المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : معلومات عن أهم أساليب ووسائل السياسة الأمريكية



shareff
27-06-2008, 02:43 AM
معلومات عن أهم أساليب ووسائل السياسة الأمريكية
الحكومات في الأنظمة الرأسمالية في أوروبا وأمريكا ما هي إلا أدوات لتنفيذ إرادة الرأسماليين من أصحاب الأملاك والشركات الكبرى، والرأسماليون هم الذين يقفون وراء تنصيب الرؤساء في بلادهم، ولا أدل على ذلك من الانتخابات الأمريكية الأخيرة، وقد كشف عن ذلك الإحصائيات التي بينت نسب التفاوت في الدعم من قبل القطاعات التي أيدت كلا من المرشحَيْن، فقد اتضح أن الرأسماليين أوصلوا مرشح الحزب الجمهوري بوش إلى الرئاسة. ولما كانت السياسة الأمريكية في الداخل والخارج تهدف لتأمين مصالح الطبقة الرأسمالية، نفذت في عهد الرئيس ريغان إرادة تلك الفئة المتنفذة داخل الولايات المتحدة، واتجهوا نحو سياسات اقتصادية مغايرة للنمط الذي كان سائداً منذ عهد الرئيس روزفلت. ففي فترة حكم الرئيس الأمريكي رونالد ريغان، استغلت الإدارة الأمريكية المناخ السياسي الدولي لتطبيق تحولها الاقتصادي الجديدعلىالعالم، وهو التحول إلى سياسة السوق الحر التي تلبي أطماع الرأسماليين في الثراء اللامحدود، فكان أن عمل ريغان على التمهيد لانفراد الولايات المتحدة في الموقف الدولي من أجل بسط سيطرتها على العالم أجمع، وتطبيق سياساتها الاستعمارية بوسائل وأساليب جديدة، فتمكنت إدارة ريغان من القضاء على آمال الاتحاد السوفيتي في منافسة الولايات المتحدة على الصعيد السياسي الدولي، خاصة بعد أن رفع ريغان ميزانية الدفاع الأمريكية بما فيها برنامج حرب النجوم. أما بريطانيا فكانت قد انتهت إلى السير وراء الولايات المتحدة مع تراجع قدرتها على التشويش عليها كما كانت تنتهج في سياستها السابقة، وقد ذكر بريجنسكي مستشار الأمن القومي الأمريكي الأسبق في كتابه "رقعة الشطرنج الكبرى" أن بريطانيا قبلت بأن تكون ذيلا للولايات المتحدة. وأما فرنسا فقد كانت تحاول تحصين مواقع نفوذها في إفريقيا ضد أعمال الكنس التي كانت تتلقاها من الولايات المتحدة إلى أن وصلت إلى هذه الحالة من الخسران لمعظم مناطق نفوذها، عدا عن حالة من التخبط الداخلي هذه الأيام. وما أن ظهر انفراد الولايات المتحدة في الموقف الدولي سنة 1991م وأعلنت عن النظام العالمي الجديد، حتى شرعت بتفعيل سياسة السوق الحر على المستوى الدولي ،من أجل نهب ثروات ومقدرات دول وشعوب العالم. وكان من أهم الأعمال السياسية التي قامت بها أمريكا لتحقيق ذلك، هو السيطرة على مناطق النفط الذي يمثل عصب الاقتصاد العالمي، عن طريق حرب الخليج الثانية، والتي أسفرت فعلا عن وضع بترول المنطقة تحت التحكم الأمريكي المباشر. كما جندت كافة الوسائل والأساليب من أجل تطبيق سياساتها الدولية بهدف ضمان زعامتها السياسية وضمان تفوقها الاقتصادي على العالم. وقبل التطرق لأهم الأساليب والوسائل وأكثرها فاعلية في نجاح الولايات المتحدة بسياساتها الدولية، لابد من توضيح موجز لسياسة "السوق الحر" التي تسعى لتطبيقها في العالم.
فاقتصاد السوق الحر -وإن كان مبنيا على أساس الاقتصاد الرأسمالي- فإنه يتميز بمنح كل شركة أو تاجر "فرد" حرية التصرف في ما يملكه من رأسمال أو وسائل لجني المال من "قوة بدنية أو قدرة فكرية" وعرضه على السوق، وللسوق حرية تحديد السعر على أساس آلية مبنية على الكمية الممنوحة من السلع أو الخدمات (العرض)، والكمية المراد شراؤها من السوق (الطلب)، والنقطة التي يلتقي فيها العرض والطلب تسمى نقطة توازن السوق (الثمن). لكن سياسة حرية السوق الحالية والتي ترتكز إلى نظرية البروفيسور الأمريكي فريدمان، تقضي بإنهاء تدخل الدولة في السوق أو محاولة التدخل في آلية سيره، وذلك بتقليص الضرائب على الشركات والمؤسسات الرأسمالية أو الأفراد. كما تقضي برفض محاولة حماية الشركات والصناعات المحلية، وفتح الأسواق الداخلية بكافة قطاعاتها وخاصة الخدمات، والحد من تملك الدولة للقطاعات الإنتاجية الأساسية عن طريق خصخصتها، وإنهاء النظم والقوانين والضوابط الموضوعة على الأسواق المالية والاتصالات والمواصلات والشركات المملوكة للدولة، وفتح المجال أمام الاندماج، وإنهاء فكرة مركزية الدولة وتدخلاتها في حيثيات الرعاية، وإعطاء الولايات والمقاطعات والبلديات حق إنشاء سياسات خاصة ونظم وقوانين بما تتوافق واحتياجاتها، على أن لا يتعارض ذلك مع السياسة العامة للدولة، أو حرية السوق.
وهذه الأمور في مجملها تدعو إلى منح السوق الحرية في تحديد الأسعار والكميات والجودة ومكان التصنيع أو الإنتاج وتحرير الأسواق المالية، لترحيل رؤوس الأموال وقبول الاستثمار الأجنبي في كافة القطاعات وإنهاء نظام التأميم.
