مشاهدة النسخة كاملة : رسالة ثائرة إلى شباب تونس الثائر
أبو زكريّا
14-03-2011, 09:27 PM
http://www.4shared.com/account/docum...Af/LETTRE.html
-Document pdf-
السلام عليكم ورحمة الله
رسالة ثائرة كتبها مجموعة من شباب الزيتونة إلى شباب تونس الثائر
لعلّها توضح صورة ما حصل ويحصل في تونس وفي البلاد الإسلاميّة
تفضّلوا بتحميلها وقراءتها
وإعملوا على نشرها ولكم الدعاء
////////////////////////
اللهمّ اهدنا إلى الحقّ
وانصرنا على أعداءنا
وتوفّـنا مسلميــن
آميـــــــن
أبو زكريّا
15-03-2011, 12:15 AM
إنّ الوجود الفرنسي في شمال إفريقيا لم يكن وجودا طبيعيّا بل كان صفقة غربيّة بإمتيـاز. فمن المعروف أنّ الغرب بعدما قضى على الخلافة العثمانيّة تهالك على كلّ المناطق التي كانت تابعة للنفوذ العثماني وعقدت صفقات على تقاسم مناطق النفوذ مثل إتفاقيّة سايكس-بيكو. وقد دفعت فرنسا الثمن لإنجلترا لضمان وجودها في بعض المناطق والحصول على حريّة التحرّك فيها وفرض حمايتها على المغرب حيث أنّها مثلا تنازلت عن التغلغل في السودان المصري-قضيّة فوشادا- وتخلّت عن تأثيرها في مصر وخاصّة في جهة السويس ورضيت بإقفال مكاتبها البريديّة في الإسكندريّة. ورغم ذلك كلّه فإنّ أنجلترا بقت تناهض الوجود الفرنسي في شمال إفريقيا وهذه السلوكات ليست غريبة على دول إستعماريّة همّها فقط سلب الخيرات وتحقيق تبعيّة الشعوب لها. هذه الأمور تدلّ على أنّ الأحداث لا تعدو أن تكون صراعات وتقاسم مصالح ونفوذ وتفاهمات وحتّى إن تفاهموا أو تصالحوا نبقى نحن ضحيّة كراهيّتهم لنا وضحيّة أطماعهم ففرنسا دفعت لإنجلترا ثمن إستعمارها لنا. والإستعمار أو الإحتلال ندفع نحن ثمنه أيضا ولكن بدماء أبنائنا وبنهب خيراتنا وبعدم إستقلال قرارنا وبفقداننا لسيادتنا وكرامتنا ولحقوقنا وبتضييعنا لقضايانا. ونظلّ ندفع الثمن وراء الثمن ونقدّم التنازل وراء التنازل فها نحن نتنازل عن ديننا وأصلنا وفصلنا وعن هويّتنا ومقدّساتنا وتنازلنا حتّى عن شكلنا الخارجي لنكون مثلهم ولم يحبّونا. فكّرنا مثلهم فقمعونا وأتبعناهم في كلّ شيء فاحتقرونا وانحنينا لهم فداسونا وائتمرنا بأوامرهم فعاملونا معاملة الكلاب. ودفعنا أكثر من ذلك بكثير بتدخلاتهم المستمرّة في كلّ شؤوننا.
إنّ التواجد الفرنسي في شمال إفريقيا كان سببا في وقوع الكثير من الحوادث وقيام الكثير من الحركات وعلى رأسها الحركات الوطنيّة في كلّ من تونس والجزائر والمغرب. وقبل الخوض في التفاصيل، يمكن أن نضع تساؤل:
ما الذي أغرى القوى الغربيّة وبخاصّة فرنسا و أنجلترا وأمريكا حتّى تأتي إلى بلادنا وتحاول إقامة أنظمة إحتلال أو تحقّق تبعيّة الأنظمة لها؟
ببساطة، إنّ الشمال الإفريقي يحتلّ موقعا إستراتيجيّا فريدا من نوعه، ذلك أنّ أرضه وما تحت أرضه كريمة بصفة غير عاديّة. ومن بعض ميزات المنطقة التي جعلت منها موقع صراع بين القوى الغربيّة، منذ ذلك الوقت وحتّى الساعة :
أوّلا، هناك مسألة البترول وباقي المواد الخامّ في الشمال الإفريقي وخاصّة حرب البترول التي كانت تستعر في الجزائر.
ثانيا، السيطرة وضمان حريّة الطريق الإستراتيجي الحيوي الدّار البيضاء-القاهرة وطهران-القوقاز، هذا الطريق الإستراتيجي الوحيد المتاح للوصول إلى الحدود السوفياتيّة التي فرضته الحتميّات الإقتصاديّة. وطبعا بريطانيا كانت المناهضة الأولى للتواجد الفرنسي في المنطقة ليس لمصلحة الشعوب وتحقيق إستقلالها بل لاستبدال احتلال بآخر وللسيطرة الكاملة على الطريق المذكور سالفا. هناك حقيقة جيو-سياسيّة هامّة لا بدّ من ذكرها، هي أنّ شركة "أورافريك" كانت ذا ثقل موازي للشركة الروسيّة "أوراسيا" وبدون شمال إفريقيا لا يمكن لأوروبا الغربيّة إلاّ أن تسقط مثل ثمرة ناضجة في فلك روسيا وهذا ما أثبتته الحرب العالميّة.
ثالثا، أنّ السواحل الشمال الإفريقيّة تحيط بالجزء الغربي من طريق الشرق الأقصى الذي يمرّ عبر السويس.
رابعا، إفريقيا متماسكة وحسنة التموقع بمحاذاة أوروبا وتحتلّ موقعا متميّزا في عالم يزداد ضيقا ويُحاول أن تكون له بحبوحتها تحت اليد.
خامسا، الحروب الحديثة أثبتت أنّ بنزرت هي مفتاح البحر الأبيض المتوسّط في موقع مراقبة أقلّ قبول للطعن من مالطا.
سادسا، أنّ تونس نقطة إنطلاق إستراتيجيّة للطائرات الحربيّة الأمريكيّة نحو أوروبا الشرقيّة.
سابعا، في مؤتمر الدار البيضاء كان روزفيلت قد تعهّد لسلطان المغرب بتعاون مستقبلي أمريكي-مغربي، ومع أنّ الأمريكان كانت لهم نقاط إصابة في داكار وفي ليبيريا ومع ذلك كان المغرب يهمّهم الأكثر، فهم يعرفون أنّ المغرب يمكن أن يوفّر لهم في مدّة وجيزة كميّة من الوقود تضمن استقلالا كاملا للقيام بالعمليّات العسكريّة وهذا يجنّبهم عمليّات نقل البنزين بحرا تحت رقابة الغوّاصات الأجنبيّة.
ثامنا، التواجد الأمريكي على الضفّة الشماليّة شرق مدينة طنجة قبالة جبل طارق يمكّن من شلّ الخفّارة الأنجليزيّة الحارسة للمضيق الذي يوصل البحر المتوسط بالمحيط الأطلنطي ولأجل تأكيد هذه الإستراتيجيّة لابدّ أن يكون المغرب"حرّا" ويجب أن تختفي حدود المناطق الفرنسيّة والإسبانيّة وأن تعود منطقة طنجة الدوليّة تحت النفوذ الشريفي.
وقبل أن نحلّل القوى المتصارعة ومناطق الصراع، لابدّ أوّلا من كشف زيف الشعارات المرفوعة لأجل تبرير الصراعات والحروب والانقلابات.
إنّ القوى الغربيّة حتى تتدخّل في الصراعات وتتورّط في الحروب تحتاج إلى تهيئة الرأي العام الداخلي والدّولي لقبول تلك الصراعات أو التدخلات وحتّى الحروب. لذلك تحتاج القوى الغربيّة لماكينة إعلاميّة ولدعاية ضخمة تبرّر به ما تقوم به على أرض الواقع. فالمبرّرات التي قدّمتها الآلة الإعلاميّة الغربيّة لتبرير الإحتلال مثلا هي تخلّف الشعوب وهمجيّته وأنّ هدف الإحتلال إنساني فقط وهي جعل الشعوب المستعمَرَة متحضّرة. وهذا قد ثبت تاريخيّا فمثلا شعارات "حقوق الإنسان" و "حقّ الشعوب في تقرير مصيرها" و "محاربة الإرهاب والأصوليّة" و مثل "أسلحة الدّمار الشّامل " والتعلّل بإسناد "أنظمة ديموقراطيّة" و "الدّفاع عن الحريّات العامّة والخاصّة" هذه كلّها وغيرها شعارات جوفاء تخالف الواقع وتستعمل فقط كسلاح إعلامي لإيجاد التبريرات. وما حصل ويحصل في الواقع مخالف تماما لكلّ هذه الشعارات وهدف الصراعات والتدخلات والحروب لا يتعدّى أن يكون خدمة مصالح وصراع على مواقع منجميّة للمواد الأوليّة وآبار بترول ومواقع استراتيجيّة. فمثلا لورنس كان يطلق الدروز ضدّ الوجود الفرنسي في سوريا ممّا جعل غورو يبعث ببرقيّة إلى باريس نصّها "انتفاضة وعصيان تدعمه انجلترا، إبعثوا بالإمدادات" وكان الجنرال الأنجليزي سبيرز يعطي دعم جيشه للقوميّين السوريّين لأجل طرد فرنسا من سوريا.
إنّ الدول العظمى إذا أرادت أن تقوم بحرب تحتاج إلى دعاية تخلق أعداء ولو كانوا غير متواجدين فمثلا شعار إستُعمِل من طرف أمريكا وانجلترا وهو "محاربة الفاشيّة". لو رجعنا إلى الظروف التي ألجأت لاستعمال كلمة "فاشيّة" لرأينا أنّ القضيّة ليست إيديولوجيّة بل هي فقط قضيّة صراع مصالح، كان البترول الألباني وهو قليل الأهميّة من وجهة نظر التوزيع العالمي للبترول يمكن أن يكون كافيا إذا دفع إلى حدّه الأقصى في الإنتاج لتزويد الجيش الإيطالي بأكمله -أي 2 مليون طن سنويّا- في انتظار تصعيد الاكتشافات ويمكن إذن الانصراف إلى تجارة تصديريّة وكانت ايطاليا تنوي القيام بعمليّات تنقيب في ايطاليا نفسها وهذا ما لم يعجب شركات البترول الامريكيّة والانجليزيّة فايطاليا وألبانيا ليستا في بلدان بعيدة وتستطيع بذلك إيطاليا التأثير مباشرة في ثمن البترول في السوق العالميّة وهذا يعني خسائر كبيرة للشركات الأمريكيّة والأنجليزيّة. لذلك إستعملت مع ايطاليا الطريقة القديمة التي استعملت مع الاتحاد السوفياتي -صحافة "مؤثّرة"- في مختلف بلدان العالم بدأت في مهاجمة الفاشيّة تقدّم بذلك فريسة سهلة من وجهة نظر إيديولوجية.
