هو صياغة جديدة للكلمة الأعجمية بحروف عربية ووزن عربي، وليس التعريب أخذ للكلمة من اللغات الأخرى كما هي ووضعها في اللغة العربية على حالها الأصلية. ولذلك ليس التعريب مشكلة عجزت عنها اللغة العربية، فهو كالاشتقاق وكالمجاز ضرورة حيوية للأمة، لأن اللغة العربية نفسها تبقى وتحيا بالاستعمال، فإذا وجدت معاني جديدة ضرورية لحياة الأمّة ولم توجد في اللغة العربية ألفاظ تعبر بها عنها انصرفت حتماً إلى لغة أخرى لتعبر عما هو من ضرورياتها، وبذلك تجمد اللغة ثم مع الزمن تُترك وتُهجر، ولذلك لابدّ من التعريب.
"نوار بيوض" المترجم الإعلامي السابق لـ"سي.بي.آس نيوز" (CBS News) لـ"السلام اليوم":
مشكلة الترجمة مشكلة إيديولوجية ومشكلة اللغة العربية مشكلة سياسية
حاوره: أحمد فلاح
يعاني المشهد الثقافي العربي ومنه الجزائري، من مشكلة تتعلق بالترجمة من وإلى العربية، وإذا كان البعض يشير إلى أن حركة الترجمة تسيطر عليها العشوائية والعلاقات الشخصية، يرى آخرون أن الترجمة في عالمنا العربي تمارس كهواية فردية في ظل عدم وجود مؤسسات متخصصة بالترجمة، بينما يذهب فريق ثالث إلى أن المشكلة تكمن في المترجم حيث لا يتوافر العدد الكافي من المترجمين المهرة.
إلتقت "السلام اليوم" بالمترجم "نوار بيوض"، الأستاذ الزائر لدى المعهد العربي العالي للترجمة بالجزائر، منذ 5 سنوات تقريبا، وهو المقيم ببريطانيا منذ بداية الثمانينيات، لتتناول معه واقع مشكلة الترجمة من وإلى العربية، في العالم العربي والدور الذي تلعبه في الحوار أو الصراع بين الحضارات. خاصة وأن مُحاورنا، مع اشتعال أولى حروب القرن الحادي والعشرين، في 11 سبتمبر 2011م، قد تعاقد مع وكالة أنباء سي.بي.آس نيوز (CBS News) كمترجم إعلامي ومترجم فوري. كما شارك في ترجمة محاكمة الرئيس العراقي الراحل صدام حسين. علماً أن معظم القضايا التي ترجم لها تتمحور حول الهجرة غير الشرعية، والتعامل مع طالبي اللجوء السياسي. وفيما يلي نص الحوار.
"السلام اليوم": ما هي مشكلة الترجمة من وإلى اللغة العربية اليوم؟
نوار بيوض: أولا وقبل كل شيء، يجب أن نعلم أن المشكلة لا تتعلق بالترجمة من وإلى العربية، بل المشكلة الحقيقية إيديولوجية تتعلق بما يجب أو لا يجب ترجمته، لأن المترجم، حين يترجم، يساهم في نقل المعارف من شعب إلى آخر، ومن أمة إلى أخرى، وهذا يعني أنه ينقل ثقافةً و/أو علماً معبّر عليهما بكلمات وجمل. ونقل المترجم لثقافة أجنبية كالأدب والدين وغيرهما من لغة الشعوب أو الأمم الأخرى إلى لغة شعبه أو أمته قد تكون محطمة للكيان الفكري والثقافي لأمته، أمّا نقله للعلوم من اكتشافات واختراعات فإنه يساعد على مسايرة شعبه وأمته مع متطلبات الحياة.
"السلام اليوم": هل من مثال عن الدور الذي تلعبه ترجمة ثقافة أجنبية في تحطيم ثقافة الأمة؟
نوار بيوض: سأضرب لك مثالان أحدهما يتعلق بفكرة إختلاط تفسير القرآن بالإسرائيليات والثاني بفكرة القدر. فالإسرائيليات التي أصبحت عند المفسرين مصدراً ثالثاً من مصادر التفسير، بدأ الأخذ بها في العصر الذي جاء بعد وجود ترجمة الكتب الفلسفية والتأثر بها. أما فكرة القدر، فإن معناه كان مفهوماً عند المسلمين بشكل لا لبس فيه، وهو كتابة كل شيء في الوجود في اللوح المحفوظ منذ الأزل، وكان معنى الإيمان بالقدر واضحاً في أذهانهم كل الوضوح، ولم يُسمَع أنه قد حصل نقاش أو تساؤلات في هذه المسألة، وقد ظل الحال كذلك حتى النصف الثاني من القرن 2هـ، أي حتى أواسط عصر العباسيين، فحصل من جراء ترجمة الفلسفات الأجنبية كاليونانية والفارسية والهندية غشاوات على الأذهان فنشأ عن معرفة المسلمين لهذه الفلسفات فكرة "القضاء والقدر" وفشت وطغت على مفهوم القدر، ثم بعد ذلك نشأت القدرية الغيبية ثم فشت في الناس جميعاً وأثرت عليهم وتحكمت في سلوكهم، وكانت من أسباب انحطاط المسلمين، ولما جاء العصر الهابط كانت من أهم العوامل التي حالت دون نهضة المسلمين من كبوتهم. وقد استمر الحال كذلك حتى يومنا هذا.
