مشاهدة النسخة كاملة : لاإنسان يحيى في الكون
أبو زكريّا
06-04-2010, 04:43 PM
الإنسان يحيا في الكون
اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ،
وَلَكَ الْحَمْدُ لَكَ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ،
وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ،
وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ مَلِكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ،
وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ الْحَقُّ، وَوَعْدُكَ الْحَقُّ، وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ، وَقَوْلُكَ حَقّ،ٌ وَالْجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ،
وَالنَّبِيُّونَ حَقٌّ، وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقٌّ،
وَالسَّاعَةُ حَقٌّ، اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ،
وَبِكَ آمَنْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ،
وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ، وَبِكَ خَاصَمْتُ،
وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ، فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ،
وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ،
شرعت في إعداد كتاب أكتبه الآن بالعربيّة والهدف ترجمته بعد إتمامه للفرنسيّة.
أنا لست من شباب الحزب ولكنّي من حاملي أفكاره والدّاعين إليها.
أرجو أن أجد على هذا المنتدى الطيب المساعدة وذلك بالتدقيق و المراجعة في ما كتبت لأكون مطمئنا لصحة الأفكار عند الترجمة.
الموضوع الأول : الإنسان
إذا نظرنا إلى ما حولنا في هذا الكون نجد أن هنالك صنفان من الكائنات وهي الكائنات الحية مثل الإنسان والحيوان والنبات، والجمادات -الكائنات الغيرالحية- مثل الجبال والبحار والكواكب. وتتميَّزالكائنات الحية عن غيرها بالحياة الموجودة فيها التي تجعلها تتحرك وتنمو وتتكاثر. أما الجمادات، نجدها جامدة لا تتحرك ولا تتطور ولا تنمو ولا تتغير ولا تتكاثرمن نفسها، وأن تغيرت كان ذلك بمؤثر خارجي بسبب عوامل الطقس أو الإنسان أوالزمن أو غير ذلك ولولا التدخل الخارجي لبقيت على ما هي عليه ولم تتغير. وإذا نظرنا إلى الكائنات الحية نجد أنها تتحرك من ذاتها مادامت الحياة موجودة فيها، وتتغذى لتعيش وتنمو وتتزاوج لتتكاثر. وهذا ملاحظ ومحسوس في هذه الكائنات الحية ما دامت هذه الحياة موجودة فيها، وإذا ماتت تصبح حالها مثل باقي الجمادات. وهذه الأحياء مهما طال عمرها فإنها لابد أن تنتهي إلى الموت. والملاحظ أن هذه الأحياء جميعها تحتاج إلى الماء والغذاء والهواء لتحيى وتعيش. فالأحياء جميعها تشترك في هذه الناحية وهي إشباع ما يسمى بالحاجات العضوية مثل الأكل والشرب والتنفس، وهي ضرورية للحياة وإذا لم تشبع تؤدي بها إلى الهلاك والموت. فلذلك فأن الحاجات العضوية هي خاصيات في الأحياء تثار من الداخل و تتطلب الإشباع الحتمي تجعله بحاجة إلى أوضاع وأشياء والقيام بأعمال معينة . فمن الأوضاع التي يحتاجها الجسم النوم والراحة ودرجة حرارة مناسبة وضغط جوي مناسب , ومن الأشياء التي يحتاجها الطعام والشراب والهواء ومن الأفعال التي يحتاجها التنفس والأكل والشرب وقضاء الحاجة.
ويمتاز الإنسان والحيوان عن النبات أن لديهم غرائز يحتاج إلى إشباعها وإذا لم يشبعها يبقى حياً ولكن يشعر بالقلق و الضيق والإظطراب، فالغرائز خاصيات أومظاهر في الإنسان والحيوان تدفعه لأن يميل إلى أشياء وأعمال، أو لأن يحجم عن أشياء وأعمال وذلك من أجل أن يشبع أمرًا داخله.
ِإنّ ما يثير الغرائز عند الأنسان أو يُظهر الشعور بطلب إشباعها هو : إما أفكار تتداعى عن الشيء الذي يثير المشاعر, أو واقع محسوس يثير المشاعر للإشباع. وإذا لم يحصل ذلك لايحصل ما يثير الغريزة.
وباستقراء هذه المظاهرعند الانسان نجد أنها تنتظم في ثلاث مجموعات، وكل مجموعة تنتمي إلى غريزة.
النوع الأول من هذه اموعات الثلاث من مظاهرها الخوف والغضب والسرور والحزن والأسى والأسف والطمع والحسد والكرم والبخل وحب التملك وحب الاستطلاع، وحب الوطن، والتكتل وحب القوم، وحب السيادة، وحب السيطرة وغيرها، ترجع كلها إلى غريزة البقاء لأن هذه المظاهر تؤدي إلى أعمال تخدم بقاء الإنسان كفرد.
والنوع الثاني من مظاهرها الميل الجنسي، والأمومة، والأبوة، وحب الأبناء والعطف على الإنسان والميل لمساعدة
المحتاجين والخجل والحياء و العطف والحنان والغَيْـرة ، وغيرها، ترجع كلها إلى غريزة النوع، لأن هذه المظاهر تؤدي إلى أعمال تخدم بقاء النوع الإنساني كنوع وليس كفرد.
والنوع الثالث من مظاهرها الميل لاحترام الأبطال والميل للعبادة والتديّن ، والشعور بالنقص والعجز والاحتياج والتقديس والخشوع والضراعة والعبادة والتعظيم والتبجيل ، وترجع كلها إلى غريزة التديّن. وهذه المظاهر تدفع الإنسان إلى البحث عن تفسير لشعوره بالضعف أو عجزه عن إشباع غريزة البقاء، وإشباع غريزة النوع في كثير من القضايا التي يوكل فيها الإنسان أمرَهُ إلى من أوما هو أقوى منه أو إلى قوّة غيبيّة، يعتقد أنّها قادرة على حلّ قضاياه تلك، فيستسلم-شعورياً-لتلك القوّة، وينقادَ إليها رغماً عنه. و قد يتديّن للقوى، التي تكون في غالبها قوى فكريّة أوغيبيّة، يعتقد أنها تعينه على البقاء، وتحفظ له النوع البشري . فالتدين غريزة مستقلة أختصّ بها الإنسان منذ وجوده فوق الأرض. فقد عبِد الشمس و الكواكب والنّار والأصنام وعبِد الله تعالى , حتى لا نجد في عصرٍ من العصور شعبا إلاّ مال إلى عبادة. أما ما يظهر عند الملحِدين من إنكار لوجود أيّ قوّة غيبيّة أو الإستهزاء بالعبادة ما هو إلاّ تحويل لهذه الغريزة إلى عبادة المخلوقات , وتقديس الطبيعة , أو أشخاص بعدما آمنوا بأفكار أوعقائد معيّنة.
والغرائز موجودة عند الحيوان كما هي موجودة أيضًا عند الإنسان، كغريزة النوع وما يصدر عنها من مظاهر كالميل
الجنسي، وكغريزة البقاء وما ينتج عنها من مظاهر كالخوف من الأخطار، إلا أن بعض المظاهر الغريزيّة لغريزة النوع
ولغريزة البقاء غير موجودة عند الحيوان كحب الاستطلاع، وكالميل لإنقاذ المشرف على الهلاك، أو تختلف عند
الإنسان عنها عند الحيوان، كحب التملك . أما غريزة التديّن، فإن الإنسان ينفرد بمظاهرها دون الحيوان، فلا يظهر على الحيوان أي مظهر من مظاهر التدين، لأن الإنسان لا يدرك كيف يشبع الحيوان هذه الغريزة إن كانت لديه .
ويتميَّز الإنسان عن الحيوان بالعقل الموجود لديه . فقد استطاع الإنسان بهذا العقل أن يكتشف ويطوّر ويسخّر كثيرا ممّا في الكون لمصلحته . لذلك لابدّ من معرفة هذا العقل الذي مَيَّزه وفضَّله عن غيره، وبالتالي لابد من معرفة التفكير، لأنّ هذا التفكير هو الذي يعطي للعقل قيمته, فالتفكير ثمرة العقل.
وتكمن أهمية بحث واقع العقل والتفكير في النقاط التالية :
(1) تحديد الكيفية التي علينا أن نسير بها في البحث للوصول إلى حكم أو فهم أو إنشاء في مسألة معيّنة
(2) الحكم على أبحاث معيّنة بأكملها بأنّها صواب أو خطأ وذلك بالنّظر في الطرق والأساليب التي اعتمدتها
(3) تحديد الطريقة أو الأسلوب الصّواب لبحث المسألة المعيّنة
(4) نظرا للتجدّد الدائم وللتنوع المتعدّد فان التفكير عرضة للانزلاق وعرضة للابتعاد ، لذلك فانّه لا بدّ أن يبحث التفكير فيما يصحّ أن يجري التفكير فيه وفيما لا يصحّ أن يجري فيه
أبو زكريّا
06-04-2010, 04:53 PM
أ-الدماغ: الدماغ هو المادة الموجودة داخل جمجمة الرأس، ويحيط بهذه المادة ثلاثة أغشية، تنفذ من خلالها أعصاب عديدة تتصل بالحواس وبجميع أنحاء الجسم، وإن هذه الألياف العصبية تبلغ حداً من الانتشار والطول لا يكاد يصدق، فلقد وجد أن هذه العروق الدموية الموزعة في جميع أنحاء الجسم يبلغ طولها ما يقرب من مئة ألف ميل، ويهيمن الدماغ على الجسم بوساطة ستة وسبعين عصباً رئيسياً.
يبلغ وزن الدماغ للإنسان البالغ ألفاً ومئتي غرام، ويستهلك الدماغ (25%) خمسة وعشرين في المئة من الأكسجين القادم من طريق الرئتين، وقد أثبت العلماء بوساطة التخطيط الكهربائي للدماغ، أن الدماغ هو عضو التفكير في الإنسان، فنتيجة لوصل بعض خلايا الدماغ بجهاز التخطيط، وجد أن الموجات التي تظهر مرسومة على الورق، تتسطح فجأة فيما إذا ركز الإنسان تفكيره، أو إذا أثير بانفعال، أو إذا سمع ضجة كبيرة، أو إذا قام بحساب معقد، ولم يعثر العلماء على منطقة بعينها في الدماغ مسؤولة عن حفظ المعلومات. وقد وجد أن استئصال نصف الدماغ تماماً عند بعض المرضى لم يفقدهم ذاكرتهم. ولقد قدر بعض العلماء أن مخزون الذاكرة من المعلومات التي يمكن أن تستوعبها، يعادل ما يتسعه تسعون مليون مجلد مليء بالمعلومات.
من المشاهد المحسوس أن الإنسان يوجد لديه دماغ، وكذلك الحيوان لديه دماغ. والفرق بين دماغ الإنسان ودماغ الحيوان، هو أنّ دماغ الإنسان توجد فيه خاصيّة ربط المعلومات، ودماغ الحيوان لا يوجد فيه هذه الخاصيّة وإنّما يوجد فيه استرجاع الإحساس والتمييز الغريزيّ.
فعمليّة استرجاع الإحساس والتمييز الغريزيّ التي عند الحيوان هي خاصّة بما يتعلّق بالغرائز والحاجات العضويّة، ولا تتعدّاها لغيرها مطلقا. فمثلاً إذا ضُرب الجرس ثم وضع الطعام للكلب عند ضرب الجرس ثم تكرّر ذلك مراراً، فإنّ الكلب بعد ذلك عندما يسمع ضرب الجرس يسيل لعابه لأنّه يسترجع أنّ الأكل سوف يأتي عند ضرب الجرس، وهذا هو استرجاع الإحساس.
التمييز الغريزيّ هو ما يُرى مثلاً من تجنّب بعض الحيوانات العشب السّام والمضّر وهي ترعى وكذلك ميل الحيوان إلى نوعه من الحيوانات دون الآخر عند التزاوج وغيرها من الأمثلة التي تدل على وجود التمييز الغريزيّ عند الحيوان. والتمييز الغريزيّ موجود عند الحيوان فقط، أما الإنسان فإنّه يلقن تلقيناً. فمثلاً نرى أنّ الحيوان بعد ولادته يبدأ فوراً بالبحث عن ثدي أمه كي يرضع منها دون أن يرشده أحد أو يعلّمه ذلك، وكذلك بعد أن يكبر بالسنّ يبدأ بملاحقة الأنثى من نوعه للتكاثر ولا يفعل ذلك مع غيرها من الحيوانات الأخرى ولا حتّى مع الذكر من نوعه عادة . فهذا كلّه يدلّ على أنّ هذه الأمور موجودة عنده طبيعيّاً. أمّا الإنسان فإنّ هذه الأمور ليست موجودة لديه بالطبيعة، فإنّ الطفل عند ولادته فإن الأمّ تعطيه ثديها كي يرضع، ولو ترك الطفل دون إرشاد فإنه لا يمكن أن يهتدي بنفسه إلى كيفيّة إطعام نفسه ولبقي يبكي حتى الموت. وكذلك التكاثر عند الإنسان، فإنّ الإنسان قد يستطيع أن يقضي شهوته بأيّ طريقة، ولولم يلقن الطريقة الصحيحة للتكاثر فلن يهتدي إلى ذلك بنفسه.
هذا بالنسبة لما يتعلّق بالغرائز والحاجات العضوية. فكلّ ما يتعلّق بالغرائز والحاجات العضويّة يحسّه، وكل ما يحسّه يستطيع استرجاع إحساسه به، لاسيّما إذا تكرّر هذا الإحساس. فما يتعلّق بالغرائز والحاجات العضويّة يقوم الحيوان به طبيعيّاً سواءً أحسّه أو استرجع إحساسه به. أمّا ما لا يتعلّق بالغرائز والحاجات العضويّة، فلا يمكن أن يقوم به طبيعيّاً إذا أحسّه، ولكن إذا تكرّر هذا الإحساس واسترجعه فإنه يمكن أن يقوم به تقليداً ومحاكاةً وليس قياماً طبيعياً، مثل ما يُرى من تعلّم بعض الحيوانات حركات أو أعمالاً تقوم بها وهي لا تتعلّق بالغرائز ولا بالحاجات العضوية، فهي إنما تقوم بذلك تقليداً ومحاكاة وليس عن عقل وإدراك. فدماغ الحيوان لا توجد فيه خاصيّة ربط المعلومات، وإنّما عنده تذكّر الإحساس والتمييز الغريزيّ وهو ما يُسمّى بالإدراك الشعوريّ.
وهذا بخلاف الإنسان فإن دماغه توجد فيه خاصيّة ربط المعلومات بالإضافة إلى تذكّر الإحساس. فما ينطبق على الحيوان بالنسبة للغرائز والحاجات العضوية ينطبق على الإنسان من حيث استرجاع الإحساس. وكذلك فيما لا يتعلّق بالغرائز والحاجات العضويّة فبإمكانه التذكّر واسترجاع الإحساس، فمثلاً لو رأى إنسان إنساناً آخر في مكان ما ثم رآه بعد زمن ما في مكان آخر، فإنه قد يسترجع إحساسه به ويتذكّره، ولكنّه إذا لم يكن لديه أي معلوماتٍ عنه فإنه لا يستطيع الحكم عليه وعلى سبب وجوده في أي من المكانيين، فلا يوجد عملية ربط بين ذلك الرجل ووجوده في أي من المكانيين، والذي يحدث هنا هو استرجاع الإحساس فقط. بخلاف ما لو تعرّف عليه في المرة الأولى أو سأل عنه من يعرفه وأُخبر عنه وعن سبب وجوده في ذلك المكان، فإنّه في المرة الثانية يستطيع أن يتذكره وأن يربط بين وجوده في المكان الأول ووجوده في المكان الثاني، كأن يعلم أن هذا الرجل تاجرا فحين يراه في المكان الثاني يتوقع أن يكون موجوداً لنفس السبب وهو التجارة. بخلاف الحيوان، فإنّه إن رأى ذلك الشخص في المكانيين فإنه لا يمكن أن يدرك سبب وجود ذلك الرجل ولو أعطيت إليه المعلومات بالتعليم والمحاكاة، لأن دماغه لا يوجد لديه إمكانيّة الربط. ولكن إن أطعمه ذلك الرجل في المرّة الأولى، فإنّه إن رآه في المرة الثانية قد يسترجع إحساسه به ويظنّ أن الرجل سوف يقدّم له الطعام مرّة ثانية.
والفرق بين ما يتعلق بالغرائز والحاجات العضوية وما يتعلق بالحكم على الأشياء ما هي عند الإنسان، فهو أن ما يتعلق بالغرائز والحاجات العضوية يمكن للإنسان بتكرار الإحساس أن يسترجع الإحساس، ويمكنه بخاصية الربط أن يُكوِّن من مجموع ما يحسّه وما يسترجعه من إحساسات معلومات، وأن يسترجع هذه الإحساسات بمعلوماتها فيما يتعلق بالغرائز والحاجات العضويّة. وهذا هو النوع الوحيد من المعلومات التي يمكن للإنسان أن يكوّنها عن طريق الإحساس وخاصيّة الربط الموجودة لديه، أي عن طريق التجربة، وهي ما يتعلق بالغرائز والحاجات العضوية فقط. ولكنّه لا يستطيع أن يفعل ذلك في غير ما يتعلق بالغرائز والحاجات العضوية، أي لا يمكنه أن يحكم على الشيء الذي لا يتعلق بالغرائز والحاجات العضوية ما هو من التجربة أي من مجرّد الإحساس بالواقع. فمثلاً معرفة أن الحجر لا يُؤكل والتفاحة تُؤكل وأن هزّ الشجرة يُسقط الثمار وأن الأسد يُخيف، كل ذلك يتعلق بالغرائز والحاجات العضوية، ويمكن أن يحصل عند الإنسان تماماً كما يحصل عند الحيوان. أمّا ما لا يتعلق بالغرائز والحاجات فلا يمكن الحكم عليه بالإحساس فقط ولو تكرّر الإحساس، فمثلاً لو أُعطي صندوق مغلق لإنسان لا يعرف ما بداخله ولماذا يُستعمل، فإنه لا يمكن أن يحكم عليه حكماً قطعياً ولو تكرّر إحساسه به ما لم يُعطى معلومات عنه وعن استعماله. هذا هو واقع دماغ الإنسان ودماغ الحيوان وهذا هو الفرق بينهما.
فالعقل الذي ميَّز الإنسان عن باقي الكائنات وفضله عليها ليس هو الدماغ، ولكن الذي ميَّزه هو خاصيّة الربط والحكم على الأشياء الموجودة في دماغه. فالعقل مرتبط بالدماغ المُمَيِّز القادر على الربط، لذلك لا يمكن أن يُوجَد فكر إلا بوجود هذا الدماغ المُمَيِّز القادر على الربط. فالدماغ المُمَيِّز عند الإنسان يعطيه القدرة على الحكم على الأشياء. وواقع التفكير هو أن الإنسان يفكّر ويستخدم العملية العقلية للحكم على الواقع.
ب-الواقع بدون وجود الواقع لا يمكن أن يوجد فكر ولا تفكير، وأن كل معرفة دون واقع إنما هي خيال. فوجود الواقع شرط أساسي كما أن الدماغ المُمَيِّز شرط أساسي في العملية العقلية.
فالواقع هو كل ما يقع تحت الحس أو ما يقع أثره تحت الحس وينقسم إلى ثلاث أنواع:
1. واقع محسوس حساً مادياً، مثل الإنسان وكل ما في هذا الكون من مادة.
2. واقع غير مادي ولكن يستطيع الإنسان الإحساس به وهو الإحساس المعنوي مثل الإحساس بالمجتمع الناهض والمجتمع المنحط والإحساس بالفرح والألم والعزة والإهانة وغيرها. فالإنسان العاقل المُمَيِّز يمكنه أن يحس بهذه الأمور مع أنها أمور معنوية ولكنها واقع محسوس.
3. واقع غير محسوس ولكن أثره يقع تحت الحس. فهنالك أمور لا تقع تحت الحس ولكن يقع أثرها تحت الحس، ومثال ذلك هو عندما نرى أثر المشي على الرمال بعد ذهاب الماشي (المؤثر). فالواقع (المؤثر) وهو من أحدث الأثر لم يقع تحت الحس ولكن الأثر محسوس.
ج-الإحساس وحتى تتم عملية التفكير بالواقع، لابد أن يكون الواقع الذي يُراد التفكير فيه محسوساً أو أثره وقع تحت الحس، أي أن الواقع أو الأثر يقع تحت إحدى حواس الإنسان الخمس. ولابد أن تكون حواس الإنسان سليمة حتى يتم نقل الإحساس بالواقع إلى الدماغ بطريقة صحيحة حتى تكون نتيجة التفكير صحيحة. فنقل الإحساس بالواقع إلى الدماغ يتم بأحد الحواس الخمس: النظر، اللمس، السمع، الشم، والذوق. ولا يشترط اشتراك أكثر من حاسة حتى يتم الإحساس، فيكفي أن يشم الإنسان رائحة الواقع مثلاً أو أن يسمع الصوت حتى يتم الإحساس ونقله إلى الدماغ لتبدأ عملية التفكير. ولهذا فوجود الواقع ووجود الدماغ المُمَيِّز شرطين أساسيين لوجود الفكر.
هناك فرقاً بين واقع الأشياء وبين الحكم عليها، فواقع الأشياء – من حيث الوجود أو العدم – لا يختلف فيه الناس. فكل من له بصر سليم إذا رأى نوراً في السماء يجزم بوجود شيء ما وإن اختُلف في ماهية هذا الشيء شمساً كان أم قمراً أم غير ذلك ولكن يجزم بوجود شيء ما. وذلك ينطبق على جميع الحواس الأخرى، فإذا شم شخص ما رائحة أو لمس شيئاً أو سمع صوتاً أو ذاق طعماً معيناً، فإنه يجزم بوجود شيء ما وإن لم يعرف حقيقة ذلك الشيء. فالأشياء يحس بها الناس كما هي مهما حصل من تفاوت بينهم؛ ولكن الحكم على الأشياء هو الذي يختلف فيه الناس وذلك لأن حكمهم على الأشياء يعتمد على مدى صحة المعلومات الموجودة عن الواقع وما يتعلق به.
كيفية الإحساس بطريق العين تتم كالتالي : تصل الأشعة الضوئية المنعكسة عن المواد الموجودة في مجال العين إلى شبكية العين، فتوصلها الشبكية إلى عصب البصر على شكل تيارات كهربائية إلى مركز الإبصار في مؤخرة الدماغ، حينئذ يرى الإنسان الصورة التي أمامه.والبصر محدود، له مدى لا يتعداه، إذ لا يستطيع الإنسان أن يرى بعينه المجردة كثيراً من الأجسام كالجراثيم الدقيقة والذرة، وبعض النجوم البعيدة.
وحاسة السمع من أهم الحواس، فعن طريقها يأخذ الإنسان أغلب علمه، وعضو السمع الأذن التي تستقبل الموجات الصوتية فيوصلها عصب السمع إلى الدماغ، وأذن الإنسان تنقل كل الأصوات التي تصل سرعتها ما بين
(16 – 20) ألف ذبذبة في الثانية، وأما الأصوات التي ذبذبتها أسرع من ذلك فلا تستطيع الأذن البشرية نقلها إلى الدماغ. أما أذن القط فتنقل أصواتاً تبلغ ذبذبتها (50) ألف ذبذبة في الثانية، وأذن الخفاش تنقل أصواتاً تصل ذبذبتها إلى (120) ألف ذبذبة في الثانية التي عوضته عن الإبصار.فالإنسان لا يسمع إلا جزءاً من الأصوات التي حوله.
وحاسة اللمس تكون بأعصاب الإحساس المتعددة المنتشرة في الجسم كله ولا سيما في الجلد، ولكل عصب وظيفته الخاصة به، فالإحساس بالبرودة والسخونة، وأعصاب الحس بالألم، موجودة في الجلد، فإذا وخز جسم الإنسان بإبرة طويلة، شعر في أول الأمر بألم الوخز عندما تمر الإبرة بالجلد، أما إذا توغلت في عضلاته فلا يشعر بأي ألم أثناء دخول الإبرة فيما بعد الجلد.
وأما الأنف والفم فينقلان الإحساس بالرائحة وبالطعم عن طريق التفاعلات الكيماوية بوساطة أعصاب الشم وأعصاب الذوق إلى الدماغ.
أبو زكريّا
06-04-2010, 04:53 PM
د-المعلومات السابقة أما بالنسبة للمعلومات السابقة، فإنه باستعراض المشاهد المحسوس نجد أنه حتى تتم العملية العقلية (التفكير) في الأمور التي لا تتعلق بالغرائز والحاجات العضوية، لابد من وجود المعلومات السابقة عن الواقع الذي يراد الحكم عليه أوعما يتعلق به. وحتى نفهم واقع المعلومات السابقة لابد أن ننظر إلى الإنسان الحالي ونرى إن كانت المعلومات السابقة ضرورية لعملية التفكير أم لا. فبالنظر إلى الطفل الصغير الذي يوجد لديه إحساس سليم ولكن لا توجد لديه معلومات، وعُرض عليه صورة تفاحة، حجر، قطعة نحاس، قطعة من الذهب، أسد، وسفينة، فإن كان لم يرها من قبل ولم يخبره أحد بمواصفاتها، فإنه لن يستطيع التعرف عليها مهما تكرر إحساسه بها، ولن يعرف الفرق بينها ولا أهمية كلٍ منها، ولو استعمل جميع حواسه، وإن كان قد يفضل إحداها على الباقي لجمال منظرها، وقد يأخذ فكرة خاطئة عنها فمثلاً قد يعجبه شكل الأسد ويأخذ عنه فكرة أنه يمكن مداعبته، فإذا وقع حسه عليه مباشرةً قد يحاول الاقتراب منه لذلك فهو لا يعرف أن الأسد يُخيف. ولكن إذا عُلِّم أسمائُها وطبيعة كلٍ منها فسوف تتكون لديه فكرة عن كل منها ويصبح لديه ردة فعل مناسبة نحو كلٍ منها إذا وقع حسه عليها. فالذي جعله يدرك الواقع الذي أمامه ليس الواقع نفسه ولا الإحساس به ولا الدماغ الموجود لديه، ولكن هذه الأمور كلها مجتمعة مع ربط المعلومات التي أعطيت له، هي التي أوجدت عنده الأفكار عن تلك الأشياء وجعلته يتأثر ناحيتها، وهذا ما يُسمى بالإدراك العقلي.
فكل ما يستطيع الوصول إليه من إحساسه للواقع هو ما يتعلق بغرائزه أو حاجاته العضوية، وهنا فإن جمال الصورة هي ما يكيف ميله وقد يكون هذا الميل خاطئاً، فجمال الصورة تشبع عنده أحد غرائزه فتكيّف سلوكه نحوها. ولكن إذا وقع حسه على هذه الأشياء مباشرة، فإنه بالتأكيد سوف يكون حكمه عليها غير حكمه على الصور، فعندما يرى أنياب الأسد ويسمع زئيره فسوف يحس بالرعب وهذا يتعلق بأحد غرائزه، وإذا رأى السفينة وسمع صوتها قد يرتعب ويخاف منها ولكن عندما يرى الناس تركب السفينة وتبحر فتصبح عنده معلومات عنها ويحكم عليها أنها لركوب البحر، ولكن قبل ذلك لا يستطيع الحكم عليها. وكذلك إذا رأى قطعة الذهب والنحاس والتفاحة فإنه لا يستطيع الحكم عليها بمجرد إحساسه بها إلا إذا أشبعت أحد حاجاته أو غرائزه كأن يتذوقها فيعجبه طعم التفاحة أو ينظر إليها فيعجبه منظر الذهب. فكل هذه الأمور تقع تحت حسه ويمكن بإحساسه لها – بلمسها، بالنظر إليها، بشمها، بتذوقه لها، أو بسماع صوتها – أن تتكون عنده معلومات عنها، ويمكنه استخدام هذه المعلومات للحكم عليها من ناحية إشباعها لغرائزه أو حاجاته. وقبل الحصول على هذه المعلومات فإنه لا يستطيع الحكم عليها هل تشبع أو لا تشبع، لذلك ترى الطفل قبل وجود المعلومات لديه يضع كل شيء في فمه محاولاً استنتاج معلومات جديدة عن ذلك الواقع الذي يقع تحت حسه. وهذه الأمثلة كلها مما يتعلق بغرائز الإنسان أوحاجاته العضوية. ومن ذلك يتبين لنا أن مجرد الإحساس بالواقع لا يكفي للحكم عليه، وما يحصل من إحساسه بالواقع وهو ما يسمى بالتجربة الشخصية هو الحصول على معلومات جديدة عن الواقع ثم يخزنها في دماغه. لذلك ما يتعلق بالغرائز والحاجات العضوية يمكن للإنسان بتكرار الإحساس أن يسترجع الإحساس، ويمكنه بخاصية الربط أن يُكوِّن من مجموع ما يحسه وما يسترجعه من احساسات معلومات.
أما ما لا يتعلق بغرائز الإنسان أو حاجاته العضوية، فالأمر أوضح في أنه يحتاج للمعلومات السابقة للحكم على الأشياء وأنه لا يستطيع تكوين هذه المعلومات من مجرد الإحساس أو التجربة فقط كما ذُكر في الأمثلة السابقة فيما يتعلق بغرائز الإنسان أو حاجاته العضوية. ومثال ذلك أيضاً الطفل الصغير الذي لم يتعلم القراءة والكتابة بعد، إذا رأى كتاباً فإنه لن يستطيع قراءته أو الحكم عليه مهما تكرر إحساسه به، ولا يكون لديه أية ردة فعل أو أي شعور نحو ذلك الكتاب، فلا يستطيع الحكم عليه. فالذي جعله يدرك الواقع الذي أمامه ليس الواقع نفسه ولا الإحساس به ولا الدماغ الموجود لديه، ولكن هذه الأمور كلها مجتمعةً مع ربط المعلومات التي حصل عليها من التجربة الشخصية أو أعطيت له بالواقع هي التي أوجدت عنده الأفكار عن تلك الأشياء وجعلته يتأثر ناحيتها. وهذا هو الإدراك العقلي.
فخلاصة المعلومات السابقة هو أن الحس وحده لا يحصل منه فكر مطلقاً، بل الذي يحصل هو حس فقط، أي الإحساس بالواقع. ولابد من وجود معلومات سابقة عند الإنسان يفسر بواسطتها الواقع الذي أحس به حتى يحصل تفكير ينتج عنه فكر. وواقع المعلومات السابقة أنها تأتي إما من التجربة فيما يتعلق بالغرائز والحاجات العضوية، أو تأتي من مصدر آخر فيما يتعلق في غير الغرائز والحاجات العضوية بالتلقين أو التعليم أو القراءة.
والتفكير بالمسألة هو البحث في واقعها لإعطاء رأي فيه أو معرفة حقيقته، وهذا الرأي الذي يتوصل إليه الشخص أو الحكم على هذه المسألة أي على الواقع هو الفكر. ويصح أن نقول الفكر بمعنى التفكير أو الإدراك أو العقل، ويصح أن نقول أن الفكر هو نتيجة التفكير. والوصول إلى رأي في المسألة أي إصدار حكم عليها، قد يكون لمجرد معرفتها وقد يكون لتعيين السلوك تجاهها.
وقوة الربط في عملية التفكير هي خاصية من خاصيات الدماغ الموجود عند الإنسان وموجودة في كل إنسان ولكنها تتفاوت قوة وضعفا، ولكن الممارسة والمران يقوي الربط ويجعله أقرب إلى الصواب.
أما من ناحية الدماغ فالحقيقة هي أن الدماغ واحد، وان تفاوت الأفكار واختلافها تابع لتفاوت المحسوسات والمعلومات السابقة واختلافها وتابع لتفاوت قوة الربط . وانه لا توجد في دماغ قابلية لا توجد في الآخر بل جميع الأدمغة فيها قابلية الفكر في كل شيء متى توفر الواقع المحسوس والحواس والمعلومات السابقة والدماغ . وإنما تتفاوت الأدمغة في قوة الربط وفي قوة الإحساس كما تتفاوت العيون في قوة الإبصار وضعفه ، وكما تتفاوت الآذان في قوة السمع وضعفه.