إنّ فرنسا لم تحتل الشمال الإفريقي شفقة وصدقة على شعوبها وكذلك حال أيّة قوّة احتلال مثل امريكا و انجلترا واسبانيا وايطاليا والاتحاد السوفياتي وغيرهم. فالاحتلال مهما جمّلوا صورته فإنّه لا يعدو أن يكون قتل ونهب وسلب وتحكّم سياسي واقتصادي وبسط نفوذ وسيطرة. ثمّ إذا كانت هناك مناطق حباها الله بمكانة استراتيجيّة وبأهميّة جيو-سياسيّة وبثروات طبيعيّة وبآفاق اقتصاديّة فإنّها سوف تكون دائما محطّ أنظار القوى العظمى ولن تنعم بأيّ استقلال حقيقي والأمر لا يعدو أن يكون إلاّ استبدال احتلال باحتلال وتبعيّة بأخرى فالعالم للأسف مقسّم إلى قطبين دول تَأْمُر وأخرى تَأْتَمِر، أي دول تملك حقيقة زمام أمرها وتكون سيّدة نفسها وقرارها وأخرى تابعة لا حول لها ولا قوّة.
كتب موريس تبرداش -ومن كتبه "الدفاع عن الغرب" ديسمبر 1954- مقالا في صحيفة "السّاعة" الفرنسيّة بتاريخ 22 ماي 1955 نورد منه المقطع الآتي :"إنّ غاية أوساط الأعمال هي تتمثّل في تحويل المغرب وتونس إلى دول مستقلّة من نوع ليبيريا وغواتيمالا أو الفلبّين بحيث يتمكّن الرأس المال الأمريكي الكبير بسهولة من مراقبة كلّ السياسة بفضل الإفساد والرّشاوي وبفضل التوسّع الاستثمارات, ثمّ أنّ الانجليز الذين كانوا حلّوا محلّ الايطاليين في ليبيا سوف يشاركون عن طيب خاطر في سرقة ممتلكاتنا في افريقيا لأجل أن نعطيهم نصيبهم من الكعك ".
كان الاستقلال واحد من أهمّ الشعارات التي رفعت ضدّ الاستعمار الفرنسي لشمال افريقيا وكان من وراءه كالعادة مخطّط تحت ستار شعار "الاستقلال"، يذكر بيار فونتان في كتابه "الملف السرّي شمال افريقيا" ص 54-55 :"إنّ هذا الإقصاء التصاعدي والمنهجي لفرنسا, سوف يتعقّد وينقلب عادة إلى بلبلة وإرتباك. فإذا كان الإستعمار شعارا سياسيّا موجّها للرأي العام فإنّ الإستقلال الحقيقي أمرا ثانويّا. ولكن، بعد إجبار فرنسا على التخلّي على أحسن قطعه، فإنّ لندن وواشنطن تجعل لها مواطئ قدم حتّى لا تستأثر لأيّ منهما بالكعكة على حساب الأخرى. وبما أنّ الأمريكان كانوا يَرْنُون إلى مواقع جديدة أفرو-آسيويّة فإنّ الإتحاد السوفياتي لا يمكن أن يكون لا مبالي لهذا الصعود الخفيّ نحو الجنوب السوفياتي. وباختصار فإنّ هذه الحرب التي لا تريد أن تسمّي نفسها لأنّها تستعمل جلد الآخرين ويمكن أن تتلخّص هكذا : غزو لمنافذ إقتصاديّة ولمنابع المواد الأوليّة -البترول بالخصوص- ، وهدف بريطانيا العظمى والولايات المتّحدة إحتلال الأماكن الاستراتيجيّة وهدف الولايات المتّحدة والإتحاد السوفياتيّ مسّ ودعم تعاظم الرّئيس الكولونيل ناصر-أي عبد الناصر- وقوميّته العربيّة التي لا تأتي إلاّ من بعد، لقد استطاع المصري عبد الناصر أن يستعمل بمهارة الأمريكان لإقصاء بريطانيا العظمى، ثمّ استعمل السوفيات لإقصاء الأمريكان".
هذا التخطيط الانجليزي-الأمريكي لما بعد استقلال شمال افريقيا سوف لن يكون الوحيد بل حتّى ألمانيا دخلت على الخطّ بعقد العديد من المؤتمرات السريّة في ألمانيا والولايات المتّحدة وساهم فيها بحرارة الشخصيّات الأكثر بروز في السياسة والماليّة والصناعة تحت شعار "تقديم مساعدة اقتصاديّة لافريقيا" ويصف الكاتب د. كارل ريتر هذا : "إنّ هذه التحرّكات على الأقلّ واضحة للغاية لأنّ هذه الترتيبات الدّوليّة الواسعة لا يمكن أن تتفتّح إلاّ في شمال إفريقيا محرّر من الرقابات الاقتصاديّة والاداريّة لفرنسا".
أبو زكريّا
15-03-2011, 12:16 AM
هذا كلّه يدلّ صراحة على وجود مخطّطات لدول شمال افريقيا بعد حصولها على "استقلالاتها" التي لا يمكن إلاّ أن تكون شكليّة. وكانت القسمة كالآتي : "تونس لبريطانيا والمغرب للولايات المتّحدة والجزائر للأكثر إقداما منهما".
هذا كان غداة الحرب العالميّة الثانية عندما أطلق المريشال البريطاني سموتس سنة 1943 جملته المتوجّة إلى الفرنسيّين :"لقد ماتت فرنسا نهائيّا". وها هي أحد النوادر المذكورة في مفكّرة للجنرال عمران البرلماني الجزائري السابق :" كولونيل فرنسي تولّى إعادة قاعدة إلى الأمريكان قائلا للكولونيل الأمريكي : لم يبق سوى نصب ثلاث ساريات مع ثلاث رايات فرنسيّة وأمريكيّة وشريفيّة. فاندهش من ردّ الكولونيل الأمريكي: لماذا ثلاث رايات؟ اثنتان تكفي، راية أمريكيّة وأخرى شريفيّة، بما أنّكم ستغادرون!"
في مؤتمر برشلونة سنة 1952، كان ممثّلي فرنسا قد أعطوا كلّ الآمال للولايات المتحدة بالتنازل عن سيادتها عن شمال افريقيا في حالة الحرب فأخذوا قرارات في هذا المؤتمر منها :" الجنرال ريدواي الأمريكي يكون محاسب المراقبة والدفاع عن المناطق الدّاخليّة بما فيها شمال افريقيا الفرنسيّة" وهكذا أصبحت الولايات المتّحدة تتدخّل مباشرة في الخصومة التونسيّة أنذاك.
كانت الفوضى قد إنتشرت في بلدان شمال إفريقيا وكانت تقام عمليّات عسكريّة ضدّ الاحتلال الفرنسي واصبح أصوات الحركات الوطنيّة مسموع في العالم وكان كلّ ذلك من صنع الأنجلو-سكسون لأجل إرضاء الأطماع الإقتصاديّة لديبلوماسيّي الأعمال.
يقول المؤرّخ بيار فونتان في كتابه -الجزائر تونس الرباط-ص69-70 ما يلي:"لا يعتقد بسمارك في الاستيطان لأنّها بالنسبة له -وهي جزئيّا صحيحا- لا يمكن أن تكون إلاّ مصدرا للمتاعب ولتشتيت الجهود. اليوم، البلدان البيض الكبرى تملك مستوطنات أو حاميات مباشرة و غير مباشرة وأحيانا الإثنين معا. إنّ الصيغة الإستعماريّة الجديدة تتّجه نحو النّفاق المتميّز. البلد الأقوى يفرض حكومة محليّة يترك لها المتاعب والمساويء الدّاخليّة ويكتفي هو بإدارة الأمور الاقتصاديّة والسياسيّة الخارجيّة من وراء الستار (العراق والأردن مثلا بالنسبة لبريطانيا العظمى وليبيريا وباناما وكوبا مثلا بالنسبة للولايات المتّحدة و بلغاريا ورومانيا مثلا للإتحاد السوفياتي)" وفي موقع آخر من الكتاب نقرأ "شئنا أم أبينا، إنّ الإحتلال الإقتصادي يسبق دائما الإحتلال السّياسي مباشرة أو عبر عصابة" وهذا ينسجم مع كثير من حوادث التاريخ القديم والمعاصر، فدخول تونس عهد الحماية الفرنسيّة كان تحت وطأة ديون الخزينة التونسيّة وديون مبارك نحو أنجلترا جعل الأخيرة تعلن منطقة الخليج محميّة بريطانيّة وديون الباب العالي كانت سببا مباشرا في هيمنة القوى الغربيّة على القرار السيّاسي والاقتصادي للدولة العثمانيّة وكم تسبّبت تدخّلات صندوق النقد الدّولي والبنك العالمي في فوضى سياسيّة واقتصاديّة وفي تدخلات دوليّة للقوى العظمى. ثمّ أنّ بسط الشركات الاحتكاريّة البتروليّة يدها على بترول البلدان المنتجة وصراعها فيما بينها على مواقع التنقيب وعلى منابع البترول وعلى إنتاجه ونقله وبيعه في الأسواق الدوليّة جعلها تتسبّب في قلاقل واظطرابات وانقلابات وثورات وحروب ممّا يعزّز فكرة أنّ الهيمنة الاقتصاديّة تنتج عنها بالضرورة هيمنة سياسيّة. ومصيبة البلاد الاسلاميّة أنّ الله حباها بموارد طبيعيّة وبثروات عدّة ومواقع استراتيجيّة وهذا ما جعلها مسرحا من الكثير من الحوادث ويستحيل عليها أن تكون ذات استقلال حقيقي من منظور قومي أو وطني لأنّ الوطنيّة كما القوميّة لم تكن سوى الإطار الفكري لصراع تناقض المصالح التي تلعبه القوى الغربيّة والذي يقضي على احتلال أو تبعيّة لفائدة احتلال أو تبعيّة أخرى.
إنّ الحياة الاقتصاديّة لكلّ البلدان تكون تحت الاعتماد الكامل للنفط ومشتقاته، فبدون مازوط ليس هنا بواخر ومعامل وبدون بترول ليس هناك كهرباء وبدون بنزين ليس هناك جرّرات فلاحيّة وسيّارات وطائرات وهو وقود الآلات الحربيّة من دبّابات وغيرها كما يستعمل البترول في عدّة صناعات عدّة أخرى غذائيّة، صيدليّة، بلاستيكيّة ومنزليّة وحتّى الملابس والمواد التي تعوّض البترول باهضة التكلفة أو مردودها دون مردود البترول، فهو أحسن من الذّهب المعدن الثمين، فالذهب الأسود أي البترول يفرض حكمه المطلق المتصلّب على البلدان التي لا تملك منابع للبترول. وهذه الحاجّة الرّاسخة تجعل من الطبيعي أن تحاول الرأسماليّة الحديثة أن تضمن مراقبة حقول البترول لأجل الاحتكار الذي يجعلها أقوى من الجيوش وتكون لها سلطة أعتى من الحكومات. لأجل وصولها لغاياتها فإنّ هذه الرأسماليّة تتحوّل إلى شركات إحتكاريّة العديد منها تنجح في جعلها تُضمن وتُأَيَّد من حكّام فهموا في الوقت المناسب أهميّة مسألة البترول.
