مؤمن
02-06-2010, 10:43 AM
أُسُـسُ النَّهْـضَـةِ
داود حمدان
من منشورات
حزب التحرير
القدس
1373هـ 1953م.
الطبعة الثانية
مطابع دار الكشاف - بيروت
بسم الله الرحمن الرحيم
....
حال وحال
حالان متشابهان، هما حال العالم قبل أربعة عشر قرناً وربع القرن، أي قبل مولد سيدنا محمد صلوات الله عليه، وحال العالم اليوم.
كان العالم قبل مولد الرسول ينقسم إلى قوتين كبيرتين: الرومان في الغرب، وفارس في الشرق. وكانت هاتان القوتان تسيطران على الأمم، وبيدهما مصائر العالم. وكانتا تتنازعان بينهما: لا تخلصان من حرب إلا الى حرب. وكانت الحرب بينهما سجالاً: تتناوبان الغلب والهزيمة بين الحين والحين. ولم يكن ما عند هاتين الدولتين من حضارة – وهما في عنفوان مجدهما – بصالح لأن يأخذ بيد العالم إلى السعادة، ولا بقادر على أن يرسم للناس صورة العالم المثالي، الذي تنسجم فيه الشعوب في نظام واحد ومبدأ واحد. فكيف وقد كانت حضارتهما حين ذاك في آخر عهدها بالحياة ؟ ! فقد طغت عليهما المادة وغاضت منهما الروح، وانعدمت المبادئ، وانحلت الأخلاق، وفسدت المشاعر العامة، واضطربت العقائد، وكثرت الفرق والمذاهب، واستعلت طبقة على طبقة، واستغلت فئة خاصة عامة الناس، وحُرِمَ الناس السعادة التي ينشدونها
وامتدت آثار الشيخوخة إلى أهم خصائص الدولتين الكبيرتين، ففقدتا قوة الابتكار وملكة الإنشاء، وانحطتا إلى درك التقليد.
لا صلاح إلا برسالة الهية
فكان من غير الممكن أن يصلح فسادهما وفساد العالم إلا رسالة الهية لا يقتصر اصلاحها على ناحية دون ناحية، ولا على قوم دون قوم، بل تكون رسالة عامة تُصْلِحُ البشرية إصلاحاً إنقلابياً:
تصلح نفس الإنسان من حيث هو انسان إصلاحاً يتناوله جميعه في مختلف مشاكله النفسية، ومختلف دياره وعصوره بطريقة انقلابية سريعة.
فأين هذه الرّسالة التي تتمثل فيها هذه الصفات؟ ومتى تبرز للعيان؟
إنّ العالم لفي حاجة، وإنّ الإنسانية لفي شوق عظيم. فلننتظر أن يكون ذلك قريباً....
العرب قبل محمد
وكان العرب بين هاتين القوتين شعباً مؤلفاً من قبائل تتقاتل على اليسير والجليل، لا تؤلف بينها فكرة ولا تربطها رابطة. وكانت هذه القبائل واقعة في دائرة نفوذ الدولتين العظيمتين، وموزعة القيادة بينهما، فمنها ما يخضع لفارس، ومنها ما يخضع للروم.
نواطير....
وكانت كل من فارس والروم تتخذ من عملائها في أطراف الجزيرة نواطير يحمون ملكها من العرب أنفسهم. وكانت تسميهم ملوكاً وتغدق عليهم أنواع الترف والمجد الزائف.
على هذه الحال كان العرب. وعلى سوء هذه الحال كان أسوأ ما فيها الفئات الحاكمة.
في هذه الحال ولد سيد الكون محمد صلى الله عليه وسلم.
رسالة محمد
وبعد، فما هي رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ؟ وما أثر هذه الرسالة في العالم ؟ وما هي طريقته التي أدى بها هذه الرسالة ؟
هذه أسئلة يجب على المسلم أن يعرف إجوبتها.
رسالة محمد صلى الله عليه وسلم هي الإسلام. والإسلام دين سماوي نزل لتنظيم علاقة الإنسان بالله في العقائد والعبادات، ولتنظيم علاقة الإنسان بنفسه في الأخلاق والسلوك الشخصي في المطعومات والملبوسات، ولتنظيم علاقة الإنسان بغيره في المعاملات والعقوبات. ليحصل من أُثر هذا التنظيم طمأنينة النفس، وتهذيب الغرائز، وانسجام المجتمع الانساني. وبهذا تحصل السعادة للفرد والمجموع.
