ابو العبد
30-10-2010, 01:15 AM
هـل يسـقط الاتـحـاد الأوروبـي ضـحـيـة النــزعــات القـومـيـة؟
التّخوّف من انهيار الحلم الأوروبّيّ... إن الاتّحاد الأوروبّيّ ينازع، وموته لن يحدث على حين غرّة، بل سيكون بطيئًا وتدريجيًّا، حتّى يأتي يوم، نلقي فيه نحن الأميركيين نظرةً على الجهة المقابلة للمحيط الأطلسيّ، فنكتشف أنّ الوضع المسلّم به منذ خمسين عامًا، قد توقّف عن الوجود.
في ما يخصّ التّداعي الأوروبّيّ، فجزءٌ منه اقتصاديّ، ذلك أنّ الكثير من الدّول الأعضاء في الاتّحاد الأوروبّيّ يدفع غاليًا ثمن الأزمة الاقتصاديّة، كما أنّ هول الدّيون العامّة، وزعزعة القطاع المصرفيّ في القارّة الأوروبّيّة، لا ينبئ بخير. لكنّ هذه المصائب تهون أمام المصيبة الأخطر الّتي تواجهها أوروبّا، انطلاقًا من لندن، ومرورًا ببرلين، ووصولاً إلى وارسو، أي عمليّة إعادة تأميم الحياة السّياسيّة، حيث تطالب الدّول الأعضاء بالسّيادة الوطنيّة، الّتي لطالما ضحّوا بها في سبيل المشروع الجماعيّ.
أمّا اليوم، فيبدو أنّ الصّالح العامّ لم يعد يهمّ الكثير من الأوروبيّين، إذ تراهم يشكّكون بما يقدّمه لهم الاتّحاد الأوروبّيّ. وفي حال استمرّ الأوروبّيّون على هذا المنوال، فقد يهدّدون واحدًا من أعظم إنجازات القرن العشرين وأصعبها منالاً، وهو حلم أوروبّا المتكاملة، والمتصالحة مع ذاتها، والرّاغبة في إظهار قوّة الاتّحاد، ليحلّ محلّه، دولٌ منعزلة جيوسياسيًّا، ما قد يحرم الولايات المتّحدة من شريك مستعدّ وقادر على تحمّل الأعباء العالميّة معها.
إنّ عدوى تراجع الدّعم لمشروع التّكامل الأوروبّيّ قد طالت ألمانيا، الّتي كانت محرّك المشروع من أجل التّخلّص من الصّراعات القوميّة الّتي جرّت القارّة الأوروبّيّة إلى خوض الحروب الضّارية. وتجدر الإشارة إلى أنّ نفور برلين من إغاثة اليونان وهي على حافّة الإفلاس، إنّما أخلّ بروحيّة الصّالح العامّ الّذي يميّز أوروبّا الجماعيّة، فأنجيلا ميركل لم تقرّر تجاوز المعارضة الشّعبيّة والموافقة على إقراض اليونان، إلاّ عندما امتدّت أزمة اليونان لتشمل منطقة اليورو بكاملها، وكانت النّتيجة أن عاقب النّاخبون حزبها في انتخابات ألمانيا الغربيّة المحلّيّة، ما كبّد المسيحيّين الدّيموقراطيّين الخسارة الأكبر منذ الحرب العالميّة الثّانية.
وممّا لا شكّ فيه أنّ الاتّحاد الأوروبّيّ يشهد إعادة تأميم للحياة السّياسيّة في كافّة أرجائه، فما حدث في العام 2005 لم ينبئ خيرًا، إذ رفض النّاخبون الهولنديّون والفرنسيّون آنذاك معاهدةً دستوريّة كان من شأنها توطيد القوام القانونيّ والسّياسيّ للاتّحاد الأوروبّيّ على حدٍّ سواء.
وكذلك، رفض الإيرلنديّون بدورهم معاهدة لشبونة عام 2008، الّتي حلّت محلّ النّصّ الأوّل، إلاّ أنّهم عادوا واعتمدوها عام 2009، بعدما اطمأنّوا إلى أنّ المعاهدة لن تُفقد الدّولة سيطرتها على نظام جباية الضّرائب والحياد العسكريّ. وقد تسلّم الحزب المحافظ في بريطانيا زمام الحكم بعد فوزه بالانتخابات التّشريعيّة، ومن المعلوم أنّه من كبار مناهضي المشروع الأوروبّيّ.