إنّ تكهنات السّاسة والمحتلين الإحتكاريين الغربيين تتحقّق، تحت حجج ايديولوجيّة أو لأجل الأراضي، حجج أُريد لها أن تُلْهِب مخيّلة التجمّعات الغير مطّلعة والغير الواعية وهكذا تتفجّر حروب وتنبثق ثورات وهكذا يموت ويقتتل الرجّال ويضيّعون ثرواتهم لأجل مصالح وأطماع دول وشركات غربيّة التي لها الدور الرئيس في إشعال الفتن والصراعات في البلدان المستعمَرَة. فكلّ الحروب الأخيرة أي منذ بداية القرن الثامن عشر حتّى الآن لم يكن لها دور سوى دعم سيطرات اقتصاديّة ومن ثمّ سياسيّة، أنظروا للبرقيّة السلكيّة العجيبة التي أطلقها جورج كليمانسو للرئيس ولسون :"نقطة بترول تساوي نقطة دمّ" وتأملّوا في القائل :"فكّر بترول تستطيع أن تتنبّأ بالأحداث التي ستقع وتفهم الذي وقع !!!!". كلّ هذا يدلّ على قيمة هذه المادّة حتّى إذا وقعت بين أيدي رأسماليين شجعيين فإنّ عقليّتهم الرأسماليّة العفنة نزعت إلى المكائد والمؤامرات وتسبّبت في فوضى واضطرابات وحروب. فلا نتعجّب حينئذ من القول أنّ لا إستقلالات لشعوب تُنهب ثرواتها بل ما يحصل أنّ تلك الثروات تكون سببا في تأخّرها وفي تعاستها.
وهكذا كانت ولا زالت البلاد الإسلاميّة محلّ أطماع القوى الغربيّة فالشركات البتروليّة الاحتكاريّة هي التي تحتكر حقول بترولنا وهناك تواجد عسكري دائم وقواعد عسكريّة تابعة للغرب مثل الظهران والكويت وقطر وغيرها ومثل التواجد الدّائم للأسطول الأمريكي في المتوسّط والخليج العربي والفارسي وغير ذلك من أشكال التواجد العسكري.
فأيّ استقلال تتبجّح به دول العالم الاسلامي وأنظمتها لم تأتي للوجود طبيعيّا بل أتت بتخطيط غربي وتدين ببقاءها فقط للقوى الغربيّة التي أوجدتها وليس للشعوب أيّ دخل في سياساتها فهي مفروضة عليهم. وكذلك الحروب في أفغانستان والعراق وكشمير والسودان واليمن وغيرها، كلّها وراءها قوى غربيّة تشعلها وتؤجّجها وكلّها تخدم مخططّات أجنبيّة ولأيّ من التحقّق من ذلك !.
والآن سوف نسلّط الأضواء على الحركات الوطنيّة في شمال إفريقيا وسنرى كيف أنّ مثلها مثل الحركات القوميّة في الشرق العربي كان قد خطّط لها من قِبَل قوى غربيّة بعثتها للوجود وأمدّتها بالأموال والسلاح وتولّت تدريب المقاومين وهذا طبعا ليس حبّا في أهالي المنطقة والعمل على تحريرهم من نير الاحتلال وليس بدافع انساني يرفض الاستعباد والاستغلال بل فقط لاستبدال سيّد بآخر. فتصفية المستعمرات الفرنسيّة في شمال افريقيا كان خطّة غربيّة ضد الحضور الفرنسي في المنطقة لتحلّ هي محلّه.
كانت هناك مؤامرات ضدّ فرنسا، مؤامرات داخليّة وخارجيّة فقد كتب ريمون كارتي سنة 1952، وهو مراسل الباري ماتش في الولايات المتّحدة، قائل" لا يوجد هناك أيّ أمل أو حظّ في رؤية هجوم الأمم المتّحدة ضدّ الاتحاد الفرنسي تتباطأ أو تتوقّف. هذا الهجوم سوف يستمرّ بأشكاله المختلفة إلى الوقت الذي يختفي فيه آخر أثر للإمبراطورية" وهذا التنبّأ قد أصاب فيه هذا الصحفي، إذ أن منظمة الأمم المتّحدة موجودة في واشنطن مثلما كانت هيئة الأمم في لندن وهذا يعني أنّها ألية سياسيّة مخصوصة متخفّية بقرارات جماعيّة مناورة. كما كان لورنس يطلق الدّروز ضد التّواجد الفرنسي. والجنرال سبيرز يعطي دعم جيشه للقوميّين الثورتين لأجل طرد فرنسا. وهكذا انفصلت بالتّتابع : كوانغ تشيوروان، سوريا، الهند الصّينيّة، الهند، المغرب، تونس بدون أن نحسب فزّان والتّوغو. ثمّ الجزائر وإفريقيا السّوداء إلخ.
حاولت بريطانيا العظمى أن تعود كلاعب أساسي في الساحة الدوليّة وحاولت تجنّب الطّريق المنحدر الذي فُرِض على فرنسا، انطلاقا من تفهّمها للمشكلة كانت بريطانيا العظمى تحاول الدّفاع عن نفسها بتطبيق سياسة التّوازن التّقليديّة، مرّة بالإسناد إلى واشنطن للحصول على تنازلات من موسكو، ومرّة بتسهيل مهمّة السّوفيات لأجل تقليل أطماع الولايات المتّحدة. ومن ناحية أخرى فإنها استغلت الوضع الدّاخلي الفرنسي لأجل محاولة افتكاك الأراضي الفرنسيّة لفائدتها وحدها.
ويتحدّث المؤرّخ والباحث الفرنسي بيار فونتان في كتابه"الملف السرّي لشمال إفريقيا” ص68 عن وجود صراع أمريكي أنجليزي على المنطقة ويقول : "إنّ العمليّة الإنجلو-أمريكية للبترول والمشتعلة في الجنوب التونسي منذ سنة 1946حتى إنجازها في 1948 تتواصل عبر ليبيا ثم المغرب والجزائر ونحن الآن في الصحراء. وهذه التحركات العامّة لوحدها لندن وواشنطن بدأت فيها بمسيرة ضدّ السّاعة في شمال إفريقيا" ويتحدّث الكاتب مضيفا ص124-125 : "إن أدمغة المسلمين تبدأ في الالتهاب عندما يكون الأمريكان بوقاحة يبحثون من الخارج عن تنازلات بتروليّة جديدة. لقد أظهرت الشركات الانجليزية تحدّيا في الإتاوات الممنوحة للملوك العرب والذين يحكمون بلدانا أراضيها معطاءة. هذا بالإضافة إلى أنّها*لم تكن منتظمة في الحسابات(بسبب تأميمات مصدّق البترولية في إيران) . ولكنّ الأمريكان كانوا يعرضون الضعفين والثلاثة أضعاف أكثر من منافسيهم البريطانييّن وصعدوا حتّى %51 من الإِتَاوَات إضافة إلى امتيازات على الطّبيعة. وهكذا طردَ السّعوديّون الإنجليز ليحلّ مكانها الأمريكان"
ولننتقل الآن للحديث عن الحركة الوطنيّة في شمال إفريقيا ومَنْ وراءها. لقد عاملت الصّحافة الأمريكيّة فرنسا بقسوة بسبب سياستها في تونس. في الوقت نفسه قال أحد الفرنسيّين " هل يجب علينا أن نقتنع أنّه فجأة استيقظت القوميّة التونسيّة هكذا مثل صوت فتح قارورة ماء معدني ؟ إذا لم يكن الأمريكان قد ميّزوا في بنزرت وجود مطار دولي ذو أهميّة أوّلية وإذا لم يكتشفوا أنّ بنزرت هي القاعدة المثاليّة لانطلاق الطّائرات التي تتّجه لضرب أوروبا الشرقية، ضمن المرجّح من أنّنا سننعم بهدوء أكبر في تونس"
ومن جهة أخرى فإن لندن لم تتخلّى عن أملها في نحت امبراطوريّة أخرى هنديّة في إفريقيا الشماليّة. ولهذا الغرض وضعت يدها على طرابلس الإيطالية بدفع صديقها السنوسي نحو العرش. ولطرابلس حدود مشتركة مع تونس ولهذا يُفهم لماذا كان الحبيب بورقيبة، زعيم تونس مناهض لفرنسا. هو الذي كان قد حصل على شرف استقبال برلماني في انجلترا وكرم ميكروفون الـ ب ب.سي* لأجل قذف سمّه ضد فرنسا. وقد حرّكت بريطانيا أيضا موجة من الإظطرابات في تونس خلال شهري أكتوبر ونوفمبر*1952 لأجل إقناع منظمّة الأمم المتّحدة أنّ كلّ تونس تثور ضدّ فرنسا حتى تأخذ جذورها من الأحداث المذكورة... والوضع في المغرب كان مماثلا بشكل ملموس. والاختلاف الفرنكو-أمريكي والذي قطع بقرار محكمة لاهاي ( والتي لم تدن أحدا) كان المظهر الرّسمي.
إن الحرب العالميّة الأخيرة سمحت للولايات المتّحدة باكتشاف امكانيّات المغرب وخاصّة في جنوب البلاد، حيث الصّحراء التي لا تمثّل شيئا كبيرا في ذلك الوقت ولكنّها يمكن أن تصبح كاليفورنيا جديدة بثرواتها المعدنيّة الجمّة وبالأخصّ البترول. وكذلك الجزائر كانت صراع أكثر حدّة وقسوة.