وهنا لابد من الإشارة إلى أنه عند بحث الواقع لابد من بحث الواقع الحاضر المحسوس أو أثره محسوس، وعند صدور الحكم عليه فإن هذا الحكم يمكن إطلاقه على جنس ذلك الواقع، فمثلاً عندما نقول أن الإنسان الذي نراه أمامنا ينمو، فإن كل إنسان في كل مكان وزمان ينطبق عليه هذا الحكم. وهذا هو القياس الصحيح، أي قياس الغائب على الشاهد، ولا يصح أن يكون العكس أي أن يكون التفكير في الواقع الغائب ومن ثم نقيس عليه الواقع الحالي.
إذاً فالطريقة العقلية في التفكير هي:
"نقل الحس بالواقع بواسطة الحواس إلى الدماغ ووجود معلومات سابقة - لا آراء سابقة - يفسر بواسطتها هذا الواقع، وحينئذ يصدر الدماغ حكمه على هذا الواقع. وإذا استعملت الطريقة العقلية على وجهها الصحيح فإنها تعطي نتائج صحيحة.
إذاً لبحث أي واقع أو للحكم عليه مما لا يتعلق بالغرائز والحاجات العضوية، لابد وأن تتوفر فيه الشروط السابقة والتي هي:
1. لابد وأن يكون الواقع المراد بحثه محسوس أو محسوس أثره.
2. وجود الإحساس السليم عند الباحث حتى ينقل الحس بالواقع إلى الدماغ بطريقة صحيحة.
3. وجود الدماغ المُمَيِّز السليم القادر على الربط والحكم عند الباحث.
4. وجود المعلومات عن الواقع المراد بحثه وما يتعلق به.
وإذا فقد أيٍ من هذه الأمور الأربعة لا يكون البحث في الواقع تفكيراً ونتيجة البحث لا تكون فكراً. فلابد قبل البدء بأي بحث التأكد بأن هذه الأمور الأربعة متوفرة قبل البدء بالبحث، حتى يكون البحث صحيحاً ليؤدي إلى نتائج صحيحة. وإذا لم يتوفر أيٍ من الأمور الأربع السابقة، فلا يكون البحث عملية عقلية ولا تفكيراً.
أبو محمد
08-04-2010, 06:15 AM
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم
حياك الله أبا زكريا
الله يعطيك العافية على جهدك
سأحاول أن أقرأ ما كتبت وأعلق عليه قد الإمكان.
والسلام عليكم
الأخ الكريم أبو زكريا حياك الله أخ وصديق إن شاء الله وأشكرك على الثقة الغالية في طرح ما كتبت حتى تأخذ رأي الإخوة هنا وهذا إن دل على شيء فيدل على إنسان مفكر وواعي ومتواضع والمسلم مع إخوته كثير إن شاء الله.
واسمح لي أن ابدي بعض الملاحظات على ما وضعت وكل أمل أن يتسع صدرك لها.
أولا: لم تأتي بأي شيء جدي في كل ما كتبت وكل ما في الأمر أنك كتبت ثقافة الحزب وتريد وضع اسمك عليها، أرجو أن تذكر في كتابك أن هذه الأفكار هي لحزب التحرير و لا تكن مثل عبد العزيز الخياط وسميح عاطف الزين و من لف لفهم حين وضعوا أفكار الحزب في كتب وكتبوا أسمائهم عليها حتى يوهموا القارئ أن هذا الفكر لهم !
لذلك أتمنى أن توضح هذا في كتابك، وخصوصا أنك تريد ترجمته للفرنسيين يعني هو كتاب موجه لأوربا.
ومن خلال ما كتبت معظم الأمثلة مأخذوه كتب الحزب عسى لو تذكر أمثلة غير كتب الحزب وحتى أجوبة الأسئلة وضعت تقريبا كما هي .... حتى أنا لما اقراء لمعظم الشباب تجد أنهم عاجزين عن ضرب مثال جديد غير مثال الحزب كما فعل عطا أبو رشته في كتابه تيسير الأصول نقل امثله الحزب في كثير من المباحث.
ثانيا: بخصوص الحيوانات هناك رأي يقول لديها غريزة التدين مستدلين بآيات قرآنية مثل قوله تعالى " تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُور"
وقالوا أن الانسان لا يدرك طبيعة هذا التسبيح الذي هو مظهر من مظاهر التدين.
وبغض النظر عن رأيي في الموضوع إلا أني أحببت أن ألفت نظرك أخي الكريم لهذه المسألة وعسى لو تنظر في كتاب مفاهيم إسلامية ج 1 طبعا هناك رأي آخر لأحد مفكري الشباب وهو يميل لقولك ويقول الحجر لا يسبح و لا يمكن أن يسبح وهذه الآيات تتحدث عن تسبيح الحال أي حالها على هذا الوجه أنها مخلوقه لخالق و هناك تسبح مقال وهو ما يقوم به الإنسان عموما هي فقط للفت النظر ليس أكثر.
ثالثا: عسى لو تتوسع في قضية التمميز الغريزي لان بعض الغربيين يرون أن الحيوان يدرك عقليا و ليس غريزيا بل معظم ثقافة الغرب تقوم على أن الحيوان يدرك مثل الانسان ولكن ادراك محدود وذهبوا إلى بحوث الذكاء عند الحيوان أظن لابد من التوسع بها.
رابعا الجنة والنار و الجن كلها لها واقع موجود أخبر عنه المصدر الذي قطع العقل به وهي غير محسوسة و لا ملموسة ولا يوجد أثر لها ولكن يعتبر التفكير بها تفكير صحيح لأنه تفكير في امر موجود قطعا لذلك هي من الواقع ولا أدري لماذا لم تذكرها.
خامسا: التفكير في ما يصح به التفكير هو أساس ما وضعت لحد الآن والحزب بدأ به قبل بحث أنواع التفكير لأنه منزلق كل مفكري الدنيا من فلافسة و أشاعرة و سلفية وهو منزلق الجميع وقع به لذلك الأمر اوسع من قولك " (4) نظرا للتجدّد الدائم وللتنوع المتعدّد فان التفكير عرضة للانزلاق وعرضة للابتعاد ، لذلك فانّه لا بدّ أن يبحث التفكير فيما يصحّ أن يجري التفكير فيه وفيما لا يصحّ أن يجري فيه".
ولم توضح ما قصدك من التجدد والتنوع المتعدد عسى لو توضحها.
في أمان الله
أبو زكريّا
08-04-2010, 08:18 PM
بسم الله الرحمان الرحيم
إخوتي الأعزّاء أبو محمّد و مؤمن لديّ بوركتم وجعلكم الله ذخرا لأمّة الإسلام.
ملاحظاتك أخي مؤمن قيّمة جدا وتدل على وعي راقي وثقافة واسعة وغيرة على الحزب.
لدي ما أعلق على ما كتبت إن سمحت لي
أولا: قلت : لم تأتي بأي شيء جدي وأظنّك تقصد : لم تأتي بأي شيء جديد ؟
قلت : كل ما في الأمر أنك كتبت ثقافة الحزب وتريد وضع اسمك عليها.
ليس هذا هو الأمر معاذ الله. أنا لم آتي و لو بفكرة واحدة جديدة بل هي كلها أفكار الحزب و لاريب ولكن أيضا أفكار بل مفاهيم إسلاميّة.
أنا لا أنوي كتابة إسمي بل إسم مستعار.
في الكتاب سأذكر أنّه ليس من تأليف الكاتب بل من إعداد الكاتب فيس المقدمة وسأذكر أيضا إن شاء الله
كل المراجع التي إعتمدتها وهي كالآتي :
1- القرآن الكريم
2- كتاب التفكير للشيخ تقي الدين النبهاني
3- كتاب الشخصية الإسلامية للشيخ تقي الدين النبهاني
4- كتاب النهضة للشيخ حافظ صالح
5- مفاهيم إسلاميّة للشيخ محمّد حسين عبد اللّـه
6- الفكر الإسلامي للشيخ محمد محمد إسماعيل
7- موقع منتدى العقاب وبخاصة مشاركات الأعضاء : أبومالك, المنصور اللبناني, البيان ويوسف الساريسي
8- مقالات للشيخ ياسين بن علي من موقع مجلة الزيتونة
9- مجلة الوعي
10- مقالات من مدونة الدكتور حسن الحسن
11- كتاب لمن الحكم؟ للشيخ سميح عاطف الزين
12- كتاب علم النفس للشيخ سميح عاطف الزين
13- موسوعة الخلق والنشوء للشيخ حاتم ناصر الشرباتي
14- كتاب العقيدة الإسلامية وأثرها في حياة المسلمين للشيخ يوسف أحمد محمود السباتين
ثانيا: هذا الكتاب الهدف منه الوصول عقليّا إلى العقيدة الإسلاميّة -وجود الله وصدق رسالة الإسلام- للذين لايفرقون بين العقلي والمنطقي والعلمي والذين يعتقدون أنّ كل دين هو محل تسليم -الوجدان- فقط.
ثالثا : بخصوص الحيوانات وغريزة التدين دليلها نقلي وليس محل لذكرها الآن.
رابعا: بخصوص إدراك الحيوان فسأتي ذكرها تحت عنوان : التفريق بين التمييز الغريزي وبين التفكير
خامسا: أرجو أن توضح أكثر ملاحظتك الخامسة
أخي أبو محمد, أنا في إنتظار تعليقك
والسلام عليكم
أبو زكريّا
08-04-2010, 08:21 PM
أن العملية العقلية تقوم على الحكم أو على إدراك شيء من الأمور التالية:
1- وضع الحكم
2- فهم الدلالة
3- فهم الحقيقة
4- البحث في المواد المحسوسة ( ومنها بحوث الفيزياء والكيمياء ) ( إما لمعرفة ماهية الأشياء ( حقيقتها )، أوصفاتها ، أو لإدراك وجودها من عدمه )
5- البحث في الأفكار: كالعقائد والتشريعات
6- فهم الكلام: ومنه الأدب والفقه
7- إنشاء أفكار جديدة، مقابل استنباط أفكار من خلال الاستقراء.
أما النتيجة التي يصل إليها الباحث على الطريقة العقلية ينظر فيها:
أولاً: إن كان الحس بالواقع حساً مادياً أو معنوياً فيكون الحكم عليه كالتالي:
1. إن كانت هذه النتيجة هي الحكم على وجود الواقع، فهي قطعية لا يمكن أن يتسرب الخطأ إليها مطلقاً ولا بحال من الأحوال. وذلك لأن الحكم جاء عن طريق الإحساس بالواقع، والحس لا يمكن أن يخطئ بوجود الواقع، إذ أن إحساس الحواس بوجود الواقع قطعي، فالحكم الذي يصدره العقل عن وجود الواقع أو عدمه في هذه الطريقة قطعي.
إنّ الحِس لَا يُمْكِنُ أَنْ يُخْطِئَ بِوُجُوْدِ الوَاقِعِ إِذْ أَنَّ إِحْسَاسَ الحَوَاسِ بِوُجُوْدِ الوَاقِعِ قَطْعِيٌ، فَالحُكْمُ الَّذِي يُصْدِرُهُ العَقْلُ عَنْ وُجُوْدِ الوَاقِعِ قَطْعِيٌ. أَمَّا المُغَالَطَاتُ الَّتِي تَحْصُلُ فَيُخْطِئُ فِيْهَا الحِسُّ مِثْلَ رُؤيَةِ السَّرَابِ وَظَنِّهِ أَنَّهُ مَاءٌ وَرُؤيَةِ القَلَمِ الصَّحِيحِ المُسْتَقِيْمِ وَهُوَ فِي كُوْبٍ مِنَ المَاءِ أَنَّهُ مَكْسُوْرٌ أَوْ أَعْوَجٌ فَلَيْسَ خَطأً فِي وُجُوْدِ الوَاقِعِ وَإِنَّمَا هُوَ خَطَأٌ فِيْ صِفَاتِ الوَاقِعِ فَهُوَ لَمْ يُخْطِئْ فِي وُجُوْدِ شَيءٍ وَهُوَ السَّرَابُ أَوِ القَلَمُ وَإِنَّمَا أَخْطَأَ فِي صِفَةِ الشَّيءِ فَقَالَ عَنِ السَّرَابِ أَنَّهُ مَاءٌ وَعَنِ القَلَمِ الصَّحِيْحِ المُسْتَقِيْمِ أَنَّهُ مَكْسُوْرٌ أَوْ أَعَوَجٌ، وَهَكَذَا فِيْ جَمِيْعِ الأَشْيَاءِ مَهْمَا حَصَلَتْ فِيْهَا مِنْ مُغَالَطَاتٍ فَإِنَّ الحِسَّ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُخطِئَ فِي وُجُوْدِهَ.
2. أما إن كانت النتيجة هي الحكم على حقيقة الواقع أو صفته، فإنها تكون نتيجة ظنية فيها قابلية الخطأ. لأن هذا الحكم جاء عن طريق المعلومات، أو تحليلات الواقع المحسوس مع المعلومات، وهذه يمكن أن يتسرب إليها الخطأ، ولكن تبقى فكراً صائباً حتى يتبين خطؤها، وحينئذ فقط يحكم عليها بالخطأ، وقبل ذلك تبقى نتيجة صائبة وفكراً صائباً حتى يتبين خطؤها، وحينئذ فقط يحكم عليها بالخطأ. وقبل ذلك تبقى نتيجة صائبة وفكراً صحيحاً.
مثال ذلك إذا رأى الباحث تفاحةً أو لمسها أو شم رائحتها أو تذوق طعمها، أو سمع صوت ما فإنه يجزم بوجود شيء ما، أما حكمه على حقيقة هذا الواقع قد يختلف حسب المعلومات الموجودة لديه عن هذا الواقع. فقد يكون شكل الواقع يشبه التفاحة ولكنه حقيقةً مصنوع من مادة البلاستيك. هذا بالنسبة للحس المادي.
أما بالنسبة للحس المعنوي، فإن الإنسان يجزم بوجود المجتمع، ولكن معرفة حقيقة المجتمع ونتيجة الحكم عليه تكون ظنية، فيها قابلية الخطأ لأنها تعتمد على صحة تعريف المجتمع وصحة المعلومات المتوفرة عنه، فقد يراه إنسان أنه مجتمع ناهض لوجود النهضة العمرانية ويراه آخر منحط لانحطاطه الفكري.
ثانياً: إن كان الحس ليس بالواقع وإنما بأثره فيكون الحكم عليه كالتالي:
1. إن كانت هذه النتيجة هي الحكم على الأثر، فينطبق عليها ما ذُكر في النتيجة الأولى لأنه واقع محسوس.
2. إن كانت هذه النتيجة هي الحكم على وجود الواقع الذي أحدث الأثر، فهي قطعية لا يمكن أن يتسرب الخطأ إليها مطلقاً ولا بحال من الأحوال. وذلك لأن الحكم جاء عن طريق الإحساس أيضاً، ذلك لأن الأمر بديهي إذا وقع الحس على الأثر فلابد وأن هنالك من أحدث هذا الأثر. والحس لا يمكن أن يخطئ بوجود الواقع، إذ أن إحساس الحواس بوجود الواقع قطعي، فالحكم الذي يصدره العقل عن وجود الواقع في هذه الطريقة قطعي أيضاً. ومثال ذلك أن يرى الإنسان أثر قدم أو خف في رمال الصحراء فإنه يجزم أن هنالك شيء ما مر في هذه المنطقة لوجود ذلك الأثر. ولابد من لفت النظر إلى ضرورة حدوث ذلك الأثر، أي أن ذلك الأثر لم يكن موجوداً من قبل ثم وجد، أي أن التغيير وقع تحت الحس. ولا يصح ذلك مثلاً على الجبال، أي أن نقول أنها لم تكن في زمن ما ثم وُجدت، لأن هذا لم يقع تحت حس الإنسان. أما مثال أثر المسير فهو صحيح لأن الإنسان وقع تحت حسه أن الرمال في الصحراء أو قرب البحر تكون ناعمة وبدون آثار بسبب عوامل الطقس، فإذا رأى أثر لشيء ما في هذه الرمال يجزم بأن هذا الأثر حادث فيجزم بوجود من أحدث هذا الأثر.
3. أما إن كانت النتيجة هي الحكم على حقيقة الواقع الذي أحدث الأثر أو صفته فينظر. لأن التفكير الآن يكون في الأثر للوصول إلى نتيجة عن الواقع الذي أحدث الأثر:
أ- فإن كان هذا الأثر لواقع قد وقع تحت حس الإنسان من قبل وعنده معلومات عنه، فإن نتيجة الحكم على الواقع تكون نتيجة ظنية، فيها قابلية الخطأ. لأن هذا الحكم جاء عن طريق المعلومات، أو تحليلات الأثر المحسوس مع المعلومات، وهذه يمكن أن يتسرب إليها الخطأ، ولكن تبقى فكراً صائباً حتى يتبين خطؤها، وحينئذ فقط يحكم عليها بالخطأ، وقبل ذلك تبقى نتيجة صائبة وفكراً صائباً حتى يتبين خطؤها، وحينئذ فقط يحكم عليها بالخطأ. وقبل ذلك تبقى نتيجة صائبة وفكراً صحيحاً. ومثال ذلك أن يرى الإنسان أثر قدم لإنسان، فإنه يستطيع أن يحكم على مرور إنسان من هذا المكان. أو أن يرى بعرة فيجزم أن هنالك بعير مرَّ من ذلك المكان، وذلك لوجود معلومات عن هذا الأثر أنه لهذا الواقع أو ذاك.
ب- أما إن كان هذا الأثر لواقع لم يقع تحت حس الإنسان من قبل ولكن لديه معلومات عنه من مصدر يثق به، فإن نتيجة الحكم على ذلك الواقع تكون بحسب مصدر المعلومات، فإن كان المصدر فيه قابلية الخطأ، تكون النتيجة ظنية، وإن كان المصدر قطعي، تكون نتيجة قطعية. ومثال ذلك أن يرى الطفل أثر عجل السيارة فيسأل أبيه فيجيبه بأن ذلك الأثر هو للسيارة، وبذلك يكون اعتماد ذلك الطفل في حكمه على ذلك الأثر من المعلومة التي أخذها عن والده، فصحة حكمه يعتمد على صحة المعلومة.
ت- أما إن كان هذا الأثر لواقع لم يقع تحت حس الإنسان من قبل وليس لديه أي معلومات عنه لا من قريب ولا من بعيد، فيستحيل على الإنسان أن يعرف حقيقة هذا الواقع أو التفكير فيه والحكم عليه، وإن حاول ذلك فيكون أوهاماً وتخيلات وهي لا تمت إلى العقل ولا إلى العملية العقلية بصلة فلا يكون تفكيراً. ومثال ذلك إذا وقع حس الإنسان على أثر لواقع لم يقع حسه عليه من قبل ولم يجد من عنده معلومات عن هذا الواقع، فإنه لا يستطيع أن يجري العملية العقلية عليه ما دامت المعلومات عن ذلك الأثر غير متوفرة.
هذه هي جميع احتمالات عملية التفكير من حيث اختلاف الواقع ولابد من التحقق في واقع الواقع الذي يراد بحثه قبل البحث حتى يتسنى لنا التفكير به بالطريقة الصحيحة، ويكون إعمال العقل فيه تفكيراً.
وخلاصة البحث هي أن نتيجة التفكير في الواقع تكون إما للحكم على وجوده فهي قطعية (موجود أو غير موجود)، أو للحكم على حقيقته أوصفته أو غير ذلك مما يتعلق بالواقع تكون النتيجة بحسب المعلومات، فإن كانت قطعية كان الحكم عليها قطعي. وإن كانت هذه المعلومات ظنية كانت النتيجة ظنية فيها قابلية الخطأ لأن هذا الحكم جاء عن طريق المعلومات أو تحليلات الواقع المحسوس أو الأثر المحسوس مع المعلومات وهذه يمكن أن يتسرب إليها الخطأ، ولكن تبقى فكراً صائباً حتى يتبين خطؤها، وحينئذ فقط يحكم عليها بالخطأ، وقبل ذلك تبقى نتيجة صائبة وفكراً صائباً حتى يتبين خطؤها، وحينئذ فقط يحكم عليها بالخطأ. وقبل ذلك تبقى نتيجة صائبة وفكراً صحيحاً.
أبو زكريّا
08-04-2010, 08:24 PM
يكون التفكير إمّا فكرًا سطحيًّا , أو فكرًا عميقًا , أو فكرًا مستنيرًا:
أ- فكر سطحيّ : النظر إلى الشيء و الحكم عليه بدون فهم
ب- فكر عميق : النظر إلى الشيء و فهمه و الحكم عليه
ج- فكر مستنير : النظر إلى الشيء ووما حوله و فهمه و فهم ما يتعلّق به ثمّ الحكم عليه
ولنضرب مثالاً للتدليل على هذه الأقسام الثلاثة.
لنفترض أننا نريد شراء طاولة . ما هي مستويات التفكير المختلفة التي نستطيع القيام بها لدعم إختيارنا قبل عملية الشراء؟
الطريقة الأولى تقتصر في لمح طاولة ذات لون نميل إليه في محل لبيع الأثاث ، ودون أيّ تساؤل نتّخذ قرارشراء هذه الطاولة , في هذه الحالة ، كان تفكيرنا سطحيًّا. فكر سطحي = مجرّد الملاحظة بدون حصول أيّ فهم وإصدار الحكم. هذا النوع من التفكير الذي إقتصر على المظاهر -اللون هنا- يؤدّي في كثير من الأحيان إلى الحكم والإختيار الخطأ. فقد يخفي إختيارنا العديد من العيوب.
لاختيار أكثر حكمة يمكننا طرح بعض الأسئلة : ماهو نوع الخشب ؟ وما هي درجة صلابته؟ ماهي درجة مقاومته للرطوبة؟ هل للطاولة عجلات مثلا؟ الخ. الإجابة على هذه الأسئلة تقودنا الى تعمّق في فهم الواقع تحت البحث , الطاولة. فالتفكير العميق هو دراسة متعمقّة للواقع ثمّ إصدار احكام حول هذا الواقع. على الرغم من تفوّقه على الفكرالسطحي ، إلا أنّه يكون في كثير من الحالات غير كافي. ربما عرفنا كل خصائص الطاولة التي اشتريناه ، وبالوصول للمنزل نشعر بخيبة أمل.
هذا لن يحدث على سبيل المثال إذا كنّا ندرك أن طاولة كبيرة جدّا لا يمكن أن يكون لها مكان. أو أن لون أو شكل الطاولة ليست متناسقة مع قطع الأثاث الأخرى الموجودة بالبيت. وقد نأسف أيضا أنّنا لم ننتبه أنّ ميزانيتنا لا تسمح لشراءها لوجود ما هو أكثر أولويّة للإنفاق. فإنّه سيكون أكثر أمانا إذا أضفنا للتساؤلات السابقة الاعتبارات التالية : ما هي إستعمالات هذه القطعة ، هل نريد طاولة أكل أوطاولة صالون ؟ وما هي أبعادها و أبعاد الغرفة التي نريد أن نضعها فيها؟ هل نحتاج لأدراج ؟ هل شكلها و لونها متناسق مع بقيّة الأثاث بالغرفة؟ الخ.
هذا التوسّع في التفكير في هذا الوقع ، الطاولة ، يعزّز فهمنا ويجعلنا اكثر حكمة في الاختيار. وبالتالي ، فإنّنا ارتفعنا من تفكير عميق إلى تفكير مستنير. فالتفكير المستنير هو النظرة العميق في الواقع ،والنظر في العناصر التي تحيط و تتعلق به ثم تكوين رأي أو إصدار حكم على هذا الواقع.
الفكر السطحي
يكون التفكير السطحي في المواضع التي لا تأخذ عمليّة التفكير حقّها من حيث استخدام الأركان الأربع (الدماغ الصالح - الواقع المحسوس – الإحساس - المعلومات السابقة ) فمن حيث الواقع لا يتمّ تقليبه لنقل صورته الكاملة والحقيقيّة، ومن حيث الحسّ قد لا يتم نقل صورة الواقع كاملة، أو يتم الإقتصار فيها على حاسّة دون حاسّة أخرى أو على إحساس واحد دون تكرار الإحساس بالواقع مرّة ومرّة، ومن حيث المعلومات السابقة لا تستحضر المعلومات المطلوبة الكافية لتفسير الواقع بل يُقتصر فيها على معلومات أوليّة قد لا تكون بالضرورة متعلّقة بالواقع ولا يتم البحث عن معلومات أخرى عن الواقع أومعلومات متعلّقة بالواقع، ومن حيث الربط لا يتم الانتباه إلى مختلف الخصائص والعلاقات المترتّبة عليها بين الواقع والمعلومات.
وسبب التفكير السطحي هو ضعف الإحساس أو ضعف المعلومات أو ضعف خاصية الربط الموجودة في دماغ الإنسان . وهو ليس التفكير الطبيعي عند الإنسان، وان كان هو التفكير البدائي . فبني الإنسان يختلفون في قوة الإحساس وضعفه، ويختلفون في قوة خاصية الربط وضعفها، ويختلفون في كمية أو نوع المعلومات التي لديهم سواء أكانت معلومات أخذت بالتلقي أو بالمطالعة ، أو أخذت من تجارب الحياة . فان اختلافها يعني أن التفكير يكون بحسبها . والأصل في الإنسان أن يكون أن يكون سليم الدماغ وخاصية ربط قويّة، إلا القليل ممّن خلقوا ضعفاء أو طرأ الضعف عليهم . والأصل أن تتجدد المعلومات يوميا ، حتى لوكان الإنسان أمّي ، إلا الشواذ الذين لا يلفت نظرهم شيء ، ولا يقيمون وزنا لما يتلقونه أو يطالعونه من المعلومات . ولذلك فان التفكير السطحي ليس طبيعيا بل هو شاذ . إلا أن تعوّد الإنسان على التفكير السطحي ورضاه بنتائجه ، وعدم حاجته للأمور الأعلى مما لديه ، يجعل التفكير السطحي عادة فيستمرّ على هذا النمط من التفكير ، ويستمرئه ، ويتبلور ذوقه عليه .
و يمكن إزالة السطحية أو تخفيفها أو جعلها نادرة عند شخص بإزالة عادته في التفكير الموجودة لديه. وذلك بتعليمه أو تثقيفه ولفت نظره إلى سخافة تفكيره والى سطحية أفكاره، وثانيا بإكثار التجارب لديه أو أمامه وجعله يعيش في وقائع كثيرة ويحس بواقع متعدّد ومتجدّد ومتغيّر ، وثالثا بجعله يعيش مع الحياة ويساير الحياة .
الفكر العميق
هو حكم على واقع - مثل الفكر السطحي -ولكنّه يُعني بالإحاطة بالواقع، من جميع أركان عمليّة التفكير، فتجده ينظر إلى الواقع مرّات ومرّات، ويقلّبه من كافّة نواحيه، وينظر فيه مرّة وثانية وثالثة،إمّا عن طريق التجربة وإما بإعادة الإحساس , فهو تعمّق في الإحساس . وتجده أيضا ينقّب بدقّة لاستحضارولبحث عن معلومات متعلّقة بالواقع المراد التفكير فيه، فهو تعمّق في المعلومات السابقة للحكم على الواقع . وأخيرًا يقلّب النظر والملاحظة في علاقة المعلومات المستحضرة بالواقع ويعاود ربط المعلومات بالواقع والواقع بالمعلومات، فهو أيضا تعمّق في الربط.كلّ هذا يتم بتكرار مع التركيز فلا يكتفي فيه الإحساس الأوّلي ولا المعلومات الأوّليّة ولا الربط الأوّلي. فهو يقتضي معرفة الواقع معرفة عميقة وعدم الاقتصار على مظهر من مظاهره أو خاصيّة من خواصّه. ومن ثمّ يقع الحكم أو الإستنتاج للوصول لأفكار عميقة سواء أكانت حقائق أو لم تكن حقائق.
إنّ معرفة الأشياء تقتضي معرفة جزئيّاتها وخواصّها وصولاً إلى تركيبها الذرّي . ومعرفة الوقائع والأحداث تقتضي معرفة الأطراف التي لها دورمباشر في الواقعة أوالحادثة ومعرفة أيضا أمروموضوع الحادثة ومعرفة الظرف أوالحالة التي جرت فيها الحادثة أو الواقعة والأسباب المباشرة لها، والأسباب غير المباشرة إن وجدت. لذلك تجد أنّ العلماء والمفكّرين يستعملون التفكير العميق حين البحث.
أبو زكريّا
08-04-2010, 08:25 PM
الفكر المستنير
أمّا التفكير المستنير, وهو أرقى أقسام التفكير, هو التفكير العميق نفسه مضافاً إليه التفكير بما حول الواقع وما يتعلق به للوصول إلى النتائج الصادقة. أي أنّ التفكير العميق هو التعمّق بالفكر نفسه ولكن التفكير المستنير هو أن يكون إلى جانب التعمّق بالفكر التفكير بما حوله وما يتعلق به، من أجل غاية مقصودة وهي الوصول إلى النتائج الصادقة.
فهو يمتاز عن التفكير العميق بأن يتمّ ربط الواقع بوقائع أخرى متعلّقة به، كأن تكون علاقته بما حوله، مثلاً، أو علاقته بما قبله، أو علاقته بما بعده، أو علاقته بشبيه له، أو غير ذلك، ولا بد فيه من التفكير العميق، مضافاً إليه ملاحظة علاقة الواقع المراد التفكير فيه بما حوله . ولذلك فإن كل فكر مستنير هو تفكير عميق، ولا يتأتّى أن يأتي التفكير المستنير من التفكير السطحي. إلا أنّه ليس كل تفكير عميق تفكيراً مستنيراً. فمثلاً عالم الذرة حين يبحث في شطر الذرة وعالم الكيمياء حين يبحث في تركيب الأشياء والفقيه حين يبحث في استنباط الأحكام ووضع القوانين. فإنهم هم وأمثالهم حين يبحثون الأشياء والأمور، إنما يبحثونها بعمق ولولا العمق لما توصلوا إلى تلك النتائج الباهرة. ولكنّهم ليسوا بالضرورة مفكرّين تفكيراً مستنيراً، فالمفكر تفكيراً عميقاً في أمر إنما هو عميق فيما فكّر فيه وليس بالضرورة بسواه، فقد يكون عميقاً عند تفكيره بشطر الذرة أو وضع القانون ولكنه قد يكون سطحيّا أوسخيفاً في غيره إذا فكّر فيه. والتفكير المستنير ليس هو التفكير المعقد ولا البسيط بل هو تفكير صفته انه مستنير ,وكونه سهلا او معقدا مسألة نسبية تعتمد على الشخص الذي يفكر,فاذا كان معتادا على التفكير المستنير فسيكون سهلا عنده بل سجيةمن سجاياه,اما من لم يكن كذلك ثم حدثته وبحثت معه في موضوع لاجل الوصول الى الرأي او الحكم الصحيح فيه ولم يكن معتادا على التفكير المستنير في مثل هذا الموضوع وكان الحكم المبحوث عنه مما يحتاج الى التفكير المستنير ,فانك ستحكم على الشخص بانه بسيط , مع انه قد يكون مستنيرا عند بحث مواضيع اخرى.
والواقع انه ما من انسان عاقل الا وعنده تفكير مستنير,ولكنه قد يكون في كثير من تفكيره او المواضيع التي يفكر فيها سطحيا فقط او عميقا فقط, والواقع ايضا ان الناس جميعا يكونون سطحيين في اشياء وعميقين في اشياء ومستنيرين في اشياء, ولكي نحكم على الشخص بالاستنارة او العمق او السطحية فان العبرة فيما يغلب على تفكيره.
والاستنارة في التفكير لا تقتضي وجود التعليم ، أي أن المفكرين المستنيرين لا ضرورة لان يكونوا متعلمين ، فالذي قال : البعرة تدل على البعير ، والأثر يدل على المسير ، هو مفكر مستنير. فالتفكير المستنير لا يحتاج إلى علم ولا يحتاج إلى حكمة ، وإنما يحتاج لان يفكر بعمق وان يجول فيها حول الشيء وما يتعلق به بقصد الوصول إلى النتائج الصادقة ، ولذلك قد يكون أميّا لا يقرأ ولا يكتب ، كما قد يكون متعلما أو عالما . والمفكر المستنير لا يكوّن فكرا مستنيرا ، إلا إذا وجدت فيه الاستنارة عند التفكير . فالسياسي مفكر مستنير ، والقائد مفكر مستنير ، ولكن كلا منهما يحتاج لوجود الاستنارة عند التفكير في كل شيء حتى يكون ذلك التفكير مستنيرا . ولذلك لا نعجب إذا رأينا عظماء القادة وعظماء السياسيين يصلون للخشبة ويطلبون الغفران من رجال هم اقل منهم استنارة ، فان تفكيرهم هذا ليس فيه عمق ولا استنارة ، بل هو من طريق العادة أو التقليد أو من طريق الدجل والنفاق . وكل هذا ليس عمقا ولا استنارة لان المفكر المستنير ، لا يتصل بالدجل والنفاق ، ولا تتحكم فيه العادات والتقاليد .