وأينما كان، يبدُ أنّ شعبيّة «اليمين المتطرّف» في أوروبّا تزداد ازديادًا ملحوظًا بعد تأسيس حلف قوميّ جديد مناهض للهجرة، ويسعى إلى تحقيق وزن له في البرلمان الأوروبي. فالتّوجّه اليمينيّ المتعصّب لا يستهدف الأقلّيّات فحسب، بل السّيادة الّتي تتحقّق من خلال الاتّحاد السّياسيّ. فحزب «جوبيك» المجريّ على سبيل المثال، «المصاب» برهاب الأجانب، فاز بأربعة وسبعين مقعدًا في الانتخابات الأخيرة، في الوقت الّذي لم يحصل على أيّ تمثيل في انتخابات عام 2006، وكذلك الأمر في هولندا، وهي الدّولة المعروفة بانفتاحها، حيث حصل حزب اليمين المتطرّف، على نسبة تفوق الـ 15 % من الأصوات، أي كان على بعد سبعة مقاعد فقط من الحزب الفائز.
كما لو أنّ هذه المعوّقات الّتي تزعزع استقرار الاتّحاد الأوروبّيّ لم تكن مقلقة للغاية، حتّى جاء شهر تمّوز/يوليو حاملاً معه تولّي بلجيكا رئاسة الاتّحاد الأوروبّيّ، وهي الدّولة الّتي تتقاذفها ريح الانقسام العاتية ما بين الفلندريّين النّاطقين باللّغة الهولنديّة، والوالون النّاطقين باللّغة الفرنسيّة، وتمنعها منذ انتخابات حزيران/يونيو الماضي من تشكيل حكومة وحدة وطنيّة قابلة للاستمرار. إذًا، من قبيل السّخرية أنّ الدّولة الّتي تقود المشروع الأوروبّيّ اليوم تخوض نزاعات قوميّة، كان القضاء عليها علّة تأسيس الاتّحاد الأوروبّيّ.
إنّ إعادة تأميم السّياسة الأوروبّيّة هو قبل كلّ شيء نتيجة ظهور جيل جديد، فالأوروبّيّون الّذين بلغوا سنّ الرّشد في غصون الحرب العالميّة الثّانية أو الحرب الباردة، يرون في الاتّحاد الأوروبّيّ مخرجًا من تاريخٍ ملطّخ بالدّماء، أمّا الأصغر سنًّا، فرأيهم مختلف، إذ أظهر استطلاع للرّأي أجري حديثًا أنّ عدد الفرنسيّين فوق سنّ الخامسة والخمسين يساوي ضعفي الفرنسيّين ما دون سنّ الثّالثة والسّتّين، في اعتبار الاتّحاد الأوروبّيّ الضّمانة الأقوى للسّلام، ولا عجب أن ينظرالقادة الأوروبّيّين الجدد في جدوى الاتّحاد الأوروبّيّ من منظار حساب التّكاليف والأرباح المكدّسة، وليس باعتباره عقيدة دينيّة لا ينبغي المساس بها.
وفي غضون ذلك، تساهم متطلّبات السّوق العالميّة المقرونة بالأزمة الماليّة، في تقويض اقتصاديّات الرّفاهيّة الأوروبّيّة، فإزاء تأخّر سنّ التّقاعد، وتضاؤل تحقيق الأرباح، غالبًا ما يظهر الاتّّحاد الأوروبّيّ وكأنّه ضحيّة المصائب الجديدة. لذلك، ركّزت الحملات الفرنسيّة المناهضة للمشروع الأوروبّيّ، حنقها على الـ«سّمكريّ البولونيّ» الّذي يستأثر بالوظائف المحلّيّة بسبب سوق العمل الأوروبّيّة المشتركة.
حتمًا، ساهم اتّساع الاتّحاد الأوروبّيّ السّريع باتّجاه الشّرق والجنوب في إضعافه فور غياب التّقارب الّذي كان سائدًا أيّام الاتّحاد الأوروبّيّ المصغّر قبل سقوط جدار برلين، فانغلق الأعضاء الأوائل على أنفسهم، بينما لم يكن الأعضاء الجدد مستعدّين للتّخلّي عن سيادتهم الّتي جاءتهم على طبق من فضّة بعد انهيار الشّيوعيّة، وخير مثال على ذلك تصريح الرّئيس البولونيّ الرّاحل، ليش كاكزينسكي، عقب وصوله إلى الحكم عام 2005، قائلاً «إنّ مستقبل بولونيا هو ما يهمّ الشّعب البولونيّ، وليس مستقبل الاتّحاد الأوروبّيّ».