هذا هو مختصر سياسة اقتصاد السوق الحر والتي تبنتها إدارة الرئيس ريغان، وعملت بموجبها الإدارات الأمريكية المتعاقبة، والتي تهدف لجعل العالم سوقا كبيرا لأمريكا، وقد اصطُلح على تسمية هذه السياسة باقتصاديات ريغان، وعُرفت في أوروبا والعالم أيضا باقتصاديات ثاتشر، وذلك بسبب تطابق السياسة الاقتصادية بين أمريكا وبريطانيا في ذلك الوقت. وقد جاءت سياسة ريغان هذه لتنهي العمل بسياسة الرئيس روزفلت التي استندت إلى نظرية عالم الاقتصاد البريطاني كينز, التي تركز على الموازنة العامة للدولة. وكان روزفلت قد تبنى هذه النظرية لإنعاش الاقتصاد الأمريكي من خلال تدخل الحكومة الأمريكية بعرض المئات من المشاريع الضخمة للاستثمار، بعد الركود الاقتصادي الذي استمر منذ سقوط سوق الأوراق المالية سنة 1929 (الكساد الكبير)، وأدى إلى بطالة قُدرت ب 14 مليون فرد في الولايات المتحدة.
أما الأساليب والوسائل التي اتبعتها أمريكا في تنفيذ سياساتها وأثبتت فاعلية أكبر من الحروب والانقلابات العسكرية في تحقيق أهدافها، فإن أهم تلك الأساليب العولمة والخصخصة وهما تفضيان إلى إنهاء سيادة الدول على مقدراتها الحضارية والمدنية، وتعبدان الطريق أمام الغزو الأمريكي بكل أشكاله، ليكون العالم أمامه ميدانا للاستثمار والإنتاج والتوزيع لذلك كان لا بد له من نظام دولي يسوده الانفتاح. كما أنهما تجران أخطار تسرب قوانين الأقوياء لما يسمونه المجتمعات النامية، وذلك بسبب نظرية الامتياز في الاقتصاد الرأسمالي التي تعطي الشركات العالمية الحق بالامتداد القضائي للدولة الأم. وقد كان من أبرز تداعياتهما الإندماجات الكبرى لشركات في قطاعات متنوعة كالبنوك والبترول، ونشوء تكتلات اقتصادية كبرى بين الدول، كالمنطقة الجمركية المزمع إقامتها بين دول منظمة "الباسيفيك" (ابيك)، وتكتل دول جنوب شرق آسيا (آسيان)، واتحاد المغرب العربي الذي هو في طور إعادة إحيائه، فضلا عن التكتلات التي يجري تفعيلها واستغلالها لتركيز العولمة، كالوحدة الجمركية بين دول أمريكا الشمالية، وتكتل دول الساحل والصحراء في إفريقيا، والمجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا، ومنظمة الإيقاد، ومجلس التعاون الخليجي وما سينبثق عن مؤتمر القمة الدوري الأول في عمان من سوق عربية حرة وتحرير للتجارة وغير ذلك.
ومن الأساليب الأعراف الدولية؛ وهي من أكثر الأساليب فاعلية في إخضاع الدول والشعوب لإرادة الولايات المتحدة، وأنجعها في تحقيق أهداف وسياسات أمريكا في العالم كحرية السوق التي بيناها آنفا. وكالدعوة إلى الديموقراطية؛ التي يراد منها إزالة الأنظمة التي تعيق فرض القيم الأمريكية لإحكام السيطرة على العالم، ويراد منها أيضا إعطاء شرعية للأنظمة التابعة للولايات المتحدة، وبقاء استمرارها في الحكم، واتقاء خطر الشعوب على تلك الأنظمة، وإعطاء الشرعية كذلك لما يتمخض من معاهدات سياسية واتفاقيات اقتصادية بين تلك الأنظمة وبين الدول والشركات التي تحقق المصالح الأمريكية، باعتبار تلك الاتفاقيات والمعاهدات قد أبرمت مع أنظمة ديموقراطية وحظيت بموافقة ممثلي الشعوب. ومن الأساليب التي تتبعها أمريكا لإزالة الأنظمة فرض الشفافية على أداء الحكومات ظاهريا، ومحاربة الفساد المالي والإداري خاصة في العلاقات التجارية، وذلك بهدف حرق الأوساط السياسية المناوئة لأمريكا عن طريق اتهامهم بالفساد والتواطؤ على صفقات مشبوهة مع شركات أجنبية، وكذلك بهدف إقصاء الشركات المنافسة للشركات الأمريكية من العطاءات الاستثمارية الضخمة -كما حصل في المملكة المغربية من إقصاء للشركات الفرنسية بحجة الشفافية-، وأيضا من أجل إعطاء مصداقية لعملائها في أدائهم السياسي ورعايتهم لمصالح الناس وإعطاء المصداقية كذلك لشركاتها المنتفعة وإضفاء الشرعية على استثماراتها في تلك الدول، بالإضافة إلى المحافظة على شيء من التوازن في توزيع الثروة في تلك البلاد لضمان عدم تركز الأموال في يد طبقة من الناس على حساب غالبية الشعب، والذي من شأنه أن يؤدي إلى قيام ثورات شعبية بسبب فساد الأنظمة ويهدد بالتالي المصالح الأمريكية في تلك الدول. ومن الأعراف الدولية التي ترسخها الولايات المتحدة لتخدم أهدافها، نبذ الإرهاب الذي أوجدته كمصطلح سياسي ووقفت وراءه خدمة لأهدافها ، وضمان الحقوق للأقليات الدينية والعرقية ، وحقوق الإنسان ، والشراكات الدولية مثل الشراكة من أجل السلام المعمول بها في شرق أوروبا، والمشاركة بدل المساعدة المعمول بها في إفريقيا. ويمكن اعتبار إيجاد أمريكا لمثل هذه الأعراف من أهم الأساليب التي تستخدمها، حيث تسهل عليها السيطرة والتحكم بالخصم من خلال أعراف وقوانين دولية ويلاحظ أيضا أنها تسخر عملاءها لترسيخ هذه الأعراف حتى يتسنى لها السير بها.