أبو زكريّا
15-03-2011, 12:18 AM
إنّ أبرز رموز الحركة الوطنيّة الحبيب بورقيبة هو الذي لعب ابرز دور على الإطلاق إذ هُيّأت له الأوضاع لإنشاء النّظام التّونسي الحديث. ولذلك سنركز عليه بدرجة أولى وعلى آخرين لعبوا أيضا أدوارا مهمّة أخرى. سنبدأ بما قاله الكاتب فونتان في كتابه -الجزائر-تونس-الرباط-: "لقد لعب السيد الحبيب بورقيبة ورقة الوطني التّونسي ونحن لا نلومه على ذلك فهو تونسي. نحن نحاكم الرّجل الذي سلخ تونس عن فرنسا فقط ولقد راهن أثناء الحرب على هتلر وموسوليني... وقد نشرت مجلّة الفيغارو مراسلات بورقيبة التي وجدت في أرشيف العدوّ... إنّ قائد الحزب الدستوري الجديد، متزوّج من فرنسيّة وتخرّج مثله مثل السيّد ميتران من مدرسة العلوم السيّاسيّة في باريس. وكان يمكن أن يكون دبلوماسيّا فرنسيّا لو أراد ذلك. ولكنّه اختار طريق الحركة الوطنيّة التونسيّة. رجل كهذا لا يمكن أن يمرّ بدون أن يُلاحَظ في مصر أين كانت انجلترا في أوج قوّتها. وها نحن نجده في لندن سنة 1951 أين قدمته مجلّة نيوكرونيكل بهذه الألفاظ لقرّائها: -لقد سمعنا كثيرا من الكلام يقال عن بورقيبة خلال العشرين سنة الأخيرة ولكنّنا سوف نسمع عنه أكثر في الأشهر القادمة-. لقد كان هناك مراسلون في تونس مرتبطين بتحرير الصّحافة الإنجليزية التي لم تتردّد لحظة في نشر تصريح الحزب الدستوري الجديد التي نقتطع منه :-إذا رفضت فرنسا مطالبنا فإنّنا سننظّم اضرابا ومظاهرات. وفي حالة وجود قمع سوف نحارب- ونريد أن نذكر أنّ كل هذا كان يحدث في سنة 1951، وعندما تهتمّ أنجلترا بأحد الأشخاص فإن الأمْرَ يَكُون جدِيّا ، إذ بعد التّنازل عن 70000 كلم² وبعد مشاركتها في البترول الصحراوي نجدها تُمسك بالرجل. وفي لندن، كان السيد بورقيبة مدعوّا لعرض الوضع التونسي أمام عشرات البرلمانيين في الغرفة الإدارية ثمّ أمام لجنة من غرفة اللوردات. وفي شاتان هاوس تولّى الدكتور الحبيب بورقيبة شرح النوايا السيّاسة للحزب الدستوري الجديد أمام عناصر المعهد الملكي للشؤون الخارجية (تحت رئاسة ملكيّة) للمكتب الخارجي. ولقد تحادث مع السيّد فورلنغ رئيس الوسط الشرقي Middle east. وقد قام بغيرها من اللقاءات والمقابلات مع مسؤولين انجليز رفيعي المستوى ، باختصار السيد بورقيبة تحصّل على عناية إنجليزية فائقة وسوف تُقدَّم له خدمات من عند قادة سياسيين فرنسييّن يخدمون الدّيبلوماسيّة البريطانيّة. ولا ينقصه الآن سوى متاعب الشهيد لذلك وضع تحت الإقامة الجبريّة أوّلا في تونس ثم في فرنسا وبعد ذلك نقله السيّد منداس فرانس إلى قصر. لقد فرضت علينا لندن رَجُلَها ، يجب أن نعترف بصدق بأن اللّعبة نجحت ... لأنّه لا يوجد ساسة في فرنسا يقودون مباراة فرنسيّة لإحباط العمليّة الإنجليزية. السيد بورقيبة تلقّى جائزته على خمس وعشرين عاما من "النضال" لأجل الحركة الوطنية التّونسية : هذا الماضي القريب يمنع علينا حتّى أن نلقي عليه اللّوم على استعمال مسعّرات أو عربات أجنبيّة للوصول إلى أغراضه النتيجة وحدها هي التي تهمّ. والبقيّة يعرفها كلّ واحد منّا والمعروف أقلّ عند الجمهور أنّ لندن تخلّى عنها بورقيبة لفائدة حكم مسبّق لفائدة أمريكا يسيطر على الاتحاد العام التّونسي للشّغل. ولكن هذا التّوجه الجديد لا يزال مؤقّتا. والسيد سوف يكون مضطرّا للتّطور السريع إذا أراد المحافظة على قيادة بلده الذي إذا طلب كأس ماء يُعْطَى له مسبحا يغرق فيه... لماذا تحافظ بريطانيا العظمى على حدود ليبيا وتونس وعلى حاويات من الموظفين مدرّبين يحسب تجربتهم في بلاد الشرق على تقنيات التحرك ضد فرنسا ؟ ولماذا هي تشجع بشكل منهجي الحركات الوطنيّة أَن في تونس أو في المغرب ؟ ولماذا سمحت في الربيع الأخير بخلق "لجنة يقظة "في لندن حيث كان هدفها يتمثّل في "تحرير إفريقيا الشماليّة بكلّ الوسائل" ؟ هذه اللجنة كانت مكونّة من 24 عنصرا ويرأسها الكولونيل إقبال وهو عنصر أفغاني ومحمي بريطاني وكان على صلة مباشرة بالجامعة العربيّة، وكان له أعوان ومأجورين ومخرّبين. وكان يرسل بتوجيهاته إلى أغلب الصحف المناهضة للوجود الفرنسي في المغرب وفي تونس. إحدى هذه الصّحف "قضيّة الإسلام" كانت تطبع في باريس وكان يرأسها عبد العزيز فلاّح ويمولها الشاذلي باي ( الباي السابق) وكانت تعبّر عن تطابق وجهة نظر من لجنة اليقظة لأنّ "لجنة اليقظة" هي التي توفّر، من لندن، كلّ الحجج والمعلومات والتّوجيهات لكلّ الحركات الوطنيّة في شمال إفريقيا. أحد عناصرها المؤثرين الدكتور الخميري كان يقوم برحلات مكوكيّة بين لندن وباريس وطنجة والقاهرة. هذه كلمات لا يمكن أن تمضي بدون أن تلاحظ فقد نشرتها الأسبوعية الباريسيّة كارفور carrefourسنة 1951 : -نحن نريد أن نكمل حالا مع السيّد بورقيبة لأنّ تونس أطلق البارود الشمال إفريقي-".
وفي موضع آخر يتكلّم الكاتب عن وجود أدلّة ووثائق تؤكّد وجود تمويل لبورقيبة وللحزب الدّستوري. يقول الكاتب : "ففي قابس ضبط البوليس حوالة ماليّة تقدّر ب 400000 فرنك آتية من طرابلس (أنذاك إيطاليّة) موجّهة لبورقيبة". وهناك قائد دستوري آخر للفتنة، علي الشريف وقع القبض عليه في الوقت الذي كان يحاول الهرب إلى إيطاليا. وبتفتيشه، أعترف علي الشّريف بحمله لوثائق تثبت أن الحزب الدستوري كان يتلقّى مساعدة ماليّة تقدّر بمليون شهريّا لأجل إحداث ثورات".
ويمضي الكاتب في حديثه عن تونس وعن بورقيبة قائلا عمّا يريده بورقيبة بالاستقلال الداخلي : "في تونس، يواصل في الظهور عبر الحزب الدستوري الجديد مع بورقيبة المتزوّج من باريسية ماتيلد لوران حيث أنّ ابنها الأكبر يتابع دروس الحقوق في باريس. فزوجة القائد الدّستوري تبنّت أفكار زوجها والتي لم تكن استقلاليّة مثلما يُكتب ولكنّها ترمي إلى وضع التّونسيين على نفس قدم المساواة مع فرنسيّي تونس، أي السّماح لهم بتبوّء المناصب الإدارية العليا. ضمن هذه الرغبة في الإستقلال الدّاخلي. وهذا ما نراه ، إنّ موقع بورقيبة كان أكثر حسّاسيّة مع المواقف الجليّة ضدّ فرنسا من مواقف الباي وبلاطه. إذ أن خشيته من أن يقع تجاوزه من طرف رعاياه، يظهر أنّ الباي كان يريد أن يأخذ زمام الأمور... إنّ تونس كانت البلد في شمال إفريقيا الذي حطّم الرقم القياسي الحزين للرّشاوي. وهذه هي سبب الكثير من الأوجاع التونسيّة الحاليّة...فرنسا لم يكن لديها الاختيار لاثبات كون الدستور الجديد لا يمثل سوى أقليّة مناضلة ولا تمثّل أغلبيّة التونسيّين. هذه الأقليّة وضعت حيز التّطبيق مذهب بورقيبة الذي تشير إليه رسالته إلى عابد يوم5 جويلية 1950 :-إننّي مقتنع بأنّ منظمة الأمم المتّحدة لن تورد المسألة التّونسيّة إلا في حالة اضطرابات خطيرة في تونس، إن إيرادها في أوضاع باردة مستحيلا وغير مجدي-. ولقد وقع مسك هذه المراسلة وفرنسا وقع إنذارها. كما وقع أكثر من مائتي اعتداء إرهابي في تونس منذ 1950. لقد أدرك بورقيبة غايته المعلنة والمصرّح بها علنا ويجب أن نعترف أنّ فرنسا أظهرت كثيرا من اللّطف بالنّسبة له ولننصف بورقيبة ، لقد كان أقوى من زملائه في العلوم السياسيّة وفي مقرّ وزارة الخارجية الفرنسيّة في باريس Quai d’orsay.
إنّ توثيقا تاريخيّا من طرف السيّدان Gross و Irring Prown يعلمنا أنّ الحزب الدّستوري الجديد لم يزدهر إلا في سنة 1942 تحت الاحتلال الألماني للمحميّة. ولكن زعيم الحزب الدّستوري الجديد الدكتور الحبيب ثامر نظّم فرقا هجوميّة معروفة تحت أسم -الهلال الأحمر- قماش البدلات العسكرية أخضر من رمادي زوّدهم بها الألمان وشارات وطنيّة على القبّعات وأسلحة ولم يكن ينقصه شيئا. وبدأت الوشايات والسرقات وعمليّات النّهب وعمليّات مطاردة الإسرائيلييّن. ووقع ترويج صور يجب أن يقتنيها تحت التهديد لسوء المعاملة وهذه الصّور تمثّل هتلر و موسوليني والمنصف باي (الباي الذي خلعته فرنسا سنة 1943) ووقع تركيب الصورة بإضافة بورقيبة (نلاحظ جيّدا قوّة الحماية التي تحيط ببورقيبة في تلك الحقبة، بما أنّه وحده انتقل إلى التحرير عبر تجربة لم تترك أيّة مقاومة للعاهل التّونسي (الباي))."
ويتحدّث الكاتب عن واقع الحزب الدستوري : "إنّه حزب التّشدّد العرقي والدّيني، لا يقبل أن يمارس اليهود وظائف سلطة مهما كانت ضئيلة... وحتّى مع التّوانسة المجنّسين فقد وقعت مقاطعتهم حتّى ولو حافظوا على وضعهم القانوني الخاص وعلى دينهم، كانوا يُمنعون من الزّواج من تونسيّات مسلمات ووقع إقصائهم من الحياة في مجتمع المسلمين ويرفض دفنهم في مقابر المسلمين..." ويضيف الكاتب متحدّثا عن الحياة السيّاسية في تونس، يقول : "بعد رحيل الألمان مضت أوقات الاضطراب، وكان التّوانسة يبحثون عن فرق جديدة ضاربة وتحت الإدارة الماهرة لفرحات حشّاد للاتّحاد العامّ التّونسي للشغل الذي كان يضمّ 75000 نقابي لم يلبثوا أن عوّضوا "الهلال الأحمر" في حركته المناضلة، والأركسترا التونسيّة نجحت في التمدّد عالميّا بما أنّنا نجد في منظمة الأمم المتّحدة السيّد صالح بن يوسف وزير قديم للباي دائما ضدّ فرنسا وضدّ البورقيبيّة والذي يظنّ أنّه مدعوّ لمستقبل سياسي كبير في تونس. ولكن فرحات حشّاد أغتيل بغباوة ولقد نسينا القيام بملاحظة هامّة : فرحات حشّاد قطع علاقته علانيّة بالحزب الشّيوعي التّونسي ولكنّه لم يكن المسلم الأقلّ استقلالا.