"السلام اليوم": هل من مثال آخر عن الدور الذي تلعبه ترجمة العلوم في سير الأمة مع الحياة؟
نوار بيوض: إن المعاني تتجدد كل يوم، والأشياء تتجدد كل يوم، والأمة بحكم حاجتها إلى العلوم والاكتشافات والاختراعات، لابدّ لها أن تأخذ عن الشعوب والأمم الأخرى هذه العلوم والاكتشافات والاختراعات. وهذا كله يفرض عليها الترجمة والتعريب والاشتقاق والمجاز فرضاً ويضعها أمامه وجهاً لوجه، إذ لابدّ لها أن تضع أسماء العلوم والاكتشافات والمخترعات الحديثة. ومن هنا كان لزاماً عليها أن تترجم وأن توجد ألفاظاً جديدة لم تكن موجودة من قبل للأشياء والمعاني الجديدة، ولا مناص لها من الترجمة ومن إيجاد هذه الألفاظ الجديدة وإلاّ ووقفت عن السير مع الحياة ومتطلباتها.
"السلام اليوم": نفهم من كل ذلك أن هناك فرقاً بين اللغة والفكر؟
نوار بيوض: ليست اللغة جزءاً من الفكر، وإنما هي قالب للتعبير عن هذا الفكر وذاك، فهي وعاؤه، أما الفكر فيطلَق ويراد منه العملية التفكيرية، وقد يطلَق ويراد منه نتيجة العملية التفكيرية، وهذه العملية التفكيرية تتم بنقل الواقع بواسطة الحواس إلى الدماغ مع معلومات سابقة يفسَّر بواسطتها هذا الواقع. ولذلك يعبَّر عن هذا الفكر بأية لغة من اللغات. فمثلاً أفكار الإسلام وأحكامه يمكن أن يعبَّر عنها باللغة الفارسية والتركية أو الإنجليزية.. الخ. ولا يشترط التعبير عنها باللغة العربية وحدها بل يمكن التعبير عنها بأي لغة. وقد أجاز الشرع ترجمة أفكار الإسلام وأحكامه لأي لغة.
"السلام اليوم": ولكن هناك من أجاز وهناك من حرّم ترجمة القرآن؟
نوار بيوض: بالنسبة للقرآن الكريم فلأنه كلام الله لفظاً ومعنى، ونحن مأمورون بالتعبّد به لفظاً ومعنى، لا يجوز أن يترجم القرآن لأنه يصبح حينئذ ليس قرآناً. وقراءة الترجمة لا تكون قراءة للقرآن، لأن معنى قوله تعالى: (فاقرأوا) أي اقرأوا ألفاظه، ولا يمكن أن يكون معناه اقرأوا ترجمته. ولذلك تجوز ترجمة ما عدا القرآن من أفكار الإسلام وأحكامه وحتى يجوز ترجمة الحديث الشريف.
"السلام اليوم": هناك قول بأن الثقافات الأجنبية من فارسية ورومانية ويونانية وهندية وغيرها أثّرت في الثقافة الإسلامية. ما مدى صحته؟
نوار بيوض: من الخطأ الفاحش القول بهذا القول الذي يتعمده المستشرقون، ويقع فيه بعض علماء المسلمين، ومن التضليل الواضح ذلك التعليل الذي يقولونه من أن كثيراً من هذه الثقافات الأجنبية قد دخلت في الثقافة الإسلامية. بل الذي جرى تاريخيا هو أن الثقافة الإسلامية انتفعت بالثقافات الأجنبية واستفادت منها، وجعلت منها وسيلة لخصبها وتنميتها. ولكن ذلك ليس تأثراً وإنما هو انتفاع، وهو ما لابد منه لكل ثقافة.
"السلام اليوم": وما هو الفرق بين التأثر والإنتفاع الثقافي؟
نوار بيوض: الفرق بين التأثر والانتفاع، هو أن التأثر بالثقافة هو دراستها وأخذ الأفكار التي تحويها، وإضافتها إلى أفكار الثقافة الأولى، لمجرد وجود شبه بينهما، أو لمجرد استحسان هذه الأفكار. والتأثر بالثقافة يؤدي إلى الاعتقاد بأفكارها. وأما الانتفاع فهو دراسة الثقافة دراسة عميقة ومعرفة الفرق بين أفكارها، وأفكار الثقافة الإسلامية، ثم أخذ المعاني التي في تلك الثقافة والتشبيهات التي تحويها، وإخصاب الثقافة الأدبية، وتحسين الأداء بهذه المعاني وتلك التشبيهات، دون أن يتطرق إلى أفكار الإسلام أي تناقض، ودون أن يؤخذ من أفكارها عن الحياة، وعن التشريع وعن العقيدة، أي فكر.