ومن الأساليب المؤتمرات الدولية والتي لا تقف عند حد تسويق الأفكار والقيم على أمم وشعوب العالم ، بل تتعدى ذلك إلى تقويض المجتمعات بتحطيم الأسس التي تقوم عليها، كمؤتمر السكان، وكمؤتمر البيئة الذي يهدف للحد من النشاط الاقتصادي للدول وتعطيل صناعاتها بحجة تلويث البيئة، الأمر الذي يبقيها أسواقا استهلاكية لمنتجات الدول الصناعية الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة. وبالإضافة إلى المؤتمرات الدولية، هناك اتفاقيات الدفاع المشترك التي تسخرها الولايات المتحدة في السيطرة على الدول.
هذه هي أبرز الأساليب التي تتخذها أمريكا في أعمالها السياسية الدولية بهدف الهيمنة. والجدير بالتنويه هو ضرورة المتابعة السياسية للأعمال على أرض الواقع ومدى تطورها وتغيرها حيث أن هذه الأساليب من طبيعتها أنها متغيرة طبقا لتطور الأهداف ومقتضيات الظرف الدولي وقد لوحظ مؤخرا-على سبيل المثال- دخول التكنولوجيا المتعلقة بالجينات والأنسجة الحية في الأعمال السياسية الدولية.
أما أهم الوسائل المستخدمة فعلى رأسها ومنظمة الأمم المتحدة؛وهي وإن كانت أمريكا تسعى لإحداث تغيير في أدائها، إلا أنها لا تستغني عنها في تعبئة الرأي العام العالمي وتجنب سخطه، بتغليف إرادتها بإجماع دولي من خلالها حول ما تعزم على تنفيذه من أعمال ومخططات، وإضفاء الشرعية الدولية على أعمالها السياسية.
ومن الوسائل المهمة كذلك المنظمات الدولية العسكرية والمدنية؛ وذلك كحلف الناتو، والقوة العسكرية التابعة للمجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا، والقوة العسكرية المزمع إنشاؤها لدول مجلس التعاون الخليجي.
وتختلف أهداف تلك المنظمات العسكرية بحسب مناطق تواجدها، فالولايات المتحدة تهدف من الإبقاء على حلف الناتو وتوسيعه نحو الشرق ليشمل دول شرق أوروبا وبعض جمهوريات الاتحاد السوفيتي سابقا وروسيا، رهن الأمن الأوروبي -الذي يشكل الهاجس الأكبر لأوروبا من أخطار محتملة من جهة خاصرتها الضعيفة في الجنوب ومن الشرق- بيدها ، بحجة توفير المظلة النووية للدول الأوروبية، الأمر الذي يُبقي العجز والضعف الأوروبي ظاهرا، ويجعل الولايات المتحدة محل النظر ومركز الاستقطاب لدول العالم، لحل مشاكلهم وإدارة أزماتهم، وهو ما يركز انفرادها في الموقف الدولي. وأما توسيع الحلف فيُراد منه توسيع النفوذ الأمريكي ليشمل كامل القارة الأوروبية، وإضعاف الدول الأوروبية الطامعة بدورٍ قاري وعالمي كفرنسا، كما يقوض النفوذ الروسي في الجمهوريات السابقة للاتحاد السوفيتي ويدخل روسيا تحت الإرادة الأمريكية بشكل تام.
أما القوة العسكرية لدول غرب إفريقيا بزعامة نيجيريا الأكثر ولاءً للولايات المتحدة، فإن الهدف منها هو خلع النفوذ الأوروبي خاصة الفرنسي من خلال إنهاء التواجد العسكري الأوروبي المرابط في بعض الدول الإفريقية كالقوات الفرنسية المتواجدة في السنغال وساحل العاج والغابون، وجعل أمن إفريقيا-ظاهريا- بيد الأفارقة؛ وهو ما دعت إليه الولايات المتحدة مرارا على لسان كلينتون وكبار مسؤولي الخارجية الأمريكية، كما تهدف إلى إقرار السلام في القارة وضمان أمن الأنظمة التابعة للولايات المتحدة، كما حصل من تدخلٍ لتلك القوة في سيراليون سنة 1998 لإعادة كَبّاح إلى الحكم. بالإضافة إلى أن قيام تلك القوة العسكرية الإفريقية بمهام تخدم المصالح الأمريكية يوفر على أمريكا إرسال قواتها إلى القارة والذي قد يوقعها في الحرج والتناقض بين ما تدعو إليه من جعل أمن إفريقيا بيد أهلها وبين إرسال قوات عسكرية، إضافة إلى أنها ستحرك سوق السلاح الأمريكي الذي سيعتمد عليه الأفارقة في التسلح، كذلك ما سيرافق ذلك من تدريبات واستشارات عسكرية وغيرها. وبذلك لا تظهر أمريكا في أعين الشعوب الإفريقية في مصاف الدول الأوروبية المستعمرة.