إنّ براعة الدّعاية العربيّة أرادت أن توهم العالم أنّ الإضطرابات تكستح تونس بأكملها. وفرنسا كانت تسمح بسير الأمور حسب ما يريده الآخرين، في كلّ مرّة تكون غير ملهمة جيّدا، فقد انشغلت في جدل فارع وساهمت بذلك في الدّعاية للحزب الدستوري الجديد (تقرير Perillier المنشور سرّا) ولكنّها تناست بالكامل أن "الحزب الدّستوري القديم" و"الحزب الإصلاحي" و "الحزب القومي التونسي"... لهم أيضا صحافتهم يقبلون أن يناقشوا بكل هدوء. لم تتورّع هذه الأحزاب عن مهاجمة بورقيبة وهذا ما نتج عنه يوم 14 أوت 1951 محاولة إحراق مطبعة جريدة النّهضة. هذه الصّحيفة لم تتردّد في نشر يوم 26 سبتمبر 1951 سرد مسلسل اعتداءات على مثقفين توانسة قائلة : لقد أثبت عصرنا أنّ الأفكار السياسيّة والتي تتشبّث بها شعوب الأرض في القديم وفي أيّامنا هذه مثل الاحترام والسّلامة للإنسان أصبحت مفقودة عندنا إلى الحدّ الذي جعل البعض منّا يشكّ في حقّه في الحياة ويمشي في الشارع وكلّه خشية من عدم إمكانيّة دخوله إلى بيته لأجل الرّاحة. وكلّهم خشية من أن يحصل لهم ما لا تحمد عقباه ولكنّهم لا يدرون من أين ومتى وبأيّ طريقة وبالمثل يجهلون أن الخطر يسقط عليهم من السمّاء أو يطلع من الأرض.
أبو زكريّا
15-03-2011, 12:19 AM
ولقد قيل لنا أن هذا يحصل في أيّام حكومة شنيق عندما كان صالح بن يوسف السّكرتير العام للحزب الدّستوري الجديد كان وزيرا للعدل ولم يجد أبدا الجناة الحقيقيّين! يمكن... كقوّة حامية ليس لنا مصلحة في ترك الأحداث تتسمّم إلى هذه الدرجة... وردت صحيفة الإرادة يوم 29 ماي 1951 قصّة انفجار قليبية قامت به عصابة من الدستور الجديد هذه العصابة كانت مسلحّة بأسلحة رشّاشة حصدت كلّ الجماعة الملتفّة حول السّيد العربي صمّود "وطني نزيه" (أكّدت ذلك الصّحيفة)، ليس بالتّباهي أمام الحزب الدّستوري الجديد أثناء محاضرة.
حادثة أخرى أكثر دلالة، اللّجنة التنفيذية ("النقابة القوميّة للمدرسين" (فرع تونس) صوّتت يوم 2 فيفري 1952 على اقتراح نقتطف منه "المدرسين يرفضون قبول الجريمة والاغتيال والسرقة كممارسات شرعيّة للولوج إلى الاستقلال الدّاخلي . إنّ الذين، بدون المشاركة المطلقة في مذهب للحزب الدستوري الجديد والذين يوافقون على تدرّج مرحلي للشعب التونسي نحو الاستقلال الداخلي يتساءلون حاليّا حول الدّلالة التي ينبغي أن تعطيها لبعض تصريحات الحزب الدستوري الجديد المتعلّقة بوضعيّة الفرنسيين والأوروبيين المقيمين في تونس." هؤلاء المدرّسين كانوا مناهضين لفرنسا على وجه الحقيقة لا يعرفون بدون شكّ قصّة صبيّ السّاحرة..." ويمضي الكاتب متحدثا عن بورقيبة : "إنّ الضّوضاء المقصودة والتي نظّمها بورقيبة نجحت. إنّ أقليّة المتحركة طغت على الأغلبية السّاحقة للشعب التّونسي وعندما كان مثيرو الفتنة يعاقبون بشدّة ( عندما نلقي القبض عليهم) كان بورقيبة يتجوّل في هدوء من بلد لآخر. الوحيدين المستخدمين التابعين يدفعون الثمن، رغم وجود عشرة دواع اتّهام كانت شرعيّة ضدّ الزّعيم وأصرّ إذا كانت فرنسا ترغب فعلا في المحافظة على تونس، وهل كانت الخشية من كون الزّعيم الدّستوري سيتوسّل إلى السّاسة الشّهود الهامين لنفي التهمة عنه ؟ أنا لن أجعل من بورقيبة متّهما كبيرا لأنّه تونسي بالطبع إذ قد يكون منسجما مع ضميره. أريد ببساطة معرفة معنى الموقف المجذّف للمقيمين منذ نهاية الحرب . لأنّ، خلال هذه المدّة هناك فرنسيّين ومن الأهالي الذين أعطونا ثقتهم سقطوا تحت ضربات مثيري الشغب التّوانسة. لقد تساءل أحد الصحافيّين : "أيّة علاقات سياسيّة باريسيّة عليا أرادت بغرابة عدم معاقبة بورقيبة؟ ألم يتلق حزب سياسي من اليسار، ليس بالشيوعي، توجيه الحزب العمّالي البريطاني لمعاملة بورقيبة بلطف ؟ هذه التّعليمات تعطي تناقضا ظاهريّا عجيب فهذا الحزب، أي الحزب العمّالي البريطاني، الذي يضمّ في صفوفه شخصيات بارزة إسرائيلّية لا يمكن أن يكون متّهما في يوم بكونه المسؤول عن اضطهاد اليهود في تونس ؟ عندما يكونون الفرنسيّين غير موجودين بفضل السيّد بورقيبة ؟
والنتيجة ماثلة أمامنا، وهي سهلة : بفضل الحزب الدّستوري الجديد أكثر من حزب الاستقلال، وضعت فرنسا في حالة اخفاق من طرف العرب أمام المحكمة الدوليّة لهيئة الأمم المتحدة ب60 صوتا مقابل 34."
ويتحدث الكاتب عن تورّط الحزب الدّستوري الجديد، في كثير من الأعمال وعلاقة ذلك بالمخابرات البريطانيّة : "وبالضّبط هناك اضطرابات تنفجر في كل مناطق تونس، ففي الجنوب التونسي، قضيّة غدامس منذ ثلاثة أسابيع، قضية Fort lecherc منذ أسبوعين أين قتل 24 من الأهالي بالإضافة إلى ضابط صفّ فرنسي. وهذا لا شيء، فهو حادث صغير حسب ما تقول نشرة رسميّة. طبعا، لا بأس فهو ليس إلاّ مؤشر على الاضطراب الذي تعهّد به الحزب الدستوري أحد فروع الجامعة العربيّة التي لها علاقات وثيقة بالمخابرات البريطانية في نقطتين". ويحوصل الكاتب المسألة قائلا : "وهكذا، فرنسا بفضل غباوة البعض من مسؤوليها قد جلبت الماء إلى طاحونة الحزب الدّستوري، بإعطاء الدليل على كونها لا تستطيع "حفظ" الاستقلال التونسي ضدّ الأهداف السياسيّة والمليّة للأجنبي شرقيّا كان أم غربيّا".
وهذا يبيّن مَنْ كان وراء الحبيب بورقيبة ومَنْ كان وراء الحزب الدّستوري الجديد والأدوار التي لُعِبَتْ لأجل إخراج فرنسا من مستعمراتها وتعويضها بالقوى الخارجيّة التي كانت لها مصلحة في أن تسير الأمور مثلما خُطِّطَتْ لها هي. تبقى مسألة أخيرة في هذا الإطار، من الذي كان وراء المقاومة المسلّحة للإستعمار؟ وما هي الأدلّة على وجود دعم خارجي لها ؟ وبما أنّ الأمر مترابط فإننا لن نخصّ بلدا واحدا بالبحث بل نبحث الأمر على مستوى الشمال الإفريقي. يتحدث الكاتب بيار فونتان عن وجود تمويل رأسمالي للمقاومة : "إذ كان بعض الرّأسماليين الفرنسيّين "الوطنيّين" في فرنسا يجب عليهم أن يتحوّلوا إلى شركاء لقتلة جنودنا عبر إمدادات الأسلحة لأجل المحافظة أو للحصول على امتيازات اقتصاديّة ـ تجاريّة في البلاد العربيّة، فنحن، نفهم جيّدا أن حكومة ـ اشتراكيّة ـ تلزم الصمت حول أسماء في حين أنّنا نعطي قيمة لقرار جندي مثالي من الجندية... إن الشراكات الخفية هي أخطر من الشركات المفتوحة." وهذه صحيفة LONDON FREE PRESS تتكلم عن هذا الأمر : "انّ ضابطا سابقا في المجرية الأمريكيّة وعنصر سابق في المخابرات العسكريّة الإنجليزية مع ستة رعايا بريطانيّين آخريين كانوا منهمكين في طنجة في تجارة غير مشروعة للأسلحة "وتضيف" إنّ تجّار الموت هؤلاء كانوا ماضين في طريق الثراء على حساب المغرب" ولكنّهم ليسو وحدهم ولكن إذا كانت الأحزاب المناهضة لفرنسا تملك مالا خارجيّا أقلّ فإنّ التجّار سوف يبيعون كمّيات أقلّ." ولقد أوردت صحيفة صدى الجزائر يوم 26 سبتمبر 1956 هذه المعلومة : "وهران AFP ثماني وأربعين ساعة بعد هجوم للثّوّار في منطقة بالكاو PALIKAO أصبح من الممكن الحصول على معلومات أكثر دقّة حول عصابة الخارجين عن القانون. وهذا مثل قضية ولّيس Ouillis بالقرب من مستغانم المجموعات القويّة المكوّنة من20 إلى 30 رجلا يظهر إنّها تلقّت تدريبات من أناس يتكلّمون الفرنسيّة ... إنّ أغلبيّة الثوّار كانوا يلبسون البزّة العسكريّة وكانوا مسلحين ببنادق حرب انجليزيّة 303 وبرشّاشات طمسن وبنادق ماس 36 ."