والامر المهم الذي تعظم الحاجة اليه هو تعيين المواضيع التي تحتاج الى تفكير مستنير كي يوليها المرء العناية اللازمة, واهم الموضوعات التي تحتاج الى التفكير المستنير والتي لا يمكن الوصول الى النتائج الصادقة فيها الا بالفكر المستنير هو التفكير لاجل الوصول الى العقيدة, يليها التفكير في الشان العام اي في قضايا المجتمع والامة وهو التفكير السياسي.
ان التفكير المستنير في اي مسالة او واقع يجب ان يسبقه التفكير العميق فيها ولكن العمق المطلوب هو في جانب او جوانب معينة من ذلك الواقع وليس بالضرورة في كل شيء فيه,والمفكر هو الذي يحدد تلك الجوانب.
والفكر المستنير هو انه بعد التعمق في الجانب او الخاصيات ذات العلاقة او المؤثرة بالحكم المطلوب التوصل اليه حول واقع معين, وهذا التعمق يؤدي الى الحصول على المعلومات اللازمة في عملية التفكير ,يتم استعمال او الاستفادة من معلومات اخرى,لم يكن الواقع نفسه مصدرها اثناء عملية التفكير هذه, وانما هي موجودة مسبقا من خلال تفكير سابق ,وعلاقتها بهذا الواقع هي من جهة الحكم عليه حكما عاما او شموليا ,وبتعبير آخر هذه المعلومات المسبقة هي بالنسبة لهذا الواقع عامة او شاملة تصدق عليه وعلى غيره.فالتعمق يؤدي الى فهم دقيق للواقع نفسه ,وكل الاحكام او المعلومات التي نحصل عليها من الواقع نفسه هي من باب التفكير العميق,فاذا ربطنا هذا الواقع او المعلومات عنه بمعلومات اخرى عنه ولم يكن هو نفسه مصدرها ,بل كان مصدرها حكم عام او كلي آخر ولكنه ينطبق على هذا الواقع انطباق العام على احد افراده او الكلي على احد جزئياته يكون حينئذ التفكير مستنيرا.
واما التوصل الى نتائج صادقة فهو شرط لكي يكون التفكير مستنيرا, ولكنه لايعني ان التفكير المستنير يتحتم ان تكون نتيجته صحيحة ,فقد يكون مستنيرا وتكون نتيجته ككثير من حالات التفكير السياسي.*وهذه الاحكام العامة او الكلية التي يتم استعمالها اثناء التفكير المستنير قد تكون صحيحة وقد تكون خطأ وقد تكون ظنية وقد تكون صحيحة جزئيا فتصدق على بعض الاجزاء او الافراد التي تدل عليها وليس عليها كلها.
وينبغي ادراك ان التفكير المستنير ليس لازما في كل واقعة او مسالة,بل هو لازم حيث لا يمكن الوصول الى النتيجة الصحيحة الا بالقاء اضواء عليها من خارجها اي مما حولها وله علاقة بها . وكذلك فان التفكير في قضية معينة قد يحتاج المفكر فيها الى الاستنارة للتوصل الى الحكم الصحيح ,وقد لا يحتاج ,وذلك بحسب المعلومات المتوفرة لدي الشخص وبحسب مقدار التعمق التيسر.
بسم الله الرحمان الرحيم
إخوتي الأعزّاء أبو محمّد و مؤمن لديّ بوركتم وجعلكم الله ذخرا لأمّة الإسلام.
ملاحظاتك أخي مؤمن قيّمة جدا وتدل على وعي راقي وثقافة واسعة وغيرة على الحزب.
لدي ما أعلق على ما كتبت إن سمحت لي
أولا: قلت : لم تأتي بأي شيء جدي وأظنّك تقصد : لم تأتي بأي شيء جديد ؟
قلت : كل ما في الأمر أنك كتبت ثقافة الحزب وتريد وضع اسمك عليها.
ليس هذا هو الأمر معاذ الله. أنا لم آتي و لو بفكرة واحدة جديدة بل هي كلها أفكار الحزب و لاريب ولكن أيضا أفكار بل مفاهيم إسلاميّة.
أنا لا أنوي كتابة إسمي بل إسم مستعار.
في الكتاب سأذكر أنّه ليس من تأليف الكاتب بل من إعداد الكاتب فيس المقدمة وسأذكر أيضا إن شاء الله
كل المراجع التي إعتمدتها وهي كالآتي :
1- القرآن الكريم
2- كتاب التفكير للشيخ تقي الدين النبهاني
3- كتاب الشخصية الإسلامية للشيخ تقي الدين النبهاني
4- كتاب النهضة للشيخ حافظ صالح
5- مفاهيم إسلاميّة للشيخ محمّد حسين عبد اللّـه
6- الفكر الإسلامي للشيخ محمد محمد إسماعيل
7- موقع منتدى العقاب وبخاصة مشاركات الأعضاء : أبومالك, المنصور اللبناني, البيان ويوسف الساريسي
8- مقالات للشيخ ياسين بن علي من موقع مجلة الزيتونة
9- مجلة الوعي
10- مقالات من مدونة الدكتور حسن الحسن
11- كتاب لمن الحكم؟ للشيخ سميح عاطف الزين
12- كتاب علم النفس للشيخ سميح عاطف الزين
13- موسوعة الخلق والنشوء للشيخ حاتم ناصر الشرباتي
14- كتاب العقيدة الإسلامية وأثرها في حياة المسلمين للشيخ يوسف أحمد محمود السباتين
ثانيا: هذا الكتاب الهدف منه الوصول عقليّا إلى العقيدة الإسلاميّة -وجود الله وصدق رسالة الإسلام- للذين لايفرقون بين العقلي والمنطقي والعلمي والذين يعتقدون أنّ كل دين هو محل تسليم -الوجدان- فقط.
ثالثا : بخصوص الحيوانات وغريزة التدين دليلها نقلي وليس محل لذكرها الآن.
رابعا: بخصوص إدراك الحيوان فسأتي ذكرها تحت عنوان : التفريق بين التمييز الغريزي وبين التفكير
خامسا: أرجو أن توضح أكثر ملاحظتك الخامسة
أخي أبو محمد, أنا في إنتظار تعليقك
والسلام عليكم
سلامات بارك الله فيك بما ستفعل.
عموما سأتابع ما ستضع و أتمنى أن يكون مخلصا مركزا للناس لا داعي ان تدخل في التفريعات و التفصيلات الكثيرة لأنك تخاطب الناس فقط فركز على الغاية من البحث فقط و لا أظن أنها تحتاج كتاب بل بحث بسيط و مركز فكريا يفي بالغرض خاطب الناس على قدر عقولهم.
وإن شاء الله أزودك بمراجع فكرية جيدة وسر على بركة الله
أبو زكريّا
10-04-2010, 06:45 PM
1-المفاهيم
يكتسب الإنسان في حياته مجموعة المعارف بالتجربة أو الاستنتاج أو بالتلقّي والاستنباط كما قد يقرأها أيضا من كتاب أو يسمعها من شخص غيره أو يكتسبها بأيّة وسيلة أخرى. و مجموع المعارف التي يمتلكها الإنسان :
أ – معرفة أدرك واقعها إدراك حقيقياً وجرى التصديق بانطباق تلك المعرفة على واقعها تصديقاً جازما أي حصل اليقين بانطباق تلك المعرفة على واقعها . بناءاً على دليل عقلي أي حكم العقل الإنساني بحتمية انطباق هذه المعرفة على واقعها . إما بحكم مباشر من العقل ، كالحكم على الأشياء الحسية الملموسة من حيث وجودها. أو بحكم عقلي استناداً على دليل نقلي ثبت أصله بالعقل أو الأخبار التي يقطع العقل يقيناً باستحالة بطلانها أو كذبها كالأخبار المتواترة .
ب- يأتي بالمرتبة الثانية من هذه المعارف معارف جرى التصديق بها وإدراك واقعها لكن هذا التصديق فيه شيء من المظنة ، حيث أنه لم يبلغ حد اليقين ، فالعقل لم يقطع يقيناً بصحة ما نقل إليه . فلم يستطع أن ينفي احتمال الخطأ أو النسيان أو أن ما نقل إليه يحتمل أكثر من معنى ، فاكتفى بترجيح أحد المعاني التي يحتملها النص . وذلك المعارف التاريخية أو اللغوية أو غير ذلك مما يترجح فيها جانب الصواب.
جـ – معرفة لم يدرك واقعها ، أو لم يدرك مدى انطباقها على واقعها. أي أن العقل يمكن أن يتصور لها واقع ويمكن أن تنطبق على هذا الواقع . إذن فهي فكرة ، أي هي حكم على واقع معين ، ولكن لم يجر التصديق بها أي لم يجر التصديق بانطباقها على هذا الواقع . وهذه الأفكار كثيرة جداً في واقع حياتنا مثل المعارف الجغرافية والمعارف الفلكية ويتساوى بها التصديق وعدم التصديق ومثل هذه المعارف هي أفكار . أي هي أحكام على وقائع معينة. وتتحول كل معرفة فيها إلى مفهوم حين الحصول على دليل يثبت صحة هذه الأفكار وانطباقها على واقعها. سواء أكان هذا الدليل عقلياً كالمشاهدة مثلاً ، أو كان دليلاً نقلياً نثق بصدق من نقله إلينا.
د – معرفة لم يدرك واقعها أو أنها لا تنطبق على الواقع الذي وصفته فمثل هذه المعارف تبقى مختزنة في الذهن كمعلومات فقط ، فلا ترقى لأن تصبح أفكار أو مفاهيم قد يحتاجها الإنسان في حالات معينة كإثبات بطلانها ، أو كشف خطئها . مثل المعارف عن المبدأ الرأسمالي ، والحرية والديمقراطية والشيوعية وغير ذلك من المعلومات . فالواقع الذي تتحدث عنه الشيوعية مثلاً بالنسبة للتفكير واقع مدرك ، ولكن الحكم على هذا الواقع بأنه انعكاس المادة على الدماغ حكم خاطئ لا ينطبق على واقع التفكير . والواقع الذي تتحدث عنه الرأسمالية بالنسبة للديمقراطية . من حيث أنها حكم الشعب بالشعب , إن مثل هذا الواقع مدرك ولكن حكمها عليه حكم خاطئ ، لأن حكم الشعب بالشعب لا يتحقق .لأن الشعب لا يضع دستوره وقوانينه ، وإنما يضع ذلك فئة معينة من الناس .
هـ – معرفة ليس لها واقع ولا يمكن أن يتصور لها واقع وبالتالي لا يمكن أن يبحث فيها من حيث انطباقها على واقع أو عدم انطباقها . وهذه هي الأوهام والخرافات والتخيلات . مثل المعارف عن الغول والعنقاء والعيش على الكواكب والنجوم إلى غير ذلك من الأوهام والخرافات .
والأصل أن يتلقى هذه المعارف فكرياً بحيث تصبح من معارفه هو . ولو أن مصدرها غيره. أي أن يفهم معاني الألفاظ والجمل التي يقرأها أو يسمعها أو يراها ، فيحاول أن يتصور لتلك المعارف واقع محسوساً في الخارج أو واقعا متصورا في الذهن أو مسلّما به أنه موجود في الخارج .ثم يجري محاولة تطبيق ما قرأ أو سمع على ذلك الواقع المتصور, أو المعبر عنه, فإن انطبق عليه كان قابلاً للصواب ، أو هو الصواب وأصبحت مفاهيم له تؤثر في سلوكه وتضبط تصرفاته حين يقوم بإشباع جوعاته ، أو تحقيق رغباته. أما إن تعذر تصور واقع له ، أو تعذر انطباقها على الواقع المتصور ، فإنه ينكره ، ويبقيه في ذهنه مجرد معلومات أثبت بطلانه . أو تعذر عليه إثبات صحتها . وبالتالي لم يجري تصديقاً بها فلا تكون مفهوماً عنده ولا تؤثر على سلوكه أو تصرفاته.
إنّ المفاهيمُ هي مَعَانِي الأَفْكَارِ لا مَعَانِي الأَلْفَاظِ. فاللفظُ كلامٌ دلَّ على معانِي قد تكونُ موجودةً في الواقع وقد لا تكونُ موجودةً. أمَّا معنى الفكرِ فهو أنه إذا كان لِهذا المعنى الذي تَضَمَّنَهُ اللفظُ واقعٌ يقعُ عليه الحسُّ أو يتصورهُ الذهن كشيءٍ محسوس ويصدِّقهُ، كان هذا المعنى مفهوماً عند من يُحِسُّهُ أو يتصوَّرهُ ويصدِّقهُ، ولا يكون مفهوماً عندَ مَن لا يحسُّه ولا يتصوره.
وتتكونُ المفاهيمُ من ربطِ الواقع بالمعلومات، أو مِن ربط المعلوماتِ بالواقع، وبتبلورُ هذا التكوين حسبَ القاعدة أو القواعدِ التي يجري عليها قياسُ المعلومات والواقعِ حين الرَّبْطِ. أيْ حسبَ عقلهِ للواقعِ والمعلومات حين الربطِ، أي حسب إدراكهِ لَها.
2-السلوك
إنّ الإنسان كائن حي فهو ينمو ويكبر ويغدو ويروح ويتوالد ويتكاثر ويحافظ على نفسه ويدافع عنها ويحس بالعجز والاحتياج فيسعى لتغطيته كما أنه يشعر بالعطف والحنان والأبوة والبنوة كما يشعر بالخوف والأمان وحب الذات وحب السيطرة وحب الامتلاك وهو يغضب ويرضى ويفرح ويحزن إلى غير ذلك من الأحاسيس التي تولد عنده الرغبة وتجعل عنده الحافز للاندفاع في سبيل إشباع هذه الرغبات وسد هذه الجوعات التي نتجت عن الطاقة الحيوية الكامنة في نفسه كما أن هذا الجسم الذي يشبه الموتور يحتاج في حركته وسيره وبناء تكوينه وإصلاح ما تلف وطرح ما يضر من نفايات فإن الطاقة الحيوية الموجودة تدفعه للحصول على الغذاء والماء كلما احتاج الجسم لشيء منها أو طرح ما احترق أو أتلف فيه.ولهذا فإن هذا الإنسان منذ أن يولد وإلى أن يموت وهو في حركة دائمة دائبة ويحتاج بسبب ذلك إلى ما تحتاجه هذه الحركة من طاقة وما تتطلبه من عناصر وأدوات ولهذا كان الإنسان مشغولاً دائماً في تأمين حاجة أو سد جوعة طلبها هذا الجسم في بنائه العضوي أو بنائه الغريزي مثله مثل أي كائن حي.
فسلوكُ الإنسان هومجموع الأعمالُ التي يقومُ بِها لإشباعِ غرائزه أو حاجاتِه العضويَّة. فالأصل في السلوك هو الطاقة الحيوية، فالطاقة الحيوية تدفع وتطلب الاشباع، فيقوم الإنسان بالتحرك بالقول أو العمل من اجل الاشباع . إذًا فالسلوك هو للاشباع.
3
أبو زكريّا
10-04-2010, 06:46 PM
-إرتباط السلوك بالمفاهيم
إلا أنه يختلف عن غيره من الكائنات الحية بالكيفية التي يتم فيها الحصول على ما يشبع جوعته وكيفية إشباعه لها فالكائنات الحية تتصرف برجع غريزي, فهي تتصرف بخواص معينة لتحافظ على حياتها أو تحافظ على بقائها وبقاء نوعها أو لتسديد جوعاتها بأساليب ووسائل محيرة مذهلة .
أما الإنسان فإنه يختلف عنها فهو يتصرف بناءً على العقل وليس بمجرد الرجع الغريزي كما هي الحال في غيره من الكائنات الحية فهو حين يندفع لإشباع جوعة أو سد حاجة أو تحقيق متعة فإنه إنما يندفع بناء على إدراك عقلي وتكوين مفهوم عن الشيء الذي اندفع إليه و ذلك بعد إجابته على سؤالين:
1- هل في هذا الشيء قابلية الإشباع؟
2- هل يجوز له أن ينتفع به أو لا يجوز؟
السؤال الأول : هل في هذا الشيء ما يشبع جوعته أو يسد حاجته أو يرضي رغبته؟ والإجابة على هذا السؤال تتوقف على ما عنده عنه من مفاهيم فإذا كان مفهومه عنه بأنه يشبع جوعة أو يسد حاجة أو يرضي رغبة سواء كون هوهذا المفهوم أو أخذه عن غيره فبمجرد وجود هذا المفهوم عنده يحصل في نفسه ميل إليه وتضغط عليه الجوعة لأخذه وقضاء إربه وهذا ما نسميه المفهوم عن الشيء . إلا أنه يتوقف عن مباشرة أخذه والانتفاع به حتى يجيب عن السؤال الثاني وهو هل يجوز له أن ينتفع بهذا الشيء ويشبع جوعته منه أم لا يجوز؟ فإذا كان الجواب بالنفي مال عنه وصرف ميله أوحاول صرف ميله عنه لأنه لا يجوز أن ينتفع به أو يسد جوعته منه وأما إذا كانت الإجابة بالإيجاب أي أنه يجوز له أن ينتفع به فإنه يتناوله ويقضي منه إربه ويسد به جوعته وهذا ما نسميه المفهوم عن الحياة.
ولذلك كان المسير لسلوك الإنسان مفاهيمه عن الأشياء من حيث أنها تشبع أو لا تشبع ثم مفاهيمه عن الحياة من حيث إنه يجوز له الإشباع أو لا يجوز.
والمفاهيم عن الأشياء تكاد أن تكون واحدة عند بني البشر ولا اختلاف فيها بينهم إلا باختلاف الأذواق والرغبات لذا فإنه من حيث المفاهيم عن الأشياء ومعرفة ما فيها من خصائص وفوائد فهي واحدة عند بني الإنسان فالفواكه بأنواعها والخضراوات على اختلافها واللحوم بشتى صنوفها ومعرفة أن الأنثى تشبع جوعة النوع وأن العبادة تشبع جوعة التدين وأن الملابس تقي من البرد أو من الحر أو يتزين بها كل هذه المفاهيم عن الأشياء واحدة عند بني الإنسان لأنها معارف عالمية أوإدراك لما في الأشياء من خاصيَّات أي أنها تشبع جوعة ما أو لا تشبع.
وأما المفاهيم عن الحياة أي يجوز الإشباع من هذا الشيء أو لا يجوز فهذا أمر خارج عن ذات الشيء وخارج عن ذات الإنسان بل يقتضيه الرجوع إلى القاعدة أو القواعد التي جعلها مقياساً لأعماله ومعياراً لتصرفاته أي الرجوع إلى وجهة نظره في الحياة من حيث الإقدام على الفعل أو الإحجام عنه. فالمسلم حين يحس بجوعة المعدة مثلاً ويرى وعاء فيه طعام فيعرف أن هذا طعام صالح للأكل أي يحصل على مفهوم عن هذا الطعام بأنه يؤكل فإنه يحصل ميل عنده إلى هذا الطعام ولكنه لا يأخذه حتى يجاب عن السؤال التالي : هل يجوز له الانتفاع به أم لا يجوز؟ أي إنه يسأل نفسه هل حلال له أن يأخذه ويأكله أم حرام عليه ذلك؟ فإذا عرف أن هذا الطعام فيه ما يخالف المقياس الذي رجع إليه أي وجهة نظره في الحياة كأن عرف أنه نجس أو فيه لحم خنزير أو أن صاحبه لا يأذن بذلك ففي مثل هذه الحالة يمتنع عن أخذه بالرغم من ميله إليه ويحاول أن يبعد عنه هذا الميل ومثل هذا مثل أي شيء قد يتعرض له الإنسان عند إشباع أي جوعة من جوعاته أو رغبة من رغباته سواء أكانت من الجوعات العضوية كالأكل والشرب أو من الجوعات الغريزية كالعبادة والنوع والبقاء.
إذا فأعمال الإنسان جميعها مقيدة بمقاييس وقواعد آمن بها وحددتها وجهة نظره في الحياة أي مفاهيمه الكلية عن الحياة وكل عمل من أعماله مسير بمفهوم عن الحياة من حيث الإقدام على الفعل أو الإحجام عنه سواء أكان هذا العمل أساسياً أم فرعياً عظيماً أم حقيراً قيماً أو تافها. وهذا ما يمتاز به الإنسان عن غيره من الكائنات الحية وهذا ما ارتقى به عن سائر المخلوقات : عقل يدرك الأشياء من حوله ووجهة نظر في الحياة آمن بها فأصبحت لديه مفاهيم تحدد سلوكه في الحياة وتضبط تصرفاته حين إقدامه على إشباع جوعاته وإرضاء رغباته .
إذا فالأفكار لا يؤثر على السلوك الا اذا صدقها الإنسان وارتبط هذا التصديق بالطاقة، اي الا اذا اصبح مفهوما من مفاهيم الشخص،*فالقول بأن سلوك الإنسان حسب مفاهيمه قول يقيني وغير قابل للشك لان التصديق بالفكر اذا ارتبط بالطاقة لا يمكن ان يكون السلوك الا بحسبه.*الا ان هناك افكارا ارتبط التصديق بها بالطاقة ارتباطا متينا يصعب على التصديق بفكر اخر ان يزيلها، أو يصعب عليها ان يزيل اثارها الا بعد مرور زمن، فهذه يبقى الفكر فيها غير متحول إلى مفهوم، أو يتحول تحولا متارججا، أو يتحول تحولا متقطعا، وهذا اكثر ما يكون في مفاهيم الاعماق، ولذلك يحتاج إلى معاناة اكثر وقد يحتاج إلى زمن .
الا ان مخالفة السلوك للفكرمع أنه مفهوم اكثر ما يحصل في بعض الجزئيات فيؤثر على بعض التصرفات في بعض الاحيان ففي هذه الحالة انفصل إرتباط الفكر بالطاقة، فيتصرف الإنسان حسب ميوله لا حسب افكاره، اي تحركت عنده مفاهيم الاعماق.
اما القول بان للانسان مفهومين متخالفين تجاه الشيء الواحد فهو قول مغلوط، فلا يكون للانسان الا مفهوم واحد هو الفكر الذي ارتبط تصديقه بالطاقة، واما الاخر فهو فكر وليس مفهوما في تلك الحالة اي حالة السلوك .*والقول بان للانسان وجهتي نظر في الحياة فهو قول مغلوط كذلك. فلا يكون للانسان الا مفهوم اساسي واحد عن الحياة، هو الفكر الاساسي الذي تحول إلى مفهوم، ولا يوجد غيره، فإذا وجد غيره فانه مجرد فكر وليس بمفهوم .
قد يتبادر إلى الذهن سؤال : إذا كان الفكر هو الذي يوجد المفاهيم ، والمفاهيم هي التي تؤثر في السلوك، كيف نستطيع مثلا ان يفسر لنا ان المدخن المقتنع بضرر التدخين ويحكم عليه انه غير نافع ومع هذا يستمر في التدخين ؟
إن من يرى أن التدخين ضار ولكن لا يترك الدخان، فإن هذا الفكر الذي عنده لم يتحول لمفهوم أي لم يصل إلى درجة من القناعة والتصديق والاعتناق بحيث يؤثر على سلوكه، ,يعني هنا ترك الدخان. فهو يرى أن الدخان مضر ولكنه لا يتصور مقدار الضرر أو يرى هذا الضرر ممكن احتماله أو يرى أن اللذة المتحصلة من الدخان هي أعلى قيمة في نظره من الضرر "البسيط" الذي قد يلحقه من التدخين. ولذلك ترى أن معظم من يقول لهم الطبيب إن في التدخين خطر كبير على حياتك أو قد يسبب لك جلطة فورية أو مثل هذه الأمور فإنه في غالب الأحيان يمتنع عن التدخين لأنه يعتنق المفهوم (التدخين ضار ضررا يوجب تركه) ، وذلك بخلاف من يرى أن التدخين ضار ولكن هذا الضرر مجهول المقدار عنده أو يراه بسيطا أو يمكن تحمله مقابل اللذة المتحصلة من التدخين. إذا هذا الذي يدخن رغم "المعرفة" الموجودة عنده بأن التدخين مضر ، فإن لديه مفهوما آخرا هو الذي عيّن سلوكه، وهو أن الضرر الذي يسببه الدخان هو ضرر محتمل وغير خطر أو مفهوم أن اللذة الحاصلة من التدخين هي أعلى قيمة وأهم له من تجنب الضرر الذي يسببه الدخان.
لنأخذ هذا المثال : عامل يعمل في اليوم عشرين ساعة متواصلة مقابل خمسة أضعاف الأجرة، هنا هو يقرر هل التعب الشديد والضرر الذي يحصل لجسمه أهم وأعلى أم الأجر المضاعف خمس مرات، فهو الذي يتخذ القرار وهذا القرار هو المفهوم الذي يسيره. بقي التذكير إن المصلحة أو اللذة أو المتعة الخ..... قد تلعب دوراً في مخالفة السلوك للفكر (المفاهيم) في حالة الاستثناء أي ما يسمى الثغرات في السلوك، ولكن الذي يستمر في التدخين أي يظل يدخن رغم أنه يعرف ضرر التدخين، هذه ليست ثغرة بل هي "حائط" بأكمله أي هي نمط سلوك وقرار ومفهوم آخر يسيره حين يدخن.
أخيرا نتناول موضوع القطيعة التي قد تحصل بين الفكر والسلوك. هناك من النّاس من يتبنّى أفكارا لأنّه رأى صوابها , أو لأنّها أفكارا جميلة أو لأنّه نشأ على سماعها أو غير ذلك وقد يدافع عليها ويضحي بحياته من أجلها, ولكن في حياته اليوميّة تجده لا يكيّف سلوكه حسبها ممّا يوجد قطيعة بين الفكر والسلوك، وينشأ فصل بين النظرية والممارسة. و نستطيع ضبط الخلل في الممارسة العملية للنظرية، بصفة عامّة، في النقاط التالية :
1. إذا لم يتحول الفكر إلى مفهوم فإنه لا يؤثر في السلوك، مما يعني أنه لا يمارس ويبقى مجرد نظرية. من ذلك، أن نظرية التساوي بين البشر في الإنسانية موجودة عند البعض كفكرة غير مدرك واقعها أو غير مصدّق بها، الأمر الذي يجعل هذا البعض لا يكيّف سلوكه نحو أسود مثلا بناء عليها، إنما بناء على فكرة أخرى يدرك واقعها ويصدق بها كفكرة تفوّق الرجل الأبيض مثلا.
2 . قد يكون الفكر في حدّ ذاته راقيا، إلا أنّه غير منسجم مع مقياس الأعمال أو وجهة النظر في الحياة مما يجعله غير قابل للتطبيق. من ذلك مثلا فكرة حقّ الشعوب في تقرير المصير، فهي نظرية جميلة، إلاّ أنها غير قابلة للتطبيق عند الرأسماليين لعدم انسجامها مع وجهة النظر القائمة على النفعية التي حددت الاستعمار بشتى أشكاله كطريقة لنشر المبدأ الرأسمالي وبقائه.
3 . إنّ أعمال الإنسان مرتبطة بما يتلقّاه الإنسان عليها من ثواب وعقاب. فإذا كانت الفكرة لا ينتج عن تطبيقها نفعا أو ثوابا، ولا عن عدم تطبيقها ضرا أو عقابا، فإنها لا تجد الحافز الحقيقي لتمارس عمليا ويلتزم بتنفيذها وإن نُصّ على اعتبارها مطلبا حقوقيا وقانونيا.
4 . إنّ مما يحدث القطيعة بين الفكر والسلوك أو بين النظرية والممارسة عدم قابلية الفكرة نفسها للتطبيق. ذلك، أنها قد تبنى على تجريد محض لا يمت للواقع بصلة، أو قد تبنى على أساس مغلوط في الفهم، أو قصور في إدراك حقيقة الواقع المحكوم عليه أو غير ذلك مما يمس بحقيقة الفكر نفسه من حيث صدقه ومطابقته للواقع. من ذلك مثلا فكرة الحرية التي تفيد في حقيقتها الانحلال من كلّ قيد، فإذا أردنا ممارستها عمليا اصطدمنا بأمور كثيرة تحتم تقييدها. لذلك فإنها لا وجود لها على وجه الحقيقة، وهي مجرد فكرة نظرية لا واقع لها.
أبو زكريّا
12-04-2010, 08:13 PM
الإنسان مادة، وقد أُوْدِع فيها سر الحياة أي الروح ، فوجدت فيه الطاقة الحيوية التي تتمثل في الخاصيّات الثلاث: الحاجات العضوية، والغرائز، والإدراك، وهي موجودة في الإنسان الحي، فكيف يستعملها؟
نتيجة للإثارة الداخلية للحاجات العضوية، والإثارة الخارجية للغرائز يندفع الإنسان بجسمه وخصائص أعضائه، ليقوم بأعمال ليشبع حاجاته ممّا يوجد طبيعيّا علاقات بين الناس، فإشباع الميل الجنسي يوجد علاقة بين الرجل والمرأة، والبيع يوجد علاقة بين البائع والمشتري، وإنقاذ الغريق يوجد علاقة بين المنقِذ والمنقَذ. وهذه العلاقات تولد بين الناس مشاكل تحتاج إلى معالجات وتنظيم.
وحتى يستطيع كل فرد من الناس أن يشبع غرائزه وحاجاته العضوية إشباعاً صحيحاً لا يتعارض مع إشباعات غيره، وأن يحيا حياة كريمة ويحسّ بطمأنينة دائمة ، لابد له من مقياس للحكم على الأفعال والأشياء التي تلزم للإشباع، ولا بد له من مقياس لتنظيم العلاقات بين الناس بحيث يضمن النظام لكل إنسان حقه في الحياة الصالحة من ناحية. و أن يتحقق في تطبيقه إستقرار سلوك كل إنسان وشعور بالراحة النفسية والرضى من ناحية أخرى. لذلك لا يصل المرء للسعادة بمجرد إشباع رغبة أو نزوة أو بمجرد طمأنينة تأتي و تذهب بسرعة البرق ، بل المرء حتى يشعر بالسعادة يحتاج إلى طمأنينة تدوم.
إذا فان إشباع الطاقة الحيوية ، أي إشباع الحاجات العضوية وإشباع الغرائز يتطلب أن يوجد لدى الإنسان تفكير في العيش و هو تفكير طبيعي وحتمي . إلا أن التفكير بالعيش هكذا لمجرد العيش لا يكفي للإنسان للنهضة أي لرقي سلوكه وتصرفاته ولا يكفي للإنسان لنيل السعادة أي لنيل الطمأنينة الدائمة . لذلك من اجل أن ينهض الإنسان ومن اجل أن ينال السعادة لا بد أن يجعل تفكيره في العيش مبنيا على أساس تفكيره في وجهة نظره عن الحياة . فهو إنسان يحيا في الكون وبدون بناء تفكيره في العيش على نظرته لهذه الحياة الدنيا ، يبقى تفكيره منحطا ومحدودا وضيقا فلا يتمتع بنهضة ولا يحصل على الطمأنينة الدائمة.
صحيح أن الإنسان يفكر في العيش استجابة لطلب الإشباع ، سواء أكانت لديه نظرة للكون والإنسان والحياة أم لم تكن . ولكن هذا التفكير يظل بدائيا ويظل قلقا وغير سائر في الطريق التصاعدي حتى يبنى على التفكير في الإنسان والكون والحياة أي حتى يبنى على نظرته للحياة . فالموضوع ليس أيُّ التفكيرين يسبق فانه معروف بداهة أن التفكير في العيش يسبق كل تفكير بل الموضوع هو التفكير في العيش الراقي ، العيش الذي تكون فيه الطمأنينة الدائمة ، ولذلك لا بد أن يبنى التفكير في العيش على النظرة إلى الحياة.