نسخ الأديان بالإسلام
لقد كانت الأديان السابقة تهدف إلى تنظيم العقائد والعبادات والأخلاق والسلوك الشخصي، وندر أن تعرضت لشئ من علاقات المجتمع. وكانت مع ذلك رسالات خاصة لا تتجاوز الأقوام الذين نزلت لهم، لأنها راعت أحوالهم وظروفهم، فكانت بطبيعتها مؤقتة تنتهي بانتهاء ما اكتنفها من أحوال وظروف.
وأما الاسلام فإنه بالإضافة إلى تفصيل العقائد والعبادات ، وما حرمه من المطعومات والملبوسات ( وهي التي تعتبر سلوكاً شخصياً لا سواها ) بالإضافة إلى ذلك قد نظم علاقات المجتمع خير تنظيم. وكانت رسالته عامة لجميع الناس، فلم يُراع فيها حالة خاصة، ولا ظرفا خاصا، وإنّما عولجت بها مشاكل الإنسان من حيث هو إنسان.
وقد نسخ الإسلام ما قبله من الديانات نسخاً تاماً مرة واحدة جملة وتفصيلا، ولهذا لا يقال: ( شرع من قبلنا شرع لنا ما لم ينسخ ) لأنَّ شرع من قبلنا إنّما نزل لغيرنا، فليس مفروضاً فيه من الأصل أن يكون شرعاً دائماً حتى لأولئك القوم، ولا مفروضاً فيه أن يكون لغيرهم ، ولأنّ الإسلام كل لا يتجزأ، وشرع مستقل عن غيره من الأديان. وقد شرع ما شرعه من أمر ونهي ابتداء غير مراع أنَّ ما شرعه كان ديناً سابقاً أو عادة قديمة.
ولهذا لا نلزم بشئ من أوامر الأديان السابقة حتى ولو صحت روايتها بالدليل القاطع. بل لا يصح أن يعمل بها. وعلينا أن نطلب الحكم الشرعي من الإسلام بالطرق المعروفة في استنباط الأحكام. والدليل على هذا أنه كان ثابت لدينا أنّ شريعة التوراة كانت ( النفس بالنفس والعين بالعين الخ........) فقد قال الله تعالى:
وكتبنا عليهم فيها أنّ النفسَ بالنفسِ والعين بالعين والأذن بالأذن . الآية ،
ولا يوجد في القرآن الكريم ما يدل على نسخ هذا الحكم بالذات . ومع هذا فلم نلزم بالعمل به، وإنّما أخذ المسلمون حكم العقوبة في هذه المسائل بالاستنباط من الاسلام فكان الحكم مخالفاً لما في التوراة. وما أمر به الإسلام من عقيدة وغيرها كالتوحيد والصدق والأمانة ، إنّما نعمل به لأنه أمر الإسلام، لا أي دين قبل الإسلام. وعملنا به لا لأنه شرع من قبلنا بل لأنه شرع اسلامي مستقل عن أي اعتبار.
الإسلام عملي
ثُمَّ أنَّ الإسلام تناول هذا التنظيم من ناحيته العملية، فلم يبن مسائل العقائد ومحاسن الأخلاق، وحدود العلاقات بين الناس بياناً فلسفياً كما يُؤلَّفُ الكتاب، ولكنَّ بيانه كان مقروناً بالعمل، وكثيراً ما سبق العمل الكلام، فقد توضأ النبي صلى الله عليه وسلم وصلّى ، وقال: صلّوا كما رأيتموني أصلي.
إنّ الإسلام لا يقر العقيدة دون العمل، ولذلك كان العمل جزءاً من تعريف الإيمان، وجزءاً من تعريف الفقه، فالإيمان هو: ( ما استقر في القلب عن يقين، ونطق به اللسان، وظهر عملاً على الجوارح ) والفقه هو: ( علم بالمسائل الشرعية العملية المستنبطة من أدلتها التفصيلية ) ...
وبهذا يفرق بين الفلسفة والنبوة، وبين الفلاسفة والأنبياء، فهذه جمهورية أفلاطون والمدينة الفاضلة عند الفلاسفة، قد وجدت من حيث التأليف من مئات، بل من ألوف السنين، ولكن لم يحقق في الواقع على أيدي هؤلاء الفلاسفة أي مجتمع فاضل.
