المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : القدر والقدرية الغيبية



ابو عمر الحميري
12-06-2010, 04:31 PM
خطر القدرية الغيبية على الأمة

كان معنى الإيمان بالقدر واضحاً في أذهانهم كل الوضوح، ولم يُسمَع أنه قد حصل نقاش أو تساؤلات في هذه المسألة، ولم يَرِد أنه حصل خلاف في هذا الموضوع إلاّ ذلك الحوار الذي حصل بين أبي عبيدة وبين عمر حين قرر عمر العدول عن المضي في سفره إلى الشام وما عدا ذلك فإن المسلمين عموماً كانوا يفهمون القدر كما جاء في الكتاب والسنة، وهو كتابة كل شيء في الوجود في اللوح المحفوظ منذ الأزل، وأن ذلك لا دخل له في أفعال العباد ولا في تكليف الله لهم بالتكاليف الشرعية. وقد ظل الحال كذلك حتى النصف الثاني من القرن الثاني، أي حتى أواسط عصر العباسيين، فحصل من جراء ترجمة الفلسفات الأجنبية كاليونانية والفارسية والهندية غشاوات على الأذهان فنشأ عن معرفة المسلمين لهذه الفلسفات فكرة القضاء والقدر وفشت وطغت على مفهوم القدر، ثم بعد ذلك نشأت القدرية الغيبية ثم فشت في الناس جميعاً وأثرت عليهم وتحكمت في سلوكهم، وكانت من أسباب انحطاط المسلمين، ولما جاء العصر الهابط كانت من أهم العوامل التي حالت دون نهضة المسلمين من كبوتهم. وقد استمر الحال كذلك حتى أوائل الربع الأخير من القرن الرابع عشر الهجري وأوائل النصف الثاني من القرن العشرين الميلادي. وفي هذا الوقت نشأت ثقافة إسلامية جديدة بيّنت واقع القضاء والقدر من ناحية عقلية ورأي الإسلام فيه، وبيّنت كذلك معنى القدر كما ورد في النصوص الشرعية، فكان من جراء هذا البيان أن وضحت مسألة القضاء والقدر عند الكثيرين ممن يهتمون بالإسلام وبالعقائد الإسلامية، . إلاّ أن ذلك لم يؤثر على القدرية الغيبية، ولم يزحزحها عن مكانتها في نفوس المسلمين. أمّا الذين يهتمون بالإسلام وبعقائده وهم جمهرة المسلمين والكثرة الساحقة فيهم فقد ظلوا غارقين في القدرية الغيبية تماماً كما كانت في العصر الهابط بمفهومها في ذلك العصر. وأمّا المثقفون بالثقافة الأجنبية والغربية فقد تأثروا بما عند الغرب مما يشبه القدرية الغيبية مما يدخل في الأقدار حسب مفهومهم ومما في عقائد الغرب من خرافات وترهات، ومن جراء هذا ظلت مسألة القدرية الغيبية دون حل،

وقبل الدخول في جواب السؤال ننبه الجميع إلى أنه يجب أن يلاحظ أن القدر كلمة منفردة هو غير القضاء والقدر كلمتين مجتمعتين. فالقدر كلمة منفردة هو ما قدره الله في الأزل أي ما كتبه في اللوح المحفوظ. والقضاء والقدر كلمتين مجتمعتين هو وقوع الأفعال والأشياء جبراً عن الإنسان بما في ذلك خواص الأشياء. فالقدر غير القضاء والقدر من حيث واقع كل منهما أي من حيث المعنى الحقيقي لكل منهما، وإن كان المعنى الذي ينصرف لأذهان الناس من النطق بأي منهما معنى واحداً هو عدم قدرة الإنسان على الوقوف في وجه ما خطه القلم وما هو مكتوب عليه. وما دام القدر هو غير القضاء والقدر فإنه يظهر بالتدقيق أن الحديث عن القدرية الغيبية وبين القدر، لا بينهما وبين القضاء والقدر، وهو خاص بالقدر وحده، ولا علاقة للقضاء به. لأن المسألة هي في الفعل المقدر والمكتوب لا في الجبر والاختيار، ولذلك يجب أن يُحصر البحث في حصول الفعل أو الشيء من حيث كونه مكتوباً عليه لا من حيث أنه قام به جبراً عنه أو باختياره، أي البحث محصور في القدر كلمة منفردة لا في القضاء والقدر كلمتين مجتمعتين.