صحيح أن التفكير بالعيش يرتقي من التفكير بعيش نفسه إلى التفكير بعيش عائلته وعشيرته ويرتقي من التفكير بعيش نفسه إلى التفكير بعيش قومه ، ويرتقي من التفكير بعيش قومه إلى التفكير بعيش أمته ، ويرتقي من التفكير بعيش أمته إلى التفكير بعيش الإنسانية . ولكن هذا الارتقاء وان كان موجودا في فطرة الإنسان ولكنه إذا ترك وحده بدون أن يجعل له أساس يبنى عليه فانه قد يحصر بالتفكير بعيش نفسه ولا يتعداه إلا إذا كان متعلقا بعيش نفسه ، كأن يتعداه إلى التفكير بعيش عائلته وعشيرته أو يتعدى ذلك إلى التفكير بعيش قومه وأمته . ولكنه يظل تفكيرا بعيش نفسه فتبقى فيه الأنانية متحكمة ويظل الانحطاط بارزا في تصرفاته أو مظهرا من مظاهر حياته .
ان التفكير بالعيش لا يعني التفكير بإشباع الطاقة الحيوية إشباعا آنيا أو كيفما اتفق ولا إشباع الذات وحدها أو العائلة وحدها أو القوم والأمة وحدهم . فانه إنسان يحيا في الكون فلا بد أن يكون التفكير بالعيش أن يكون عيشا مستمرا، وان يكون عيشا على أرقى وجه مستطاع ، وان يكون لعيش الإنسان من حيث هو إنسان بما تقتضيه غريزة بقاء النوع الإنساني . وهذا لا يمكن أن يتأتى بجعل التفكير في العيش دون بنائه على نظرة معينة للحياة .
إذا لبناء رؤية واضحة عن كيفية التعاطي مع الإنسان، ولتحديد كيفية بناء الإنسان لشخصيته، لا بد من تبلور الأفكار الأساسية الكبرى لديه حول الحياة، تلك التي تفسر له سبب وجوده ومماته ومآله بشكل يقيني، لِتُلقيَ تلك الأفكار بدورها الضوء على نمط العيش المفترض للإنسان بالاستناد إلى المفاهيم الصادقة التي من شأنها تبديد هواجسه وإزالة أسباب القلق التي تعتريه. إلا أن نجاح الإنسان في ذلك يبقى رهن تجسيده تلك القناعات في واقعه، بغض النظر عن حجم المعوقات التي تواجهه، ما يجعله إنساناً سوياً منسجماً مع نفسه قادراً على مواجهة تحديات الحياة باعتماد حقائقها، غير آبه بأوهام الآخرين عن السعادة الزائفة، متوقفاً بذلك عن الحيرة والارتباك والاضطراب الذي يصيب الآخرين بسبب لهاثهم وراء الأوهام.
ولإكتمال أيّ فكر عن الإنسان ولتحقيق النهضة لا بد من إدراك البعدين الذين يحيطان بهذا الإنسان، إنهما البعد المكاني، والبعد الزماني. فالإنسان ليس موجود هكذا، بل هو موجود في مكان يسمى (الكون) وهو موجود لمدة محددة لها نقطة بداية ولها نقطة نهاية وهي ما تسمى (الحياة) : المكان والزمان.
فالإنسان يحس نفسه انه وجد ويحس الحياة التي فيه ويحس الكون الذي يحيا فيه . فهو منذ يميّز الأمور والأشياء يبدأ يتساءل هل قبل وجوده ووجود أمه وأبيه ومن قبلهما إلى أعلى جد يوجد شيء أم لا ، ويتساءل هل هذه الحياة التي فيه والتي في غيره من بني الإنسان يوجد قبلها شيء أم لا ، ويتساءل هل هذا الكون الذي يراه من ارض وشمس وما يسمع به من كواكب يوجد قبلها شيء أم لا ، أي هل هي أزلية وجدت هكذا من الأزل أم قبلها شيء أزلي . ثم يتساءل هل هذه الأشياء الثلاثة يوجد بعدها شيء أم لا ، أي هل هي أبدية تظل هكذا ولا تفنى أم لا .
هذه التساؤلات أو الأسئلة ترد عليه كثيرا وكلما كبر تزداد هذه التساؤلات فتكوّن عنده عقدة كبرى يسعى لحلها . فهذا التساؤل أو الأسئلة هي بحث في واقع ، أي هي نقل واقع بواسطة الحواس إلى الدماغ فيظل يحس بهذا الواقع ولكن ما لديه من معلومات لا تكفي لحل هذه العقدة الكبرى ويكبر وتزداد المعلومات ويحاول أكثر من مرة تفسير هذا الواقع بواسطة المعلومات التي لديه فان استطاع تفسير هذا الواقع تفسيرا قطعيا لا يعيد هذه التساؤلات فانه حينئذ يحل العقدة الكبرى . وإذا لم يستطع تفسير هذا الواقع تفسيرا قاطعا فانه يظل يتساءل فقد يحلها مؤقتا ولكن التساؤلات تعود إليه فيعرف انه لم يحلها وهكذا يواصل بشكل طبيعي سلسلة التساؤلات حتى يصل إلى الجواب الذي تصدقه فطرته أي يتجاوب مع الطاقة الحيوية التي لديه أي يتجاوب مع عاطفته . وحينئذ يوقن بأنه حل العقدة الكبرى حلا جازما وتنقطع عنه التساؤلات . وإذا لم تحل لديه هذه العقدة الكبرى فان التساؤلات تظل تتوارد عليه وتظل تزعجه وتظل العقدة الكبرى في نفسه ، ويظل في حالة انزعاج وفي حالة قلق على مصيره حتى يحصل هذا الحل سواء أكان حلا صحيحا أوحلا خاطئا ما دام يطمئن إليه .
هذا هو التفكير في الكون والإنسان والحياة وهو تفكير طبيعي وتفكير حتمي ولا بدّ أن يوجد عند كل إنسان لان وجوده يقضي بوجود هذا التفكير . لان إحساسه بهذه الثلاث هو أمر دائم وهذا الإحساس يدفعه لمحاولة الوصول إلى الفكر . لذلك فان التفكير في الكون والإنسان والحياة ملازم لوجود الإنسان لان مجرد الإحساس بهذه الثلاث الذي هو حتمي يستدعي المعلومات المتعلقة به الموجودة لديه أو بمحاولة طلب هذه المعلومات من غيره ، أو يحاول طلب الحل من غيره . فهو يدأب بحافز ذاتي لحل هذه العقدة . فحل العقدة الكبرى يلاحق الإنسان بشكل متواصل في طلب هذا الحل .
إلا أن الناس على حتمية تساؤلهم وحتمية القيام بمحاولات متعددة ومتلاحقة في الوصول إلى الإجابة أي في الوصول إلى حل العقدة الكبرى فإنهم يختلفون في الاستجابة لهذه الملاحقة فمنهم من يهرب من هذه الأسئلة ومنهم من يواصل طلب الإجابة عليها . اما وهم صغار دون سن البلوغ يتلقون الإجابة عن أسئلتهم من آبائهم . فهم يولدون خالين من هذه الأسئلة ولكن حين يبدأون يميزون ما حولهم تبدأ هذه الأسئلة ترد عليهم فيتولى آباؤهم الإجابة عليها ونظرا لثقتهم بآبائهم أو من يتولى شؤونهم يسلمون بالأجوبة تسليما ويطمئنون لهذا التسليم لأنه تسليم لمن يثقون به . فإذا ما بلغوا سن الرجولة أي بلغوا الحلم فان الأكثرية الساحقة منهم تظل عند حد الإجابة التي تلقوها والأقلية هي التي تعود لها هذه التساؤلات لعدم اطمئنانها للأجوبة التي تلقوها وهم صغار . ولذلك تعيد النظر فيما تلقوها من حل هذه العقدة الكبرى ، ويحاولون حلها بأنفسهم .
فالتفكير في حل العقدة الكبرى ، أي التفكير في الكون والإنسان والحياة أمر حتمي لكل إنسان ، إلا أن منهم من يحلها بنفسه ومنهم من يتلقى حلها ، ومتى حلت ، على أي وجه فان هذا الحل سواء أكان حلا قد جاء عن طريق التلقي أو كان حلا وصل إليه بنفسه فانه إن تجاوب هذا الحل مع الفطرة واطمأن إليه فانه يرتاح ويحس بسعادة الطمأنينة . وان لم يتجاوب هذا الحل مع الفطرة ، فأنه لا يطمئن إلى الحل وتظل التساؤلات تلاحقه وتزعجه ولو لم يفصح عن ذلك بأية إشارة ولذلك لا بد من التفكير في حل العقدة الكبرى للإنسان ، حلا يتجاوب مع الفطرة .
نعم إن التفكير بحل العقدة الكبرى طبيعي وحتمي ولكن هذا التفكير نفسه قد يكون تفكيرا صحيحا وقد يكون تفكيرا سقيما وقد يكون تفكيرا في الهروب من التفكير ولكنه على أي حال تفكير .
إذا فإن مسألة حل العقدة الكبرى فيها ناحيتان :
احداهما الناحية العقلية ، اي المتعلقة بالعقل أي في نفس التفكير الذي يجري .
والثانية متعلقة بالطاقة الحيوية التي في الإنسان ، أي بما يتطلب الإشباع .
فالتفكير يجب أن يتوصل إلى إشباع الطاقة الحيوية . وإشباع الطاقة الحيوية بالفكر يجب أن يأتي عن التفكير ، أي يجب أن يأتي عن نقل الواقع بواسطة الحواس إلى الدماغ . فإذا جاء الإشباع بالتخيلات أو الفروض أو بغير ما هو واقع محسوس فان الطمأنينة لا تحصل والحل لا يوجد. وإذا جاء التفكير بما لا يوجد الإشباع أي بما لا يتفق مع الفطرة ، فانه يكون مجرد فروض أو مجرد إحساس فلا يوصل إلى حل تطمئن إليه النفس ، ويوجد الإشباع .
فحتى يكون الحل حلا صحيحا للعقدة الكبرى يجب أن يكون نتيجة تفكير حسب الطريقة العقلية ، وان يشبع الطاقة الحيوية وان يكون جازما بحيث لا يترك مجالا لعودة التساؤلات . وبهذا يوجد الحل الصحيح ويوجد الاطمئنان الدائم لهذا الحل . ومن هنا كان من أهم أنواع التفكير ، التفكير بالكون والإنسان والحياة . أي التفكير بحل العقدة الكبرى حلا يتجاوب مع الفطرة ، أي يحصل به إشباع الطاقة الحيوية ، ويكون جازما يحول دون رجوع هذه التساؤلات .
أبو زكريّا
18-04-2010, 07:25 PM
إن النهضة لا يمكن أن توجد والسعادة لا يمكن أن تتحقق إلا بعد معرفة الإنسان معنى وجوده في الحياة، أي حتى يستطيع أن يكون مفاهيم صحيحة عنها أي حتى يعرف كيف ينظم علاقاته ويحدد سلوكه ويشبع جوعاته التي لابد وأن تكون مع غيره من الناس أو من الكائنات الحية الأخرى أو من الأشياء المادية التي يحتاجها فهو إنسان يعيش مع غيره من البشر ومع أمم أخرى من المخلوقات الأخرى على هذه الأرض في هذا الكون الشاسع فكيف يتعامل مع الناس أو مع الكائنات الحية الأخرى أو مع الأشياء لقضاء حاجاته أو إشباع رغباته إن لم يكن له وجهة نظر في هذه الحياة التي يحياها ومعرفة لهذه الحياة وموقعه منها .
ولهذا كان لا بد أن يسبق إجابته عن معنى وجوده في الحياة معرفة حقيقية لهذه الأشياء جميعها . أي أن تكون له فكرة أساسية عن الإنسان والحياة والكائنات الحية والكون ،أي لا بد أن تكون له فكرة أساسية شاملة عن هذه الأشياء جميعها .تكون هذه الفكرة الأساسية قاعدة لتفكيره ،ومنطلقاً لكل مفهوم عن هذه الحياة ومنظماً لكل سلوك أو علاقة .هذا إن أراد أن ينهض حقاً ويرتقي إلى مستوى إنسانيّته بم إرتفع به من عقل عن مكونات جسمه الحياتية أي التي شارك فيها غيره من الموجودات في التركيب العنصري أو المادي . أما إن أراد أن يخلد إلى الأرض ويلتصق بها ويعيش كما تعيش الكائنات الحية الأخرى كالأنعام مثلاً_ فاليصم أذنيه عما يسمع وليغمض أذنيه عما يرى وليتخل عن ميزته التي اختُصّ بها أي العقل, فلا يوظّفه إلاّ في إشباعات آنيّة وعابرة فيصبح العقل خادما وعبدا لدوافعه وليس منظّما لها.
لذلك كان على مريدي النهضة أن تكون لهم فكرة كلية عن الكون والإنسان والحياة وعما قبل الحياة الدنيا وعن علاقتها جميعها بما بعد الحياة الدنيا أي أن تكون لهم عقيدة عقلية تكون أساساً لتفكيرهم وتنبثق عنها كافة أنظمتهم وقوانينهم وتحدد لهم وجهة نظرهم في الحياة – أي تحدد لهم الأساس الذي يتصرفون بموجبه مع الناس والأشياء . هذا من جهة ومن جهة أخرى يجب أن تشمل هذه القاعدة الفكرية على الأسس التي تبين كيفية تنفيذ هذه النظم والقوانين ،كما يجب أن تحتوي هذه القاعدة الفكرية على الطريقة التي تبين كيفية إيجادها في واقع الحياة، وإيصالها للناس كافة مادامت هذه الفكرة تحقق السعادة والنهضة للإنسان بوصفه إنسان.
هل كل عقيدة تصلح للنهضة ؟ وهل كل عقيدة صحيحة ؟
إن كل فكرة كلية عن الكون والإنسان والحياة وعما قبل الحياة وعما بعد الحياة ، وعن علاقتها بما قبل الحياة ،و عن علاقتها بما بعد الحياة ، أي كل عقيدة تصلح أساساً للنهضة لأنها اشتملت على قاعدة أساسية للأشياء وقاعدة أساسية للعلاقات ، ومعرفة لوجهة النظر في الحياة ومعرفة لمعنى الحياة ، وبالتالي فإنها ترسم الطريق لحاملها للسير في طريق النهوض ، أي الارتقاء من حال إلى حال أفضل فرداً كان أم مجتمعاً . ومن هنا كانت العقيدة الشاملة لهذه الأسس جميعها هي أساس النهضة ، بل إن النهضة لا تتم إلا بها وعليها . أما إن كانت العقيدة قاصرة أي مقتصرة على جانب دون آخر ، وأهملت شيئاً مما يجب أن تشتمل عليه . فإنها لا تصلح بل ولا يصح أن نسميها عقيدة بناءاً على هذا التعريف وإن سميت فالتسمية مجازية ليس غير .
أما إنها فكرة صحيحة ، أو قاعدة صحيحة وتؤدي إلى نهضة صحيحة وانتقال بالفرد أو المجتمع إلى حال أفضل . فهذا يتطلب إقامة الدليل على صحة الفكرة أو القاعدة وإقامة البرهان على ذلك ، وبما أن العقيدة فكرة ، والمبحوث عنه "فكرة كلية عن الكون والإنسان والحياة " فكونها فكرة فإنها تخضع لما يخضع إليه أي فكر يراد معرفة صحته من بطلانه ، أي يراد محاكمته ومعرفة انطباقه على واقعه أم مغايرته له . إذ كل فكر هو حكم على واقع ، ومن صحة الفكر أن يكون منطبقاً على الواقع الذي أطلق عليه . كما أننا حين نحاكم الأفكار لمعرفة صحتها فلا بد لنا من مقاييس ثابتة ومعايير حقيقية تقرر حقيقة تلك الفكرة على أساسها . ولهذا كان لا بد من معرفة تلك المقاييس والمعايير حتى يكون الحكم واضحاً جلياً.
المقياس الأول : أن تكون مبنية على العقل حتى يقتنع بها كل صاحب عقل ، ويكون هذا الإقتناع جازم ويقيني ويكون مطابق للواقع مع دليل عقلي, لا أن تترك الإجابة ويتساوى عندها الوجود والعدم ، أو تقنع بالحل الأوسط ، أو أن تجعل المادة مصدر التفكير ، أو أن تترك ما يتنافى معها للصدفة أو الطفرة . فالشرط الأول فيها أن تكون عقلية ومبنية على العقل .
المقياس الثاني : ما دام البحث متعلق بالإنسان ، ومعنى وجوده في الحياة ، ليعرف كيف يسير في الحياة ، ويسير أعماله وتصرفاته بحسب فهمه لمعنى الحياة . لذلك كان لا بد أن يكون واقع هذا الإنسان وفهم حقيقته هي مناط البحث . لأنها الواقع الذي نريد تطبيق الفكر عليه حتى يصح أن يصبح الفكر صحيحاً بانطباقه على هذا الواقع . لذلك يجب أن تكون هذه الفكرة مطابقة لواقع هذا الإنسان و موافقة للفطرة التي فطر الإنسان عليها من لمكونات عضوية و تركيب غريزي أو نفسي. أي ينتظم في ظلها حبه للبقاء وحرصه عليه ، وحبه للنوع أي لنوع الإنسان واستمرارية تناسله وحرصه عليه ، وحبه للأمن والطمأنينة وحرصه عليه .
فحين تقرر فكرة ما مثلاً كبت غريزة النوع أو نشر فكرة الرهبنة أوالعزوف عن الزواج وتحريمه ، فإنها فكرة خاطئة لأنها لم تراعي غريزة النوع الموجود فطرياً في الإنسان فلو التزم كل إنسان بهذه الفكرة إذا لانتهى الجنس البشري بعد سنوات معدودة من اعتناق مثل هذه الفكرة .
كما أنه حين تقرر فكرة كلية ما كبت غريزية البقاء أو كبت أحد مظاهرها مثل مظهر حب التملك أي ما يسمونه غريزة التملك باعتبارها عادة مكتسبة فانه بالرغم من عجزهم عن ذلك ، فظاهرة التملك موجودة عند الطفل الذي لم يكتسب بعد ممن حوله أي شيء ، إن محاولة كبت هذه الظاهرة هي محاولة فاشلة ، وإنها تسبب حتماً شقاء الإنسان وتعاسته لمخالفتها لفطرته ولذلك نقول : إنها فكرة كلية خاطئة ولا تصلح لنهضة الإنسان نهضة صحيحة ، أو جلب الهناءة و السعادة له . ولا يمكن تحقيقها إلا بالقوة والإجبار .
وكذلك فإن أي فكرة كلية تحاول منع الإنسان من الإحساس بالحاجة إلى قوة يلجأ إليها كلما وقع في شدة أو مسه ضرر فإنها فاشلة لأنها لن تستطيع إزالة هذا الشعور فكل ما تستطيع فعله أنها تصرف هذا الشعور بالتقديس والاحترام إلى جهة أخرى . أما أن تزيل ذلك الشعور فهذا ضرب من الخيال . فتصرفها إلى تقديس واحترام الدولة أو شخص أو زعيم أو غير ذلك .
أما الفكرة الكلية الصحيحة – العقيدة – فهي الفكرة التي لم تهمل ما فطر عليه الإنسان من حاجات عضوية أو جوعات غريزية بل عمدت إلى تنظيم هذه الجوعات جميعا ولم تكبتها ، ونسقت فيما بينها تنسيقاً دقيقاً ولم تطلقها ، بحيث إنها لم تسمح بإشباع واحدة على حساب الأخرى . مثل هذه الفكرة ، التي حكم المقياس الثاني بصحتها أي بموافقتها لفطرة الإنسان ، نقول أن مثل هذه الفكرة الكلية صحيحة ، ما دام قد توفر فيها الشرطان :
أ – أنها عقلية مبنية على العقل وتكون مقنعة للعقل
ب – أنها موافقة لفطرة الإنسان
أبو زكريّا
18-04-2010, 07:26 PM
1-الوجدان
إنّ الوجدان أو الضمير هو مجموع المشاعر الناتجة عن غرائز الإنسان التي إكتسبها والتي حددتها مفاهيمه عن الحياة.
و الوجدان شعور طبيعي موجود لدى كل انسان , وهذا الشعور أصله من غريزة التدين لأنّ باعثه هو شعورالإنسان بالنقص والعجز والاحتياج . ويتكوّن الوجدان عند الإنسان في مرحلة أولى عند الصغر فالآباء والمحيط الذي يكبر فيه الإنسان, نظرا لثقته الفطرية بهم, يكون لهم الدور الرئيسي في تكوين مفاهيمه الأولى عن الحياة وتكوين المشاعر المتعلقة بهذه المفاهيم. ويحصل غالبا عند الأكثرية الإطمئنان لما تلقّوه وهم صغار , ثمّ يَبْنُونَ على ما تكوّنت عندهم من مشاعر ومفاهيم. فيضمّون الفكرة التي يطمئن لها الوجدان. والأقلية هي التي تعاود النظر فيما تلقّوْه.
هذا هو ما يحصل واقعيّا حين التصديق بفكرة , فالوجدان يلعب دورا رئيسا في ضمّ تلك الفكرة إذا تحقّق الإرتياح والإطمئنان ، فيشدّها إليه ، ويوافقه العقل على ذلك ولو موافقة تسليم .
أمّا الاعتقاد أو الإيمان بفكرة فهو تصديق جازم من قِبَل الوجدان بشرط موافقة العقل , ويتحقّق الجزم بوجود دليل الفكرة التي ضمّها الوجدان إليه ، وهذا الدليل هو الذي يوجد تسليم العقل بالفكرة . وقد لا يحصل في هذا التصديق الجازم مطابقة الفكرة للواقع وقد يحصل ما يوهِم المعتقِد مطابقة معتقَدِه للواقع ، أو قد يوجد دليل يحقق الجزم ويكون الدليل فاسداً أو قد يكون دليلاً شعورياً ، لكنه أقنع صاحبه بوجه من الوجوه واطمأن إليه فأحدث الجزم عنده بل يغضب لها ، وقد يبذل الأنفس والأموال والأولاد دفاعاً عنها. فكل من يتوفر عنده ذلك يكون معتقداً أي مؤمناً بالفكرة التي ضمّها الوجدان إليه . والاعتقاد على هذه الصورة موجوداً وجوداً حسيّاً عند جميع البشر.
ويجدر التنبيه على أن هناك فرقاً بين الفكر والإيمان. فالعقل يبحث في الأفكار بدراسة واقعها وقد يدركها ، لكن لا يلزم من إدراكه لواقعها أن يتحول ذلك الإدراك إلى تصديق ، لأن قبول الوجدان للفكرة شرط في حصول التصديق ، أي لا بدّ من تجاوب الوجدان مع الفكرة وارتياحه إليها حتى يضمّها إليه وينعقد عليها . فإذا لم يتجاوب الوجدان مع الفكرة ولم يرتح إليها فإنه يرفضها مهما كان عمق الإدراك.
ألا ترى مثلا أنّ بعض النّاس مع أنّهم يعلمون أنّ الذي مات ينقطع عمله فلا يملك لغيره نفعا ولا ضر ومع ذلك تراهم يزورون الأضرحة و يقدّمون القربان طلبا للزوج للولد أو للشفاء. بل تتحدّث مع بعضهم ويدرك سخافة ما يقوم به ثمّ ما يلبث عند أول مشكلة أن يتقرّب للضريح بالقربان طلبا للشفاء.
مادام التفكير في حل العقدة الكبرى ، أي التفكير في الكون والإنسان والحياة أمر حتمي لكل إنسان ، ومادام البحث عن حل يكون من جهة مبنيّ على العقل يحقق الإقتناع الجازم واليقيني ويكون مطابق للواقع مع دليل عقلي ومن جهة أخرى يكون هذا الحل موافق لفطرة الإنسان أي يراعي الطاقة الحيويّة الموجودة فطرياً في الإنسان ولا يكبت أيٍّ من مظاهرها, كان لزاما أن لا*يترك الوجدان وحده الطريق الموصل للحل و ذلك للأسباب التالية:
أ- أن الوجدان ليس واحد عند كل البشر بل قد يكون مختلفا بل متناقضا عند أفراد الأسرة الواحدة. والبحث في حل إنّما هو للإنسان كإنسان
ب- قد يشوّش الوجدان على البحث العقلي ويضيف له أشياء غير حقيقية مثل الخرافات أو المعتقدات التي لا واقع لها
ج- قد يرتاح الوجدان لفكرة خاطئة وينفر من فكرة صحيحة
لذلك يجب أن يكون البحث عقليا ثم يبحث في موافقته للفطرة فيقبله الوجدان ومن ثَمّ يصبح إيمانا.
2- الاعتقاد والنسبية
من الأفكار التي بنيت عليها رؤيةٍ للكون والإنسان والحياة فكرة النسبية. والنسبية رأي يقول بأن الحقيقة نسبية وتختلف من فرد إلى آخر ومن جماعة إلى أخرى ومن وقت إلى آخر وليس لها معايير موضوعية. فهي نظرية مضادة للدغمائية Dogmatism والتشكيكية Skepticism وتقتضي البعد عن النزعة التوكيدية Determinism القطعية في الحكم على الآراء والأفكار والقناعات، وتنفي وجود فكرة أو مسلمة عقلية تمثل الحقيقة المطلقة ولا تقبل النقاش والنظر فيها.
أما فساد هذه الفكرة فآت من جهات عدة منها:
1. إنّ النسبية كحكم تشمل النظرية ذاتها، فلا قطع ولا توكيد في كلّ النظريات والأفكار ومنها نظرية النسبية نفسها. وهذا يعني أنها لا تصلح كأساس تبنى عليه أيّ فكرة، لأنّ النسبية تمنح الإنسان الحقّ في عدم قبولها، ومنه تمنح له الحقّ في عدم قبول ما تفرع عنها وبني عليها. وكمثال على هذا لو أخذنا مسألة العقيدة كما هي في التصور القائم الآن، لقلنا إن العقيدة نسبية، فلعلي عقيدته ولتوماس عقيدته، وعليهما أن يتسامحا مع بعضهما بعضا. ولكن ماذا لو قال قائل: إن النسبية نسبية، فلي أن أقبلها ولي أن أردها، فإن قلنا له: ليس لك أن تردها، ناقضنا النسبية وجعلنا منها توكيدية قطعية، وإن قلنا له: لك أن تردها، هدمنا نظرية النسبية بأكملها.
2. إنّ الحقيقة ليست مصطلحا خاصا يصطلح عليه كلّ قوم كيفما يريدون، وليست فكرة مجردة تأملية يتأمل فيها الفلاسفة كما يشتهون، وليست مفهوما حضاريا تختصّ به أمة معيّنة دون الأمم، إنما هي واقع معين عند البشر قاطبة مهما اختلفوا في التعبير عنه. وهذا الواقع هو كون الحقيقة عند كل البشر مطابقة الحكم أو الفكر للواقع الذي دل عليه. فلو رسمنا شكلا هندسيا له أربع أضلاع متوازية متساوية وأربع زوايا قائمة، وعرضناه على محمد وتوماس للحكم عليه، فإنّ التثبت من حقيقة حكمهما يكون بطريقة واحدة عند البشر قاطبة وهي مطابقة حكمهما بواقع الشكل. فإن قال أحدهما أو كلاهما، إنه مربع قلنا هذه حقيقة، وإن قال أحدهما أو كلاهما، إنه مثلث قلنا ليست هذه الحقيقة؛ لأن الشكل الهندسي المرسوم ليس سطحا يحيط به ثلاثة خطوط. ولو قال علي: سامي بالبيت. وقال جيمي: سامي ليس بالبيت. فإن الحقيقة تكمن في مطابقة حكمهما للواقع. فإن كان سامي بالبيت كان قول علي حقيقة، وإن لم يكن سامي بالبيت كان قول جيمي حقيقة.
هذا هو مفهوم الحقيقة، فهو مطابقة الفكر للواقع الذي دلّ عليه بغض النظر عن طبيعة الفكر نفسه، سواء أكان فكرا محضا أو علميا أو منطقيا أو تشريعيا أو غيره.
أما مسألة مقياس اعتبار الحقائق والتوصل إليها والتفكير فيها، فتضبط بالنظر في مجالات البحث العقلي نفسه. ذلك، أنّ العقل يطلق أحكامه على الأمور والأشياء من حيث وجودها، وماهيتها وصفتها. فإذا كان الحكم العقلي، متعلقا بوجود الشيء فإنه بلا ريب قطعي يقيني، لأنّ الحكم على الوجود جاء عن طريق الإحساس المباشر بالواقع، والحس لا يمكن أن يخطئ بوجود الواقع. وأما إذا كان الحكم متعلقا بماهية الشيء أو صفته، فيكون ظنيا فيه قابلية الخطأ؛ لأنّ الحكم على الماهية أو الصفة، يأتي من طريق المعلومات عن الشيء، أو تحليلات الواقع المحسوس مع المعلومات، وهي يمكن أن يتسرب إليها الخطأ. لذا كان هذا الحكم عرضة للتفاوت والاختلاف لتفاوت القدرات البشرية في التحليل، وفي كم المعلومات عن الشيء وكيفها.
ومثال ذلك، لو سمعنا حسّ حركة فإننا نحكم قطعا بوجود متحرك، ولكننا لا نستطيع الجزم بماهيته ولا صفته، فقد يكون إنسانا وقد يكون شيئا أخر.
إلاّ أنّ الإقرار بالنسبية لا يعني عدم وجود حقيقة، لأننا إذا طابقنا الحكم على واقعه تمكنا من إدراك حقيقته. ولو حكمنا على المتحرك – كما في المثال المذكور – بأنه رجل أو حيوان من حركته، ثم طابقنا الحكم على واقعه المحسوس لدينا لأدركنا الحقيقة. لذلك، فإن وجود النسبية في بعض الأحكام والأفكار لا ينفي وجود الحقيقة المطلقة القطعية التي تلزم العقل بالتسليم بها عن قناعة.
3. إن العقيدة من حيث واقعها عند كلّ البشر هي التصديق الجازم من قِبَل الوجدان بشرط موافقة العقل..فلا يوجد إرتباط في مفهوم الاعتقاد بمفهوم الإيمان والدين. فالإعتقاد يكون في المسائل الدينّية كما يكون أيضا بأيّ فكرة أخرى. ففصل الدين عن الحياة عقيدة الرأسمالية، ولا إله والكون مادة عقيدة الشيوعية، ولا إله إلا الله محمد رسول الله عقيدة الإسلام. مع أنّه يجب الذكر أنّ هناك ديانات عدّة تحصر الإيمان في القلب والوجدان، وتنفي دور العقل فيه, وتنفر من النقد العقلي البناء والمحاورة الفكرية فهي مبنيّة على التسليم, وهذه المعتقدات لا تحقّق إقتناع جازم ويقيني يكون مطابق للواقع مع دليل عقلي أي لا تقنع العقل إذن لا تصلح لأن تكون أساسا لنهضة صحيحة.
يتبع إن شاء الله
أبو زكريّا
18-04-2010, 07:29 PM
3- الطريقة العلمية
الطريقة العلمية هي منهج يسلك للوصول إلى معرفة حقيقة الشيء الذي يبحث عنه ، عن طريق إجراء تجارب على الشيء ولا تكون إلا في بحث المواد المحسوسة. وهي تكون بإخضاع المادة لظروف وعوامل غير ظروفها وعواملها الأصلية ، وملاحظة المادة والظروف والعوامل الأصلية والتي خضعت لها ثم تستنتج من هذه العملية على المادة حقيقة مادية ملموسة ، كما هي الحال في المختبرات. فطبيعة الطريقة العلمية وصفية، تعنى بالبحث في المواد المحسوسة من حيث الكيف والكم. وتفرض هذه الطريقة التخلي عن كل رأي سابق عن الشيء الذي يبحث و حصر البحث في الموضوع الذي يبحث فيه ، ثم تبدأ بملاحظة المادة وتجربتها، ثم بالموازنة والترتيب ثم بالاستنباط القائم على هذه المقدمات العلمية , ما يستلزم عادة تطبيق الاستدلال الرياضيّ . فإذا وصلت إلى نتيجة من ذلك كانت نتيجة علمية خاضعة بطبيعة الحال للبحث والتمحيص ولكنها تظل علمية ما لم يثبت البحث العلمي تسرب الخطأ إلى ناحية من نواحيها . فالنتيجة التي يصل إليها الباحث على الطريقة العلمية تسمّى حقيقة علمية أو قانونا علميا.
كما يمكن أن تستعمل الطريقة العلمية لإستنباط أفكارا جديدة وذلك بأخذها من عدة أفكار سابقة مع التجربة.