أثر الإسلام
أمّا الإسلام فقد حقق المجتمع الفاضل المثالي في أقل من ربع قرن. ولم يلحق الرسول بالرفيق الأعلى حتى كان قد أرسل رسله إلى هرقل وكسرى والمقوقس ونجاشي الحبشة، وحتى كانت دولة الإسلام مرهوبة الجانب تتأهب جيوشها لتندفع إلى الشّرق والغرب. وما لبثت أن إندفعت تحمل معها النّور والهًدى والسّعادة. تحملُ الحضارة الحقة . وهي المفاهيم الصحيحة للحياة المبنية على عقيدة الإسلام، والتي تصور الحياة بأنها مزج المادة بالرّوح، أي جعل الأعمال مسيرة بأوامر الله ونواهيه.
وهذه الحضارة لم تقسم الناس إلى طبقات من رجال دين وعامة، أو سادة ومسودين. وجعلت ميزان التفاضل عند الله التقوى، وجعلت النّاس أمام القانون سواسية، وأطلقت للمواهب والمَلَكات العنان لتصل إلى أقصى غايتها في سبيل الخير والعمل من أجل ترفيه الحياة، وأتاحت للإنسان بلوغ الكمال الإنساني حسبما هو مرتب في فطرة كلّ إنسان، وأوجدت الإنسجام والتناسق في تشريعها وأذواقها ومشاعرها العامة ، وقواعدها الكلّية في الإجتماع والإقتصاد والسياسة، ونظرت إلى العالم كلّه نظرة إنسانية واحدة، وجعلت مجتمعها واحداً لا يتجزأ: ليس فيه عنصرية ولا قومية ولا طائفية، وليس فيه فردية مطلقة تخرج على مصالح المجتمع بأنانيتها، أو على قواعده العامة بتبذلها، ولا جماعية طاغية تجعل الفرد كالسِّنِ بالدولاب، أو تغفل فطرته وإمكانياته فتفرضه إنساناً آلياً تُقاسُ حياته بالمسطرة.
داود حمدان
من منشورات
حزب التحرير
القدس
1373هـ 1953م.
الطبعة الثانية
مطابع دار الكشاف - بيروت
بسم الله الرحمن الرحيم
....
حال وحال
حالان متشابهان، هما حال العالم قبل أربعة عشر قرناً وربع القرن، أي قبل مولد سيدنا محمد صلوات الله عليه، وحال العالم اليوم.
كان العالم قبل مولد الرسول ينقسم إلى قوتين كبيرتين: الرومان في الغرب، وفارس في الشرق. وكانت هاتان القوتان تسيطران على الأمم، وبيدهما مصائر العالم. وكانتا تتنازعان بينهما: لا تخلصان من حرب إلا الى حرب. وكانت الحرب بينهما سجالاً: تتناوبان الغلب والهزيمة بين الحين والحين. ولم يكن ما عند هاتين الدولتين من حضارة – وهما في عنفوان مجدهما – بصالح لأن يأخذ بيد العالم إلى السعادة، ولا بقادر على أن يرسم للناس صورة العالم المثالي، الذي تنسجم فيه الشعوب في نظام واحد ومبدأ واحد. فكيف وقد كانت حضارتهما حين ذاك في آخر عهدها بالحياة ؟ ! فقد طغت عليهما المادة وغاضت منهما الروح، وانعدمت المبادئ، وانحلت الأخلاق، وفسدت المشاعر العامة، واضطربت العقائد، وكثرت الفرق والمذاهب، واستعلت طبقة على طبقة، واستغلت فئة خاصة عامة الناس، وحُرِمَ الناس السعادة التي ينشدونها
وامتدت آثار الشيخوخة إلى أهم خصائص الدولتين الكبيرتين، ففقدتا قوة الابتكار وملكة الإنشاء، وانحطتا إلى درك التقليد.