أما القوة العسكرية المزمع إنشاؤها في منطقة الخليج العربي فتأتي في إطار صياغة أمن الخليج بعد الحرب التي أدخلت أمريكا فيها شركاء دوليين كبريطانيا وفرنسا لاعتبارات خاصة، ومنها ارتباط الأسر الحاكمة في منطقة الخليج تقليديا ببريطانيا، فكان إشراك أمريكا لبريطانيا في الحرب أمرا لابد منه لناحية ما سيحدِث ذلك من تطمينٍ لحكام المنطقة حينذاك، وللعلاقة الأمريكية البريطانية المتطورة والتي كانت تستوجب عدم تجاهل أمريكا للإنجليز في مثل هذا العمل في تلك المنطقة. وأما الإتيان بفرنسا للحرب فقد كان من قبيل احتواء الدور الفرنسي الذي حاول البروز دوليا من خلال الأزمة، ولجرها للسير تحت قيادة أمريكا، الأمر الذي يُرسخ مفهوم زعامة أمريكا للمعسكر الغربي والعالم، إضافة إلى تغليف عملها بالشرعية الدولية. وبعد أن تحقق لأمريكا ما أرادت في المنطقة إلى حد كبير، أصبح إنشاء قوة عسكرية في منطقة الخليج أمراً يقتضيه الوضع العام للمنطقة خاصة مع اقتراب التسوية السلمية في الشرق الأوسط للحل، وما يرتبط بها من إعادة صياغة للمنطقة والذي يقتضي ربطها بأمريكا فيما يتعلق بالأمن.
كما أن إنشاء قوة عسكرية لدول مجلس التعاون الخليجي من شأنه أن يعزز النشاط التجاري الأمريكي في المنطقة خاصة في قطاع التسلح الذي يحقق أرباحا طائلة للشركات الأمريكية، ويقلص عائدات كل من بريطانيا وفرنسا من ثروات المنطقة في نفس القطاع بعد أن جنتا أرباحاً كبيرة في السنوات التي أعقبت الحرب، وتقليص مشتريات السلاح من بريطانيا وفرنسا أمر تقتضيه وحدة التسلح للقوة الخليجية، والتي ستكون الأفضلية في تسليحها للولايات المتحدة لقوة نفوذها. كما يأتي إنشاء القوة العسكرية لدول مجلس التعاون الخليجي في إطار التوجه الأمريكي العام لتخفيض قواتها العسكرية العاملة في الخارج لاعتبارات متعلقة بالرأي العام الداخلي الأمريكي، وأخرى متعلقة بتخفيف الأعباء والمهام العسكرية للولايات المتحدة في الخارج، وكذلك من أجل تحصين الدور الأمريكي ضد تداعيات تدخلِها العسكري المباشر في هذه المنطقة الحساسة من نواحي سياسية ودينية.
ومن الوسائل الأخرى التي تسخرها الولايات المتحدة الأمريكية في أعمالها السياسية منظمات دولية مدنية مثل منظمة حقوق الإنسان، ومنظمة العفو الدولية، والصليب الأحمر الدولي، وأطباء بلا حدود، وغيرها من المؤسسات التي تستخدمها أمريكا في تحقيق أهدافها ومصالحها في مختلف الجوانب.
ومن الوسائل المهمة كذلك الاتصالات ووسائل الإعلام والتي توظفها أمريكا مباشرة كالإنترنت أو عن طريق عملائها كالقنوات الفضائية للتأثير في الرأي العام في بعض الدول والمناطق وعلى المستوى العالمي، وكذلك لرصد الرأي العام حول القضايا التي تتصل بمصالحها وذلك لكون تلك الأدوات قادرة على تجاوز الحدود والوصول إلى الأماكن والقطاعات التي يصعب الوصول إليها بوسائل أخرى. فجعلت أمريكا من تلك القنوات الفضائية العربية -مثلا- كقناة الجزيرة وقناة أبو ظبي الفضائية ، أداة لصناعة وتلميع العملاء من خلال البرامج التي تبثها كـ"الاتجاه المعاكس" و"شاهد على العصر" و "المنبر"، وأداة لنشر أفكارها وقيمها وتلويث أفكار المجتمع في البلاد العربية، والتعريض بالفكر الإسلامي بالحط منه، وبتلويثه من خلال تمثيله بشخصيات يسهل هزيمتها، أو شخصيات ملوثة، واستعمالها كذلك كأداة لتوجيه الرأي العام في المنطقة كما حصل مؤخرا في أحداث الانتفاضة. كما جعلت من تلك الفضائيات –خاصة قناة "الجزيرة"- عصا غليظة تسلطها على كل من لا ينصاع أو يتحدى أوامرها من الحكام والسياسيين لإذلالهم وحرقهم، وقد نشرت بعض الصحف عن توجه بعض الحكام العرب بالشكوى رسميا لكلنتون ضد قناة الجزيرة بسبب أدائها في أحداث الانتفاضة.
ومن الوسائل البالغة الأهمية كذلك صندوق النقد والبنك الدوليين ومنظمة التجارة العالمية وهي أخطر ثلاث أدوات تسخرها الولايات المتحدة في تحطيم سيادة الدول وإذلال شعوبها وإخضاعهم لسيطرتها وتحكمها، وهذا ما جعل أمريكا تواظب باستمرار على دفع مساهماتها في صندوق النقد والبنك الدوليين بخلاف الأمم المتحدة التي تتنصل أمريكا من دفع التزامها لها منذ عدة سنوات، وهو ما يبرز أهمية صندوق النقد والبنك الدوليين للولايات المتحدة في تحقيق أهدافها وفرض سياساتها على العالم.