و الطريقة العلمية طريقة صحيحة في التفكير في البحث العلمي أي في المادة التي تخضع للتجربة .
التفكير في حل العقدة الكبرى لا يكون بالطريقة العلميّة :
إنّ فساد الإعتماد على الطريقة العلميّة في البحث في حل العقدة الكبرى آت من عدّة وجوه:
1- من الخطأ استعمال الطريقة العلميّة في غير الأبحاث العلمية أي في غير بحث المادة التي تخضع للتجربة فمن الخطأ والغلط أن تطبق في بحث وجهة النظر في الحياة ومن الخطأ أيضا أن تطبق على الإنسان أو على المجتمع أو أو في أبحاث التاريخ أو أبحاث الفقه أو أبحاث التعليم أو ما شاكل ذلك من الأبحاث . بل يجب أن تحصر في البحث العلمي فقط ، اي في بحث المادة التي تخضع للتجربة.
فهي لا تقدّم للإنسان معرفة متكاملة شاملة حول وجوده، أو دوره أو غاياته، إذ تقدّم للإنسان معرفة مادية -كيف وكم- وبحث الإنسان عن غايته من الوجود، وسعيه لإدراك كنه حقيقة مصيره، مبحث يتجاوز معطيات الواقع المادي المحسوس، فهي مسألة لا يمكن بحثها بالتجربة.
2- إنّ طبيعة العلم طبيعة وصفية، تعنى بالعالم والوجود من حيث الكيف والكم، أي تعنى بالأشياء والأمور كما هي عليه، لا كما يجب أو ينبغي أن تكون عليه. فالعلم إذن يفسر الظواهر من حيث كيفها وكمّها، ولا يقدّم للإنسان تفسيرا لحقيقته؛ لأنه يتجاهل بيان الغاية منها. وتحليل العالم كيفا وكمّا، يساعد البشرية على فهم العالم من حيث وصفه، ولكنّه لا يقدّم للبشرية قواعد سلوكية أو مفاهيم غائيةو يعجز عن الإجابة عن أسئلة لماذا؟ لماذا وجد الإنسان؟ ولماذا وجد الكون؟ ولماذا وجدت الحياة؟ وهي كلّها أسئلة مصيرية بالنسبة للإنسان، تصاحبه في حياته، ولا يمكن أن يهدأ له بال، ويقرّ له قرار إلا بالإجابة عنها، سواء أكان الجواب صحيحا أم باطلا؟
وعليه، فإن العلم لا يعطي معرفة مطلقة، ومن الخطأ القول بأنه معرفة تكشف معنى الحياة، وتفسر حقيقة الوجود الإنساني.
3- إنّ وضع أساس للتفكير البشري يقتضي كونه في متناول البشر قاطبة، فليس بأساس للبشرية ما لم يكن بمقدور البشركلّهم التأسيس عليه. والطريقة العلمية في واقعها، طريقة معقدّة، تخضع لقوانين، وشروط معينة ليس بمستطاع البشر كلهم الوفاء بها أو مراعاتها. فهي أساس التفكير لبعض الناس، ولصفوة الخاصة، وليس للعامة.
وإذا كانت المعرفة، أو الحقيقة، من حقّ الناس كلّهم، فلا بدّ أن يجعل للوصول إليها أساس عام بمقدور الجميع التأسيس عليه. وهو ما لا يتوفر في الطريقة العلمية.
4- ليست الطريقة العلمية قطعية النتائج، بل هي ظنية فيها قابلية الخطأ. وهو أمر ملاحظ في البحث العلمي ومقرر فيه؛ ولهذا توصف المعرفة العلمية بأنها معرفة احتمالية وتقدمية أي قابلة للتطور والنماء والتعديل، فليست يقينية. لذلك فلا تصلح الطريقة العلمية كأساس للتفكير البشري يقوم عليه وجوده وتبنى عليه حياته، لأنّها لا تقدّم حقائق ثابتة، ولا تعطي نتائج نهائية عن وجود الأشياء، وصفاتها وماهيتها. ولو جعلت الطريقة العلمية أساس التفكير، لأدت إلى تمييع مفهوم الوجود البشري، وتغييب معنى الحياة، مما ينتج عنه ضبابية في إدراك كنه الوجود، وتشوش في وعي الإنسان عن ذاته، وغاياته، ودوره في الحياة، وهو أمر يقلق الإنسان ويجعل منه كائنا عبثيا.
والحاصل، فإن الطريقة العلمية رغم إيجابياتها، وحاجة الإنسان إليها، إلا أنها لا تصلح لأن تكون أساس التفكير، وإن صلحت في العلوم التجريبية وفي بعض المجالات المعرفية الممكن إخضاعها للاختبار المعملي.
//////////////////////////////////////////////////////////////////////////////////////////////////////////////////////////
4- الأسلوب المنطقي
أما البحث المنطقي فانه ليس طريقة في التفكير وإنما هو أسلوب من أساليب البحث المبنية على الطريقة العقلية . لان البحث المنطقي هو بناء فكر على فكر بحيث ينتهي إلى الحس والوصول عن طريق هذا البناء إلى نتيجة معينة ، مثل : لوح الكتاب خشب وكل خشب يحترق فتكون النتيجة أن لوح الكتابة يحترق ومثل لو كان في الشاة المذبوحة حياة لتحركت لكنها لم تتحرك فتكون النتيجة انه لا توجد في الشاة المذبوحة حياة وهكذا . فقد قرنت في المثال الأول فكرة كل خشب يحترق مع فكرة لوح الكتابة خشب فنتج عن هذا الاقتران أن لوح الكتابة يحترق . وقرن في المثال الثاني كون الشاة المذبوحة لم تتحرك مع فكرة أن الحياة في الشاة المذبوحة تجعلها تتحرك فنتج عن هذا الاقتران أن الشاة المذبوحة لا توجد فيها حياة . فهذا البحث المنطقي إذا كانت قضاياه التي تتضمن الأفكار التي جرى اقترانها صادقة تكون النتيجة صادقة وإذا كانت كاذبة تكون النتيجة كاذبة . وشرط المقدمات أن تنتهي كل قضية منها الى الحس . ولذلك ترجع الى الطريقة العقلية ويُحكّم فيها الحس حتى يفهم صدقها . ومن هنا كانت أسلوبا من الأساليب المبنية على الطريقة العقلية وفيها قابلية الكذب وقابلية المغالطة . وبدل أن يختبر صدق المنطق بالرجوع إلى الطريقة العقلية، الأولى أن تستعمل الطريقة العقلية في البحث ابتداء وان لا يلجأ إلى الأسلوب المنطقي .
ان المنطق وكل ما يتعلق به فيه قابلية الخداع وقابلية التضليل وهو أكثر ما يضر في التشريع والسياسة . ذلك ان المنطق تبنى نتائجه على مقدمات ، وكذب هذه المقدمات أو صدقها ليس من السهل إدراكه في جميع الأحوال ، لذلك قد يكون كذب إحدى هذه المقدمات خفيا أو يكون صدقها مبنيا على معلومات خاطئة فيؤدي ذلك إلى نتائج خاطئة .
فمن الخطإ الإعتماد في إقامة البرهان على الأساس المنطقي وهذا ظاهر من عدّة وجوه منها:
1- *أن الحس شرط في عملية التفكير فالإحساس بالواقع أهم عنصر في التفكير. فلا يمكن إجراء عملية عقلية على شيء لا يقع عليه الحس أو على آثاره. والمقدمات في البحث المنطقي إذا لم تستند للحس يمكن وجود الخطأ فيها. لذلك*فاسلوب التفكير المنطقي يجعل الإنسان يقع في المغالطات وهذا واقع محسوس لا يمكن إنكاره لانه اسلوب يمكن أن يقع الخطا فيه لأن المقدمات قد لا تبنى على الحس و قد يكون فيها الخطأ أو في إحداها و هذا ممكن.
2- *المقدمات نفسها التي يعتمد عليها المنطق يجب حتى تكون صحيحة وان تخضع لعملية التفكير بالطريقة العقلية بالحكم على الواقع المنقول هو أو صورته للدماغ عبر وسائل الاحساس ومقارنته بالمعلومات السابقة كل هذا لينتج الفكر الاولي الذي قد يستعمله المنطق في بناءه فكرا على فكر بعد ذلك للوصول لنتائج أخرى. فإذا كانت مقدمات المنطق لم تستند إلى الحس بصورة مباشرة أو في نتيجتها لا يضمن أحد أن تكون قطعية. فالاصل هو التفكير باستعمال الطريقة العقلية .
3 - على كلّ إنسان أن يتعلّم المنطق حتى يثبت صحّة أفكاره وعقيدته وهذا ليس متاح ومتناول لكلّ النّاس, هذا بالإضافة إلى مشكلة أخرى. أيّ منطق يجب أن يتعلّمه الإنسان لإثبات صحّة عقيدته ولماذا ؟
- منطق أرسطو المسمى المنطق الصوري أو الشكلي؟!
- أم المنطق الرمزي أو الرياضي؟
- أم منطق فرانسيس بيكون الذي وصف منطق أرسطو الصوري أنه*لا يفيد علما جديدا!؟
- أم منطق ديكارت الذي نعت منطق ارسطو*بالعقم!؟
- أم منطق اسبينوزا ولابينتس؟!
- أم منطق جون لوك الحسي؟!
- أم منطق عمانوئيل كانت؟!
- أم منطق فيخته وتلميذه شبلنك؟
- أم منطق هيجل الديالكتيكي؟ أم منطق ماركس؟ أم؟ .. أم؟... أم؟ ....
- أم المنطق القياسي؟ المنطق التجريبي؟ المنطق الإجتماعي؟ وكافة أنواع المنطق الحديث!؟؟
4- المنطق ليس ضروريّ لكلّ عمليّة فكريّة فالحكم على ماهية الشيء وأنّ هذه مثلا تفاحة مثلا*ياتي بارجاعها الى المعلومات السابقة عنها وهي معلومات تتعلق بالشكل واللون والرائحة وما الى ذلك و لا اثر للمنطق في هذه العملية العقلية. فتحديد ماهيات الاشياء واطلاق المسميات عليها لا علاقة للمنطق بها .
يتبع إن شاء الله
أبو زكريّا
18-04-2010, 07:31 PM
5-الطريقة العقلية هي المنهج المعرفي القويم لحل العقدة الكبرى
إنّ الطريقة الصالحة لاتخاذها كأساس تفكير عند البشر قاطبة، وجعلها حكما في الحكم على الأشياء والأمور، هي الطريقة العقلية. والطريقة العقلية، سواء عرّفت تعريفا صحيحا أم لم تعرف، هي الطريقة التي يجري عليها الإنسان من حيث هو إنسان في تفكيره، وحكمه على الأشياء، وإدراكه لوجودها وحقيقتها وصفاتها. فهي طريقة في متناول البشر كافة، يعتمدها الإنسان، بغض النظر عن مستواه التعليمي، تلقائيا في فهمه، وإدراكه، وإصدار أحكامه.
وطريقة التفكير أي الكيفية التي يجري بحسبها إنتاج العقل للأفكار مهما كانت هذه الأفكار هي نفسها تعريف العقل أي هي ما ينطبق على واقع العقل ، ولذلك سميت الطريقة العقلية نسبة إلى العقل نفسه . وتعريف هذه الطريقة هو أنها هي منهج معين في البحث يسلك للوصول إلى معرفة حقيقة الشيء الذي يبحث عنه عن طريق نقل الحس بالواقع بواسطة الحواس إلى الدماغ ووجود معلومات سابقة يفسر بواسطتها الواقع فيصدر الدماغ حكمه عليه . وهذا الحكم هو الفكر أو الإدراك العقلي .
والطريقة العقلية تصلح لكلّ فروع المعرفة، ومجالات البحث، فتصلح للعلوم الطبيعية، وللفيزياء، وللرياضيات، وللفلسفة، وللسياسة، وللقانون ولغير ذلك.
هذه هي الطريقة العقلية وهي وحدها طريقة التفكير وما عداها إن هي إلا فرع لهذه الطريقة كالطريقة العلمية أو أسلوب من أساليبها اقتضاها بحث الشيء أو وسائل بحثه كما يسمى بالطريقة المنطقية وليست طرقا أساسية للتفكير فطريقة التفكير واحدة لا تتعدد وهي الطريقة العقلية ليس غير.
كما أنها تتميّز بخاصيتين لا توجدان في الطريقة العلمية. فتتميّز بقدرتها على إنشاء الأفكار الجديدة بخلاف الطريقة العلمية التي تتميّز بصفة الكشف والاستنتاج؛ ذلك أنّ الطريقة العلمية تكشف الموجود، ولا توجد المعدوم، وتبني على الموجود ولا تنشأ المعدوم. وأمّا الميزة الثانية للطريقة العقلية، فهي القدرة على إعطاء النتائج القطعية عن وجود الأشياء. إنّ الحكم على وجود الشّيء قطعيّ لا يمكن أن يتسرّب الخطأ إليه مطلقا ولا بحال من الأحوال. وذلك لأنَّ هذا الحكم جاء عن طرِيق الإحساسِ بالواقع. والحسّ لا يمكن أن يخطئَ بوجود الواقعِ إذ أنّ إحساس الحواس بوجود الواقع قطعيٌ، فالحكْم الَّذي يصدره العقل عن وجود الواقع في هذه الطَّريقة قطعي.
أمّا المغالطات الّتِي تحْصلُ فيخطِئُ فِيها الحِسّ مِثل رؤيةِ السّرابِ وظنّهِ أنّه ماءٌ ورؤيةِ القلمِ الصَّحِيحِ المسْتقِيمِ وهو فِي كوبٍ من الماءِ أنّهُ مكسورٌ أو أعوجٌ فليس خطأ فِي وجود الواقع وإنّما هو خطأ في صفات الواقع فهو لم يخطئ فِي وجودِ شيءٍ وهو السّراب أوِ القلم وإِنّما أخطأ فِي صِفةِ الشّيءِ فقال عَنِ السّرابِ أنّه ماء وعنِ القلم الصّحِيحِ المستقِيمِ أنَّه مكسور أوْ أعوجٌ، وهَكذا فِي جمِيعِ الأَشياءِ مهما حصلت فِيها مِنْ مغالطاتٍ فإِنَّ الحِسّ لا يمكن أن يخطِئ فِي وجودها، فهو حِين يحِسّ بِوجود شيء يكون هذا الشّيء موجودا قطعا، والحكم على وجوده يكون قطعيًّا. أمّا إن كانتِ النّتِيجةُ هِي الحكمُ على حقِيقةِ الشّيءِ أو صِفَتِهِ فَإِنّها تكون نتيجةً ظنِيّةً فِيها قابِلِيّة الخطأِ لِأنَّ هذا الحكم جاء عن طرِيقِ المعلوماتِ أو تِحلِيلاتِ الواقِعِ المحسوسِ مع المعلومَاتِ وهَذِهِ يمكِنُ أن يتسرّبَ إِليْها الخطأ ولكِنّها تبْقى فِكْرًا صَائِبا حتّى يتبيّن خطؤها، وحِيْنئِذٍ فقط يحْكم عليها بِالخطأِ وقبل ذلِكَ تبقى نتيجة صائبة وفكرا صحيحا.
لذلك فإنّ الطريقة العقليّة هي وحدها التي تمدّ الإنسان بحقائق جازمة يحتاجها في إدراك معنى حياته، بخلاف الطريقة العلمية ذات الصفة الاحتمالية التي لا تعطي الإنسان إلا ظنّيات فيها قابلية الخطأ أو الأسلوب المنطقي الذي يسهل تسرّب المغالطات فيه. كما يجب أن لايترك الوجدان وحده الطريق الموصل لحل العقدة الكبرى.
إنتهى
بإذن الله اللآتي سيكون تحت عنوان : حـل العقـدة الكبــــرى
أبو زكريّا
30-04-2010, 10:37 PM
إن مسألة حل العقدة الكبرى فيها ناحيتان :
ان الإنسان يحيا في الكون فلا بد أن يكون تفكيره بالعيش أي تفكيره بإشباع طاقته الحيوية مستمرا، وان يكون عيشا على أرقى وجه مستطاع ، وان يكون لعيش الإنسان من حيث هو إنسان بما تقتضيه غريزة بقاء النوع الإنساني . وهذا لا يمكن أن يتأتى دون بنائه على نظرة معينة للحياة . أي لا بد أن تتبلور عنده أفكار أساسية حول الحياة، تلك التي تفسر له سبب وجوده ومماته ومآله بشكل يقيني، لِتُلقيَ تلك الأفكار بدورها الضوء على نمط العيش المفترض له بالاستناد إلى المفاهيم الصادقة التي من شأنها تبديد هواجسه وإزالة أسباب القلق التي تعتريه.
ومن ناحية أخرى، فإنّ الإنسان يحس نفسه انه وجد ويحس الحياة التي فيه ويحس الكون الذي يحيا فيه. فهو منذ يميّز الأمور والأشياء يبدأ يتساءل هل قبل وجوده ووجود من قبله إلى أعلى جد يوجد شيء أم لا ، ويتساءل هل هذه الحياة التي فيه والتي في غيره من بني الإنسان يوجد قبلها شيء أم لا ، ويتساءل هل هذا الكون بما فيها من كواكب يوجد قبلها شيء أم لا ، أي هل هي أزلية وجدت هكذا من الأزل أم قبلها شيء أزلي . ثم يتساءل هل هذه الأشياء الثلاثة يوجد بعدها شيء أم لا ، أي هل هي أبدية تظل هكذا ولا تفنى أم لا . هذه التساؤلات أو الأسئلة ترد عليه كثيرا وكلما كبر تزداد هذه التساؤلات فتكوّن عنده عقدة كبرى يسعى لحلها .
فهذا التساؤل أو الأسئلة هي بحث في واقع ، أي هي نقل واقع بواسطة الحواس إلى الدماغ فيظل يحس بهذا الواقع ويحاول أكثر من مرة تفسير هذا الواقع بواسطة المعلومات التي لديه فان استطاع تفسير هذا الواقع تفسيرا قطعيا لا يعيد هذه التساؤلات فانه حينئذ يحل العقدة الكبرى . وإذا لم يستطع تفسير هذا الواقع تفسيرا قاطعا فانه يظل يتساءل فقد يحلها مؤقتا ولكن التساؤلات تعود إليه فيعرف انه لم يحلها وهكذا يواصل بشكل طبيعي سلسلة التساؤلات حتى يصل إلى الجواب الذي تصدقه فطرته أي يتجاوب مع الطاقة الحيوية التي لديه أي يتجاوب مع عاطفته .
فحتى يكون الحل حلا صحيحا للعقدة الكبرى يجب أن يكون نتيجة تفكير حسب الطريقة العقلية ، وان يشبع الطاقة الحيوية وان يكون جازما بحيث لا يترك مجالا لعودة التساؤلات . وبهذا يوجد الحل الصحيح ويوجد الاطمئنان الدائم لهذا الحل .
لذلك حتى يحيى الإنسان سعيداً، لابد وأن يُجيب عن هذه التساؤلات. وهذه الإجابة لابد وأن يُتَوَصَّلَ إليها بطريقة عقلية بسيطة غير معقدة ولا تحتاج إلى علم معين مثل علم المنطق ولا يتطلب أن يكون الإنسان مثلاً عالم فلك أو غير ذلك، لأن ذلك وإن كان متوفراً لبعض الناس ولكنه غير متوفر لجميع بني البشر، كما يجب أن لا*يترك الوجدان وحده الطريق الموصل للحل . لذا لابد وأن تكون هذه الإجابة نتيجة عملية عقلية لا تعتمد على دين ولا علم، وذلك ليكون الجواب مقنعاً لكل إنسان في هذا الكون صغيراً كان أو كبيراً عالماً كان أو مزارعاً. فكما قلنا في بداية البحث أن الإنسان تَميَّز بعقله عن باقي الكائنات، لذا لابد وأن يكون العقل هو الحكم على أي نتيجة يصل إليها الإنسان بهذا الخصوص.
أبو زكريّا
30-04-2010, 11:43 PM
الإسلام هو الحل
الإسلام عمد إلى هذه العقدة الكبرى فحلها للإنسان حلاً يوافق الفطرة ، ويملأ العقل قناعة ، والقلب طمأنينة ، وجعل الدخول فيه متوقفاً على الإقرار بهذا الحل إقراراً صادراً عن العقل ، ولذلك كان الإسلام مبنياً على أساس واحد هو العقيدة . وهي أن وراء هذا الكون والإنسان والحياة خالقاً خلقها جميعاً ، وخلق كل شيء ، وهو الله تعالى. والإسلام دين أنزله الله على سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، ليقوم بتنظيم علاقة الإنسان بخالقه ، وبنفسه ، وبغيره من بني الإنسان . فينظم علاقة الإنسان بخالقه بالعقائد والعبادات ، وعلاقة الإنسان بنفسه بالأخلاق والمطعومات والملبوسات وعلاقته بغيره من بني الإنسان بالمعاملات والعقوبات. فالإسلام يعالج مشاكل الإنسان كلها بطريقة واحدة، وينظر للإنسان كلاً لا يتجزأ ،وقد بنى نظامه على أساس روحي ، هو العقيدة ، فكانت الناحية الروحية هي أساس حضارته ، وهي أساس نظامه .
فما سنثبته عقلا هو الآتي :
- الله حقيقة ملموس وجودها وليس فكرة متخيّلة في الأذهان
- الإنسان في حاجة إلى رسل من عند الله يحملون رسالاته للإنسان ويرسمون له طريق السعادة والرقيّ
- القرآن كلام الله المُعْجِزْ بعثه مع رسوله سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هدى ورحمة للإنسان
ابو كفاح
30-04-2010, 11:56 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
كل الشكر والتقدير على هذا الجهد ـ اسأل الله ان يكون خالصا لوجهه الكريم ـ وان يجزيك خير الجزاء, وان يكون فيه الخير لكل من قرأه , وعمل على نشر هذه الافكار التي تنهض البشريه جمعاء النهضه الصحيحه ,تلك النهضه القائمه على اساس روحي .
ان حل العقده الكبرى ـ هو حل للتساؤلات التي تراود الانسان عن وجوده وما قبل وجوده , وعن مماته وما بعد الموت , حلا دائما ينهي التساؤلات الموجوده لديه , بحيث تؤدي الاجابه لهذه التساؤلات الى الاطمئنان والارتياح , بحيث لا تعود هذه التساؤلات للانسان .
وكما تفضلت فان الحل الصحيح هو حل عقلي ويتجاوب مع الوجدان , فهو حل جعل التفكير في الكون والانسان والحياه ـ باعتبارها هي فقط الاشياء المدركه المحسوسه موضع التفكير ـ ومن خلال التفكير فيها توصل للحل , والتفكير في الكون والانسان والحياه يجعل الانسان يكون فكره كليه عن الكون والانسان والحياه , فيتوصل من خلال البحث والتفكير لتصور معين حولها , وهذا التصور هو احد اهم الاجابات على تساؤلاته , وهو الذي يكون لديه الفكره الكليه عن الكون والانسان والحياه , وعما قبل الحياة الدنيا وعم بعدها وعن علاقة ما قبل الحياة بالحياه وعن علاقة ما بعد الحياة بالحياه , فاذا لم تكن الاجابات شامله لكل التساؤلات لا يكون الحل قد حصل , وتبقى التساؤلات قائمه تقوى وتضعف بمقدار اقتناعه بالحل الذي توصل اليه .
وهذا الحل للعقده الكبرى هو الذي يعطي الاجابات حولها , فيقول ان الكون والانسان والحياه مخلوقه لخالق , او انها ليست كذلك , وان الذي قبل الحياه هو الله , ام ان الحياة ماده , وان الذي بعد الحياة هو البعث والنشور , ام انه يساوي بين القائل بوجود الخالق والمنكر لوجوده , وان علاقة ما قبل الحياة بالحياه هي الخلق والاوامر والنواهي التي يسير بموجبها الانسان , ام انه لا يوجد خالق او مخلوق , والانسان هو الذي يضع الاوامر والنواهي ليسير بموجبها , ومع الاجابه على هذه التساؤلات والارتياح لها تحل العقده الكبرى لدى الانسان , وتتكون العقيده لديه , وعلى اساسها يبنى تفكيره , ومنها تنبثق كافة المعالجات لاشباع غرائزه وحاجاته العضويه , فالانسان اذا قال بالحل الوسط اي بفكرة فصل الدين عن الحياه ,او قال بانكار الدين مطلقا , فانه يطلق العنان لعقله ليضع المعالجات للغرائز والحاجات العضويه , تلك المعالجات المتناقضه والمتأثره بالبيئه بالاضافه للاختلاف والتفاوت الموجود في الانسان , مما يؤدي الى نظام متناقض متفاوت مختلف من انسان لآخر ومن مكان لآخر , يجلب هذا النظام الشقاء والتعاسه لبني الانسان , اما ان قال ان علاقة ما قبل الحياة بالحياه الاوامر والنواهي من الله بالاضافه لصلة الخلق , فلا بد من بحث حاجة الناس للرسل , وذلك لكون النظام الذي يضعه الانسان عرضة للاختلاف والتناقض والتأثر بالبيئه اضافة للتفاوت , وايضا لان علاقة الانسان بخالقه لا يستطيع ان يضعها الانسان , لان عبادة الخالق تحتاج لكيفية من الله وذلك لكون الانسان لا يدرك ذات الله , فلا بد ان تكون كيفية العباده من الله وليس من الانسان .
أبو زكريّا
02-05-2010, 04:10 PM
الأصل في البرهان على وجود الخالق في منتهى البساطة فوجوده حقيقة ملموسة محسوسة يوضع الإصبع عليها، فالوجود للخالق يوضع الإصبع عليه بالحس وإدراكه إدراك حسي مباشر وليس إدراكاً من قضايا منطقية، بل الحس بهذا الوجود للخالق هو الذي يعطي هذا الإدراك كإدراك أي شيء محسوس. وليس معنى هذا أن الخالق محسوس ملموس بل وجود هذا الخالق هو المحسوس الملموس.
إن الإنسان يحيا في الكون فهو يشاهد في نفسه، وفي الحياة التي يحياها الأحياء، وفي كل شيء في الكون تغيراً دائماً وانتقالاً من حال إلى حال، ويشاهد وجود أشياء وانعدام أشياء، ويشاهد إتقانا وتنظيماً في كل ما يرى ويلمس فيصل من هذا عن طريق الإدراك الحسي إلى أن هناك موجداً لهذا الوجود المدرك المحسوس. وهذا أمر طبيعي جداً، فإن الإنسان يسمع دوياً، فيظن أنه دوي طائرة أو سيارة أو مطحنة أو أي شيء ولكن يوقن أنه دوي ناتج عن شيء فيوقن بوجود شيء خرج منه هذا الدوي، فكان وجود الشيء الذي نتج عنه الدوي أمراً قطعياً عند من سمعه. فقد قام البرهان الحسي على وجوده وهو برهان في منتهى البساطة، فيكون الاعتقاد بوجود شيء نتج عنه الدوي اعتقاداً جازماً قام البرهان القطعي عليه، ويكون هذا الاعتقاد أمراً طبيعياً ما دام البرهان الحسي قد قام عليه، وكذلك فإن الإنسان مرّة بعد مرّة يشاهد التغير في الأشياء ويشاهد انعدام بعضها ووجود غيرها، ويشاهد الإتقان والتنظيم فيها، ويشاهد أن كل ذلك ليس منها، وأنها عاجزة عن إيجاده وعاجزة عن دفعه. فيوقن أن هذا كله صادر عن غير هذه الأشياء، ويوقن بوجود خالق خلق هذه الأشياء وهو الذي يغيرها ويعدمها وينظمها، فكان وجود هذا الخالق الذي دل عليه وجود الأشياء وتغيرها وتنظيمها أمراً قطعياً عند من شاهد تغيرها ووجودها وانعدامها ودقة إتقانها و تنظيمها. وهذا أمر عام يشمل جميع البشر ولا يستثنى منه أحد مطلقاً. ولذلك كان الإقرار بوجود الخالق عاماً عند جميع بني الإنسان في جميع العصور، والخلاف بينهم إنما كان بتعدد الآلهة أو توحيدها، ولكنهم مجمعون على وجود الخالق.
التغيّر في الأشياء : بالنظر إلى الموجودات سواء المُدركة بالحس أو الخارجة عن نطاق الحس والتي استُنتج وجودها ببرهان العقل نلاحظ أن حوادث التغير لا تنفك عنها أبداً. بذور تتحول إلى أشجار وثمار، ثم إلى رماد وهشيم يتفتت، والصوت يتحوّل إلى كهرباء والكهرباء إلى اهتزازات في الفضاء ثم تعود كرتها الثانية حتى ترجع فتظهر أصواتاً في الأجهزة اللاقطة (الراديو) ، والماء يتبخر ويتجمع سحباً ثم يهطل مطراً، و الفحم يتحوّل إلى ماس في الأزمان الطويلة، وتعاقب الليل والنهار وطلوع الشمس والقمر وغروبهما، وظهور النجوم وأفولها وتعاقب الصيف والشتاء والحر والبرد والحياة والموت وهي أكبر ظاهرة من التحول عجبا، يولد سرها كميناً مجهولاً مع الأحياء ويموت سرها مع الأموات ويدفن ولنمثل حالة التغير هذه في الكائنات مبتدئين من لحظة تفكيرنا وراجعين إلى الماضي على شكلٍ متموج. إن هذه التغييرات لا تنفك عقلاً من معنى الحدوث: تغيرات مكانية، تغيرات جوهرية في التركيب والصفة والخواص إلى غير ذلك.
فلو فرضنا أنه حصل تغير في المكان لجسم من الأجسام ـ والتغير المكاني هو أبسط أنواع التغيرات الكونية على الإطلاق ـ ولنرمز للمكان الذي كان فيه الجسم بـ (أ) وللمكان الذي انتقل إليه الجسم (ب) فنستطيع القول أن الجسم قد حدث وجوده في نقطة (ب) بعد أن لم يكن، وانعدام وجوده من نقطة (أ) بعد أن كان: انعدام تغير حدوث.
إننا نلاحظ أنه لا بد لكل تغير يحدث من سبب أثَّر فيه تأثيراً يكفي لأن يحوله ويغيره من وضع إلى آخر. ولا يسلم عاقل أن هذا التغير يحدث بنفسه من غير سبب يؤثر فيه تطبيقاً لمبدأ السببية البديهي في عقولنا والذي استنتجناه كذلك من قانون الكون الدائم (مثل وضع المال في صندوق، ثم وجدته في صندوق جارك من غير أن ينقله أحد، فهل يُصدق هذا) لذلك كان من المُسلم به أن كل هذه التغيرات الكونية لا بد لها قطعاً من مؤثر حقيقي: كامل القدرة صدرت عنه هذه القوى الكونية وتمت بخلقه هذه التغيرات الكونية الهائلة والحوادث العجيبة، وكامل الحياة دبت عنه صورة الحياة في الأجساد الحية. وكامل العلم صدرت عنه العقول القابلة للعلم والمعرفة. وكامل الحكمة صدر عنه كل أمرٍ متقن محكم إلى غير ذلك من صفات الكمال. ولا يُمكن أن يكون هذا القادر، الحي، الحكيم، العليم، إلا منزهاً عن التغير والتحول والضعف. ولا بد أن يكون ثابتاً، كامل الصفات، واجب الوجود في ذاته وفي صفاته وهو (الله سبحانه وتعالى).
الوجود والعدم: لا يشك عاقل في الدنيا بأن الوجود يقابله العدم، وأنه لا ثالث بين الوجود والعدم، ولا ثالث وراء الوجود والعدم. هذان اثنان (الوجود والعدم) إذا وُجد أحدهما انتفى الآخر لا محالة، وإذا انتفى أحدهما وُجد الآخر. والسؤال هو أيّهما الأصل؟ هل الوجود الذي يقابله العدم العام هو الأصل، أو العدم العام هو الأصل؟
وللإجابة على هذا التساؤل لا بد أن نسلك مسلك افتراض أن أحدهما هو الأصل، ثم ننظر هل يتعارض معه ـ على أنه الأصل ـ ما ينقضه أم لا.
وعلى هذا فلنفرض أن الأصل لكل ما يخطر في الفكر وجوده هو العدم. ومعنى العدم نفي ذات ما يخطر بالبال، ونفي صفاته، فلا ذات ولا قوة ولا إرادة ولا علم ولا حياة ولا أي شيء.