وإذا تبين أن البحث إنما هو في القدر فإنه يظهر بوضوح أن القدرية الغيبية نشأت مما اختلط على الناس من معنى القدر ومعنى القدرية الغيبية وعدم تمييزهم بين المعنيين، أو بعبارة أخرى بين واقع القدر وبين ما ينتج عنه من التسليم به ونسيان واقع القدر والاقتصار على ما ينتج عنه من التسليم. للتفريق بينها وبين غيرها هو حديث عن التفريق بين القدرية الغيبية والقدر، فمن جراء هذا الاختلاط وعدم التمييز الدقيق بين المعنيين أو الواقعين نشأت القدرية الغيبية ثم فشت وطغت على معنى القدر، ولذلك لا بد من شرح الواقعين وبيان الفرق بين الاثنين.

أمّا القدر فهو ما قدّره الله في الأزل وما كتبه في اللوح المحفوظ وهذا ما ورد في النصوص الشرعية التي جاءت أدلة على القدر، فالله تعالى حين يقول: (إلاّ آل لوط إنا لمنجّوهم أجمعين إلاّ امرأته قدرنا إنها لمن الغابرين) وحين يقول: (سنّة الله في الذين خلوا من قبل وكان أمر الله قدراً مقدوراً) وحين يقول: (قل لن يصيبنا إلاّ ما كتب الله لنا) وحين يقول: (وما من غائبة في السماء والأرض إلاّ في كتاب مبين) وحين يقول: (وما يعمّر من معمّر ولا ينقص من عمره إلاّ في كتاب) وحين يقول: (وما تسقط من ورقة إلاّ يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلاّ في كتاب مبين)، فالله تعالى يقول ذلك وأمثاله إنما يعني أنه ما من شيء في هذا الوجود إلاّ قد قدره الله في الأزل وكتبه في كتاب مبين، والرسول صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (لا تَسأل المرأة طلاق أختها لتستفرغ صفحتها ولتنكح فإن لها ما قدر الله لها)، وحين يقول (في حديث موسى) قال له آدم: يا موسى اصطفاك الله بكلامه وخط لك بيده، أتلومني على أمر قد قدره الله عليّ قبل أن يخلقني؟ وحين يقول: (كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وعرشه على الماء) وحين يقول: (إن أول ما خلق الله القلم فقال له: اكتب فقال: رب وما أكتب قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة) وحين يقول: (جفّ القلم بما أنت لاق) وحين يقول: (واعلم أن الأمّة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلاّ بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلاّ بشيء قد كتبه الله عليك، رُفعت الأقلام وجفت الصحف)، حين يقول الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك وأمثاله إنما يعني أنه ما من شيء في هذا الوجود إلاّ قدره الله في الأزل وكتبه على الإنسان وأنه لا يقع في الوجود شيء ولا يحدث فعل في الكون إلاّ كان مقدراً في الأزل ولا يقع إلاّ وفق ما كتبه الله وقدره، فهذا هو معنى القدر، وهذا هو المعنى الذي تضمنته النصوص الشرعية ودلت عليه دلالة واضحة لا لبس فيها ولا إبهام، وهذا المعنى هو الذي يعتنقه المسلمون، فالمسلم