فقد تأسس صندوق النقد والبنك الدوليين بموجب اتفاقية واحدة أقرها مؤتمر "بريتن وودز" سنة 1944، حيث كان الهدف الظاهر من إنشائهما هو إعادة إعمار الدول الأعضاء بعد الخراب الذي لحق بها عقب الحرب العالمية الثانية، ومعالجة السيولة النقدية وهو ما يجعل صندوق النقد والبنك الدوليين توأمان. وتعتمد أرصدتهما على مساهمات الدول الأعضاء، وتساهم الولايات المتحدة بالجزء الأكبر من أرصدتهما، وقد زادت أمريكا مؤخرا من تمويلات الصندوق بما يعادل 10 % من رأسماله، وهو مما يزيد من تمكين أمريكا في توجيه سياساته. وقد تمكنت الولايات المتحدة من تسخير هاتين الأداتين لولوج الأسواق العالمية والسيطرة على معظمها بفضل الشروط التي يفرضها الصندوق على سياسات الدول، حيث تتمثل هذه الشروط في رفع يد الدول عن إدارة مواردها الاقتصادية، وإجبارها على التحول للسوق الحر، وقبول دخول رؤوس الأموال الأجنبية والاستثمارات بحجة مساعدتها في النمو الاقتصادي، كما تفرض هذه الشروط خصخصة مؤسسات الدول ومرافقها الحيوية بحجة النمو والتخلص من العجز في الميزانيات، كما تفرض تخفيض نفقات الدول وهو ما يحد من زيادة مديونيتها، ويرغمها على قبول الخصخصة، كما تفرض الشروط تحرير حركة المال بدون رقابة الدولة، ويطالب الصندوق أيضا الدول تقديم كافة المعلومات وكشوفات المراجعة السنوية للخطط الاقتصادية وموازنات الدولة، بحجة مراقبة تطور النمو والإصلاح الاقتصادي الذي يعطي الدولة أحقية الحصول على المساعدات والقروض. هذه هي أهم الشروط التي يفرضها صندوق النقد الدولي والتي يندرج تحتها تدخل الصندوق بأدق التفاصيل في سياسات الدول ويبتز على أساسها الأنظمة إلى حد التدخل في تشكيل الحكومات، وحجم الجيوش وتسلحها، وغير ذلك من الأمور التي تُفصل تلك الأنظمة على المقاييس الأمريكية من ناحية سياسية ونفعية. وقد ألحقت وصفاتُ وشروط صندوق النقد الدولي الدمار بمعظم الدول التي تواطأت على تنفيذها، حتى أصبح الخبراء الاقتصاديون يطلقون على سياسات صندوق النقد الدولي "وصفة طبيب الموت". حيث انهار اقتصاد الكثير منها، وأصبحت معظم قطاعاتها مملوكة لشركات أجنبية معظمها أمريكية أو برؤوس أموال أمريكية، وارتفعت فيها نسب البطالة والاحتكار وتركز المال بأيدي طبقة من المنتفعين الرأسماليين، وهربت العديد من رؤوس الأموال المحلية، كما حصل في إندونيسيا والمكسيك والبرازيل وروسيا التي أصبحت من أكبر الدول المصدرة لرؤوس الأموال في العالم. ومن الأمثلة الواضحة على تسخير الولايات المتحدة لصندوق النقد الدولي في خدمة مصالحها، هو تدخل الولايات المتحدة لدعم مرشح الرئاسة في البرازيل كاردوسو، أثناء الانتخابات الماضية وإبقائه في الحكم لفترة رئاسية ثانية، لكونه يوفر للشركات الأمريكية استغلال المواد الخام في البرازيل بأبخس الأثمان، وقد جاء تدخل الولايات المتحدة بدعمه وإسقاط منافسه لويس أناثيو لولادا سيلفا رئيس حزب العمال البرازيلي من خلال إعلان صندوق النقد الدولي الموافقة على منح البرازيل قرضا استثنائيا قبل يوم واحد من الانتخابات الرئاسية، وذلك للتأثير في الناخبين وتوجيههم لانتخاب الرئيس الذي يحظى بدعم الولايات المتحدة، خاصة وأن البرازيل تعاني أزمة حادة وديون وصلت 212 مليار دولار تسبب فيها الرئيس كاردوسو عندما رفع فوائد الإيداعات البنكية إلى 45 % حتى لا تهرب رؤوس الأموال إلى الخارج، ولو لم يتدخل صندوق النقد الدولي بالموافقة على القرض الاستثنائي لدعم كاردوسو في الانتخابات، لاضطر الأخير إلى اتخاذ قرارات صعبة بشأن الحالة الاقتصادية في البلاد الأمر الذي سيؤدي إلى إسقاطه شعبيا وخسارته في الانتخابات الرئاسية، خاصة أن فرصته بالفوز بالانتخابات كانت ضئيلة جدا مقابل فرصة منافسه لويس أناثيو بالفوز والذي كانت أمريكا لا ترغب بفوزه بسب المعوقات التي كان سيضعها أمام استثمارات الشركات الأمريكية. لذلك علقت بعض الصحف الغربية بأن صندوق النقد الدولي قد قرر انتخاب كاردوسو للرئاسة نيابة عن الشعب البرازيلي.
أما دول جنوب شرق آسيا فقد كانت تشهد حالة من النمو الاقتصادي لعشرين سنة بعد حرب فيتنام . ذلك بعد أن شرعت الشركات الأمريكية في نقل نشاطها لتلك الدول كونها دولا فقيرة لرخص الأيدي العاملة هناك ولقرب تلك الدول من الأسواق الآسيوية ، وفي خطوة لتقوية مركز الدولار في بداية الثمانينات ، وفي نفس الوقت عمل الإعلام الأميركي على تسليط الأضواء على ما سماه " المعجزة الآسيوية " تضليلا منه عن حقيقة تواجد الشركات الأمريكية في تلك المناطق ، وإيهاما لهم أن ما تحقق هو في الحقيقة ازدهار اقتصادي . وما أن أوشكت سنة1997 على الانتهاء حتى تبخرت آمال دول وشعوب المنطقة بالتقدم والازدهار، وذلك عندما قررت أمريكا غزو المنطقة من خلال تحريكها لتجار المال الذين أدخلوا الأسواق المالية لتلك الدول في مضاربات أدت إلى كارثة اقتصادية واجتماعية مدمرة، حيث توقف النمو الاقتصادي المتصاعد، وسقطت عملات تلك الدول، وأصبحت حالة الرخاء التي شهدتها المنطقة أثرا بعد عين، فأفلست أغلب الشركات وارتفعت نسب البطالة، وصار شبح المجاعة يهدد بعض تلك الدول، أما عن الأسباب وراء التحرك الأمريكي في إيقاع الكارثة فإنها تعود إلى عدة أسباب أهمها انخفاض مؤشر الأرباح للشركات الأمريكية في تلك البلاد بعد أن تضاعفت أجور العمالة فيها نتيجة لسلسلة الإضرابات التي قام بها العمال في تلك البلاد من مثل إضراب العمال التايلنديون لمصنع سانيو عام 1996 ، ولقيام تلك الدول بربط عملتها المحلية بالدولار الأمريكي والذي كان وقتئذ بارتفاع مضطرد ، الأمر الذي أدى إلى ارتفاع صرف تلك العملات مما انعكس على ارتفاع أسعار صادراتها من منتجات الشركات الأمريكية مقابل صادرات كل من الصين وفيتنام ، ومن الأسباب أيضا سعي بعض النافذين وأصحاب رؤوس الأموال في تلك البلاد إلى مواجهة الشركات الأمريكية والأوروبية العملاقة ، حين بدءوا بالعمل جديا بالاستقلال عن تلك الشركات مثل ما حدث لشركة MBA التايلندية . كل ذلك أدى إلى تحريك أمريكا تجار المال للقيام بمضارباتهم .