لا صلاح إلا برسالة الهية
فكان من غير الممكن أن يصلح فسادهما وفساد العالم إلا رسالة الهية لا يقتصر اصلاحها على ناحية دون ناحية، ولا على قوم دون قوم، بل تكون رسالة عامة تُصْلِحُ البشرية إصلاحاً إنقلابياً:
تصلح نفس الإنسان من حيث هو انسان إصلاحاً يتناوله جميعه في مختلف مشاكله النفسية، ومختلف دياره وعصوره بطريقة انقلابية سريعة.
فأين هذه الرّسالة التي تتمثل فيها هذه الصفات؟ ومتى تبرز للعيان؟
إنّ العالم لفي حاجة، وإنّ الإنسانية لفي شوق عظيم. فلننتظر أن يكون ذلك قريباً....
العرب قبل محمد
وكان العرب بين هاتين القوتين شعباً مؤلفاً من قبائل تتقاتل على اليسير والجليل، لا تؤلف بينها فكرة ولا تربطها رابطة. وكانت هذه القبائل واقعة في دائرة نفوذ الدولتين العظيمتين، وموزعة القيادة بينهما، فمنها ما يخضع لفارس، ومنها ما يخضع للروم.
نواطير....
وكانت كل من فارس والروم تتخذ من عملائها في أطراف الجزيرة نواطير يحمون ملكها من العرب أنفسهم. وكانت تسميهم ملوكاً وتغدق عليهم أنواع الترف والمجد الزائف.
على هذه الحال كان العرب. وعلى سوء هذه الحال كان أسوأ ما فيها الفئات الحاكمة.
في هذه الحال ولد سيد الكون محمد صلى الله عليه وسلم.
رسالة محمد
وبعد، فما هي رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ؟ وما أثر هذه الرسالة في العالم ؟ وما هي طريقته التي أدى بها هذه الرسالة ؟
هذه أسئلة يجب على المسلم أن يعرف إجوبتها.
رسالة محمد صلى الله عليه وسلم هي الإسلام. والإسلام دين سماوي نزل لتنظيم علاقة الإنسان بالله في العقائد والعبادات، ولتنظيم علاقة الإنسان بنفسه في الأخلاق والسلوك الشخصي في المطعومات والملبوسات، ولتنظيم علاقة الإنسان بغيره في المعاملات والعقوبات. ليحصل من أُثر هذا التنظيم طمأنينة النفس، وتهذيب الغرائز، وانسجام المجتمع الانساني. وبهذا تحصل السعادة للفرد والمجموع.
نسخ الأديان بالإسلام
لقد كانت الأديان السابقة تهدف إلى تنظيم العقائد والعبادات والأخلاق والسلوك الشخصي، وندر أن تعرضت لشئ من علاقات المجتمع. وكانت مع ذلك رسالات خاصة لا تتجاوز الأقوام الذين نزلت لهم، لأنها راعت أحوالهم وظروفهم، فكانت بطبيعتها مؤقتة تنتهي بانتهاء ما اكتنفها من أحوال وظروف.
وأما الاسلام فإنه بالإضافة إلى تفصيل العقائد والعبادات ، وما حرمه من المطعومات والملبوسات ( وهي التي تعتبر سلوكاً شخصياً لا سواها ) بالإضافة إلى ذلك قد نظم علاقات المجتمع خير تنظيم. وكانت رسالته عامة لجميع الناس، فلم يُراع فيها حالة خاصة، ولا ظرفا خاصا، وإنّما عولجت بها مشاكل الإنسان من حيث هو إنسان.
وقد نسخ الإسلام ما قبله من الديانات نسخاً تاماً مرة واحدة جملة وتفصيلا، ولهذا لا يقال: ( شرع من قبلنا شرع لنا ما لم ينسخ ) لأنَّ شرع من قبلنا إنّما نزل لغيرنا، فليس مفروضاً فيه من الأصل أن يكون شرعاً دائماً حتى لأولئك القوم، ولا مفروضاً فيه أن يكون لغيرهم ، ولأنّ الإسلام كل لا يتجزأ، وشرع مستقل عن غيره من الأديان. وقد شرع ما شرعه من أمر ونهي ابتداء غير مراع أنَّ ما شرعه كان ديناً سابقاً أو عادة قديمة.