يعرف أنه لا يقدر أن يفعل غير ما قدره الله عليه أن يفعله، ويعرف أنه لا يستطيع أن يحقق ما يسعى لتحقيقه إلاّ حسب ما هو مقدر وأنه لا ينجح إلاّ إذا كان الله قد قدر له النجاح، يعرف هذا ويؤمن به لأن هذا ما دلت عليه الآيات (قل لن يصيبنا إلاّ ما كتب الله لنا)، وما نطقت به الأحاديث (لم يضروك إلاّ بشيء قد كتبه الله عليك. رفعت الأقلام وجفت الصحف). وبناء على ذلك آمن بالقدر بهذا المعنى وبهذا الفهم، فلم يكن هناك غبار على عقيدته، ولم تشبها أية شائبة، إلاّ أن المسلمين بعد أن غزتهم الفلسفات الأجنبية وأوجدت غشاوة على أذهانهم قد غشت أذهانهم غشاوة على هذا المعنى ونقلتهم من مجرد الإيمان بهذا المعنى والوقوف عند حد الإيمان، إلى ملاحظة هذا الإيمان عند القيام بأفعالهم وجعل أفعالهم مسيّرة بهذا الإيمان، سائرة بحسبه فحصل عندهم التسليم بالمقدور، أي أن ما قدره الله لا بد واقع لا محالة سواء فعلوا كذا أم فعلوا كذا، مع أنهم يوقنون أنه يستحيل على العبد الاطلاع على القدر، أي يستحيل الاطلاع على أن الله قدر ذلك أم قدر ذاك، فنشأ من جراء ذلك ما يُعرف بالقدرية الغيبية، وصارت شيئاً آخر غير الإيمان بالقدر، وذلك لأن الإيمان بالقدر هو التصديق الجازم بأنه ما من شيء في هذا الوجود إلاّ قد كتبه الله في اللوح المحفوظ وقدّره منذ الأزل، أمّا القدرية الغيبية فهي التسليم بالمقدور، وفرقٌ بين الإيمان بالقدر، وبين التسليم بالمقدور، لأن التسليم بالمقدور نتيجة التصديق الجازم بأنه ما من شيء في هذا الوجود إلاّ قد كتبه الله وقدّره منذ الأزل، فهي تصديق جازم مضاف إليه التسليم المطلق بأن ما قُدر سيقع وأنه لن يقع شيء لم يسبق أن قدره الله، ومع الزمن تُنوسي التصديق الجازم وغُض النظر واقتصر المعتقَد على التسليم المطلق، إذ لم يعد التصديق الجازم منفرداً بالاعتقاد بل لم يعد هو أساس الموضوع ولا أساس البحث، وإنما النتيجة وحدها أصبحت هي الموضوع وهي البحث، وصار التسليم المطلق هو الموضوع وهو محل الاعتقاد ومحل البحث دون ملاحظة التصديق الجازم. فالقدرية الغيبية وإن كانت في نفس المعتقِد تصديقاً جازماً وتسليماً مطلقاً بالمقدور، ولكنها في تصرفات المعتقِد وفي المعتقدات الناجمة عنها هذه التصرفات هي تسليم مطلق ليس غير، دون ملاحظة التصديق الجازم أثناء الاعتقاد وأثناء التصرفات وعند القيام بالأفعال، ومن هنا صار المسلم إذا أخفق يقول: هذا فعل الله وهذا المقدّر، وإذا أخفق مرات ونجح في المرة الأخيرة يقول: هذا هو الوقت المقدر لتحقيق الشيء وقد نجحنا فيه لأنه أتى في الوقت المقدر له، وهكذا ينسب الإخفاق للقدر وينسب النجاح للقدر في معظم أعماله إن لم يكن جميعها، ويرى أنه من العبث أن يحاول مجاوزة المقدور، فالمقدر لا بد أن يقع ولا توجد قوة يمكن أن تحول دون وقوعه.