إنّ ما يفاقم هذا الإرهاق الّذي تعانيه القارّة الأوروبّيّة هو تورّط دولها في حربي العراق وأفغانستان، ففي ألمانيا مثلاً، يعارض حوالى ثلثي الشّعب الوجود العسكريّ في أفغانستان، وهذا الخبر يُفقد الاتّحاد الأوروبّيّ مصداقيّته، ذلك أنّ من صلب أولويّاته رصّ الصفوف على السّاحة العالميّة.
صحيح أنّ علّة وجود الاتّحاد الأوروبّيّ تتمثّل في إعطاء أوروبّا ثقلاً سياسيًّا أكبر، إلاّ أنّ أحدًا لا يؤيّد هذا المسعى، ذلك أنّ التّورّط في النّزاعات البعيدة عن أوروبّا جغرافيًّا، بالإضافة إلى هبوط النّفقات المخصّصة للدّفاع المشترك بسببب الأزمة الماليّة، لا يحثّان الأوروبّيّين على تحمّل مسؤوليّات جديدة.
لقد أبلغني عضو في البرلمان الأوروبّيّ مؤخّرًا «إنّ الاتّحاد الأوروبّيّ بانتظار قادة جدد يأخذون على عاتقهم تبنّي المشروع الأوروبّيّ مجدّدًا». وربّما أفضل ما في حوزة الاتّحاد الأوروبّيّ راهنًا هو المماطلة، حتّى لو استوجب ذلك متابعة التّدهور الحاصل الّذي لا تطال عواقبه دول الاتّحاد الأوروبّيّ فحسب، خصوصًا أنّ إدارة أوباما غير راضية عن تضاؤل الدّور الّذي تؤدّيه أوروبّا على الصّعيد الجيوسياسيّ.
وفي هذا الإطار، أبدى وزير الدّفاع الأميركيّ روبرت غيتس في اجتماع لرؤساء دول حلف شمال الأطلسيّ (nato) في شباط/فبراير الماضي، انزعاجه ممّا سمّاه «افتقار أوروبّا إلى التّنظيم العسكريّ»، قائلاً إنّ في ظلّ اعتراض شريحة كبيرة من الرّأي العامّ والطّبقة السّياسيّة الحاكمة على القوى العسكريّة والأخطار المرتبطة بها، لم يعد الافتقار إلى التّنظيم العسكريّ نعمة مثلما كان في القرن العشرين، بل أصبح في قرننا الواحد والعشرين حجر عثرة يحول دون إرساء أمن حقيقيّ وسلام دائم».
وبينما تحاول الولايات المتّحدة التّخلّص من ديونها ومنح قوّاتها المسلّحة استراحة المقاتل، ستقوم بتقييم حلفائها وفق ما يستطيعون تقديمه، وفي الوقت الرّاهن، أوروبّا عاجزة عن تقديم الكثير، لا بل ستتضاءل مساهمتها بشكل مستمرّ.
واليوم، شبح الحرب بعيد عن أجواء القارّة الأوروبّيّة، فدولها لا ترغب بالدّخول في مواجهات مسلّحة، ولكنّ الخطر الّذي يحدق بها لا يقلّ خطورة، فالسّياسة الأوروبّيّة لن تبقى أوروبّيّة، بل ستتحوّل شيئًا فشيئًا إلى سياسة قوميّة يمينيّة، وقريبًا، لن يبقى من الاتّحاد الأوروبّيّ سوى التّسمية.
منذ ستّين عامًا، أسّس كلّ من جان مونيه، وروبرت شومان، وكونراد أيدنهاور أوروبّا الّتي نعرفها. أمّا اليوم، فالقارّة الأوروبّيّة بحاجة ماسّة إلى جيل جديد من القادة القادرين على إحياء الحلم الأوروبّيٍّ الّذي يلفظ أنفاسه الأخيرة... لكنّهم غائبون...