ويضيف الكاتب بيار فونتان قائلا : "لقد رأيت الإنجليز أثناء عمليّة إنزال أسلحة لعبد الكريم سنة 1924 مدافع سيلفيا." ويمضي الكاتب متحدّثا عن القوّة الانجليزية في ليبيا قائلا : "إنّ القوة البريطانية في ليبيا تستطيع في كل وقت إيقاف ومنع مراكز تدريب الفلاقة اللّيبية وطرد مثيري الشغب المناهضين لفرنسا، ومنع طائرات إنزال الأسلحة والذّخيرة والتّقنّيين في أوراس ولكنّها لم تفعل شيئا من ذلك. وها هو Michel Trecourt يصف بدقّة : "طائرات أنجليزية تتولّى إنزال أسلحة في الأوراس، وبواخر مفتّشة تختفي وسط غموض شديد. وقلّة الحياء تمضي بعد من ذلك، لقد أعطيت ضمانات سريّة لكبار الملاّكين الفرنسيين والمسلمين للحفاظ على أملاكهم في حالة انفصال بالإحياء الإنجليزي. وهذا يفسرّ بدون شك السّبب الذي جعلني كمراسل صحيفة كبرى في الجزائر مديرها من عائلة ملاّك الأراضي يكتب إليّ ويهاتفني لأجل الكفّ عن كلّ هجوم أو حتى تلميح للسّياسة الإنجليزية في شمال إفريقيا. وبعد مدّة وجيزة كان المدير يقوم بسحبي بلا قيد أو شرط كمراسل"
وارتباط المقاومة بالخارج لم تنفكّ الأوساط الرّسمية عن ذكرها ففي بداية أفريل 1955 تولّى الوزير جولي July عقد ندوة صحفيّة في الدّار البيضاء مؤكّدا على هذه الحقيقة التي عليها الأدلّة القاطعة : "وبقي هذا الاتهام الخطير خافيا مع الأسف لأنّ هذه الأدلّة لم تعطى ليتأمّل فيها الرّأي العام." وكانت روسيا من جهتها تدعم المقاومة المسلحة ففي نوفمبر 1951 عقد اجتماع في ضواحي الجزائر العاصمة بحضور مبعوث من الكومنغورم والمعيّن تحت اسم "الرفيق مارسال" وبحضوره بالطبع الكتباء في الحزب الشّيوعي الجزائري والسيّدين مستشاري الاتحاد الفرنسي بالإضافة إلى الذي يتبوّأ ( عبر مارسيليا) منصب المندوب الدّائم للكومنغورم وكان المغرب يمثّله بعثة سكريتر الحزب الشيوعي المغربي خلال هذا اللّقاء وقع ذكر مشكلة الثّورة المسلّحة لأجل السّماح للشيوعيين بلعب دور هام ضمنها. وأيضا اسبانيا من جهتها دخلت على الخط في إسناد المقاومة وجلبت المتاعب لفرنسا فلقد أصبحت تجارة الأسلحة أكثر هيمنة في اتّجاه المحميّة الفرنسية وكانت مدريد تمثّل مقرّا للقاء قادة المقاومة من أمثال السيد علال الفاسي، وبعد أن كانت موقع عبور للضباط الألمان نحو الشرق القريب. والسيّد رامون سانتاماريا كويسيدا انشأ مجلة أسبوعية في تطوال Aqui Marrucos والتي يظهر أنّها منذ أوّل عدد عملت على سبّ وقذف منهجي لأعمال فرنسا في المغرب وأصبحت قناة للدّعايات الشديدة ضدّ فرنسا ولكن السؤال بأية أموال ؟
وها هي الصحافة الفرنسيّة ( 19 أكتوبر 1956) سردت حادثا عرضيّا :" لقد أوقفت البحريّة الوطنيّة اليختAthos المزوَّر في السواحل المغربيّة الجزائريّة محمّل ب70 طنّا من الأسلحة تسمح بتجهيزه 3000 ثائر"
أبو زكريّا
15-03-2011, 12:19 AM
لقد أكتشفت أجهزة المخابرات الفرنسيّة الخاصّة الطّرق المعقّدة : بعض الإرسالات تنطلق من كوننقسبارج وبولونيا نحو فينزويلا وترجع إلى طنجة ومن بولونيا وسواحل البلطيق سفن الشحن تفرغ في مصر وهناك بواخر إيطاليّة تترك سفن الشّحن في طنجة ولكن هناك سفن حربيّة سريعة vadelly إيطاليّة (صقليّة) تموّل مباشرة الثوّار الذين يهيمنون على سواحل قسنطينة. وهناك تسليمات في ضواحي رأس روزا بمحاذاة لكولو وهناك أيضا بعثات هامّة من إسبانيا لأسلحة مصنوعة فيOviédo تصل طنجة. وفي الحقيقة تأتي الأسلحة من كلّ مكان ومصادرها مختلفة فهي فرنسيّة وأجنبيّة. هذه التّجارة كانت عملا مربحا يتولّى تجّار الموت المفاجئ القيام بهذه التجارة الخطيرة . كلّ الأسلحة التي تسمّى خفيفة تجد لها مالكين لديهم أموالا طائلة للدّفع حالا بنادق ومسدّسات فرنسيّة، غدّارات أمريكيّة ورشّاشات طومسن بنادق وذخائر وينشيستر وقذّافات انجليزيّة ومسدّسات تشيكوسلوفاكيّة و أسلحة ألمانيّة التي لم تسترجع من خزائن رومل وقنابل من كلّ بلدان. والعمليّة الأكثر دقّة تتمثّل في إيصال هذه الأسلحة للثّوار بعد أن يقع تخزينها بالقرب من إفريقيا الشماليّة ونقاط العبور الأساسيّة تتموضع على الحدود التونسيّة-اللّيبيّة من الشمال إلى الجنوب عبر أرالات وقوافل. وأيضا من ليبيا إلى تونس عبر طريق بحريّة. هذه حالة واحدة من بين 12 أخريات.
في ليلة 5 إلى 6 ديسمبر 1955 تولّت فرقة تفتيش تولت إيقاف قافلة آتية من ليبيا ويقودها ليبيّين مصحوبين باثنين من الجزائر وهذا في الجنوب الغربي لبنقردان : 15 صندوق من الدّيناميت وصناديق متفجّرات ومدفع هاون انجليزي من بوصتين، صنادق قذائف وبنادق وينتيستر بذخائرها. وفي الليلة التي تليها، في نفس المنطقة قافلة أخرى تبخّرت ولم يقع الإمساك بها. لقد لعبت ليبيا دور مستودع الأسلحة وللعبور حتى تصل إلى أيدي ثوّار شمال إفريقيا وكانت أيضا تحطّ في ليبيا طّائرات مجهولة محمّلة بالأسلحة والمال والأعوان في أوراس إلى الحدّ الذي ألجأ إلى نصب رادار بين باتنة وبسكرة. غربا كانت طنجة تمثّل أكبر مركز لتوزيع السّلاح بفضل نظامها الدّولي الذي يسمح بعبور أي خزّان وبدون دفع حقّ الجمارك وكانت الزّوارق الحربيّة السريعة Vedettes الأمريكية تسلّم لتجّار طنجة الأسلحة. وغير ذلك من أساليب تمرير الأسلحة للثوّار ولنختم بذكر أكبر قضيّة سلاح وقع رصدها سنة 1954 من طرف جهاز فرنسي، كانت الطّلبيّة المارّة عبر وسيط مصري 150000بندقية موزر و 1000 رشّاش. وكان هناك توصية بتسليم أسلحة من جنس MGH2 حتى ظنّ الفرنسيّون أن الثوّار كانوا مجهزين بأسلحة مأخوذة من جيش رومل.
كلّ هذا الكلام يدلّ أنّ المقاومة المسلحة أوما يسمّى بالحركات الوطنيّة لا تعدو أن تكون في الأوّل وفي الآخر عملا خارجيّا بامتياز إذا خطّطت لها القوى الخارجيّة ودعّمتها بالأسلحة والخبراء والمال والمعلومات وبالدّعايات الإعلاميّة على مستوى عالمي وحدّدت لها أهدافها التي لا يمكن أن تتجاوزها كل ذلك ليس حبّا في شعوب المنطقة أو شفقة عليهم بل استبدال احتلال بآخر مثلما أشار إلى ذلك الجنرال ليوتاي في خطابه المشهور : "يمكن أن نرحل يوما : ولكن شيئا فشيئا. ولكن ليس لترك المكان للأجانب... بخاطرنا : نحن لا نتلقى دروسا في الأخلاق من أناس يجب عليهم أن يبدأوا بإلغاء عندهم العنصريّة ضدّ السّود، ومخيّمات الهنود وطرافات أخرى من نفس النّوع. والذين لم يكن لديهم سوى رغبة واحدة : لعب دور الحواريّين الصّالحين لأجل تعويضنا. وهذه غباوة مزدوجة بالنّسبة للمسلمين وبالنسبة لنا."
وقد وصف أحد الكتّاب الفرنسيّين التّكتيكات الثّوريّة وكيف تتعامل معها القوى الخارجية : "إنّ الثورات سواء كانت شمال إفريقيّة أو جنوب أمريكيّة، صينيّة أو أخرى يكون دعم القوى الخارجيّة الخفيّة لها ثابتا لا يتغيّر. فهي تترك الأناس الطّيبين المقتنعين ينطلقون مع بعض القادة. وحسب المنعطفات التي تأخذها الأحداث يتركونهم لمصيرهم الحزين إذا كان يجب أن يقعوا تحت تأثير ردّة الفعل. ولكن إذا برهنوا على أنّهم يملكون أقل فرصة للنّجاح، حينئذ تتساقط المساعدات من كلّ مكان. غير أنّ الصراع المباشر غير كاف للتقنية الحديثة. إنّ الأوامر تعطى من طرف الحكومات تحت تأثير الرّأي العام. ولهذا كانت حرب شمال إفريقيا لها جبهتين، الحركة المحليّة (المسلّحة) والعمل السياسّي المصرّح به بفضل العلاقة للسيّد جورج راس المذكور" فهو يوضح لنا التّوقيت المناسب الذي تحدّده القوى الخارجية للتّدخل وتدخّلها طبعا لن يكون إلاّ لتحقيق مصالح ومطالب أوللمحافظة عليها. وهذه تتعارض طبيعيّا وبالأساس مع مصالح الشعوب. إذ لا وجود لالتقاء مصالح بين حقوق الشعوب وأطماع ومصالح القوى الخارجية. فهذا تناقض لا وجود لنقطة التقاء فيه. إذ أن تحقيق مصالح وأطماع القوى الخارجية لا يكون إلاّ على حساب حقوق الشّعوب ومصالحها. والتّاريخ الحديث للمسلمين ولكل الشعوب بدلّ على هذا الكلام. ولكنّ الأحزاب والحركات التي تجعل من نفسها وصيّة على الأمّة والشعوب وتجعل مصلحتها ومصلحة قادتها فوق مصالح الشعوب، هذه يمكن أن تلتقي مصالحها ومصالح قادتها مع مصالح القوى الخفيّة الخارجيّة فتبيع وتشتري معها : تبيع استقلال البلاد وثروات الأمّة ومصالحها وحقوقها وتبيع استقلاليّة قرارها السّياسي، تبيع كلّ ذلك وأكثر من ذلك إذ يصبح القادة خونة وتصبح هذه الأحزاب أداة إذلال وإفساد وتخريب في الأمّة. والمقابل هو الوصول إلى السّلطة واحتكارها بدعم خارجي. وهذا ما يحدث منذ عقود مع حكّام العالم الإسلامي فقد باعوا الدّين وباعوا الهويّة وباعوا الحضارة الإسلامية وتحالفوا مع أعداء الأمّة للوصول إلى أغراضهم يذكر بيار فونتان هذه الحادثة : "يجهل الكثير من الناس ماذا يجب على الاستقلال التونسي وعلى بورقيبة نحو السيّد سماجة smadja المالك ليومية الكفاح" أو"النضال" السيد سماجة هو يهودي تونسي ثري جدّا ساعد كثيرا على تحقيق أهداف الحزب الدستوري الجديد ولكن هذا لم يمنع حكومة السيد بورقيبة من منع في نوفمبر 1956 جريدة العمل التونسية من الصدور التي كان مالكها هو نفسه السيد سماجةsmadja “
وقبل أن أختم مع الحركة الوطنية في تونس ومع بورقيبة سوف نورد مقتطفات من مقال لبورقيبة في جريدة العمل يوم 23 جانفي 1956 أي قبل أقل من شهرين من إعلان تونس يقول بورقيبة : "في سنوات قليلة سوف يتحرّر كل الشمال الإفريقي من الاستعمار والاستبداد. و قبل ذلك بكثير ممّا كنّا نتصور إذا كان إستقلال بلدان شمال إفريقيا الثلاثة هو مؤكد وفي متناول اليد . لا بدّ لنا من أن نتذكّر كيف أنّه منذ سنتين كان يظهر لنا أن النّضال سيطول وأن المخرج غير مضمون. وذلك لأنّنا كنّا نعرف بعد أن هيّأنا الشعب للكفاح وأوقفنا النضال في الوقت المناسب وكنا نفرق بين ما هو ضروريّ وثانويّ إلى أن تحصلنا على حلّ تسوية مشرفة وإمضائها ثم عكفنا على إنشاء دولتنا التي أقمناها ... وذلك لأنّنا يوم 3 جوان 1955 كذلك نجحنا في خلال بضعة أسابيع من تجميع قوانا التي فرضت إرجاع صاحب الجلالة محمد الخامس وإعلان إستقلال المغرب..."