وعقب تلك الأزمة لم يكن لدول جنوب شرق آسيا مخرجاً إلا التوجه لصندوق النقد الدولي والذي فرض عليها شروطا تجهز على ما تبقى لديها من أرصدة، وحد من نشاطها الاقتصادي بمنعها من إقامة مشاريع جديدة، مما أدى إلى إفلاس المزيد من الشركات وفتح الباب واسعا أمام دخول رؤوس الأموال والشركات الأجنبية لشراء الشركات المحلية بأبخس الأثمان، كما ساهم صندوق النقد الدولي بجعل الولايات المتحدة تحكم قبضتها على اقتصاد كوريا الجنوبية المتنامي، وقد صرح الخبير الاقتصادي الأمريكي رودي دورنسبوش قائلا:"أصبحت كوريا الآن ملكا لخزينتنا، وهو الجانب الإيجابي للأزمة". وفي تايلاند فرض صندوق النقد الدولي عليها أن تسمح ببيع مؤسسات مالية بالكامل لرؤوس أموال أجنبية، وكذلك السماح للأجانب بتملك العقارات وهو أمر محظور في التشريعات التايلاندية، وصرحت حينها المندوبة التجارية الأمريكية تشارلين بارشفيسكي قائلة:" إن الولايات المتحدة تتحسب لانتهاز فرص أعمال جديدة من خلال الإصلاحات الهيكلية المفروضة على الاقتصاد التايلاندي" وهو ما يدل على تواطؤ صندوق النقد الدولي على المخططات الأمريكية في تلك المنطقة، ولم تسلم كذلك إندونيسيا من الوقوع في مجزرة صندوق النقد الدولي في تلك المنطقة، حيث أدت تفاعلات تلك الأزمة إلى إسقاط سوهارتو من الحكم. وكان لأزمة جنوب شرق آسيا تداعيات دولية انعكست على بعض الدول كالبرازيل التي هربت منها أموال تقدر ب30 مليار دولار خشية أن يحل بها ما حل بالأموال التي تبخرت في أزمة دول جنوب شرق آسيا، وتأثرت كذلك روسيا وهرب منها الكثير من رؤوس الأموال.
وفي روسيا باعتبارها وريثة دولة عظمى، وكمثال صارخ وحي على التلاعب بمقدراتها الضخمة باستعمال أمريكا لصندوق النقد الدولي فقد استغلت الولايات المتحدة العجز في موازنة الاتحاد السوفيتي قبل سقوطه بإغراقه في دوامة من الديون المركبة، فقد كان تردي الاقتصاد السوفيتي في الثمانينات سببا في عجز الموازنة العامة والذي بلغ سنة 1991 ،30% وهي نسبة خطيرة ومفزعة في مقاييس عجز الموازنات، وقد كان الاتحاد السوفيتي يعاني من سداد أعباء الديون منذ عهد غورباتشوف ولم يكن بمقدور صندوق النقد الدولي فرض شروطه المعروفة على الاتحاد السوفيتي بسبب التشريعات السوفيتية آنذاك، وما أن انهار الاتحاد السوفيتي سنة 1991 حتى كانت وصفة صندوق النقد الدولي جاهزة لتدمير الاقتصاد الروسي المتهالك، وجعل روسيا عاجزة عن مجرد التفكير في القضايا الدولية ، فشرع يلتسين بتطبيق إملاءات الولايات المتحدة عبر صندوق النقد الدولي والتي عرفت باسم "العلاج بالصدمة"، والتي تتمثل بما يلي:
1ـ تحرير أسعار السلع والخدمات وإلغاء الدعم الحكومي لها أو تقليصه بشدة.
2ـ التقليص الحاد للإنفاق الحكومي سواء على الخدمات الاجتماعية أو الجهاز الإداري الحكومي، أو التوظيف أو الإنفاق العسكري (رواتب الجيش والتصنيع العسكري).
3ـ تحرير سعر صرف العملة الوطنية، وجعلها قابلة للتحويل.
4ـ الخصخصة السريعة لمؤسسات الدولة، وإلغاء دعم ما يتبقى في يد الدولة من مؤسسات، ووقف تقديم الائتمان لها بشروط تفضيلية أ و تقليصه بصورة جذرية.