هذه هي القدرية الغيبية، وهي التسليم بالمقدور دون ملاحظة التصديق الجازم بالقدر، أي هي نقل المسألة من مجرد الإيمان إلى ما ينتج عنه وهو التسليم من غير ملاحظة أن المسألة مسألة إيمان ليس غير بل دون ملاحظة هذا الإيمان، فجاءت من جراء ذلك نسبة الأفعال كلها إلى القدر، وبالتالي نسبتها إلى الله تعالى، وعلى ذلك فإن القدرية الغيبية لم تأت من القدر ولا من الإيمان بالقدر، وإنما أتت وتأتي من التسليم بالمقدور، أي إنما تأتي من ملاحظة القدر حين القيام بالفعل حتى ولو اقترنت هذه الملاحظة بملاحظة الإيمان، فإن مجرد ملاحظة القدر حين القيام بالأعمال هو الذي يأتي بالقدرية الغيبية ويشل إرادة الإنسان، فهذه الملاحظة للقدر عند القيام بالفعل أو عندما يهم بالقيام به، هي محل الخطر وهي مكمن الانزلاق، ولذلك لا بد من إدراك واقعها، وإدراك واقع الإيمان بالقدر، وإدراك الفرق بينهما، وإدراك معنى الإيمان بالقدر إدراكاً واضحاً بأنه تصديق جازم ليس غير، أو بتعبير آخر أنه تصديق جازم لم ينتج عنه التسليم بالمقدور، بل هو مجرد تصديق جازم بالقدر دون أن ينتج عنه أي شيء أو يتعلق به أي شيء وذلك لأن الخطر إنما أتى من التسليم الذي نتج عن الإيمان، أو بتعبير آخر من ملاحظة القدر عند القيام بالفعل أو عندما يهم بالقيام بالفعل، ولا يمكن تجنب هذا الخطر إلاّ من إفراد التصديق الجازم بالقدر إفراداً تاماً والحيلولة دونه ودون أن تكون له نتائج ودون أن يقترن بالنتائج، بل دون أن يقترن به أي شيء، لأنه مسألة تتعلق بالإيمان أي تتعلق بالعقائد ولا تتعلق بالأفعال، فمحلها العقائد وصفات الله لا أفعال العباد، فهي مثل الاعتقاد بوجود الله وبوحدانيته وقدرته وغير ذلك من الصفات لأنها داخلة في الاعتقاد بعلم الله، فلا بد من إفرادها وجعلها موضوعاً آخر غير الأفعال، لأن اقترانها بالأفعال هو الذي سبّب الانزلاق، فالعصر الهابط تفشت فيه القدرية الغيبية من جراء عدم وضوح معنى الإيمان بالقدر، أو بتعبير آخر من عدم تجريد الإيمان بالقدر عن جميع الأشياء وعن جميع الملابسات، فوُجدت ملاحظة القدر عند القيام بالأفعال، أي وُجد التسليم بالقدر، فصار النجاح يُنسب إلى القدر والفشل كذلك يُنسب إلى القدر والطاعة تُنسب إلى القدر والمعصية كذلك تُنسب إلى القدر، وهكذا تُنسب الأفعال كلها إلى القدر، ونتج عن ذلك القعود عن عظائم الأعمال، وعدم اقتحام الصعوبات والاستسلام المطلق لكل ما ينال الناس من خير أو شر، لأنه كله مقدور ولا يقع في ملك الله إلاّ ما يشاء ولا يحصل إلاّ ما قدره الله.

فالقدرية الغيبية هي ملاحظة القدر في كل شيء وفي كل فعل وفي كل ما يقع وما لم يقع أي هي الإيمان بالقدر والتسليم به، وهي من أخطر العقائد على الأمّة ومن أشدها ضرراً، وهي فظيعة النتائج، وهي مهلكة للفرد وللأمة وللمجتمع، أياً كان هذا المجتمع، لذلك لا بد من مقاومتها ولا بد من التفريق بينها وبين الإيمان بالقدر، ، فنحن لا نعلم قبل وقوع الشيء أو قبل الإخفاق في تحقيق الأمر أي شيء عما قدّره الله، هل قدّر وقوع الفعل أو قدّر عدم وقوعه، فلا يصح أن نلاحظ المقدور لاننا لا نعلمه ويستحيل علينا أن نعلمه، لذلك لا نسلم به ولا نستسلم له، بل نجعل حاجزاً كثيفاً بين الذهن وبينه ونمتنع بشكل قاطع عن تصوره أو ملاحظته أو مجرد تحريك الذهن بالتفكير به بل نحصر همّنا بالأمر،

ابو عمر الحميري
12-06-2010, 04:51 PM
هذا الموضوع هو جزء من نشرة اصدرها الحزب عام 1969 حاولت ان انسخما كاملة لكن لطولها طلب مني اختصارها فاختصرت منها حتى وصلت الى الحد المطلوب فأرجو اجراء نقاش وحوار حول الموضوع والسلام .