لقد كانت المقاومة الوطنية أو المقاومة المسلحة مؤامرة خارجية بمشاركة بعض السّاسة الفرنسيّين. فلقد أوصى الانجليز خيرا حكّام فرنسا الاشتراكيين في ذلك الوقت، ومنهم منداس فرانس ومتران، ببورقيبة خيرا. وحصول المغرب وتونس على استقلالهما حصل في عهد الاشتراكيين ممّا يدلّ على أن منح الاستقلال لا يعدو أن يكون صفقة سياسيّة.
لمّا وقع خلع ملك المغرب عثرت السلطة على دفتر حساباته الذي تضمن المبالغ المدفوعة "تحت عنوان الدعاية" لبعض الفرنسيين. وكان هناك محامي فرنسي على علم بهذا الدفتر وفي رسالة وقع نشرها للعموم، طلب من الحكومة نشر خاصة قائمة بأسماء الصحافيين المنتفعين بهذه الكرامات السلطانية وبالطبع فإن هذا الطلب النافع للرأي العام لم تقع متابعته، هذه حجة إضافية تؤكد من جديد أن قضية شمال إفريقيا وقع تزويرها لرأي العام الفرنسي وأن المسألة لا تعدو أن تكون مؤامرة بشراكة فرنسية. وممّا يقوي هذا الأمر أن السلطات الفرنسية أفشت لبورقيبة عرضا تقدم به باي تونس الذي ظهرت له أهداف بورقيبة، فقد تولى الباي الأخير بعث رسالتين شخصيتين للسيد ريني كوتي Rene coty طالبا منه عدم إلغاء وثيقة باردو للحماية والتي تضمن له عرشه وفي نفس الوقت مصالح فرنسا. ولكن هذه الرسائل وقعت بين يدي بورقيبة واستغلها لاقصاء الباي وبدون شك ليصبح رئيس الجمهورية. هذه الحادثة روتها باري ماتان Paris matin يوم 3 نوفمبر 1956 تؤكد تواطؤ ساسة فرنسيين مع بورقيبة.
أبو زكريّا
15-03-2011, 12:21 AM
إنّ ما جرت عليه الأحداث في تونس منذ الإستعمار المباشر وإلى الآن وخاصّة منذ أن أوصل الأنجليز عميلهم الطاغية الجبّار بورقيبة إلى كرسي الحكم يؤكّد بأنّ الفئة الحاكمة لها دور كبير فيما يخطّطه الإستعمار لأهل البلد ولشمال إفريقيا ولبقيّة العالم الإسلامي والإفريقي. وهذا ما يظهر من خطّ سير حكّام تونس ومن السياسة الثابتة التي تنتهجها كلّ حكومة مع الشعب ومع الدّول الأجنبيّة. ولذلك فإنّ هناك شقين، شقّ يبحث علاقة الفئة الحاكمة بالشّعب وهذه زيادة عن فهم دور السلطة وطبيعتها فإنّنا نستطيع أن نقسّمها إلى ثلاث مراحل : مرحلة الخمسينات إلى بداية السبعينات وأخرى تبتدأ من أواخر السبعينات إلى بداية التسعينات والأخيرة تبتدأ مع بداية التسعينات.
أمّا الشقّ الثاني من الموضوع فيبحث في موقع تونس ضمن السياسة الإستعماريّة فيما يتعلّق بالعالم العربي والإفريقي وما يهمّ القضايا الدوليّة ومنها قضايا الأمّة الإسلاميّة.
إنّ لتونس هذا البلد الصغير وضعا متميّزا ودورا أكبر من حجمها أراد لها الغرب أن تكون نموذجا للبلد الذي يعتنق الأنظمة الغربيّة وأهلها نموذجا للشعب المتمدّن الذي يعيش حسب ما تمليه الحضارة الغربيّة وما تفرضه مفاهيمها. ولهذا الغرض أُعْتمِدتْ العلمنة على مستوى السلطة والتشريع والتّقنين وأُعْتمِدَ التغريب على مستوى الشعب. أمّا على مستوى النظام والدولة فكانت الدولة دولةٌ لائكيّة تفصل الدّين عن الحياة إلا أنّها تستخدمه في إسناد السلطة وفي الدعاية لها كما كان يفعل رجال السلطة الدينيّة أو رجال الدين مع السلطة الزمنيّة أو الحكّام. وتفصل كذلك الدين عن السياسة إلا أنّها كالعادة تستخدمه لتأييد سياستها ولموافقة أهواء الحكّام ونوزعهم وهو ما يجري مع خطباء المساجد ومع الوعّاظ والمفتيّين وغيرهم. أمّا من ينطلق من الدّين ويأخذ منه المقاييس ويقيس عليها نظام الحكم وأنظمة المجتمع وأعمال الحكّام ويحاسبهم بها فإنّه يصبح صيّادا في المياه العكرة ومستغلا للدين في السياسة لغرض الإستيلاء على الحكم ويُنْعَتْ بالرجعي والمتطرّف أو الإرهابي.
ولهذا كان النظام الجمهوري ونظريّة السلطات الثلاثة والتعاون بينها وما يتفرّع عن ذلك من قوانين هو ما وقع عليه الإختيار من أنظمة، ليست من الإسلام في شيء، لتُطَبَّق في تونس.
أمّا على مستوى الشعب فقد أُعتمد في عمليّة التغريب على نقل الحضارة الغربيّة نقلا وفرضها على النّاس كطريقة عيش ونمط حياة فرضا. خاصّة وأنّ بورقيبة ورفاقه في الفئة الحاكمة كانوا من العلمانيين المشبعين بثقافة الغرب. إذ درسوا بالصادقيّة وبمعهد كارنو الثقافة الغربيّة وكان تلاميذ وطلبة هتان المؤسّستان وهم السّاسة والمفكّرون والكتّاب والمثقّفين الذين يضعون التفاصيل للسياسة الثقاقيّة والإعلاميّة والتعليميّة في البلاد، كانوا هؤلاء في صراع مع الزيتونيّين ومجلّتهم "صوت الطالب الزيتوني" الذين كانوا يدافعون عن الحضارة الإسلاميّة وعن الإسلام. وهذا الصراع الذي وقع أثناء الإستعمار المباشر للبلاد حسمه الإستعمار بأيصال عملائه الذين أرضعهم مفاهيم حضارة جون جاك روسو ومنتسكيو وغيرهم إلى سدّة الحكم وجعل كلّ مقاليد البلاد بأيديهم. فكان أوّل عمل قام به بورقيبة إلغاء المُلُكيّة وإقرار النظام الجمهوري ثمّ إنتقل إلى التعليم فأغلق جامع الزيتونة وأرسى أنظمة المدارس والجامعات وأنظمة التعليم على الأساس الغربي. وباشر مبكّرا عمليّة التغريب إذ أصدر مجلّة للأحوال الشخصيّة صاغها على أساس حضارة الغرب، فمنع تعدّد الزوجات وإعتبر التعدّد تخلّفا وهمجيّة وحطّا من قيمة المرأة، ونادى بالمساواة بينها وبين الرجل تنفيذا لرغبات المستعمر وآراء أقرانه في الدراسة أمثال الطّاهر الحدّاد. فأعطى المرأة حريّتها الشخصيّة ومنها حريّة الإجهاض حتّى أنّ بنات أوروبا كنّ يلجأنا إلى تونس للإجهاض الذي كان ممنوع في بلدانهنّ. فإستحقّ بهذه الأعمال ما أسمته أجهزة الإعلام الرسميّة بمحرّر المرأة فأضافت هذا اللقب إلى ما حاز إليه من قبل ألا وهو لقب المجاهد الأكبر ومحرّر البلاد وصانع تونس الجديدة.
وقد دعى في خطاباته أن تخرج المرأة سافرة لتشارك في نهضة المجتمع وتساعد الرجل في بناءه وفرض الإختلاط في المدارس والكليّات وفي الإدارات وفي الأماكن العموميّة. وأعطى رخص الخمّارات وفتح في كلّ مدينة ماخورا للعاهرات وشجّع السياحة وبناء النزل والمنتزهات فاتحا البلاد أماكن تعرّي وفساد ومعاقرة للخمور. وكلّ ما أقدم عليه تطلّب منه تكميم الأفواه وقطع الأرزاق ومارس أسلوب التشويه والتجويع والتخويف على كلّ من تجرّأ على المعارضة أو على قول كلمة حقّ أو على تغيير المنكر. ولذلك كان تاريخه تاريخ طغيان وتجبّر وتعدّي على النّاس وأعراضهم وأموالهم. والباحث في شخصيّة الرجل يدرك مدى خبثه ولؤمه وأنّه لا يتورّع عن أيّ شيء خدمة لمأربه وأن كان ذلك الفعل لا يصدر إلا من مجنون معتوه. إنقلب على الشيخ عبد العزيز الثعالبي ونحّاه من زعامة الحزب ليحلّ هو محلّه ويتمكّن من لعب دوره. وقد أجرى إتصالات سريّة مع منداس فرانس رجل الإنقليز في حكومة فرنسا وإتفقا الرجلان على الإستقلال الدّاخلي الشيء الذي فجّر أزمة داخل الحزب فأنشقّ صالح بن يوسف الذي ندّد بعمالة بورقيبة الذي وضع نفسه في خدمة المستعمرين. ووجد بورقيبة الكثير من أعضاء حزبه موالين لصالح بن يوسف فنادى بالجلاء عن بنزرت مرسلا إليها كلّ اليوسفيين وبتفاهم مع فرنسا قصف الطيران الفرنسي كلّ المطالبين بالجلاء عن بنزرت ومعظمهم عارضوا الخطّ الخياني لبورقيبة. والحصيلة كانت مئات القتلى والجرحى وكانت معركة الجلاء أوّل خيانة يرتكبها بوقيبة في حقّ شعب تونس. وطبعا فإنّ الخيانة المبكّرة لبورقبية نتج عنها ردّ فعل مبكّر تمثّل في محاولة إنقلاب قام بها لزهر الشرايّطي وجماعته ممّا دفع بالنظام إمعانا منه في خطّه الخياني ومضيّا قدما في ربط البلاد بكافّة أنواع التبعيّة والإستعمار ولو بالقوّة لذلك كوّن محكمة لأمن الدولة وبوليس لسلامة أمن الدولة. وبالطبع وقعت محاكمة المجموعة وأصدرت المحكمة أحكاما تتراوح بين الإعدام والمؤبّد. ونشير أنّ بورقيبة صفّى زميله وصديقه صالح بن يوسف تصفية جسديّة وفي تلك الفترة كان هنالك مقاتلون في الجبال رفضوا أمر بورقيبة بتسليم أسلحتهم إذ إعتبروا أنّ الإستعمار لم ينته ولم يخرج فما كان من بورقيبة إلا أن أرسل إليهم من يُوقفهم ولا يعرف حتّى الآن عن مصيرهم شيئا. أيضا فإنّ كثير من العلماء أرادوا أن يقفوا وأن يقوموا بواجب تغيير المنكر فمارس معهم سياسة الترهيب والترغيب فمنهم من إختار المواجهة ودفع الثمن من حياته أو من ظروف قاسية مفروضة عليه ومنهم من رضى وتابع بائعا لدينه بدنيا غيره. والكثير من الزيتونيّين إشتراهم النظام ودخلوا في سلك التعليم والقضاء وحتّى في المخابرات وجعلوا من أنفسهم خدَمَة للنظام وأعوانا له.