وبحسب هذا الافتراض نتساءل كيف استطاع العدم ـ الذي هو الأصل ـ أن يتحول إلى الوجود؟ ألسنا نشعر بوجود أنفسنا؟ ألسنا نرى موجودات كثيرة من حولنا؟!.
والعدم معناه كما عرّفناه هو النفي العام لكل ما يخطر بالبال؛ فيكف يأتي من هذا العدم العام ذوات وصفات وقوى، فتنطلق بنفسها من العدم إلى الوجود، وانطلاقها لا يكون إلا بقوة، والمفروض أن هذه القوة عدم أيضاً؟!.
إنه من المستحيل بداهة أن يتحول العدم بنفسه إلى الوجود، أو أن يوجد العدمُ أيُّ شيء.
وهكذا: لو كان العدم هو الأصل العام لم يوجد شيء من هذه الموجودات التي لا حصر لها، ولذلك كان علينا أن نفهم حتماً أن الأصل هو الوجود. وبهذا الدليل ثبت بشكل عقلي قاطع أنه لا يصح أن يكون العدم هو الأصل.
وحيث كان الأمر كذلك فقد ثبت بشكل عقلي قاطع أيضاً: أن الأصل هو الوجود لأن الوجود كما سبق نقيض العدم ولا واسطة بينهما.
إن ما كان هو الأصل بين شيئين متناقضين لا يحتاج وجوده إلى تفسير أو تعليل، لأنه متى احتاج وجوده إلى تعليل لم يكن أصلاً، وإنما تطلب الأسباب والتعليلات للأشياء التي ليست هي الأصل.
إذا كان الوجود هو الأصل لا محالة، فهل يمكن أن يكون لهذا الأصل بداية؟ وهل يمكن أن يلحقه العدم؟ وللإجابة على هذا التساؤل نقول:
1- إن ما كان وجوده هو الأصل لا يصح عقلاً أن يكون لوجوده بداية، لأن ما كان لوجوده بداية فلا بد أن يحتاج في وجوده إلى سبب أوجده، وما كان كذلك لا يمكن أن يكون وجوده هو الأصل.
2- إن ما كان وجوده هو الأصل لا يمكن أن يلحقه العدم؛ لأن كل زمن لاحق نفرض أن يطرأ فيه العدم على ما أصله الوجود. نقول فيه أيضاً: لا يزال الوجود هو الأصل ولا سبب لأن يطرأ عليه العدم أبداً، لأنه لا يطرأ العدم على أي موجود من الموجودات، إلاَّ بوصف أن يكون العدم فيه هو اصل. وإنما انتفى ذلك في زمن ما بسبب من الأسباب، فهو ينتظر زوال السبب حتى يعود إلى أصله وقد ثبت لدينا أن العدم من حيث هو مستحيل أن يكون هو الأصل العام ضد الوجود ولذلك يستحيل عقلاً أن يطرأ العدم على وجود علمنا أنه هو الأصل.
والآن: فلنلق نظرة على الموجودات التي تقع تحت مجال إدراكنا الحسيِّ في هذا الكون الكبير، لنرى هل تنطبق عليها فعلاً الحقيقة الأولى، وهي أن الأصل فيها لذاتها الوجود؟ أو ينطبق عليها ضدها وهي أن الأصل فيها العدم؟.
وهنا تبدو لنا حقيقة: أننا لم نكن ثم كنا، ونحن صنف ممتاز التكوين في هذا العالم. وأن أشياء كثيرة كان في طي العدم في أشكالها وصورها ثم وجدت كما هو مشاهد لنا باستمرار.
كما تبدو لنا صورة التغيرات الكثيرة الدائمة، في كل جزء من أجزاء هذه المواد الكونية التي نشاهدها أو نحس بها أو ندرك قواها وخصائصها. فمن موت إلى حياة، ومن حياة إلى موت، ومن تغيرات في الأشكال والصور إلى تغيرات في الصفات والقوى، وكل ذلك لا يعلل في عقولنا وفق قوانين هذا الكون الثابتة التي استفدناها من الكون نفسه؛ إلا بالأسباب المؤثرة التي تحمل سرّ هذه التغيرات الكثيرة والمتعاقبة في كل شيء من هذا الكون، على اختلاف جواهره وصفاته، سواء منها المتناهي في الصغر أو المتناهي في الكبر.
ومن هذه الأسباب ما نشاهده، ومنها ما نستنتجه استنتاجاً، ولا نزال نتسلسل مع الأسباب حتى نصل إلى وجود ذات هي وراء كل الأسباب.
إذًا لو كان الأصل في هذه الموجودات المعروضة على حواسنا هو الوجود، لم تكن عرضة للتحول والتغير، والزيادة والنقص، والبناء والفناء، ولم تحتج صور وجوداتها وتغيراتها إلى أسباب ومؤثرات. وحيث أنها عُرضة للتحول والتغير، وحيث أن قوانينها تفرض احتياجاتها إلى الأسباب والمؤثرات لزم عقلاً أن لا يكون الأصل فيها هو الوجود وإنما يجب عقلاً أن يكون الأصل فيها هو العدم. لذلك فهي تحتاج في وجودها إلى موجد. إذًا ثبت لدينا ما يلي:
أ- أن الأصل هو العدم في جميع هذه الأشياء الكونية القابلة للإدراك الحسيِّ وكل ما شابهها في الصفات.
ب- وحيث أن الأصل في جميع هذه الأشياء الكونية العدم؛ وجب عقلاً أن يكون لها سبب مؤثر نقلها من العدم إلى الوجود في مرحلة وجودها الأول ولا يزال يؤثر باستمرار في جميع صور تغيراتها المتقنة الحكيمة. ومعلوم بداهة أن المسبوق بالعدم لا بد له من موجد أوجده، وخالق خلقه وصوره.
إذًا اجتمعت لدينا الحقائق الثلاث التالية التي لا مفر منها، ولا محيد عنها، ولا بد من التوفيق بينها بشكل تقبله العقول قبولاً تاماً من غير اعتراض:
1- أن الوجود من حيث هو يجب عقلاً أن يكون هو الأصل.
2- أن ما كان وجوده هو الأصل استحال أن يكون له ابتداء، وأن يطرأ عليه العدم.
3- أن هذه الأشياء الكونية المعروضة على حواسنا ومداركنا ـ والتي نحن جزء منها ـ وكذلك كل ما شابهها: الأصل فيها العدم. ويحتاج وجودها إلى سبب موجد.
والتوفيق بين هذه الحقائق لا يتم إلا وفق صورة واحدة لا ثانية لها:
أولاً: لا بد عقلاً من وجود موجود عظيم، وجوده هو الأصل في الكائنات وعدمه مستحيل، لذلك فهو واجب الوجود عقلاً.
ثانياً: هذا الكون المشاهد ـ بما فيه من أرض وسماوات، ونجوم ومجرات، وجماد ونبات، وأحياء وأموات ـ الأصل فيه العدم، ولا بد لإخراجه من العدم إلى الوجود من سبب موجد.
ثالثاً: لا يكون السبب الموجد للكون بجميع ما فيه إلا موجوداً عظيماً، وجوده هو الأصل، وهو واجب الوجود وذلك هو (الله سبحانه وتعالى).
وبهذه الطريقة يسقط نهائياً تساؤل المتسائلين: كيف وُجِدَ الله سبحانه؟ لأنه تساؤل لا يعتمد على عقل، وذلك أن مثل هذا التساؤل إنما يرد في موجود تثبت قوانينه وصفاته أن الأصل فيه العدم، فهو يحتاج إلى موجد حتى يوجده ويبدعه من العدم. أما الموجود الذي يجب عقلاً أن يكون الأصل فيه الوجود ولا يجوز عليه العدم فلا يمكن أن يتعرض وجوده إلى مثل هذا التساؤل بحالٍ من الأحوال. لأن إيرادِ تساؤل من هذا النوع يتنافى مع الحقيقة الثابتة وهي أن الأصل فيه هو الوجود.
يتبع....
أبو زكريّا
02-05-2010, 04:11 PM
الإتقان: لانصادف من شيء في الأرض ولا في السماء إلا وهو في غاية الإتقان، مركب أحكم تركيب يؤدي به إلى غايته التي خلق من أجلها باعتباره جزءاً من وحدته التي هو أحد أجزائها، أو باعتباره مجموعة هي واحدة من جنس مجموعات كثيرة. كل ذلك في جملة هذا الكون الذي تنتظمه وحدة مهيمنة، لا يستطيع أي جزء منه أن يتحرر منها، أو يفلت من قانونها. أليس من الإتقان العجيب هندسة هذا الكون في مخطط كواكبه ونجومه، بحيث إن أي تغيير فيه يؤدي به إلى الخلل والنقص أو الخراب والفساد؟! سَلْ عالم الفلك يظهر لك من دقائق إتقان الكون ما هو فوق الدهشة والحيرة. أليس من الإتقان المدهش هندسة هذا الإنسان في خلقه وتكوينه سَلْ عالم التشريح عن مخطط جسم الإنسان وإتقانه وخواصه وميزه، يبين لك من صنعه عجباً يدهش العقول ويحير الألباب. أليس من الإتقان البديع المحير هذه المجموعات الكبرى في عالم الحيوان: سواء منها الطائر السابح، والماشي والزاحف، بأنواعها المُختلفة، المُتقنة في أشكالها وأوضاعها، وألوانها وخواصها، وطبائعها وطرق عيشها، وكبيرها وصغيرها؟! سَلْ عالم الحيوان عن عجائب الحيوانات وغرائبها وإتقان تكوينها، يبدو لك من أمرها عجباً يسلمك إلى الحيرة والدهشة في مدى حكمه صانعها. أليس من الإتقان البديع المدهش هذه المجموعات الكبرى في عالم النبات: سواء فيها أشجارها وزروعها، هوائيها ومائيها، بثمارها وأزهارها، وأوراقها وأخشابها، ولدنها وطلبها، بألوانها وأشكالها، وطعومها وروائحها وخواصها؟! سَلْ عالم النبات عن النباتات، يشرح لك من أمرها ما يفجِّر في قلبك الإيمان بصانعها العظيم، الذي أتقن كل شيء صنعاً. أليس من الإتقان البديع تكوين الأرض: ببحرها ويابسها، بجبالها وأغوارها، ووديانها وسهولها بصخورها ورمالها، وأتربتها ومعادنها، بينابيعها وأنهارها، بألوانها وطرقها، ببحرها وبرها، وصيفها وشتائها، بليلها ونهارها، بسيرها في فلكها ودورانها حول محورها، بجميع خواصها وصفاتها؟! سَلْ عالم الجغرافيا، وعالم الكيمياء، وعالم طبقات الأرض، سَلْ عالم الطبيعة أياً كان اختصاصه، يظهروا لك من إتقان تكوين الأرض عجباً يهديك إلى رشدك، ويعرفك بوحدة الصانع الحكيم الذي أتقن كل شيء صنعاً.
إنه كلما تقدم العلم، وازدادت المعارف التجريبية، تعرف الإنسان على دقائق جديدة من إتقان الصنع في هذه الموجودات الكونية، وازداد إيماناً بالصانع العظيم.
ثم إننا لا نرى ترتيباً مُتقناً مُحكماً في أي مركب من المركبات، إلا ويستدعي ذلك في أذهاننا التفكير بمن أتقنه ورتبه هذا الترتيب المُتقن الحكيم.
ذلك أن احتمال الإتقان الموافق للحكمة في مركبات تزيد أجزاؤها على عشرة أجزاء؛ ذو نسبة عددية ضئيلة جداً بالنظر للاحتمالات الأخرى غير المُتقنة التي تفوق كثرتها الحصر، والتي يمكن أن تتألف هذه المركبات على وفقها، لو أنها كانت على سبيل المصادفة.
إن عقولنا حتى لاحظت مركباً على وجه الإتقان والحكمة، فإنها لا شكل تفرض بداهة أن متقناً ما حياً عالماً قادراً مريداً حكيماً قد أتقن ترتيبها. كما أنها ترفض رفضاً قطعياً أن يكون ترتيبها قد جاء على طريقة المصادفة؛ لأن صورة الإتقان على سبيل المصادفة في المركبات ذات الأعداد الكبيرة من المستحيلات في مألوف العقلاء، كما أنها من المستحيلات أيضاً في نظر الحسَّاب الرياضيين.
وفي الأمثلة القريبة البسيطة من حياتك: تدخل إلى دار فترى أثاثها مرتباً بنظام حسن موافق للمصلحة فتقول بداهة: لا شك أن هذا الترتيب لم يأت عن طريق المصادفة وإنما هو بفعل فاعل مختار ذي نظر صحيح.
ويعرض عليك بائع الساعات ساعة لتشتريها، فتسأل أو ما تسأله، بعد أن يسرّك شكلها ـ عن الصانع الذي صنعها، لتعرف مستوى مهارته، وجودة صناعته وخبرته، حتى تطمئن على حسن سيرها في المستقبل، وعلى دقة ضبطها للوقت، لأنك تعلم أنه يتوقف ما تطلبه منها من ضبط ومتانة على مقدار مهارة الصانع وإتقانه ونصحه.
إننا نؤمن بالصانع بداهة في كل الأمور الجزئية متى كانت موافقة للحكمة والمصلحة.
موجودات لا تُحصى في هذا الكون كل جزء فيها موضوع في مكان لو وضع في غيره لتعطلت الحكمة منه، ولاختلت المصلحة، ولو وضع غيره في مكان لحصل الخلل أيضاً في الترتيب والنظام ووجه الإتقان؟!.
إن إتقان الصنعة في هذا العالم الزاخر بالمتقنات، دليل واضح على الصانع المُتقن الحكيم العليم، يشهده من الناس العالم والجاهل، الغبي والعاقل، الصغير والكبير، ويحكم به بداهة بأن الله حقٌ وجوده، وهو على كل شيء قدير وليس فوق حكم البداهة حكم لعاقل.
التنظيم : كلّ ما في هذا الكون المحسوس (الكائنات الحية والكائنات الغير حية) محكوم في جميع نواحيه لنظام؛ فمثلاً الكواكب تدور في مدارات محددة دون أن تتخلف عنها فهي تسير طبق نظام مخصوص لا يتخلف، والماء يغلي عند درجة حرارة معينة ويتجمد عند أخرى؛ والإنسان أتى إلى هذه الدنيا على غير إرادته وسيذهب عنها على غير إرادته، ولا يستطيع أن يطير في الهواء ولا أن يمشي بوضعه الطبيعي على الماء. فالإنسان يرى أن هذا الكون بما فيه محكوم لنظام دقيق بديع لا يتخلف عنه أبدا. وهذا أمر بديهي لكل إنسان ولا يختلف فيه اثنان. و من البديهي أيضا أنّ وراء كلّ نظام مُنَظِّم. فلو وضعنا ألواح حديدية وعجلات ومحرك ومقاعد في مكان ما وتركناها ملايين السنين، فهل يُعقل أن يقول عاقل أنها سوف تتجمع وتُكَوِّن سيارة أو طيارة مثلاً؟ إننا إذا رأينا سيارة نحكم قطعاً أن هنالك من جمعها ووضع لها نظاماً معيناً لتصبح بهذا الشكل وتتحرك بهذه السرعة والكيفية. وهذا أمرٌ بديهي أننا إذا وقع حسنا على أي نظام مهما كان بسيطا نقول أنه لابد له من منظم. فما بالك بهذا النظام المعقد والدقيق والبديع - وهو نظام الكون بكلّ ما فيه - والذي يعجز اللسان عن وصفه ويعجز جميع من في هذا الكون أن يُغَيِّروه أو حتى أي جزء منه. فيأتي السؤال، إذاً فمن هو المُنَظِّم؟ هل هو أحد أفراد هذا الكون أو أنه من غيره؟
إنّ الاحتمالات العقلية هي إما أن يكون هذا المُنَظِّم من هذا الكون أو من غيره. فإذا بحثنا في هذا الكون نجد أن أفضل ما في هذا الكون هو الإنسان، وفضله إنما هو بعقله لأننا نرى أنه هو الذي يحدث التغيير في هذا الكون ويطوره ويُسَخِّرَه لمصلحته، ولو كان أحد مما في هذا الكون هو من وضع هذا النظام فيكون هو الإنسان ليس غير. والثابت قطعاً أن هذا النظام ليس من وضع الإنسان لأنه لو كان هو من وضع النظام لاستطاع أن يُغَيِّرَه ليتوافق مع مصلحته، فهو عاجز عن تغيير النظام وإن كل ما يستطيع فعله هو استخدام ما قُدِّر من خصائص في مادة الكون لمصلحته. وأكثر ما يدل على عجز الإنسان هو موته، فهو لا يستطيع أن يرد عن نفسه الموت. إذاً فالجواب أن هذا النظام آتٍ من غير هذا الكون.
نعم، يكفي أن ينظر الإنسان إلى كيفية خلق الأحياء من حوله مثلا، أو رفع السماء، ونصب الجبال يدرك وجود الله، ولذلك فإن تيتوف رائد الفضاء الروسي حين قام برحلته الفضائية حول الأرض قال أنه رأى الأرض معلقة في الفضاء لا يمسكها شيء أبداً لا من فوقها ولا من تحتها ولا عن جوانبها فهي معلقة من نفسها هكذا في الفضاء دون أن يمسكها شيء وأنه تذكر ما تقوله الديانات. أي أنه استدل من هذه المشاهدة أنه لا يمكن للأرض أن تعلق هكذا في الفضاء لا يمسكها شيء وهو يدور حولها ولا يجد شيئاً يمسكها ومع ذلك هي معلقة ولا تسقط استدل من ذلك على أنه لا بد من شيء يمسكها ويمنعها من السقوط. فكل هذه براهين قاطعة على وجود الخالق، وهي براهين مسكتة، يدركها جميع الناس ويسلم بها جميع الناس، ولا يجد أحد جواباً عليها.
أرجو من الإخوة إعادة النظر و التدقيق. حفظكم الله.
ابواحمد
03-05-2010, 11:03 AM
السلام عليكم ورحمة الله
هل يصح وصف الله بأنه حقيقة؟ يبدو لي ان الصواب اخي الكريم ان يكون العنوان "وجود الله حقيقة ملموسة "
أبو زكريّا
03-05-2010, 07:36 PM
السلام عليكم ورحمة الله يا أخي أبو أحمد
العنوان هو "وجود الله حقيقة ملموسة وجودها وليس فكرة متخيّلة في الأذهان " وسقط مني سهوا حرف ال "ة" في "ملموسة"
وجزاك الله
أبو زكريّا
16-05-2010, 04:12 PM
دليل المحدوديّة في الأشياء إن الأشياء التي يدركها العقل هي الإنسان والحياة والكون، وهذه الأشياء محدودة، فهي مخلوقة. فالإنسان محدود، لأنه ينمو في كل شيء إلى حد ما لا يتجاوزه فهو محدود، ولأن الإنسان جنس متمثل في كل فرد من أفراده. فكل فرد إنسان، ولا يوجد أي فرق بين فرد وفرد في الخواص الإنسانية، فما يصدق على فرد من الإنسان يصدق على الآخر، كأي جنس من الأجناس كالذهب في قطعه الصافية، وكالأسد في الحيوان، وكحبة التفاح في جنسها من الفواكه..وهكذا. فالجنس أي جنس ينطبق عليه كله ما ينطبق على كل فرد من أفراده، وأبسط ما يشاهد أن الفرد يموت، وأن الإنسان يموت، فجنس الإنسان قطعاً يموت. وهذا يعني أن هذا الجنس محدود قطعاً. ومجرد التسليم بأن الإنسان يموت معناه التسليم بأن الإنسان محدود. ولا يقال إن الإنسان الفرد هو الذي يموت ولكن جنس الإنسان لا يموت بدليل أنه في كل عصر يموت الملايين ومع ذلك فإن في العصر الذي بعده بدل أن يفنى الإنسان مع الزمن نراه بالمشاهدة يكثر، فهو إذن لا يموت كجنس بل يموت كفرد. لا يقال ذلك لأن جنس الإنسان ليس مركباً من مجموع أفراد حتى يقال أن الفرد يموت والمجموع لا يموت، فيوصل من ذلك إلى أن الجنس لا يموت. بل الإنسان هو ماهية معينة تتمثل في أفراد تمثلاً كلياً دون فرق بين فرد وفرد، وذلك كالماء وكالبترول وكالقمح وككل جنس. ولذلك فإن الحكم عليه لا يجوز أن ينصب على مجموعة، لأن جنسه ليس مركباً من مجموعة، وإنما الحكم عليه ينصب على ماهيته، أي على جنسه، فما يصدق على الماهية في فرد يصدق على الجنس كله مهما تعددت أفراده. وبما أن الماهية متحققة كلها في الفرد الواحد وفي كل فرد، والفرد الواحد يموت، معناه جنس الإنسان يموت. أما المشاهدة فإنه لا يجوز أن تحكم لأنها مشاهدة لغير المطلوب البرهان عليه، فهي مشاهدة للمجموع وهو غير الجنس، فهي فوق كونها مشاهدة ناقصة لا تحكم لأنها ليست الجنس. ألا ترى أن المياه في البحار لا تنفذ مهما أخذت منها، وهذا يعني أنها ليست محدودة، وأن البترول لا ينفذ مهما أخذت منه، وهذا يعني أنه ليس محدوداً وألا ترى أن القمح يتزايد مع الاستهلاك الكثير منه. فإذا نظرنا إلى مجموعه معناه لا ينفذ، مع أن الواقع أن جنسه ينفذ، ومعناه أنه ينفذ. وجنس الإنسان المتمثل في الفرد الواحد يموت، معناه أن جنس الإنسان من حيث هو يموت، وعليه فإن الإنسان محدود.
والحياة محدودة لأن مظهرها فردي فقط، والمشاهد بالحس أنها تنتهي في الفرد فهي محدودة. إذ الحياة في الإنسان هي عين الحياة في الحيوان، وهي ليست خارج هذا الفرد بل فيه، وهي شيء يحس وإن كان لا يلمس، ويفرق بالحس بين الحي والميت. فهذا الشيء المحسوس، والذي هو موجود في الكائن الحي، والذي من مظاهره النمو والحركة، هو ممثل كلياً وجزئياً في الفرد الواحد لا يرتبط بأي شيء غيره مطلقاً. وهو في كل فرد من أفراد الأحياء كالفرد الآخر سواء بسواء. فهو جنس متمثل بأفراد كالإنسان، وما دامت تنتهي هذه الحياة في الفرد الواحد فمعناه أن جنس الحياة ينتهي، فهي محدودة.
والكون محدود، لأنه مجموع أجرام، وكل جرم منها محدود، ومجموع المحدودات محدود بداهة. وذلك لأن كل جرم منها له أول وله آخر، فمهما تعددت هذه الأجرام فإنها تظل تنتهي بمحدود. فالمحدودية ليست بعدد الأجرام، بل هي بكون لها أول ولها آخر، بل تثبت بمجرد وجود الأول. ومجرد أن قيل أكثر من واحد يحتم حينئذ المحدودية، لأن الذي يزيد شيء محدود فتظل الزيادة حاصلة بمحدود لمحدود، فيظل الجميع محدوداً. وعليه فالكون محدود. وعلى ذلك فالإنسان والحياة والكون محدودة قطعاً.
وحين ننظر إلى المحدود نجده ليس أزلياً، وإلا لما كان محدوداً، لأن هذا المدرك المحسوس إما أن يكون له أول فيكون ليس أزلياً وإما أن يكون لا أول له فيكون أزلياً. وثبت أن المحدود له أول فلا يكون أزلياً، لأن مدلول الأزلي أن لا أول له. وما لا أول له لا آخر له قطعاً، لأن وجود آخر يقتضي وجود أول، لأن مجرد البدء لا يكون إلا من نقطة، وهذا يعني أن النهاية لا بد منها ما دام قد حصل البدء من نقطة، سواء أكان ذلك في الزمان أم المكان أم الأشياء أم غير ذلك. وهذا حتمي في الحسيات، وكذلك حتمي في المعقولات، لأن المعقولات هي حسيات في الأصل، وما لم تكن حسيات لا تكون معقولات. وعليه فكل ما له أول له آخر. فمدلول الأزلي أنه لا أول له ولا آخر له، فهو غير محدود. فالمحدود ليس أزلياً. فكون الكون والحياة والإنسان محدودة معناه ليست أزلية وإلا لما كانت محدودة. وما دامت ليست أزلية فهي مخلوقة لغيرها. فالكون والإنسان والحياة لا بد أن تكون مخلوقة لغيرها. وهذا الغير هو خالقها، أي هو خالق الكون والحياة والإنسان. وعليه فإن العالم مخلوق لخالق، مخلوق للأزلي، مخلوق لله تعالى. فالعالم لا يتطور من ذاته تبعاً لقوانين حركة المادة بل هو محتاج قطعاً، وهو محدود قطعاً، وهو ليس بأزلي قطعاً، فهو إذن مخلوق للأزلي. وهذا الأزلي هو مدلول كلمة الله، أي هو الله تعالى.
دليل المحدودية في المكان والزمان
1- ما يطلب له الدليل: لا بد ان يقام الدليل على ان الاشياء التي يقع عليها الحس لها بداية زمنية. لان هذا بالضبط هو معنى انها مخلوقة. و التفكير بالاشياء التي يقع عليها الحس ممكن. لذا يمكن ان نحكم اذا كانت لها بداية زمنية او ليس لها بداية (اي ازلية). أما التفكير في الخالق ابتداءا فلا يمكن لانه لا يقع عليه الحس فلا يتاتى التفكير فيه. و من هنا ينصب التفكير على الاشياء التي يقع عليها الحس
2- الاشياء التي يقع عليها الحس و يتاتى بها التفكير هي الكون بوصفه المادي، و الانسان بوصفه الانساني و ليس المادي، و الحياة التي توجد بالكائنات الحية بما فيها الانسان.
3- اذا ثبت ان ايا من هذه الاشياء له بداية زمنية فان ذلك يعني انه يكون قد وجد بعد اذ لم يكن موجودا. اي انه مخلوق. و هذا يقتضي وجود خالق.
4- اذا ثبت ان كل هذه الاشياء الثلاثة مخلوقة، فان ذلك يعني ان الخالق هو غيرها. و ان هذه الخالق لديه القدرة على الخلق. اي على ايجاد الشيء بعد هذ لم يكن.
5- من هنا كان لا بد من اثبات ان كلا من الكون ن و الانسان و الحياة له بداية زمنية أي له حدود في الزمن
6- هناك طريقان للاستدلال. الاول يعتمد على محدودية الاشياء. و الثاني يعتمد على الاحتياج. و سابحث الدليلين
7- اما دليل المحدودية فيعتمد على ايجاد العلاقة بين محدودية المكان و محدودية الزمان. لان محدودية المكان ماثلة للعيان واقعة تحت الحس مباشرة و مدركة للعقل بكل بساطة. و يبقى على العقل ادراك ان كل محدود في المكان لا بد ان يكون محدودا في الزمان ايضا
8- اما الانسان فانه محدود في كل شيء يقع الحس عليه. فهو محدود في الشكل و الحجم و اللون و في كل خاصية من خصا ئصه
9- و الحياة محدودة في نموها و تكاثرها و الشكل الذي تتخذه و اللون الذي تظهر فيه و كل مظهر من مظاهرها
10- و الكون محدود في شكله و الالوان التي يتخذها و المكان الذي يشغله اي جزء من اجزاءه. فالقمر يشغل مكانا محدودا في اي لحظة من لحظات وجوده، و الشمس تشغل مكانا محدودا في اي لحظة من لحظات وجودها، و هكذا
11- و الان لنجد العلاقة بين الزمن و غيره من معالم وجود الاشياء. سواء كانت انسانا او حياة او كونا. و نستطيع ان ناخذ كمثال اي جزئية من هذه الاشياء للتوضيح ثم نثبت ان ما ينطبق على الجزء ينطبق على الكل. خذ مثلا بالونا صغيرا غير منفوخ و ليكن لونه احمر. البالون يمثل جزءا من الكون المادي
12- بعد نفخ البالون يتغير حجمه، و قد يتغير لونه قليلا. هذا التغير الذي شاهدناه من الحجم الاول و اللون الاول الى الحجم و اللون الجديدين استغرق زمنا معينا. و هذا الزمن جرى ادراكه نتيجة التغير الذي طرأ على البالون. و دون ملاحظة التغير لا يمكن ادراك الزمن. (الا ترى ان الذي اماته الله مائة عام لم يدرك الزمن الذي مكثه حتى لفت الله نظره الى التغير الذي طرأ على حماره)
13- من هنا كان الزمن عبارة عن ملاحظة التغير الذي يطرأ على المكان الذي تشغله المادة ايا كان هذا التغير، سواءا كان بالانتقال الى مكان جديد او انتشار اجزاء المادة في المكان كنفخ البالون او انتشار جزيئات و ذرات المادة كتغير اللون
14- كل تغير يطرأ على المادة لا بد ان يستغرق زمنا. اذ يستحيل ان تكون المادة في حالتين مختلفتين في نفس الزمن. فحين ينتقل البالون من مكان الى مكان فانه يستغرق زمنا. و حين ينتقل القمر من منزلة الى منزلة فانه يستغرق زمنا. و حين تصفر الاشجار بعد اخضرارها فان ذلك يتم خلال زمن معين, و هكذا كل تغير يحصل على اي حالة من حالات المادة فانه يحتاج الى زمن.
15- كل تغير يؤدي الى انتقال المادة من حالة الى حالة جديدة لا بد ان يتخذ زمنا محدودا. و يستحيل ان يكون زمن الانتقال الى الحالة الجديدة غير محدود. لان ذلك يعني ان المادة لا تزال في حالة تغير و لم تنته الى الحالة الجديدة بعد
16- حين ينتفل البالون من مكان (أ) الى مكان (ب) فانه يستغرق زمنا محددا (ز1). و حين ينتقل الى مكان (ج) فانه يستغرق زمنا محددا (ز2). و هكذا كلما شاهدته في مكان محدد يكون قد اتخذ هذا المكان بزمن محدد و يستحيل ان يكون قد اتخذ هذا المكان بزمن غير محدود.
17- و عليه اذا شاهدنا اي شيء في مكان محدود أي ادركنا ان الشيء الذي وقع عليه الحس محدودا فاننا ندرك ايضا ان الزمن الذي استغرقه هذا الشيء ليكون في المكان المحدود الذي وقع عليه الحس لا بد ان يكون محدودا ايضا. اذ لو لم يكن زمن وصول هذه الشيء الى هذا المكان او الحالة محدودا لما وقع الحس على هذا الشيء و لما ادرك العقل محدوديته
18- من هنا كان كل ما يدرك العقل وجوده بسبب محدوديته في المكان لا بد ان يكون محدودا في الزمان ايضا. و المحدود في الزمان ليس ازليا. وهو ما تطلب اثباته
19- بعض الاستنتاجات:
أ- التغير الذي يطرأ على المادة نتيجة طبيعية لكون المادة محدودة
ب- التغير الذي يطرأ على المادة هو الذي ادى الى ادراك الزمن و علاقته في المكان
ج- افتراض ان زمن وجود المادة غير محدود (ازلي) يعني ان الحس لا يمكن ان يقع على حدود المادة اي لا يمكن ادراك محدودية المادة. و هذه مناقض للواقع.