"السلام اليوم": هذا يعني أن المسلمين في الماضي قد انتفعوا دون أن يتأثروا بالثقافات الأجنبية؟
نوار بيوض: نعم... المجتمع الإسلامي منذ أوائل الفتح الإسلامي حتى العصر الهابط الذي حصل فيه الغزو الثقافي والتبشيري، في منتصف القرن 18م، كان يجعل العقيدة الإسلامية أساس ثقافته، وكان يدرس الثقافات غير الإسلامية للانتفاع بما فيها من معانٍ عن الأشياء في الحياة، لا لإعتناق ما فيها من أفكار، ولذلك لم يتأثر بها، وإنما انتفع بها... غير أن هذا لا يعني عدم وجود بعض أفراد هذا المجتمع الإسلامي، ممن تأثروا بالثقافات الأجنبية، دون أن يمتد هذا التأثير إلى المجتمع كمجتمع، مثل تأثر ما يسمى بالفلاسفة المسلمين بالفلسفة اليونانية من أمثال ابن رشد والفارابي وغيرهما.
"السلام اليوم": وماذا عن المسلمين اليوم؟
نوار بيوض: للأسف فإن المجتمع الإسلامي بعد الغزو الثقافي الغربي له، درس الثقافة الغربية واستحسن أفكارها. فوجدت فيه فئات تأثرت كلها بالثقافة الغربية، إلا بعض الأفراد، فهناك فئة اعتنقت الثقافة الغربية وتخلت عن الثقافة الإسلامية مثل التيار العلماني، وفئة أخرى استحسنت الثقافة الغربية وأضافت أفكارها للثقافة الإسلامية باعتبارها منها، وصارت بعض أفكارها من الأفكار الإسلامية بالرغم من تناقضها مع الإسلام، مثل ما يسمى بالتيارات الإسلامية المعتدلة والتيار الوطني أو القومي الإسلامي. وهناك فئة قليلة جداً درست الثقافة الغربية وفرقت بينها وبين الثقافة الإسلامية، ثم أخذت المعاني التي في الثقافة الأولى والتشبيهات التي تحويها، وإخصاب الثقافة الثانية، مثل ما قام به مصطفى صادق الرافعي، من إبداع أسلوب جديد في الأدب العربي ظهر بشكل جلي في مؤلفاته مثل السحاب الأحمر، وأوراق الورد، ورسائل الأحزان.
"السلام اليوم": ما هي مشكلة اللغة العربية اليوم، في وقت طغت فيه اللغة العامية على اللغة الفصحى حتى في الجامعات، فضلاً عن اللغات العالمية؟
نوار بيوض: مشكلة اللغة العربية مشكلة سياسية بحتة، لا علاقة لها باللغة العربية كلغة، ولا علاقة لها بالمجامع اللغوية وأعضائها، ولا بالجامعات وأساتذتها، فكثير منهم لا يريدون إلاّ الخير للغة الغربية.
"السلام اليوم": ماذا تقصدون بكون مشكلتها سياسية؟!
نوار بيوض: أقصد أن مشكلة اللغة العربية تكمن في إقصائها وتثبيت غيرها سياسياً في الإدارات العمومية والجامعات والمؤسسات الإقتصادية والهيئات. فحكامنا على طول البلاد العربية، بتوجيه من القوى اللغوية العالمية، قد استبدلوا العربية بغيرها من اللغات، أو جعلوا إلى جانبها لغة من اللغات. ولم ولا ولن يسمحوا أبداً أن تعمّ اللغة العربية في بلادنا.
"السلام اليوم": وماذا عن مشكلة التعريب؟
نوار بيوض: التعريب هو صياغة جديدة للكلمة الأعجمية بحروف عربية ووزن عربي، وليس التعريب أخذ للكلمة من اللغات الأخرى كما هي ووضعها في اللغة العربية على حالها الأصلية. ولذلك ليس التعريب مشكلة عجزت عنها اللغة العربية، فهو كالاشتقاق وكالمجاز ضرورة حيوية للأمة، لأن اللغة العربية نفسها تبقى وتحيا بالاستعمال، فإذا وجدت معاني جديدة ضرورية لحياة الأمّة ولم توجد في اللغة العربية ألفاظ تعبر بها عنها انصرفت حتماً إلى لغة أخرى لتعبر عما هو من ضرورياتها، وبذلك تجمد اللغة ثم مع الزمن تُترك وتُهجر، ولذلك لابدّ من التعريب.