شارلز كوبشان
أستاذ في الشّؤون الدّوليّة في جامعة جورجتاون
وعضو بارز في مجلس العلاقات الخارجيّة
السفير
التّخوّف من انهيار الحلم الأوروبّيّ... إن الاتّحاد الأوروبّيّ ينازع، وموته لن يحدث على حين غرّة، بل سيكون بطيئًا وتدريجيًّا، حتّى يأتي يوم، نلقي فيه نحن الأميركيين نظرةً على الجهة المقابلة للمحيط الأطلسيّ، فنكتشف أنّ الوضع المسلّم به منذ خمسين عامًا، قد توقّف عن الوجود.
في ما يخصّ التّداعي الأوروبّيّ، فجزءٌ منه اقتصاديّ، ذلك أنّ الكثير من الدّول الأعضاء في الاتّحاد الأوروبّيّ يدفع غاليًا ثمن الأزمة الاقتصاديّة، كما أنّ هول الدّيون العامّة، وزعزعة القطاع المصرفيّ في القارّة الأوروبّيّة، لا ينبئ بخير. لكنّ هذه المصائب تهون أمام المصيبة الأخطر الّتي تواجهها أوروبّا، انطلاقًا من لندن، ومرورًا ببرلين، ووصولاً إلى وارسو، أي عمليّة إعادة تأميم الحياة السّياسيّة، حيث تطالب الدّول الأعضاء بالسّيادة الوطنيّة، الّتي لطالما ضحّوا بها في سبيل المشروع الجماعيّ.
أمّا اليوم، فيبدو أنّ الصّالح العامّ لم يعد يهمّ الكثير من الأوروبيّين، إذ تراهم يشكّكون بما يقدّمه لهم الاتّحاد الأوروبّيّ. وفي حال استمرّ الأوروبّيّون على هذا المنوال، فقد يهدّدون واحدًا من أعظم إنجازات القرن العشرين وأصعبها منالاً، وهو حلم أوروبّا المتكاملة، والمتصالحة مع ذاتها، والرّاغبة في إظهار قوّة الاتّحاد، ليحلّ محلّه، دولٌ منعزلة جيوسياسيًّا، ما قد يحرم الولايات المتّحدة من شريك مستعدّ وقادر على تحمّل الأعباء العالميّة معها.
إنّ عدوى تراجع الدّعم لمشروع التّكامل الأوروبّيّ قد طالت ألمانيا، الّتي كانت محرّك المشروع من أجل التّخلّص من الصّراعات القوميّة الّتي جرّت القارّة الأوروبّيّة إلى خوض الحروب الضّارية. وتجدر الإشارة إلى أنّ نفور برلين من إغاثة اليونان وهي على حافّة الإفلاس، إنّما أخلّ بروحيّة الصّالح العامّ الّذي يميّز أوروبّا الجماعيّة، فأنجيلا ميركل لم تقرّر تجاوز المعارضة الشّعبيّة والموافقة على إقراض اليونان، إلاّ عندما امتدّت أزمة اليونان لتشمل منطقة اليورو بكاملها، وكانت النّتيجة أن عاقب النّاخبون حزبها في انتخابات ألمانيا الغربيّة المحلّيّة، ما كبّد المسيحيّين الدّيموقراطيّين الخسارة الأكبر منذ الحرب العالميّة الثّانية.
وممّا لا شكّ فيه أنّ الاتّحاد الأوروبّيّ يشهد إعادة تأميم للحياة السّياسيّة في كافّة أرجائه، فما حدث في العام 2005 لم ينبئ خيرًا، إذ رفض النّاخبون الهولنديّون والفرنسيّون آنذاك معاهدةً دستوريّة كان من شأنها توطيد القوام القانونيّ والسّياسيّ للاتّحاد الأوروبّيّ على حدٍّ سواء.
وكذلك، رفض الإيرلنديّون بدورهم معاهدة لشبونة عام 2008، الّتي حلّت محلّ النّصّ الأوّل، إلاّ أنّهم عادوا واعتمدوها عام 2009، بعدما اطمأنّوا إلى أنّ المعاهدة لن تُفقد الدّولة سيطرتها على نظام جباية الضّرائب والحياد العسكريّ. وقد تسلّم الحزب المحافظ في بريطانيا زمام الحكم بعد فوزه بالانتخابات التّشريعيّة، ومن المعلوم أنّه من كبار مناهضي المشروع الأوروبّيّ.