ثانيا: ملاحظات و أمثلة
1- دوران شفرة المروحة
أ- حين تدور المروحة بسرعة بطيئة نستطيع ان نلاحظ انتقال الشفرة من مكان الى مكان حيث ان زمن انتقالها يكون كبيرا نسبيا
ب- حين تزداد سرعة المروحة قليلا نلاحظ ان زمن انتقال الشفرة من مكان الى مكان يقل
ج- اذا زادت السرعة بشكل كبير فيصبح من الصعب ملاحظة انتقال الشفرة و تبدو للعين و كأن الشفرة تشغل الحيز كله في آن واحد، و ان كان الواقع هو ان الشفرة تنتقل من مكان الى مكان خلال زمن قليل لا تتمكن العين من ملاحظته
د- يستحيل عقلا و عمليا ان تزداد سرعة المروحة ليصبح زمن انتقال الشفرة من مكان الى آخر يساوي صفرا لان هذا يعني أحد أمرين:
- اما ان الشفرة تتواجد في مكانين في آن واحد. و هذا مستحيل عقلا لانه ثبت ان المادة (الشفرة هنا مادة) محدودة مكانا اي ان لها مكانا محدد يقع عليه الحس. ووجود المادة في مكانين او اكثر في آن واحد يجعل من المستحيل وقوع الحس على حدود المادة. و هذا يناقض الواقع
- و اما ان تكون الشفرة تشغل الحيز كله فلا تحتاج الى زمن للانتقال من مكان الى مكان. و هذا يناقض واقع الشفرة (المادة) كونها محدودة
2- نظرة العلماء لمادة الالكترون
أ- لاحظ العلماء عند بداية اكتشاف الاكترون انه يتواجد في أكثر من مكان في آن واحد لعدم توفر اجهزة قياس دقيقة وقت اكتشاف ظاهرة الالكترون
ب- اضطر علماء الفيزياء في بداية الامر لاعتبار الالكترون موجة طاقة و ليس جسما ماديا و ذلك بسبب ادراكهم للحقيقة العقلية انه يستحيل للمادة ان تتواجد في اكثر من مكان في زمن واحد اي يستحيل ان تنتقل من مكان الى مكان في زمن يساوي صفرا
ج- بعد تقدم اجهزة القياس تمكن العلماء من قياس سرعة انتقال الالكترون و ان زمن ذلك اكثر من صفر. و عادوا لاعتباره جسما ماديا بدلا من موجة
3- من هنا كان كل محدود مكانا لا بد ان يكون له زمن محدود أكبر من صفر.
أبو زكريّا
16-05-2010, 04:14 PM
دليل الإمكان في الكون بملاحظتنا لكل شيء في الكون: سواء كان من الأشياء المادية التي يُمكن أن ندركها ببعض حواسنا كالأرض والنجوم، أو كان صفة من الصفات القائمة في الأشياء المادية التي نستنبط وجودها بعقولنا كالجاذبية الخاصة الموجودة مثلاً في حجر المغناطيس، وكالجاذبية العامة الموجودة مثلاً بين الكتل المادية، وكخواص المركبات المادية التي لا حصر لها في الكون، سواء في ذلك الظواهر الكيميائية أو الفيزيائية، ندرك بداهة في كل واحدة منها أنه كان من الممكن عقلاً أن يتخذ صورة وصفة وحالة غير ما هو عليه الآن، فهنالك احتمالات كثيرة لا حصر لها في مجال الممكنات، لا يرى العقل مانعاً من أن تتحول هذه الأشياء الكونية إلى واحد منها.
فالعقل لا يمنع من أن تتخذ مثلاً صورة غير الصورة التي هي عليها، وشكلاً غير الشكل الذي هي عليه، أو حداً غير حدها الواقع كمَّاً وكيفاً. فتكون أكبر مما هي عليه أو أصغر، أو مركبة غير التركيب الذي هي عليه، أو في حيز من الكون وزمان من الدهر غير حيزها وزمانها، أو أن تكون لها صفات وقوى غير صفاتها وقواها، أو حركات ومدارات وسرعات مغايرة لما هي عليه.
كل هذا وأمثاله من الاحتمالات التي لا حصر لها، مما يجوّزه العقل بداهة، ويعتبره من الممكنات العقلية، التي لو كان تركيب الكون على وفقها لم يكن في ذلك منافاة لأصل عقلي.
فما المانع مثلاً من أن يكون الليل والنهار سرمدين؟ وما المانع العقلي من أن يكون الإنسان على غير هذا الوضع القويم، أو أكبر أو أصغر مما هو عليه جسداً وهامة؟. وما المانع من أن يكون العقل في البهائم، والنطق في العجماوات؟ وما المانع من أن تكون الأرض أدنى إلى الشمس والقمر من الوضع الذي هي عليه؟ أو غير ذلك من أشياء كثيرة.
أن كل شيء في هذا الكون يحتمل أن يكون على واحد من أوضاع كثيرة غير الوضع الذي هو عليه؛ فإن عقولنا لا بد أن تحكم بداهة بأن ما كان كذلك فلا بد له من مخصّص قد خصّصه باحتمال موافق للحكم والإبداع والإتقان؛ من جملة احتمالات كثيرة. ولولا وجود المخصّص للزم ترجيح أحد المتساوين على الآخر من غير مرجح؛ أو القول بأن: موافقة الحكمة فيما لا حصر له من الأعداد كان على طريق التصادف، وكلاهما مستحيل عقلاً. ونحن بوصفنا عقلاء في هذا الكون؛ لا نقبل أن نلتزم المستحيلات بينما نرى أن قوانين هذا الكون ثابتة لا تتخلف أبداً، ومن قوانينه رفض الترجيح بلا مرجِّح، ورفض احتمال المصادفة في نظام هذا الكون البديع. وأي الأمرين أسلم وأكثر قبولاً في العقل: هل إحالة هذا النظام الحكيم البديع في الكون إلى حكم المصادفة المستحيلة في العقل؟ أم إلى حكمة مخصص حكيم قد خصص هذا الممكن في احتماله الموافق للحكمة؟!.
وحيث ثبت لدينا احتياج هذه الممكنات إلى المخصص الحكيم؛ فإن عقولنا تحكم بشكلٍ قاطع: أن هذا المخصص يجب أن لا تكون ذاته أو صفاته محلاً لأي احتمال من الاحتمالات الممكنة التي تتعرض لها هذه الأشياء الكونية في نظر العقل. وإنما يجب أن يكون على وضع ثابت واجب عقلاً، لا يقبل العقل ـ بحال من الأحوال ـ أن تحتمل ذاته أو صفاته وضعاً آخر. هذا الموجود الواجب الثابت في ذاته وفي صفاته، والذي يوجب العقل أن يسند إليه تخصيص هذه الممكنات في واحد من احتمالاتها الكثيرة؛ هو واجب الوجود، وليس بممكن الوجود حتماً (وهو الله تعالى) وبذلك يثبت المطلوب.
دليل النظام السببي أن كل أشياء هذا الكون بالمشاهدة ساكنة مستقرة لا يمكنها أن تتحرك أو تتغير إلا بتأثير غيرها، وأنها محتاجة إلى هذا الغير في تصرفها وانتقالها من حال إلى حال وهذا الغير المحتاج إليه والذي يملك الاستطاعة على تغيير حال الشيء يسمى "سببا".
والسبب هو الشيء الذي يملك طاقة سببية فاعلة قادرة على التأثير في المسبب ونقله من حال معين في زمن سابق إلى حال جديد في زمن لاحق. إن كل أنواع التغييرات التي تحدث في الكون هي تحدث بواسطة الفعالية السببية. والأشياء العاجزة الساكنة حتى تتحول إلى أسباب مؤثرة يجب أن تكتسب طاقة سببية من غيرها من الأسباب. ثم تعود هذه الأشياء إلى وضعها الطبيعي من الاستقرار والعطالة بعد نفاد الطاقة السببية منها بتفريغ هذه الطاقة السببية في غيرها.
فإذا شاهدنا شخصا يطلق رصاصة من بندقية في يده، أدركنا أن هذه الرصاصة تمتلك وهي في حالتها هذه طاقة سببية انتقلت إلى هذه الرصاصة من البندقية والتي بدورها استقبلتها من يد الشخص الذي استخدمها. وإذا أصابت هذه الرصاصة زجاجة موضوعة على بعد حطمتها وانتشر الحطام في المكان ليصيب بعض الحيوانات فيؤذيها.ومن خلال مشاهدة هذا الحدث عرفنا أن هذه الرصاصة احتوت طاقة سببية قادرة على اختراق الأجسام الصلبة، ولكنها بعد نفاد طاقتها السببية أصبحت قطعة معدنية خامدة مستقرة غير مؤثرة ولا فاعلة.
ونلاحظ بذلك أهمية وجود الطاقة السببية لإحداث التغيير والتأثير في الأشياء، ونسمي الشيء الحامل للطاقة السببية الفاعلة بـ"السبب" المؤثر. والشيء الآخر الواقع تحت التأثير والانفعال بـ"المسبب". ثم يتحول هذا المسبَّب بدوره وبفعل الطاقة السببية إلى سبب مؤثر في غيره. وهنا يمكننا أن نلاحظ أن السببية تنتقل في الأشياء على شكل سلسلة أو سلاسل. وهذه السلاسل السببية إذا أنعمنا النظر فيها نلاحظ أنها تتناقص كلما رجعت في الأسباب إلى الخلف، كما تتناقص فروع أغصان شجرة وأنت تنظر إليها كلما تتبعت هذه الأغصان بنظرك إلى الأسفل نحو جذعها. وفي النهاية نجد أن الأسباب المختلفة تجتمع كلها في سبب رئيسي واحد وهو السبب الواجب أو الضروري وإلا فقدت السلسلة وجودها أصلا.
أن الناظر في هذا الكون يجد هذا التناسق العجيب بين أجزائه، فيجدها مرتبة بعضها على البعض الآخر، بأن يكون هذا محتاجا وذاك محتاجا إليه، فيكمل بعضهما الآخر في تناسق رائع من الروابط بين هذه الأشياء، وكأنك تنظر إلى شبكة يرتبط كل جزء فيها بالجزء الآخر ويتعاون الجميع ويتكامل لأداء مهمة معينة لمنظومة هذه الأشياء المتفاعلة فيما بينها. فإذا تجلى للناظر هذا التناسق في الكون وكأنه منظومة واحدة يرتبط بعضها ببعض على أساس العلاقة السببية، تنبه إلى أن الأسباب في هذه المنظومة تتناقص كلما سبر أغوارها؛ إلى أن تنتهي هذه الأسباب الكثيرة التي يراها في سبب واحد وهو سبب واجب الوجود وهو الله تعالى.
فمثلا إذا نظر الإنسان إلى أجزاء آلة معينة تؤدي هدفا محددا، وللنظر إلى الساعة تدل على الزمان. إن الإنسان لا يمكن أن يصدق أن هذه الساعة هي من صنع شخص واحد إلا إذا نظر إلى أجزائها وتأملها فرآى أن بعضها يتمم البعض الآخر وتتداخل أجزاؤها فيما بينها وكأنها تتعاون وتتكامل في ارتباط عجيب، بحيث أن تجميع هذه الأجزاء يكون نظاما واحدا متناسقا ومتماسكا يحقق غاية واحدة وهي ضبط الزمن. وإذا نقص جزء هام من هذه الساعة أو اختل ترتيب هذه الأجزاء فيما بينها أو فقدت بعض الروابط لاحظنا أن هذا النظام يختل ويتعطل أو قد ينهار.
وإذا قام شخص ما بتجميع أجزاء هذه الساعة وركبها التركيب الصحيح المتناسق المنسجم فسيرى أنها قد تحولت في يده إلى نظام تام كامل أي ساعة حقيقية تتحرك عقاربها معا في انسجام وتوازن لتؤشر على الوقت، وإذا به يلاحظ أن هذه الساعة التي جمعها دلت على أنها من صنع شركة معروفة في صناعة الساعات فعرف صانعها الحقيقي.
ويمكننا أن نشبه الكون من حولنا بهذه الساعة والذي يعمل ككل كنظام سببي متكامل ومتوازن، وتتداخل في هذا النظام الكلي عدة أنظمة جزئية تؤدي أغراضا معينة، كنظام دورة مياه الأمطار في الأرض وعلاقتها بالريح والضغط واعتماد هذه الدورة في الأساس في هذه الحركة الدورية على مصدر طاقة واحد هو الشمس. وكذلك منظومة الحياة الحيوانية وكيفية اعتماد هذه الكائنات على بعضها فالكبير فيها يعتمد على الصغير الأدنى منه في عيشه، وأدناها يعتمد على الأعشاب واعتماد العشبيات يكون على الطاقة السببية الآتية من الشمس. فنعرف بالتالي أن مصدر الحياة للنباتات والحيوانات في الأرض يعتمد على الشمس كعامل سببي واحد وأساسي.
وهكذا باقي الأنظمة السببية الجزئية المتوازنة في هذه الأرض والتي تجتمع جميعا لتكون نظاما سببيا أكبر، حتى يتسع هذا النظام في ارتباطاته ليشمل الكون كله في نظام متناسق يؤدي هدفا محددا، فيدل على صانع واحد رتب أجزاءه بعضها على بعض، ليكمل كل منها الآخر في تناسق واتزان تام بحيث تؤدي الوظيفة التي من أجلها وجد هذا النظام.
وإذا تبدّى للإنسان هذا التناسق في نظام الكون وعرف أن العلاقات بين أجزاء أنظمته الخاصة وكذا نظامه الكلي يقوم على أسباب محركة تحتاج إلى طاقة سببية فاعلة، وأن هذه الأسباب تتكون من سلاسل، وأن هذه السلاسل السببية تتناقص كلما سبرنا أغوارها لتتوحد في سبب واحد، دلنا هذا على أن وراء هذا الكون من يدبره بأمره ويؤلف بين أنظمته بما يدل على وحدة صانعه وعلى بعض صفات الكمال التي يتصف بها خالق هذا الكون ومدبره.
كذلك إذا عرفنا أن كل نظام سببي مصمم لهدف يسعى لتحقيقه، عرفنا أن النظام الكلي لا بد له من هدف كلي وضعه له خالقه وصانعه ليؤديه.
لكننا وبوصفنا نظاما -أي البشر- داخل هذه الأنظمة الجزئية والتي هي جزء من النظام الكلي لا ندرك بعقولنا القاصرة الهدف الأسمى من خلق هذا النظام الكوني الرائع. فكان علينا البحث عن هذا الهدف بسؤال الصانع نفسه ليدلنا على ذلك.
ولذلك فالعقل البشري يبحث عن الهدف الأسمى من خلقه ووجوده في هذا الكون، وعن الأهداف التي تؤديها الأنظمة السببية العديدة في داخل النظام الكوني الأكبر. وكذلك لا بد أن يسأل عن الهدف من وجود الإنسان نفسه لأنه أيضا نظام سببي كباقي الأنظمة. وأحس أنه لا بد له أن يؤدي الهدف الذي رسمه له من صنعه وخلقه. ولكن أنى لهذا الإنسان أن يدرك هذا الهدف من تلقاء نفسه، فتنشأ عنده العقدة الكبرى التي تؤرقه وتلاحقه لأجل حلها بإجابة شافية وافية عن هذه التساؤلات الكبرى في حياته.
وبهذا دل هذا النظام السببي والتناسق والنظام في الكون على وجوب وجود سبب واجب أول قد صنعه، وعلى أنه واحد أحد وعلى أنه منظم حكيم وعلى أنه رب هذا الكون، وعلى أنه مدبر له يقوم على رعايته وحفظه. ودلّ أيضا أن لكل نظام سببي هدفا لا بد أن يسعى لتحقيقه يضعه له من صنعه.
أبو زكريّا
16-05-2010, 04:20 PM
واجب الوجود واحد لا شريك له : من خلال دليل الاحتياج ندرك أن الكون والإنسان والحياة محتاجة وعاجزة وبالتالي فهي مخلوقة. ويفرض العقل أنه ما دامت هذه الأشياء موجودة ولها الوصف بأنها مخلوقة، وجود من خلقها. ويوجب العقل أن يتصف خالقها بوصف عدم الاحتياج وعدم العجز وكونه غير مخلوق وإلا لا يجوز أن يعتبر خالقا للأشياء. وبالتالي يعتبر الخالق واجب الوجود لأن الأشياء المخلوقة دلت على احتياجها له بالضرورة، وما دامت هي موجودة بالفعل والقطع كما ثبت ذلك بالحواس، كان وجود الله الخالق واجبا لحاجة المخلوقات إليه بالضرورة. ونحصر الخالق الواجب الوجود في الواحد لأن الضرورة دلت عليه بدون الاستدلال على وجوده بالإحساس به مباشرة بل بآثار وجوده.
أما إذا فرضنا وجود خالق آخر، فهذا فرض لا ضرورة له، لأن الضروري هو وجود خالق واحد واجب الوجود خلق الأشياء أما وجود أكثر من خالق واحد فهو غير ضروري بالاستناد إلى وجود المخلوقات التي هي آثار لوجود هذا الخالق. وكل ما عدا هذا الواجب الوجود يكون ممكن الوجود أي مسلوب الضرورة عن وجوده وعدمه ليس له في نفسه ما يقتضي أن يكون موجودا أو معدوما.
فإذا وجد ذات ممكنة الوجود (وإن سميناها خالقا تجاوزا) فقد وجدت لسبب خارج عنها يرجح لها الوجود، وإذا عدم الممكن عدم لعدم وجود السبب المرجح لوجوده, وإذا وجد وجد حادثا ومحتاجا إلى إيجاد الموجد وإبقائه موجودا. وبالتالي كان كل ممكن الوجود هو مخلوق والله الخالق هو وحده واجب الوجود بالضرورة.
وحال جميع الموجودات في العالم ما عدا الواحد واجب الوجود أنها ممكنة الوجود أي مستعدة للوجود والعدم، أي أنه يمكننا أن نفرض عدم وجود هذا الكون من أوله أو طروء العدم عليه في وقت من الأوقات، بحيث لا يترتب على كل من هذين الافتراضين أي أمر محال، أي لا يستلزم مستحيل من المستحيلات كاجتماع النقيضين أو الدور (الحلقة المفرغة) أو التسلسل أو اللاسببية.
أما إذا افترضنا عدم وجود الواحد الواجب الوجود بذاته فيجب نفي وجود هذا الكون أيضا، لأن هذا الكون احتاج قطعا إلى الموجِد وإذا انتفى السبب ينتفي المسبَّب. ولكن ما دام هذا الكون مشهود ومحسوس أي موجود بالقطع، كان خالقه موجودا بالقطع وإلا وقعنا في التناقض المستحيل.
إذن فنحن من خلال هذا الدليل نثبت وجوب وجود خالق لهذا الكون بالضرورة لكون المخلوقات في حاجة إلى من يوجدها وهي موجودة بالقطع فيكون وجود سبب وجودها واجب الوجود بالضرورة.
ثم أثبتنا بدليل التوحيد أن واجب الوجود لا يكون إلا واحدا وأن افتراض وجود خالق غيره ليس بواجب وما دام ليس بواجب عقلا فيكون ممكن الوجود وصفة إمكان الوجود هي صفة للمخلوقات، لأن انعدام ممكن الوجود -حتى لو سميناه خالقا- فإن ذلك يعني أنه ليس بأزلي، وما ليس بأزلي فهو محدود أي مخلوق.
وبالتالي يكون ما عدا واجب الوجود من الموجودات الحقيقية أو المفروضة هي مخلوقات قطعا، ويكون الله تعالى هو وحده واجب الوجود بالضرورة وهو متفرد لا ثاني له ولا شريك ولا ند.
تنبيه : أنا لم آتي و لو بفكرة واحدة جديدة من عندي بل هي كلها أفكار الحزب و كتابات لشبابه وما فعلت إلّا تجميعها للهدف الذي ذكرت سابقا في المشاركة الأولى و المشاركة السادسة.
لا تبخلوا عليّ بالتعليقات والملاحظات.*
الغريب
18-05-2010, 12:16 AM
الإنسان يحيى في الكون
والنوع الثالث من مظاهرها الميل لاحترام الأبطال والميل للعبادة والتديّن ، والشعور بالنقص والعجز والاحتياج والتقديس والخشوع والضراعة والعبادة والتعظيم والتبجيل ، وترجع كلها إلى
غريزة التديّن . وهذه المظاهر تدفع الإنسان إلى البحث عن تفسير لشعوره بالضعف أو عجزه عن إشباع غريزة البقاء، وإشباع غريزة النوع في كثير من القضايا التي يوكل فيها الإنسان أمرَهُ إلى من أوما هو أقوى منه أو إلى قوّة غيبيّة، يعتقد أنّها قادرة على حلّ قضاياه تلك، فيستسلم-شعورياً-لتلك القوّة، وينقادَ إليها رغماً عنه. و قد يتديّن للقوى، التي تكون في غالبها قوى فكريّة أوغيبيّة، يعتقد أنها تعينه على البقاء، وتحفظ له النوع البشري . فالتدين غريزة مستقلة أختصّ بها الإنسان منذ وجوده فوق الأرض. فقد عبِد الشمس و الكواكب والنّار والأصنام وعبِد الله تعالى , حتى لا نجد في عصرٍ من العصور شعبا إلاّ مال إلى عبادة. أما ما يظهر عند الملحِدين من إنكار لوجود أيّ قوّة غيبيّة أو الإستهزاء بالعبادة ما هو إلاّ تحويل لهذه الغريزة إلى عبادة المخلوقات , وتقديس الطبيعة , أو أشخاص بعدما آمنوا بأفكار أوعقائد معيّنة.
والغرائز موجودة عند الحيوان كما هي موجودة أيضًا عند الإنسان، كغريزة النوع وما يصدر عنها من مظاهر كالميل الجنسي، وكغريزة البقاء وما ينتج عنها من مظاهر كالخوف من الأخطار، إلا أن بعض المظاهر الغريزيّة لغريزة النوع ولغريزة البقاء غير موجودة عند الحيوان كحب الاستطلاع، وكالميل لإنقاذ المشرف على الهلاك، أو تختلف عند الإنسان عنها عند الحيوان، كحب التملك . أما غريزة التديّن، فإن الإنسان ينفرد بمظاهرها دون الحيوان، فلا يظهر على الحيوان أي مظهر من مظاهر التدين، لأن الإنسان لا يدرك كيف يشبع الحيوان هذه الغريزة إن كانت لديه .
الاخ ابو زكريا في بداية كلامك عن الغرائز ذكرت ان غريزة التدين هي فقط عند بني البشر ومرة ثانية ذكرت مظاهر غريزة التدين في حال وجدت عند الحيوان .
هل هناك تعارض فيما قلت ؟؟ ارجو التوضيح.
ومسألة أخرى , لقد ذكرت في مداخلتك " 14".
نقول أن مثل هذه الفكرة الكلية صحيحة ، ما دام قد توفر فيها الشرطان :
أ – أنها عقلية مبنية على العقل
ب – أنها موافقة لفطرة الإنسان
(( انها عقلية مبنية على العقل )) اليس من الافضل زيادة " وتكون مقنعة للعقل "" ليكون هناك توافق مع ما ذكرت في ماخلتك السابقة " 11"
إذا فالأفكار لا يؤثر على السلوك الا اذا صدقها الإنسان وارتبط هذا التصديق بالطاقة، اي الا اذا اصبح مفهوما من مفاهيم الشخص،*فالقول بأن سلوك الإنسان حسب مفاهيمه قول يقيني وغير قابل للشك لان التصديق بالفكر اذا ارتبط بالطاقة لا يمكن ان يكون السلوك الا بحسبه.
أبو زكريّا
04-06-2010, 01:19 PM
أخي الغريب السلام عليكم ورحمة الله.
أدعو الله أن تكون غريب على الشيطان ولا يجد لإغواءك سبيلا :)
1- ذكرتُ أنّ التدين غريزة مستقلة أختُصَّ بها الإنسان وهذا ما نراه عقلا فرأيت أن أوضّح ذلك بذكر أنّنا لا ندرك عقلا إبتداءا أي مظهر من مظاهر التدين عند الحيوان. فهذه الخصوصيّة عقليّة فقط، فهي لا تنفي وجود تديّن عند الحيوان وهذا ثابت بدليل نقلي أساسه عقلي وهو القرآن الذي سيأتي إثباته عقلا لاحقا في البحث إن شاء الله.
2- قلتَ : (( انها عقلية مبنية على العقل )) اليس من الافضل زيادة " وتكون مقنعة للعقل "" ليكون هناك توافق مع ما ذكرت في ماخلتك السابقة " 11" . نعم أخي، أتفق معك وقد تمّ التعديل.
حيّاك الله.
أبو زكريّا
04-06-2010, 01:20 PM
إنّ التفكير في حل العقدة الكبرى ، أي التفكير في الكون والإنسان والحياة، أمر حتمي وطبيعي عند إنسان. فهو يحس بهذه الثلاث وهذا الإحساس يدفعه إلى التفكير ومحاولة الإجابة عن الأسئلة التي تتعلّق به وبالحياة التي يحياها وبما يراه في هذا الكون. ويسعى لإشباع طاقته إشباعا يشعر معه بالراحة النفسية والطمأنينة الدائمة والرضى. كما يعمل جاهدا للإرتقاء بسلوكه وتصرفاته في الحياة والإرتقاء بفكره عن وفي الحياة. لذلك كان لزاما أن تكون له وجهة نظر عن الحياة أي أن تكون لديه أفكار أساسية كبرى حول الحياة، أي فكرة كلية عن الكون والإنسان والحياة وعما قبل الحياة وعما بعد الحياة ، وعن علاقتها بما قبل الحياة ،و عن علاقتها بما بعد الحياة ، لتفسر له سبب وجوده ومماته ومآله بشكل يقيني، وهذه الأفكار عليها أن تكون الركيزة الأساسيّة التي يُبنى عليها نمط العيش المفترض للإنسان إستنادا على المفاهيم الصادقة التي من شأنها تبديد هواجسه وإزالة أسباب القلق التي تعتريه والتي من شأنها تحقيق إرتقاء ونهضة صحيحة في سلوكه وأفكاره. وبعد تسجيد هذه القناعات في الواقع، بغض النظر عن حجم المعوقات التي تواجهه، يصبح إنساناً سوياً منسجماً مع نفسه قادراً على مواجهة تحدّيات الحياة باعتماد حقائقها، غير آبه بأوهام الآخرين عن السعادة الزائفة، متوقفاً بذلك عن الحيرة والارتباك والاضطراب الذي يصيب الآخرين بسبب لهاثهم وراء الأوهام.
وحتى يكون الحل حلا صحيحا للعقدة الكبرى يجب أن يكون نتيجة تفكير حسب الطريقة العقلية ، وان يشبع الطاقة الحيوية إشباعا سويّا ، وان يكون الحلّ جازما بحيث لا يترك مجالا لعودة التساؤلات.
قد ثبت لدينا عقليّا وبطريقة جازمة أنّ الإنسان والحياة والكون مخلوقة لخالق واحد أزلي واجب الوجود وهو الله تعالى الذي وجبت له صفات الكمال المطلقة من دقّة في الإتقان والتنظيم وعظمة في الإحكام وقوّة في الحكمة وسعة في العلم ، والمنزّه عن الخطأ والنسيان والعبث.
وثبت لدينا أنّ الإنسان لديه غرائز وحاجات عضويّة تحتاج للتنظيم لتحقيق الإشباع السويّ وهذا الطلب للتنظيم مناطه الإدراك والعقل، كما تتكوّن لديه طبيعيّا وفطريّا أسئلة وجوديّة مصدرها إحساسه بالواقع :
من أين أتيت؟ و لماذا أتيت؟ وإلى أين المصير؟
من أين أتيت؟ الإجابة هي أنّ الأصل في كل الموجودات المدركة والمحسوسة هو العدم أي أنّها وجدت بعد أن لم تكن ووجودها سببه خالق، الأصل فيه الوجود، أوجد كلّ شيء من العدم. وهذه الإجابة لا تكفي وحدها لحلّ العقدة الكبرى. بل بالعكس، هذه الإجابة والعلم يقينا بوجود الله تعالى تنبثق منه أسئلة خطيرة وأخرى أقلّ خطورة، ولكن هذا لا ينقص من أهميّتها، وجب لها البحث عن أجوبة مبنيّة على العقل وموافقة لما يحتاجه الإنسان في حياته للإشباع والإرتقاء. ومن هذه الأسئلة للذكر لا للحصر:
1-
عبد القاهر
05-06-2010, 08:57 AM
السلام عليكم ورحمة الله
بداية أشكر للأخ أبي زكريا جهده وعمله ، ونسأل الله أن يكون في ميزان حسناته يوم القيامة .
ملحوظة بسيطة جدا
يجب تعديل العنوان
الإنسان يحيى في هذا الكون .
( يحيى )
الصحيح
الإنسان يحيا في هذا الكون .
لأنه فعل، والفعل يحيا يُكتب بالألف القائمة .
أما يحيى بالألف المقصورة فهي الاسم .
--------------------------
أما عن المشاركتين 28 / 29 .
فقد طلب الغريب منك إضافة مقنعة للعقل .
وقد وافقته أنت مسرعا .
فهلا تريثتما .
معنى مبنية على العقل :
أي أثبت العقل صحتها ، وهي بالتالي تكون مقنعة .
ولا حاجة لإضافة مقنعة للعقل .
---------------------
أمر أخير
اضم صوتي لصوت الأخ ( مؤمن )
الموضوع ليس بحاجة لكتاب
بحث صغير وقوي ومركز .
أفضل من الإطالة .
فطبيعة الفكر تأبى التطويل .
----------------------
شكرا لاستماعكم
الغريب
06-06-2010, 09:51 PM
السلام عليكم ورحمة الله
معنى مبنية على العقل :
أي أثبت العقل صحتها ، وهي بالتالي تكون مقنعة .
ولا حاجة لإضافة مقنعة للعقل .
وعليكم السلام اخي عبد القاهر
معنى مبنية على العقل :
- اي ان العقل قد توصل اليها .....؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
- ام ان العقل قد اثبث صحتها ...... ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
أرجو منك التوضيح
عبد القاهر
07-06-2010, 07:42 PM
وعليكم السلام اخي عبد القاهر
معنى مبنية على العقل :
- اي ان العقل قد توصل اليها .....؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
- ام ان العقل قد اثبث صحتها ...... ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
أرجو منك التوضيح
السلام عليكم ورحمة الله
الأخ الكريم
مبنية على العقل يعني ؛ أثبت العقل صحتها .
ولتعلم أن العقيدة الاشتراكية قد تُوصل لها عن طريق العقل . ألم تكن نتاج عقل وعملية تفكير ؟ بلى .
وهي غير صحيحة وغير مطابقة للواقع .
ففكرة أنه لا إله والحياة مادة فكر ، ولكنها غير صحيحة وغير مطابقة للواقع .
وفكرة أن الخلق مخلوق لخالق هي فكر ، ولكنها فكرة صحيحة مُطابقة للواقع .
إذن المبني على العقل هو ما برهن العقل على أنه صحيح مطابق للعقل .
الغريب
08-06-2010, 03:16 PM
السلام عليكم ورحمة الله
الأخ الكريم
مبنية على العقل يعني ؛ أثبت العقل صحتها .
ولتعلم أن العقيدة الاشتراكية قد تُوصل لها عن طريق العقل . ألم تكن نتاج عقل وعملية تفكير ؟ بلى .
وهي غير صحيحة وغير مطابقة للواقع .
ففكرة أنه لا إله والحياة مادة فكر ، ولكنها غير صحيحة وغير مطابقة للواقع .
وفكرة أن الخلق مخلوق لخالق هي فكر ، ولكنها فكرة صحيحة مُطابقة للواقع .
إذن المبني على العقل هو ما برهن العقل على أنه صحيح مطابق للعقل .
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
اخي الكريم
لقد اجبت بان المبني على العقل هو ما برهن العقل على أنه صحيح مطابق للعقل......
اخي الكريم : انه صحيح مطابق للواقع .......
000 مع ان العقل قد بين وبرهن وان الذي قد توصل اليه هو مطابق للواقع,,, ولكن ايكفي هذا اخي الكريم, في جعل الانسان يعمل وفق هذة العقيدة أم يجب ايضا" ان يقتنع بها ؟؟؟؟؟؟؟؟؟
فما هو ردك على هذة الايات :
بسم الله الرحمن الرحيم.
قال تعالى : { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً } .
وقال : { قد نعلم أنه ليحزنك الذي يقولون ، فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون } .
وقال : { إنه فكر وقدّر ، فقتل كيف قدّر ، ثم قُتل كيف قدّر، ثم نَظَر ، ثم عَبَس وبَسَر ثم أدبَرَ واسْتكبر ، فقال إنْ هذا إلاّ سِحرُ يُؤثَر ، إنْ هذا إلاّ قول البشر}.