وقد تم البدء بتنفيذ هذه الشروط بتاريخ 2/1/1992 من خلال تحرير أسعار مجموعة ضخمة من السلع مما أدى إلى تضخم كبير في تلك السنة، ولم يقابل ذلك التضخم رفعا للأجور مما أحدث تدني حاد في مستوى المعيشة للسكان، وحرمان نسبة كبيرة منهم من الخدمات الاجتماعية التي كانت تقدمها الدولة، كما أدى إلى ارتفاع نسبة البطالة. أما تحرير سعر صرف الروبل فقد أدى إلى انخفاضه مقابل الدولار بنسبة كبيرة جدا، حيث كان سعر الصرف يساوي 170 روبل مقابل الدولار الواحد سنة 1991 وتدهور بعد ذلك إلى ما يقارب 30 روبل جديد مقابل الدولار الواحد في هذه الأيام، والروبل الجديد الذي صدر سنة 1998 يعادل ألف روبل قديم، مما يعني أن الدولار اليوم أصبح يعادل 30 ألف روبل روسي كان يتداول في روسيا قبل سنة 1998.
وأما عن خصخصة المؤسسات في روسيا وهي ما كان يربط صندوق النقد الدولي قروضه بالإسراع في تنفيذها ، فقد كانت لها آثار مدمرة على المجتمع الروسي. وكان قد وضع أول قانون للخصخصة في روسيا في شهر 7/1991، إلا أنه لم يتم تنفيذه بسبب التشريعات التي كانت سائدة، وفي شهر 11/1991 شكل يلتسن حكومة برئاسته وعين أناتولي تشوبايس وزيرا للخصخصة ورئيسا للجنة إدارة أملاك الدولة، حيث اشتهرتشوبايس فيما بعد بمهندس الخصخصة. وتم تمرير القوانين التي تفتح المجال للخصخصة في روسيا بأساليب متناهية في الخداع للشعب الروسي، فقد تم تحويل عدد كبير من مؤسسات الدولة إلى شركات مساهمة مفتوحة يحصل العاملون فيها على 25 % من قيمة رأسمالها على شكل أسهم مجانية وذلك في شهر 12/1991، وفي شهر 8/1992 أصدر يلتسن مرسوما رئاسيا يقضي بمنح كل مواطن روسي الحق في الحصول على قسيمة بقيمة 10 آلاف روبل لاستخدامها في شراء أسهم في مؤسسات الدولة المعروضة للاستثمار أو بيعها، الأمر الذي مهد لبيع مؤسسات الدولة للشركات الأجنبية وللمتنفذين في النظام الروسي الذين عرفوا فيما بعد باسم "الروس الجدد" والذين استولوا على قسائم الناس بشتى الوسائل وأبخس الأثمان ، ومع انتهاء عام 1993 كان قد تم خصخصة ما يقارب 89 ألف منشأة اقتصادية روسية، وفي شهر 4/1994 جرى تحويل 80 % من الشركات المساهمة المفتوحة إلى شركات مساهمة مستقلة تمهيدا لخصخصتها، وخلال سنوات قليلة تم خصخصة أغلب المنشآت الاقتصادية الروسية في عمليات مشبوهة، حيث بيعت بما لا يزيد عن سبعة مليارات دولار بينما يقدر الخبراء قيمتها الحقيقية بنحو 200 مليار دولار، مما يعد ذلك من أكبر عمليات النهب في التاريخ، في حين بقيت الحكومة الروسية تحتفظ بنسب من الأسهم في بعض المنشآت الاقتصادية الكبيرة مثل سكك الحديد وشركة الغاز وشبكة الكهرباء والاتصالات، وقد مارس صندوق النقد الدولي ضغوطاً كبيرة لخصخصة الكهرباء والاتصالات، كما يضغط على الحكومة الروسية لبيع حصص الدولة في رأس مال بعض البنوك الروسية العاملة في الخارج.
ومن أكثر الأدلة توضيحا لخدمة صندوق النقد الدولي للمصالح الأمريكية في الشأن الروسي، هو تدخل صندوق النقد الدولي لوقف برامج بريماكوف الإصلاحية وإسقاطه من الحكومة بالضغط على يلتسن، وذلك أن حكومة كرينكو-المتواطئ مع الغرب على تقويض روسيا- كانت قد تسببت بأزمة سنة 1998 وأدت إلى انهيار قيمة الروبل إلى أقل من الثلث، كما أدت إلى إفلاس الكثير من الشركات والبنوك، وذلك بسبب تنفيذ حكومة كرينكو لبرامج "الإصلاح الاقتصادي" الذي فرضه صندوق النقد الدولي، والذي يقضي بحصر مفهوم الإصلاح الاقتصادي في تحسين المؤشرات المالية والنقدية كعجز الموازنة ونسبة التضخم وأسعار صرف العملة دون العناية بالإنتاج الذي يحرك عجلة الاقتصاد وينقذ البلاد، وقد تمخض عن تلك الأزمة استجابة يلتسن للبرلمان الروسي بإقالة كرينكو والإتيان ببريماكوف، وقد نجح الأخير في خلال بضعة شهور بتحسين وضع الاقتصاد الروسي عن طريق التركيز على الإنتاج، وحقق زيادة في الإنتاج بنسبة قدرها 8.23 %، وذلك في شهر 4/1999، كما وصلت معدلات تشغيل الطاقات الإنتاجية خلال الربع الأول من عام 1999 إلى 43 %، وانخفضت معدلات التضخم من 38 % في شهر 9/1998 إلى 3 % في شهر 4/1999، وكان المتواطئون مع أمريكا أمثال جايدار وينمتسوف وكرينكو قد دعوا الغرب وصندوق النقد الدولي إلى عدم تقديم شيء لروسيا وهو ما حدث بالفعل، وكان صندوق النقد الدولي قد أعلن عن اعتراضه على سياسات بريماكوف الإصلاحية، وأوقف القروض التي تم الاتفاق عليها مع حكومة كرينكو والتي تبلغ 6.22 مليار دولار، ثم عاود وأعلن استعداده للتفاوض مع حكومة بريماكوف حول تقديم قرض قدره 5.4 مليار دولار بشرط أن يتخلى بريماكوف عن سياسته الإصلاحية ويواصل سياسة حكومة كرينكو التي أحدثت الأزمة ودمرت اقتصاد البلاد، ومضى صندوق النقد الدولي في ضغطه على يلتسن حتى قبل بإقالة بريماكوف، ولا زالت القروض المتفق على تقديمها لروسيا من قبل صندوق النقد الدولي معلقة حتى الآن. وبذلك كانت معالجة ميزانية الدولة الروسية التي انخفض العجز فيها من 30 % سنة 1991 إلى ما يقارب 5.6 % في السنوات الأخيرة قد جاءت على حساب الخدمات الاجتماعية للسواد الأعظم من السكان الروس وعلى حساب النمو الاقتصادي والإنتاج، وأيضا على حساب القدرة الدفاعية والصناعات العسكرية للدولة وبالتالي على حساب سيادتها ومكانتها الدولية.