ولهذا لا نلزم بشئ من أوامر الأديان السابقة حتى ولو صحت روايتها بالدليل القاطع. بل لا يصح أن يعمل بها. وعلينا أن نطلب الحكم الشرعي من الإسلام بالطرق المعروفة في استنباط الأحكام. والدليل على هذا أنه كان ثابت لدينا أنّ شريعة التوراة كانت ( النفس بالنفس والعين بالعين الخ........) فقد قال الله تعالى:
وكتبنا عليهم فيها أنّ النفسَ بالنفسِ والعين بالعين والأذن بالأذن . الآية ،
ولا يوجد في القرآن الكريم ما يدل على نسخ هذا الحكم بالذات . ومع هذا فلم نلزم بالعمل به، وإنّما أخذ المسلمون حكم العقوبة في هذه المسائل بالاستنباط من الاسلام فكان الحكم مخالفاً لما في التوراة. وما أمر به الإسلام من عقيدة وغيرها كالتوحيد والصدق والأمانة ، إنّما نعمل به لأنه أمر الإسلام، لا أي دين قبل الإسلام. وعملنا به لا لأنه شرع من قبلنا بل لأنه شرع اسلامي مستقل عن أي اعتبار.
الإسلام عملي
ثُمَّ أنَّ الإسلام تناول هذا التنظيم من ناحيته العملية، فلم يبن مسائل العقائد ومحاسن الأخلاق، وحدود العلاقات بين الناس بياناً فلسفياً كما يُؤلَّفُ الكتاب، ولكنَّ بيانه كان مقروناً بالعمل، وكثيراً ما سبق العمل الكلام، فقد توضأ النبي صلى الله عليه وسلم وصلّى ، وقال: صلّوا كما رأيتموني أصلي.
إنّ الإسلام لا يقر العقيدة دون العمل، ولذلك كان العمل جزءاً من تعريف الإيمان، وجزءاً من تعريف الفقه، فالإيمان هو: ( ما استقر في القلب عن يقين، ونطق به اللسان، وظهر عملاً على الجوارح ) والفقه هو: ( علم بالمسائل الشرعية العملية المستنبطة من أدلتها التفصيلية ) ...
وبهذا يفرق بين الفلسفة والنبوة، وبين الفلاسفة والأنبياء، فهذه جمهورية أفلاطون والمدينة الفاضلة عند الفلاسفة، قد وجدت من حيث التأليف من مئات، بل من ألوف السنين، ولكن لم يحقق في الواقع على أيدي هؤلاء الفلاسفة أي مجتمع فاضل.
أثر الإسلام
أمّا الإسلام فقد حقق المجتمع الفاضل المثالي في أقل من ربع قرن. ولم يلحق الرسول بالرفيق الأعلى حتى كان قد أرسل رسله إلى هرقل وكسرى والمقوقس ونجاشي الحبشة، وحتى كانت دولة الإسلام مرهوبة الجانب تتأهب جيوشها لتندفع إلى الشّرق والغرب. وما لبثت أن إندفعت تحمل معها النّور والهًدى والسّعادة. تحملُ الحضارة الحقة . وهي المفاهيم الصحيحة للحياة المبنية على عقيدة الإسلام، والتي تصور الحياة بأنها مزج المادة بالرّوح، أي جعل الأعمال مسيرة بأوامر الله ونواهيه.
وهذه الحضارة لم تقسم الناس إلى طبقات من رجال دين وعامة، أو سادة ومسودين. وجعلت ميزان التفاضل عند الله التقوى، وجعلت النّاس أمام القانون سواسية، وأطلقت للمواهب والمَلَكات العنان لتصل إلى أقصى غايتها في سبيل الخير والعمل من أجل ترفيه الحياة، وأتاحت للإنسان بلوغ الكمال الإنساني حسبما هو مرتب في فطرة كلّ إنسان، وأوجدت الإنسجام والتناسق في تشريعها وأذواقها ومشاعرها العامة ، وقواعدها الكلّية في الإجتماع والإقتصاد والسياسة، ونظرت إلى العالم كلّه نظرة إنسانية واحدة، وجعلت مجتمعها واحداً لا يتجزأ: ليس فيه عنصرية ولا قومية ولا طائفية، وليس فيه فردية مطلقة تخرج على مصالح المجتمع بأنانيتها، أو على قواعده العامة بتبذلها، ولا جماعية طاغية تجعل الفرد كالسِّنِ بالدولاب، أو تغفل فطرته وإمكانياته فتفرضه إنساناً آلياً تُقاسُ حياته بالمسطرة.