وأينما كان، يبدُ أنّ شعبيّة «اليمين المتطرّف» في أوروبّا تزداد ازديادًا ملحوظًا بعد تأسيس حلف قوميّ جديد مناهض للهجرة، ويسعى إلى تحقيق وزن له في البرلمان الأوروبي. فالتّوجّه اليمينيّ المتعصّب لا يستهدف الأقلّيّات فحسب، بل السّيادة الّتي تتحقّق من خلال الاتّحاد السّياسيّ. فحزب «جوبيك» المجريّ على سبيل المثال، «المصاب» برهاب الأجانب، فاز بأربعة وسبعين مقعدًا في الانتخابات الأخيرة، في الوقت الّذي لم يحصل على أيّ تمثيل في انتخابات عام 2006، وكذلك الأمر في هولندا، وهي الدّولة المعروفة بانفتاحها، حيث حصل حزب اليمين المتطرّف، على نسبة تفوق الـ 15 % من الأصوات، أي كان على بعد سبعة مقاعد فقط من الحزب الفائز.
كما لو أنّ هذه المعوّقات الّتي تزعزع استقرار الاتّحاد الأوروبّيّ لم تكن مقلقة للغاية، حتّى جاء شهر تمّوز/يوليو حاملاً معه تولّي بلجيكا رئاسة الاتّحاد الأوروبّيّ، وهي الدّولة الّتي تتقاذفها ريح الانقسام العاتية ما بين الفلندريّين النّاطقين باللّغة الهولنديّة، والوالون النّاطقين باللّغة الفرنسيّة، وتمنعها منذ انتخابات حزيران/يونيو الماضي من تشكيل حكومة وحدة وطنيّة قابلة للاستمرار. إذًا، من قبيل السّخرية أنّ الدّولة الّتي تقود المشروع الأوروبّيّ اليوم تخوض نزاعات قوميّة، كان القضاء عليها علّة تأسيس الاتّحاد الأوروبّيّ.
إنّ إعادة تأميم السّياسة الأوروبّيّة هو قبل كلّ شيء نتيجة ظهور جيل جديد، فالأوروبّيّون الّذين بلغوا سنّ الرّشد في غصون الحرب العالميّة الثّانية أو الحرب الباردة، يرون في الاتّحاد الأوروبّيّ مخرجًا من تاريخٍ ملطّخ بالدّماء، أمّا الأصغر سنًّا، فرأيهم مختلف، إذ أظهر استطلاع للرّأي أجري حديثًا أنّ عدد الفرنسيّين فوق سنّ الخامسة والخمسين يساوي ضعفي الفرنسيّين ما دون سنّ الثّالثة والسّتّين، في اعتبار الاتّحاد الأوروبّيّ الضّمانة الأقوى للسّلام، ولا عجب أن ينظرالقادة الأوروبّيّين الجدد في جدوى الاتّحاد الأوروبّيّ من منظار حساب التّكاليف والأرباح المكدّسة، وليس باعتباره عقيدة دينيّة لا ينبغي المساس بها.
وفي غضون ذلك، تساهم متطلّبات السّوق العالميّة المقرونة بالأزمة الماليّة، في تقويض اقتصاديّات الرّفاهيّة الأوروبّيّة، فإزاء تأخّر سنّ التّقاعد، وتضاؤل تحقيق الأرباح، غالبًا ما يظهر الاتّّحاد الأوروبّيّ وكأنّه ضحيّة المصائب الجديدة. لذلك، ركّزت الحملات الفرنسيّة المناهضة للمشروع الأوروبّيّ، حنقها على الـ«سّمكريّ البولونيّ» الّذي يستأثر بالوظائف المحلّيّة بسبب سوق العمل الأوروبّيّة المشتركة.
حتمًا، ساهم اتّساع الاتّحاد الأوروبّيّ السّريع باتّجاه الشّرق والجنوب في إضعافه فور غياب التّقارب الّذي كان سائدًا أيّام الاتّحاد الأوروبّيّ المصغّر قبل سقوط جدار برلين، فانغلق الأعضاء الأوائل على أنفسهم، بينما لم يكن الأعضاء الجدد مستعدّين للتّخلّي عن سيادتهم الّتي جاءتهم على طبق من فضّة بعد انهيار الشّيوعيّة، وخير مثال على ذلك تصريح الرّئيس البولونيّ الرّاحل، ليش كاكزينسكي، عقب وصوله إلى الحكم عام 2005، قائلاً «إنّ مستقبل بولونيا هو ما يهمّ الشّعب البولونيّ، وليس مستقبل الاتّحاد الأوروبّيّ».