هذه بعض النماذج من نشاطات صندوق النقد الدولي في تنفيذه لأهداف الولايات المتحدة، والتي تصب في مجملها في تطبيق سياسة السوق الحر التي تبنت أمريكا الدعوة لها لإحكام قبضتها على العالم.
أما فيما يتعلق بمنظمة التجارة العالمية، فإن الولايات المتحدة تخطط لها لتكون الأداة الرسمية لفرض سياسة اقتصاد السوق الحر على دول العالم. وهو ما يسوغ شروط صندوق النقد الدولي، ويعطيها صبغة شرعية دولية، باعتبار تلك الشروط منسجمة مع قوانين المنظمة التي تعتبر المرجعية الدولية لضبط العلاقات التجارية العالمية. والولايات المتحدة فضلاً عن استفادتها من إحداث التغيير في السياسات الاقتصادية للدول الغنية، فإنها تسخر المنظمة لفتح كافة الأسواق العالمية أمام تجارتها. فهي تسعى حالياً لإرغام الدول الغنية خاصةً الأوروبية لإزالة الحماية والدعم عن صناعاتها وزراعتها، وفتح أسواقها أمام الدول الفقيرة وذلك بأساليب مختلفة ، مثل تعمد الولايات المتحدة إفشال محادثات سياتل سنة 1999. من خلال احتجاجات الدول الفقيرة التي تحركت بإيعاز من أمريكا ضد السياسات التجارية للدول الغنية، خاصةً سياسة الدعم الحكومي والحماية الجمركية. كما جندت أمريكا بعض الدول التابعة لها للمطالبة بذلك كالمكسيك، والبرازيل، والهند. حيث وظفت المكسيك لجر الصين إلى المنظمة وفق الشروط الأمريكية من خلال محاولة التوصل إلى اتفاقيات ثنائية بين المكسيك والصين. أما البرازيل فإنها تذلل العقبات أمام الولايات المتحدة بشأن بعض القوانين المختلف عليها في المنظمة مثل معايير زراعة وتجارة المحاصيل المعدلة وراثياً -والتي تشتهر بها الولايات المتحدة، وترفضها الدول الأوروبية -، وذلك من خلال موافقة البرازيل على قبول المحاصيل المعدلة وراثياً وتصديرها من حقولها. مشترطة على الدول الغنية بأن تفتح أسواقها أمام منتجات الدول الفقيرة. ومن جهتها تطالب الهند الدول الغنية بفتح أسواقها أمام الدول الفقيرة، وتحاول منع الشركات الغربية من تصنيع منتجات الأعشاب الطبية الهندية كيميائياً دون دفع رسوم عليها للهند. وذلك للضغط على الدول الأوروبية للخضوع من أجل فتح أسواقها أمام الدول الفقيرة.
كما وظفت الولايات المتحدة أزمة ارتفاع أسعار النفط لابتزاز أوروبا في موقفها من القوانين التي ترفضها أو تتحفظ عليها لمنظمة التجارة العالمية، حيث برر مايك مور مدير منظمة التجارة العالمية عدم تجاوب بعض الدول المصدرة للنفط مع نداءات الدول الأوروبية لرفع إنتاجها، بكونها دول غير أعضاء في منظمة التجارة العالمية كالسعودية، الأمر الذي لا يمكن المنظمة من فعل شيء حيال الأزمة، وهي إشارة صريحة لتحذير الدول الأوروبية من عدم الاستجابة لمطالب الدول الفقيرة بفتح أسواقها أمام تلك الدول.
ومن أوضح الأمثلة على خدمة المنظمة للولايات المتحدة، موقفها من أزمة الموز بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، حيث قضت فيها المنظمة لصالح الولايات المتحدة، واستناداً لما قضت به منظمة التجارة العالمية فرضت أمريكا رسوماً عقابية على منتجات أوروبية تكلف أوروبا 191 مليون دولار سنوياً. وعلى إثرها قامت شركة شيكيتا الأمريكية للموز بإرسال شكر لكلنتون على صرامته مع أوروبا في تلك الأزمة، وشركة شيكيتا هي من الشركات التي دعمت حملة كلنتون الانتخابية.
هذه هي أهم الوسائل والأساليب التي تتبعها الولايات المتحدة لتنفيذ سياساتها الدولية.


12/صفر/ 1422هـ
5/أيار/ 2001م

سليم
27-06-2008, 11:27 PM
السلام عليكم
الأخ الفاضل شريف بارك الله بك على هذا الطرح القيم في سماء السياسة الدولية...
ويُفهم من الكلام أن أمريكا هي الدولة الأولى في العالم وباقي الدول لا تأثير لها على الساحة الدولية السياسية...تُرى كيف يمكن القضاء على هذه الدولة الرأسمالية...أعني ماذا يجب على دولة الإسلام أن تنتهج كي تحول دون استفراد دولة مثل أمريكا في مصير العالم؟,وما هي الأمور التي سوف تنتهجها في التصدي لها؟