أبو زكريّا
15-03-2011, 12:22 AM
وفي تلك الأثناء كثرت الإختطافات والإغتيالات حتّى في صلب أعضاء الحزب الحاكم ورفاق بورقيبة من النقابيّين. قد كان الإتحاد العامّ التونسي للشغل يأتمر بأوامر البيت الأبيض وكانت النقابات في شمال إفريقيا تلعب دور الضغط وتحاول زعزعة الأمن في البلاد إضعافا لسيطرة الإنجليز وهذا ما يفسّر تصفية فرحات حشّاد في تونس وأغلب المواجهات التي حصلت بين النّقابات والسلطة إذ كلّها تدخل في الصراع الأمريكي الأنجليزي على مناطق النفوذ. ورافق هذا الصراع السياسي الإستبداد السياسي في السلطة الشيء الذي جعلها تكره الشعب وتكيد له وتمارس عليه سياسة القمع والتجويع والتمييع. وهذا يظهر من تاريخها معه ففي أيّام التعاضد أنتزعت الدولة أراضي النّاس ومواشيهم وحدثت اصطدامات بين المواطنين ورجال الأمن الذين لم يتردّدوا كالعادة في استعمال السلاح. وكانت هذه التجربة فرصة ذهبيّة للموالين للنّظام فاشتروا الأغنام والأبقار والأراضي بأسعار منخفضة جدّا من أصحابها الذين فضّلوا بيعها بتلك الأسعار الرمزيّة على أن يخسروها بالقوّة وتنتزعها منهم السلطة. وهكذا ارتدّ الآلاف إلى حالة الفقر وأثرى المئات نتيجة للسياسة الفاسدة للسلطة. ومن جهة أخرى فإنّ النظام عادة ما يرجع للمواطنين حتّى يسدّدوا عجز الميزان التجاري أو يدفعوا ثمن ما يُقدم عليه المترفون من تبديد لأموال الدولة وثروات الأمّة وحتّى في الكوارث فإنّ الدولة تعمد إلى ابتزاز النّاس. والدولة جعلت من نفسها مسعّرة فهي دوما وفي كلّ مناسبة تلجأ إلى رفع الأسعار سواء المواد الأساسيّة أو الأدوية ممّا يثقل كاهل المواطنين ويحط من قدرتهم الشرائيّة وفي المقابل فإنّ أجور العمّال تحافظ على استقرار نسبي وليس هناك سياسة تصنيع أو سياسة محكمة لخلق مواطن الشغل. وكلّ هذا جعل الأوضاع تتردّى يوما بعد يوم. وفي سنة 1983 عمد النظام كالعادة لرفع سعر الخبز فخرج الشعب في مظاهرات تلقائيّة في كلّ المدن والقرى معبّرا عن سخطه فما كان من النظام إلا أن تصدّى لها بالحديد والنّار ولأوّل مرّة يدعوا الجنود للخروج من الثكنات وكانت حصيلة رهيبة آلاف القتلى والجرحى الذين دفنوا في مقابر جماعيّة وبشهادة كثير من رجال الأمن وقع دفن الكثير من الجرحى أحياء. وقدّم المئات من المتظاهرين إلى المحاكمة آمرا القضاء التونسي بإصدار أحكاما قاسية عليهم. أمّا مع المعارضة فلا تتورّع عن القيام بمحاكمات ونادرا ما تخلو سنة من السنوات من محاكمات وشاعت أخبار الزنازين التابعة لوزارة الدّاخليّة وأحدث الإبتكارات في التعذيب وفي الإستنطاق وكثرت حوادث الإختطاف والإبتزاز السياسي وكانت تلاحق كلّ معارض. فمن كان طالبا تسعى لإسقاطه لأنّ إدارة الجامعات والعمداء والأساتذة موالين للنظام ويأتمرون بأوامر البوليس ومن كان موظفا يطرد من العمل ويلاحق حتّى لا يشتغل ويبقى يعاني من متاعب الحياة. هذا زيادة عن إشاعة الفساد وإطلاق الحريّات الشخصيّة ومنها حريّة الكفر والفسق وحريّة الفساد إذ كثر الزنا واللّواط ممّا جعل الكثير من الفضائح تظهر عن تورّط تلميذات في شبكات بورنوغرافيّة أو شبكات زنا.
ولنتكلّم الآن عن الحقبات الرئيسيّة في تاريخ تونس، فإنّ الفترة الأولى منها التي تبتدأ من الستّينات إلى أواسط السبعينات نجحت فيها تجربة العلمنة والتغريب إلى حدّ كبير ولا أدّ على ذلك أنّ المعارضة للسلطة كانت مقتصرة على الأحزاب الشيوعيّة والقوميّة التي استقطبت كلّ شباب الجامعة والمثقّفون. وكانت المساجد خالية إلا من بعض الشيوخ ولا أثر للإسلام لا في الحياة ولا في الأوساط الشعبيّة وهذه الحملة للتمدّن وصلت حتّى أقصى القرى والأرياف النّائية وحتّى في عائلات تعيش بلا مرافق الكهرباء والماء فترى بناتهنّ يلبسن الميني ويتبرّجن والشباب والشابات يتحدّثون عن الحريّة وعن التقدّم ومواكبة العصر والكلّ يزدري من العادات البالية ومن الصلاة والصوم والحجّ ويعتبروا من يفعل ذلك متخلّفا.
وهكذا كان المسخ الحضاري كبير وقضى شوطا كبير جعلت مظهر النّاس مزريا ومضحكا. ودام هذا الحال عقدين من الزمن ظنّ خلالها بورقيبة أنّ عجلة التغريب والعلمنة قد دارت بصورة لا رجعة فيها إلى الوراء فإذا به في السبعينات يقف على مشهد عجيب متمثّل في رجوع النّاس بشكل جماعي إلى الدّين والأمر لم يقتصر على الفئات الفقيرة بل تعدّاها إلى أغنياء الأحياء الرّاقية. وبعد ثورة إيران لم يبق مجالا للشكّ أنّ الأمر ليس بظاهرة عابرة بل توجّه حقيقي نحو الإسلام فجنّ جنونه وشنّت أجهزة الإعلام حملات مسعورة على المتخلّفين والرجعيّين وإمعانا من النّظام في التشويه عمدت مليشيّات محمّد الصيّاح مدير الحزب الحاكم إلى تجنيد عاهرات ألبسهنّ الحجاب وأنزلهنّ إلى الشوارع لمراودة النّاس حتّى يصرف النّاس عن اللّباس الشرعي ويظنّ بأنّ هؤلاء المتديّنين والمتديّنات أغراضا سياسيّة وبكونهم أصوليّين إستعملوا الدّين لأغراض شخصيّة. وبالرغم من ذلك فرضت ظاهرة الرجوع إلى الدين نفسها على الشعب وعلى السلطة. وكثر عنها الحديث في الصحافة وفي الرّاديو وفي التلفزيون وفي الخطابات الرسميّة للمسؤولين الذين شنّوا حربا لا هوادة فيها على تسييس الإسلام. وجاءت ثورة إيران التي تفاعل معها شعب تونس إيجابا فكثر روّاد المساجد من الشباب فترى شوارع المدن ملأى بالشباب المتوجّه إلى المساجد لتأدية صلاة الصبح وكثرت حاملات اللّباس الشرعي وبذلك دخلت تونس المرحلة الثانية وتسمّى بمرحلة الإسلاميين الذين تواجدوا في كلّ الفئات وخاصّة في صفوف الطلبة وأصبحت الجامعة معقلا لهم وللنشاط الإسلامي. ومع الأسف فإنّ آثار التغريب كانت ما زالت ظاهرة، يكفي أن نعرف أنّ حركة الإتجاه الإسلامي والتي قادت العمل الإسلامي خلال تلك الحقبة ثمّ تحوّلت لما يسمّى بحزب النهضة كانت تنادي ببعض المفاهيم التي أنتجتها حضارة الغرب مثل السيادة للشعب والحريّات ومنها حريّة التعبير وحريّة التنظيم وتنادي بالديموقراطيّة وتعمل على إيجادها وإتباعها في الحياة السياسيّة. وقد أفرزت جماعة الإتجاه الإسلامي ما يسمّى باليسار الإسلامي، كلّ ذلك إلى جانب الأحزاب القوميّة مثل البعثيّين والنّاصريّين وأحزاب اليسار. ممّا يدلّ أنّه رغم التوجّه نحو الإسلام ورغم التحوّل في النظرة للعقيدة الإسلاميّة على أنّها عقيدة سياسيّة إلا أنّها بفعل الغزو الفكري والحضاري كانت بعيدة على أن تصبح قاعدة وقيادة فكريّة وأساس وجهة نظر في الحياة بطرح بديل حقيقي وجذري يغيّر الأوضاع الفاسدة تغييرا جذريّا ويقيم بدلها الأوضاع الصحيحة.
وطبعا لم يسلموا من المحاكمات القاسية فنزلت بهم أقسى العقوبات وعزم النظام على إستئصالهم, وكانت المواجهات الدامية سنة 1987 التي جعلت السلطة تعسكر البلاد وأُلقي القبض على الآلاف وخاصّة من قيادات النهضة وحوكموا أحكاما وصلت إلى المؤبّد. وفي تلك الفترة كان النظام يحتضر ويلفظ أنفاسه الأخيرة ممّا جعل الغرب يخاف على إنجازاته في تونس وعلى دور تونس الهامّ في خطط الغرب ومشاريعه الإستعماريّة، وخاصّة على ما حقّقه على مستوى العلمنة والتغريب.
vBulletin® v4.0.2, Copyright ©2000-2025, Jelsoft Enterprises Ltd.