إنّ ما يفاقم هذا الإرهاق الّذي تعانيه القارّة الأوروبّيّة هو تورّط دولها في حربي العراق وأفغانستان، ففي ألمانيا مثلاً، يعارض حوالى ثلثي الشّعب الوجود العسكريّ في أفغانستان، وهذا الخبر يُفقد الاتّحاد الأوروبّيّ مصداقيّته، ذلك أنّ من صلب أولويّاته رصّ الصفوف على السّاحة العالميّة.
صحيح أنّ علّة وجود الاتّحاد الأوروبّيّ تتمثّل في إعطاء أوروبّا ثقلاً سياسيًّا أكبر، إلاّ أنّ أحدًا لا يؤيّد هذا المسعى، ذلك أنّ التّورّط في النّزاعات البعيدة عن أوروبّا جغرافيًّا، بالإضافة إلى هبوط النّفقات المخصّصة للدّفاع المشترك بسببب الأزمة الماليّة، لا يحثّان الأوروبّيّين على تحمّل مسؤوليّات جديدة.
لقد أبلغني عضو في البرلمان الأوروبّيّ مؤخّرًا «إنّ الاتّحاد الأوروبّيّ بانتظار قادة جدد يأخذون على عاتقهم تبنّي المشروع الأوروبّيّ مجدّدًا». وربّما أفضل ما في حوزة الاتّحاد الأوروبّيّ راهنًا هو المماطلة، حتّى لو استوجب ذلك متابعة التّدهور الحاصل الّذي لا تطال عواقبه دول الاتّحاد الأوروبّيّ فحسب، خصوصًا أنّ إدارة أوباما غير راضية عن تضاؤل الدّور الّذي تؤدّيه أوروبّا على الصّعيد الجيوسياسيّ.
وفي هذا الإطار، أبدى وزير الدّفاع الأميركيّ روبرت غيتس في اجتماع لرؤساء دول حلف شمال الأطلسيّ (nato) في شباط/فبراير الماضي، انزعاجه ممّا سمّاه «افتقار أوروبّا إلى التّنظيم العسكريّ»، قائلاً إنّ في ظلّ اعتراض شريحة كبيرة من الرّأي العامّ والطّبقة السّياسيّة الحاكمة على القوى العسكريّة والأخطار المرتبطة بها، لم يعد الافتقار إلى التّنظيم العسكريّ نعمة مثلما كان في القرن العشرين، بل أصبح في قرننا الواحد والعشرين حجر عثرة يحول دون إرساء أمن حقيقيّ وسلام دائم».
وبينما تحاول الولايات المتّحدة التّخلّص من ديونها ومنح قوّاتها المسلّحة استراحة المقاتل، ستقوم بتقييم حلفائها وفق ما يستطيعون تقديمه، وفي الوقت الرّاهن، أوروبّا عاجزة عن تقديم الكثير، لا بل ستتضاءل مساهمتها بشكل مستمرّ.
واليوم، شبح الحرب بعيد عن أجواء القارّة الأوروبّيّة، فدولها لا ترغب بالدّخول في مواجهات مسلّحة، ولكنّ الخطر الّذي يحدق بها لا يقلّ خطورة، فالسّياسة الأوروبّيّة لن تبقى أوروبّيّة، بل ستتحوّل شيئًا فشيئًا إلى سياسة قوميّة يمينيّة، وقريبًا، لن يبقى من الاتّحاد الأوروبّيّ سوى التّسمية.
منذ ستّين عامًا، أسّس كلّ من جان مونيه، وروبرت شومان، وكونراد أيدنهاور أوروبّا الّتي نعرفها. أمّا اليوم، فالقارّة الأوروبّيّة بحاجة ماسّة إلى جيل جديد من القادة القادرين على إحياء الحلم الأوروبّيٍّ الّذي يلفظ أنفاسه الأخيرة... لكنّهم غائبون...
شارلز كوبشان
أستاذ في الشّؤون الدّوليّة في جامعة جورجتاون
وعضو بارز في مجلس العلاقات الخارجيّة
السفير