أبو زكريّا
30-06-2010, 01:15 AM
1- الحـاجـة إلـى الرســل
إنّ التفكير في حل العقدة الكبرى ، أي التفكير في الكون والإنسان والحياة، أمر حتمي وطبيعي عند كلّ إنسان. فهو يحس بهذه الثلاث وهذا الإحساس يدفعه إلى التفكير ومحاولة الإجابة عن الأسئلة التي تتعلّق به وبالحياة التي يحياها وبما يراه في هذا الكون. كما يسعى لإشباع طاقته إشباعا يشعر معه بالراحة النفسية والطمأنينة الدائمة والرضى. كما يعمل جاهدا للإرتقاء بسلوكه وتصرفاته في الحياة والإرتقاء بفكره عن وفي الحياة. لذلك كان لزاما أن تكون له وجهة نظر عن الحياة أي أن تكون لديه أفكار أساسية كبرى حول الحياة، أي فكرة كلية عن الكون والإنسان والحياة وعما قبل الحياة وعما بعد الحياة ، وعن علاقتها بما قبل الحياة ،و عن علاقتها بما بعد الحياة ، لتفسر له سبب وجوده ومماته ومآله بشكل يقيني، وهذه الأفكار عليها أن تكون الركيزة الأساسيّة التي يُبنى عليها نمط العيش المفترض للإنسان إستنادا على المفاهيم الصادقة التي من شأنها تبديد هواجسه وإزالة أسباب القلق التي تعتريه والتي من شأنها تحقيق إرتقاء ونهضة صحيحة في سلوكه وأفكاره. وبعد تسجيد هذه القناعات في الواقع، بغض النظر عن حجم المعوقات التي تواجهه، يصبح إنساناً سوياً منسجماً مع نفسه قادراً على مواجهة تحدّيات الحياة باعتماد حقائقها، غير آبه بأوهام الآخرين عن السعادة الزائفة، متوقفاً بذلك عن الحيرة والارتباك والاضطراب الذي يصيب الآخرين بسبب لهاثهم وراء الأوهام.
وحتى يكون الحل حلا صحيحا للعقدة الكبرى يجب أن يكون نتيجة تفكير حسب الطريقة العقلية ، وان يكون الحلّ جازما بحيث لا يترك مجالا لعودة التساؤلات كما يجب أن يحدّد طريقة لإشباع الطاقة الحيوية إشباعا سويّا.
قد ثبت لدينا عقليّا وبطريقة جازمة أنّ الإنسان والحياة والكون مخلوقة لخالق واحد أزلي واجب الوجود وهو الله تعالى الذي وجبت له صفات الكمال المطلقة من دقّة في الإتقان والتنظيم وعظمة في الإحكام وقوّة في الحكمة وسعة في العلم ، والمنزّه عن الخطأ والنسيان والعبث. وثبت لدينا أنّ الإنسان لديه غرائز وحاجات عضويّة تحتاج للتنظيم لتحقيق الإشباع السويّ وهذا الطلب للتنظيم مناطه الإدراك والعقل، كما ثبت أنّ الإنسان تتكوّن لديه طبيعيّا وفطريّا أسئلة وجوديّة مصدرها إحساسه بالواقع :
من أين أتيت؟ و لماذا أتيت؟ وإلى أين المصير؟
من أين أتيت؟ الإجابة هي أنّ الأصل في كل الموجودات المدركة والمحسوسة هو العدم أي أنّها وجدت بعد أن لم تكن ووجودها سببه خالق، الأصل فيه الوجود، أوجد كلّ شيء من العدم. وهذه الإجابة لا تكفي وحدها لحلّ العقدة الكبرى. بل بالعكس، هذه الإجابة والعلم يقينا بوجود الله تعالى تنبثق منها أسئلة خطيرة وأخرى أقلّ خطورة، ولكن هذا لا ينقص من أهميّتها، وجب لها البحث عن أجوبة مبنيّة على العقل وموافقة لما يحتاجه الإنسان في حياته للإشباع والإرتقاء. ومن هذه الأسئلة :
1- ما هوالهدف من خلق هذا الكون الشاسع بما يحتوي من غازات ونجوم وكواكب ومجرات؟ وما الهدف من خلق كلّ هذه الكائنات التي تكاد لا تحصى أنواعها ولا أفرادها من بريّة ، تسير على بطنها وأخرى تسير على إثنين وعلى أربع وثمان ، ومن مائيّة مختلفة ومتنوّعة وأخرى برمائيّة؟ وما الهدف من خلق الحياة التي نراها في هذه الكائنات ، تأتي بدون إختيار وتذهب كذلك؟ وما الهدف من خلق الإنسان، هذا الكائن الفريد من نوعه الذي تميّز عن كل الكائنات الأخرى بإدراكه وعقله ؟
2- ثبت لدينا إنّ التدين غريزة عند الإنسان ، فهو في فطرته يحتاج إلى التقديس والعبادة ،وهذا التقديس يجب لا يجب أن يتوجّه إلا إلى الخالق، إذن ثمّة علاقة بين الإنسان وخالقه وهذه العلاقة تحتاج إلى نظام صحيح لكي لا تتوّجه هذه العبادة لغير الله تعالى أو لكي لا يُعبَد بغير ما يحقّق التقديس الذي يرضاه سبحانه وتعالى، وهذا النظام لا يمكن أن يأتي من الإنسان لأنه لا يتأتّى له إدراك حقيقة الخالق، مع إدراكه لوجوده، حتى يضع نظاماً بينه وبين خالقه ، فلا بد أن يكون هذا النظام من الخالق .
3- إنّ السؤال الثاني يحيل بصفة طبيعيّة إلى سؤال ثالث أعمّ وأخطر منه. صحيح أنّه ثبت لدينا أنّ الإنسان لديه غرائز وحاجات عضويّة وعقل ومع أنّنا أثبتنا وجود هذه الطاقات لديه لكنّنا لا نستطيع إدراك حقيقة هذه الطاقات فكيف للإنسان إدراك إذن كيفيّة التعامل معها أي كيفيّة تنظيمها. ببساطة لا يستطيع الإنسان أن يأتي بنظام يحقّق إشباع سويّ لهذه الطاقة الحيويّة. وهذا ملموس ومحسوس،لأن فهمه لتنظيم غرائزه وحاجاته العضوية عرضة للتفاوت والاختلاف والتناقض والتأثر بالبيئة التي يعيش فيها ، وهذا ما أدّى إلى شقاءه في كل مرّة حاول أن يضع نظامه بنفسه.
4- لو نظرنا إلى الإنسان لوجدنا أنّ هناك العديد من الأفعال والأحوال التي تقع منه وعليه دون أن يكون له الإختيار فيها. فهو لا يختار أن يأتي إلى الحياة أو يذهب عنها، ولا يختار والديه أو بلده أولونه إلى غير ذلك.
كما نرى أنّ العديد من الأحداث التي تفرح الإنسان أو تحزنه وتغضبه لا يكون سببا فيها، مثل المرض والصحة والغنى والفقر والأولاد والمصائب وأمثالها كثير وتكاد تكون يوميّة. كما أنّه ترى الإنسان يعمل جاهدا للحصول على شيء ما ولكن مع توفّر كل العوامل لإيجاده تراه يمتنع عن الحصول وقد يحصل الأمر العكسي تماما. إلى غير ذلك من الأمثلة. وخاصّة عندما يقع ما يكرهه الإنسان من مصيبة في مال أو صحّة أو ولد تراه يتسائل أسئلة ملحّة قد تأرقه وتزعجه لماذا؟ وكيف؟ ولا يجد لها أجوبة شافية.
5- من أخطر الألغاز في حياة الإنسان التي يجب حلّها حلّا نهائيّا هي مسألة الموت وما يتعلّق بها. فما سرّ الحياة؟ ولماذا نموت؟ وماذا يحصل عندما نموت؟ وهل هناك حياة أخرى بعد الموت؟ وهل من جنّة ونار و يوم حساب؟ ولماذا؟
6- هل الملائكة والجنّ موجودة فعلا؟ وإذا كانوا موجودون، فما علاقتنا بهم أو علاقتهم بنا؟
هذه الأسئلة الوجوديّة و غيرها كثير، لا يستطيع الإنسان بمفرده الإجابة عنها, وذلك إمّا لأنّه بحث فيما لا يحسّ الإنسان به أو بحث فيما يفتقد فيه الإنسان إلى معلومات سابقة إبتداءا فلا يمكن أن تتمّ عمليّة فكريّة وينتج عنه فكر صادق بدون إحساس بواقع أو بغياب معلومات سابقة صادقة. إذا لا يمكن الحصول على إجابة تقنع العقل ولا حتّى ظنًّا. فالإنسان لا سبيل له إلا تلقّي الأجوبة من الله تعالى الذي يعلم الغيب وأخفى ويعلم حقيقة كلّ الأشياء والأحوال ويعلم حقيقة الإنسان والكون و الحياة والموت والزمن والملائكة والجنّ والشياطين ولا يغيب عنه ما يحصل من أدقّ الأمور أو أعظمها فهو خالقها وبارؤها.
وإذا استعرضنا التاريخ الإنساني فإنّنا نجد أن هنالك من ادّعى أنهم رسل من عند هذا الخالق وأنهم يبلغون عنه،و أتوا برسالات فيها من الأخبار عن الإنسان و الحياة و الموت إلى غير ذلك.و هذا كلّه ممكن عقلا مادام الله قادرويفعل مايشاء ومنزّه عن العبث ووجبت له الحكمة وكلّ صفات الكمال.
إنّ الرسالات ضروريّة للإنسان لترشده إلى طريق السعادة وتخرجه من ظلمة الحيرة إلى نور الإطمئنان وتحقيق إنسانيّته. وترتفع به من درك الحيوانيّة والشرك والتيه إلى منازل الإيمان النقيّ والتميّز والنهضة المستنيرة.
أبو زكريّا
02-08-2010, 12:28 AM
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
1- مفهوم الإعجاز ومفهوم الدّليل العقلي والفرق بينهما
2- مفهوم التواتر والتواتر المفيد للعلم و كيف يكون التواتر المفيد للعلم يقيني وقطعي عقلا
3- كيف يمكن إثبات أنّ القرآن متواتر تواترا مفيد للعلم
أبو زكريّا
25-09-2010, 12:25 AM
2- الإعجــــاز والدليــل
إنّ شرط تصديق من إدّعى أنّه مرسل من عند الله تعالى هو الإتيان بالدليل القاطع ليحصل اليقين الجازم عند الإيمان برسالاته "فالبيّنة على من ادّعى" فمن قال أنه مرسل فعليه أن يُدَلِّل على ذلك ويجب أن يكون دليله بيِّن يقنعُ الذي خوطب به قناعة جازمة عقلا ويحقّق إطمئنان الوجدان.
إنّ كل من ادّعى أنّه رسول من عند الله تعالى جاء بمعجزات وأدلّة لإثبات نبوّته ، ولكن هل تلك المعجزات ثابتة ويمكن الإحساس بها للتأكّد من نبوءته. وإذا بحثنا في تاريخ الإنسانية، لا نجد من ادّعى أن معجزته خالدة وأبديّة إلا نبيّ الإسلام محمّد، مع أنّه جاء بعدّة معجزات ولكنّه لم يدعي أبديّة أيّ منها إلا القرآن. فلابدّ من بحث القرآن لنرى إن كان حقّاً معجزاً أم لا، فإن كان معجزاً لبني البشر كان من جاء به حقاً نبي مرسل من عند الله.
وقبل الخوض في بحث القرآن وإعجازه وأدلّته دعنا نتوقّف قليلا لتحديد واقع بعض المصطلحات اللازمة لرفع كلّ شبهة وخلط في البحث.
أ- الدّليل : إنّ البرهان أو الدّليل يُطلب لبيان صدق فكرة معيّنة، أي يقع بيان صدق هذه الفكرة بإسنادها إلى برهان أو براهين صادقة أو بديهيّة أي إسنادها إلى أفكار واضحة وقع إثباتها أو أفكار لا تحتاج إلى برهان لإثباتها فهي تفرض نفسها على الذهن. إذن فالبرهان أو الدّليل هو مجموعة أفكار ومعلومات سابقة صادقة يقع ربطها مع واقع الفكرة المطلوب البرهنة على صدقها لإثبات صدقها، أي لإثبات مطابقة هذه الفكرة للواقع، وبذلك يقع الإستدلال على صدق هذه الفكرة. وبذلك تكون الفكرة صادقة ما لم يتسرّب الخطأ للدّليل أو للإستدلال. ولكي تصبح هذه الفكرة حقيقة عقليّة أو علميّة لابدّ أن تكون المعلومات السابقة قطعيّة ويكون الإستدلال (أي عمليّة الربط) سليم.
ب- المعجزة والإعجاز: المعجزة هي أمر خارق للعادة سالم من المعارضة يظهر على يد مدعي النبوة يتحدّى به على وجه يعجز المنكرون عن الإتيان بمثله. والغاية من الإعجاز هي إقناع النّاس بأنّ من جاءت على يده المعجزة هو رسول مرسل من عند الله تعالى, أو لبيان قدرة الله تعالى. فحتّى نطلق اسم المعجزة على أمر ما، يجب أن يكون ذلك الأمر :
1- خارق للعادة أو بخلاف العادة أي لم يعتد البشر أن يُأتي بمثله على يد البشر.
2- يجب أيضا أن يكون سالما من المعارضة أي لا يستطيع أحد أن يعارضه بأن يأتي بمثله رغم أنّه من جنس ما يتفوّق به النّاس الذين حصل فيهم هذا الأمر، أي أن يكون هناك مَن هم أهل خبرة في هذا الأمر الذي جاءت على نسقه ولم تكن منه.
3- صالح للتحدّي، أي يستطيع من أتت على يديه المعجزة أن يتحدّى النّاس بمثلها. وقد يتحدّى الرسول بمعجزته وقد لا يتحدّى, فليس بالضرورة أن يتحدّى بها إلا أنّه لا بدّ أن تثبُتَ أمام التحدّي إن حصل حتى تعتبر معجزة وهذا التحدّي يجب أن يكون لكلّ النّاس، أفرادا كانوا أو جماعات، أي أناس زمن النبوّة ومن سيأتي بعدهم ولو بعد ألف أو ألفين سنة أو أكثر هذا إذا صحّ يقينا حصول المعجزة.
ولابدّ في هذا المقام من الإشارة إلى مسألتين خطيرتين. الأولى هي أنّ المعجزة لا يمكن أن يكون مدّعي النبوّة هو مألّفها ، فهو من البشر والأصل فيه أن يكون عاجز عن الإتيان بأمر خارق للنواميس التّي إعتادها البشر، أي أنّ المعجزة يحقّقها مَن يستطيع خرق قوانين الطبيعة أي الله عزّ وجلّ ولكن تتمّ على يد نبيّه لتكون له دليل صدق ولا يكون النبيّ مصدرها. أمّا الأمر الثاني هو أنّ الإحساس بالإعجاز يكون مختلفاً عند أهل الخبرة عنه عند غير أهل الخبرة في الأمر الذي جاءت على نسقه المعجزة و التثبّت من المعجزة يكون بطريقتين:*بالإدراك المباشر أو الاستدلال.
فأهل الخبرة يجب أن يقفوا بأنفسهم على المعجزة ، ويتيقّنوا من صدقها كما يجب أن يكون عددهم من الكثرة بحيث يستحيل تواطؤهم مع مدّعي النبوّة أو أن يغفلوا بمجموعهم عن دقائق الأمور. وأمّا غير أهل الخبرة والإختصاص فإيمانهم بالمعجزة*يأتي عن طريق الإستدلال أي يأتي من عجز أصحاب الخبرة على الإتيان بمثلها وتسليمهم للنبيّ بها.
أبو زكريّا
30-09-2010, 01:03 AM
إنّ*القرآن*كتاب سماوي*وهو كلام*الله. ويتكوّن القرآن من 114 سورة وكلّ سورة تتكوّن من آيات ، وتختلف عدد الآيات من سورة لأخرى. وعدد آيات القرآن هي 6236 آية. والقرآن ألفاظه كلّها عربيّة وهو اللفظ المنزّل على سيّدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم، وحْيًا مِن الله، بما يدلّ عليه من معانيه، فالقرآن هو اللفظ والمعنى معاً. فالمعنى وحده لا يسمّى قرآناً، واللفظ وحده لا يتأتّى أن يكون دون معنى مطلقاً، لأن أصل الوضع في اللفظ إنّما هو للدلالة على معنى معيّن. وقد نزل على النبيّ محمّد صلى الله عليه وسلم مفرَّقاً في مدّة ثلاث وعشرين سنة. وكان نزوله على أنحاء شتّى، تارة بتتابع، وتارة بتراخي. وإنما نزل منجَّماً ولم ينزل دفعة واحدة لحكمة ذكرها الله تعالى في القرآن الكريم (وقال الذين كفروا لولا نُزِّل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبِّتَ به فؤادك) أي كذلك أُنزل مفرَّقاً لنقوي بتفريقه فؤادك حتى تعيه وتحفظه. وقال تعالى: (وقرآناً فرَقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزّلناه تنزيلاً) أي قرآناً جعلنا نزوله مفرَّقاً منجَّماً على مكث، أي على مهل وتؤدة وتثبّت، نزّلناه تنزيلاً أي حسب الحوادث. فمن أجل تثبيت فؤاد الرسول، ومن أجل قراءته على الناس على مكث وتؤدة، ومن أجل أن ينزل حسب الحوادث وجوابات السائلين، نزل منجَّماً مفرَّقاً في ثلاث وعشرين سنة.
وكان القرآن ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيَأمر بحفظه في الصدور، وكتابته في الرقاع، من جلد أو ورق أو كاغد، وفي الأكتاف والعسب واللخاف، أي على العظيم العريض وعسب النخل والحجارة الرقيقة. وكان كتّاب الوحي يبْلُغ أكثر مِن أربعين كاتبا. وكان إذا نزلت الآيات، أمر بوضعها موضعها من السورة، فيقول ألحِقوا هذه الآية في سورة كذا بعد آية كذا، فيضعونها موضعها من السورة وبقي ترتيب آيات كل سورة على ما هي عليه حتّى الآن ولم تتغيّر موضع أيّ آية مَن أيّ سورة لا إنتقالا ولا زيادة أو نقصان فكان ترتيب آيات القرآن في كلّ سورة توقيفاً من النبي صلى الله عليه وسلم عن جبريل عن الله تعالى . وهكذا حتى نزل القرآن كلّه وإكتمل نزوله بوفاة النبيّ محمّد صلّى الله عليه وسلّم. وقد ترك صلى الله عليه وسلم جميع ما بين دفتي المصحف مكتوباً قد كُتب بين يديه قد كُتبت بأيدي كتبة أتقياء ومحفوظاً في صدور الصحابة رضوان الله عليهم.
وأمّا ترتيب السُوَر بالنسبة لبعضها فإنه كان باجتهاد من الصحابة رضوان الله عليهم. وروى أنّ الصحابة كانوا يحتفظون بمصاحف على ترتيب في السُوَر مختلف مع عدم الاختلاف في ترتيب الآيات، فمصحف ابن مسعود على غير تأليف العثماني من حيث ترتيب السور، وكان أوّله سورة الفاتحة ثم سورة البقرة ثم سورة النساء ثم سورة آل عمران، بعكس العثماني فترتيبه الفاتحة ثم البقرة ثم آل عمران ثم النساء، ولكن يكن أي منهما على ترتيب النزول. ويقال إن مصحف علي كان على ترتيب النزول أوّله سورة إقرأ ثم سورة المدّثّر ثم سورة ن والقلم ثم سورة المزمل ثم سورة تبّت ثم سورة التكوير ثم سورة سبّح..
أبو زكريّا
30-09-2010, 01:04 AM
1-جـمــع القـرآن الكـريـــم
وقع جمع الصحف المكتوبة من العسب واللخاف وصدور الرجال وغيرها من قبل زيد في عهد خلافة أبي بكر. فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله، ثم عند عمر إلى مماته ثم عند حفصة بنت عمر رضي الله عنهما. ولم يكن جمع زيد للقرآن كتابة له من الحفّاظ، وإنّما كان جمعه له جمعاً لِما كُتب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وكان لا يضع صحيفة مع صحيفة أخرى ليجمعها إلاّ بعد أن يشهد لهذه الصحيفة التي تُعرض عليها شاهدان يشهدان أن هذه الصحيفة كُتبت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلّم. وكان فوق ذلك لا يأخذ الصحيفة إلاّ إذا توفر فيها أمران: أحدهما أن توجد مكتوبة مع أحد من الصحابة، والثّاني أن تكون محفوظة من قبل أحد الصحابة، فإذا طابق المكتوب والمحفوظ للصحيفة التي يراد جمعها أخذها وإلاّ فلا. فالجمع لم يكن إلاّ جمع الصحف التي كُتبت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتاب واحد بين دفتين. فقد كان القرآن مكتوباً في الصحف، لكن كانت مفرَّقة فجمعها أبو بكر في مكان واحد. وعلى ذلك لم يكن أمْرُ أبي بكر في جمع القرآن أمراً بكتابته في مصحف واحد بل أمراً بجمع الصحف التي كُتبت بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم مع بعضها في مكان واحد والتأكّد من أنّها هي بذاتها بتأييدها بشهادة شاهدين على أنّها كُتبت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن تكون مكتوبة مع الصحابة ومحفوظة من قِبلهم. وظلت هذه الصحف محفوظة عند أبي بكر حياته، ثم عند عمر حياته، ثم عند حفصة بنت عمر أمّ المؤمنين حسب وصية عمر. وكان هذا الجمع للقرآن حفظا لهذه الصحف أي للرقاع التي كُتبت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس حفظاً للقرآن. ولم يكن جمع الرقاع والمحافظة عليها إلاّ من قبيل الاحتياط والمبالغة في تحري الحفظ لعين ما نُقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. أمّا القرآن نفسه فإنه كان محفوظاً في صدور الصحابة ومجموعاً في حفظهم، والاعتماد في الحفظ كان على جمهرتهم لأن الذين كانوا يحفظونه كلياً وجزئياً كثيرون. وقد تواتر هذا الحفظ للقرآن على البسيطة شرقاً وغرباً، درساً وتلاوةً، حفظاً في الصدور وقراءةً، وتلقّاه الكافّةُ عن الكافّة، طبقة عن طبقة إلى يومنا هذا.
ثمّ بعد وفاة عمر رضي الله عنه أرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا الصحف ننسخها في المصاحف ثم نردّها إليك. فأرسلت بها حفصة إلى عثمان فأمر زيد بن ثابت وعبدالله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبدالرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف. حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف ردّها عثمان إلى حفصة، وأرسل إلى كلّ أفق بمصحف مما نسخوا وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يُحرق، وقد كان عدد النسخ التي نسخت سبع نسخ، فقد كُتبت سبعة مصاحف إلى مكّة وإلى الشّام وإلى اليمن وإلى البحرين وإلى البصرة وإلى الكوفة وحُبس بالمدينة واحد. ثمّ أخذ المسلمون ينسخون عن هذه النسخ ليس غير، ولم يبق إلاّ مصحف عثمان برسمه. ولمّا وُجدت المطابع صار يُطبع المصحف عن هذه النسخة بنفس الخط والإملاء.
أبو زكريّا
30-09-2010, 01:06 AM
2-إعـجــاز القـرآن الكـريـــم
قلنا أنّ القرآن هو اللفظ المنزل على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بما يدل عليه من معانيه ولذلك وُصف القرآن بوصف لفظه، فقال الله عنه إنّه عربي حيث قال: (إنا أنزلناه قرآناً عربياً)، وقال: (كتاب فُصّلت آياته قرآناً عربياً)، وقال: (قرآناً عربياً غير ذي عِوَج)، (وأوحينا إليك قرآناً عربياً)، (إنا جعلناه قرآناً عربياً). والعربية وصفٌ للفظ القرآن لا لمعانيه لأن معانيه معانٍ إنسانية وليست معاني عربية، وهي لبني الإنسان وليست للعرب. وأمّا قوله تعالى: (وكذلك أنزلناه حكماً عربياً)، فإن معناها حكمة مترجمة بلسان العرب، وليس معناه حكمة عربية. فالعربية وصف للفظه ليس غير، ولفظه لا يوصف إلاّ بالعربية فحسب، وهو لا اسم له على مسماه غير العربية، لا حقيقة ولا مجازاً. ولذلك لا يصح أن يقال عن كتابة بعض معانيه بغير اللغة العربية إنها قرآن. فعربية القرآن حتمية وهي عربية لفظه فحسب. والقرآن هو معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم. وإنه وإن كانت هنالك معجزات أخرى للنبي صلى الله عليه وسلم قد جرت على يده غير القرآن، كما ورد ذلك في القرآن نفسه وفي صِحاح السنّة، فإن النبي عليه السلام لم يتحدّ بها، بل كان التحدي بالقرآن وحده. ولذا نقول إن القرآن هو معجزة النبي محمد صلى الله عليه وسلم التي بها ثبتت رسالته منذ نزول القرآن عليه إلى يوم القيامة. وقد أعجز القرآن العرب عن أن يأتوا بمثله، وتحداهم أن يأتوا بمثله، فقال تعالى في تحديه لهم: (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين)، وقال: (قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين)، وقال: (أم يقولون افتراه قل فأْتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين). وقد بلغ من تحديه لهم أنه قال لهم لا تستطيعون أن تأتوا بمثله، قال تعالى: (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا). فعجز الذين خوطبوا بالقرآن عن أن يأتوا بمثله، وعجزهم هذا ثابت بطريق التواتر، ولم يعرف التاريخ ولا روى أحد أنهم أتوا بمثله.
وهذا التحدي ليس خاصاً بالذين خوطبوا بل هو تحدٍ عام إلى يوم القيامة، لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. فالقرآن متحدٍ البشر كلهم منذ نزوله إلى يوم القيامة أن يأتوا بمثله. ولذلك ليس القرآن معجزاً للعرب الذين كانوا في أيام الرسول فقط، ولا للعرب وحدهم في كل مكان وزمان، بل هو معجز للناس أجمعين، لا فرق في ذلك بين قبيل وقبيل، لأن الخطاب به للناس أجمعين, قال تعالى: (وما أرسلناك إلاّ كافة للناس) ولأن آيات التحدي عامة تقول: (وادْعوا من استطعتم من دون الله) وهو يشمل الناس جميعاً، ولأن القرآن أخبر عن عجز الإنس والجن، قال تعالى: (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله).
وعجْز العرب عن أن يأتوا بمثل هذا القرآن، وعجْز الناس جميعاً عن أن يأتوا بمثله إنما هو لأمر ذاتي في القرآن نفسه. فإن العرب كانوا إذا سمعوا القرآن أقبلوا عليه مأخوذين بسحر بلاغته، حتى أن الوليد بن المغيرة لَيَقول للناس وقد سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ القرآن: "والله ما منكم رجل أعرَف بالأشعار مني ولا أعلم برجزه وقصيده مني. والله ما يشبه الذي يقوله شيئاً من هذا. والله إن لِقَوله الذي يقوله لحلاوة وإن عليه لطلاوة، وإنه لمورِق أعلاه مغدِق أسفله، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه)، مع أن الوليد هذا لم يؤمن وأصرّ على كفره. فالإعجاز آت من ذات القرآن، لأن الذين سمعوه والذين يسمعونه إلى يوم القيامة يُشدَهون ويتحيرون من قوة تأثيره وقوة بلاغته، بمجرد سماعهم له ولو جملة واحدة (لمن الملك اليوم)، (والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة)، (وإمّا تخافنّ من قوم خيانة فانبُذ إليهم على سواء)، (يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم، يوم ترونها تَذهل كل مرضعة عمّا أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد). وهكذا تُتلى آية من القرآن أو آيات، فإن ألفاظها وأسلوبها ومراميها تستغرق أحاسيس الإنسان وتستولي عليه.
وإعجاز القرآن أظهر ما يظهر في فصاحته وبلاغته وارتفاعه إلى درجة مدهشة. ويتجلى ذلك في أسلوب القرآن المعجِز، فإن ما في أسلوبه من الوضوح والقوة والجمال ما يعجز البشر عن أن يصلوا إليه.
والأسلوب هو معانٍ مرتبة في ألفاظ منسقة، أو هو كيفية التعبير لتصوير المعاني بالعبارات اللغوية. ووضوح الأسلوب يكون ببروز المعاني المراد أداؤها في التعبير الذي أديت به (وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغَوْا فيه لعلكم تَغلبون). وقوة الأسلوب تكون باختيار الألفاظ التي تؤدي المعنى بما يتلاءم مع المعنى. فالمعنى الرقيق يؤدى باللفظ الرقيق، والمعنى الجزل يؤدى باللفظ الجزل، والمعنى المستنكر يؤدى باللفظ المستنكر.. وهكذا، (ويُسقَوْن فيها كأساً كان مزاجها زنجبيلاً عيناً فيها تسمى سلسبيلاً)، (إن جهنم كانت مرصاداً للطاغين مآباً لابثين فيها أحقاباً)، (تلك إذن قِسمة ضيزى)، (إن أنكر الأصوات لصوت الحمير). أمّا جمال الأسلوب فيكون باختيار أصفى العبارات وأليقها بالمعنى الذي أدته، وبالألفاظ والمعاني التي معها في الجملة والجمل (ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويُلهِهم الأمل فسوف يعلمون).
والمتتبع للقرآن يجد الارتفاع الشامخ الذي يتصف به أسلوبه وضوحاً وقوة وجمالاً. اسمع هذا الوضوح والقوة والجمال (ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير ثانيَ عِطفه ليُضِل عن سبيل الله)، (هذان خصمان اختصموا في ربهم فالذين كفروا قُطّعت لهم ثياب من نار يُصَب من فوق رؤوسهم الحميم يصهر به ما في بطونهم والجلود. ولهم مقامع من حديد كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غَمّ أعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق)، (يا أيها الذين الناس ضُرب مَثلٌ فاستمعوا له إن الذين تَدْعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له، وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه، ضَعُف الطالب والمطلوب).
والقرآن طراز خاص من التعبير، ونظْمه ليس على منهاج الشعر الموزون المقفّى، ولا هو على منهاج النثر المرسل، ولا هو منهاج النثر المزدوج أو النثر المسجوع، وإنما هو منهاج قائم بذاته لم يكن للعرب عهد به ولا معرفة من قبل.
يتبع...
أبو زكريّا
30-09-2010, 01:07 AM
2-إعجاز القرآن
وكان العرب لفرط تأثرهم بالقرآن لا يدرون من أي ناحية وصل إلى هذا الإعجاز. فصاروا يقولون: (إنّ هذا لسحر مبين)، ويقولون إنه قول شاعر وإنه قول كاهن. ولذلك رد عليهم الله فقال: (وما هو بقول شاعر قليلاً ما تؤمنون ولا بقول كاهن قليلاً ما تذكّرون).
وكون القرآن طرازاً خاصاً ونسيجاً منفرداً، واضح فيه كل الوضوح. فبينما تجده يقول: (ويُخزِهم وينصركم عليهم ويشفِ صدور قوم مؤمنين)، ويقول: (لن تنالوا البرّ حتى تُنفقوا مما تحبّون)، مما هو نثر قريب من الشعر، إذ لو نُظمَت الآيتان لكانتا بيتين من الشعر هكذا:
ويخزهم وينصركم عليهم ويشفِ صدور قوم مؤمنين
لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبّون
ولكنهما ليستا شعراً وإنما هو نوع من النثر فريد. وفي الوقت الذي تجد القرآن يقول هذا النوع من النثر، تجده يقول: (والسماء والطارق وما أدراك ما الطارق النجم الثاقب إنْ كلّ نفس لمّا عليها حافظ فلينظُر الإنسان ممَّ خُلق خُلق من ماء دافق يخرج من بين الصُلب والترائب) مما هو نثر بعيد عن الشعر كل البعد. وبينما تجده يقول: (وما أرسلنا من رسول إلاّ ليطاع بإذن الله)، (ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيماً)، (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكّموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيتَ ويسلّموا تسليماً) فيطيل الفقرة والنَفَس في النثر، تجده يقول: (والشمس وضحاها والقمر إذا تلاها والنهار إذا جلاّها واليل إذا يغشاها) فيقصر الفقرة والنَفَس في النثر، مع أن كلاً منهما نثر في فقرات فقرات. وبينما تجده يبدع في النثر المرسَل فيرسِل في القول فيقول: (يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنّا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ومِن الذين هادوا سمّاعون للكذب سمّاعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرّفون الكَلِم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تُأتوه فاحذروا ومن يُرِد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً، أولئك الذين لم يُرِد الله أن يطهّر قلوبهم، لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم)، تجده يُبدع في النثر المسجع ويسجع فيقول: (يا أيها المدّثّرقم فإنذِر وربك فكبِّر وثيابك فطهِّر والرُجزَ فاهجُر ولا تَمنُن تستكثِر ولربك فاصبِر)، وتجده يتسامى في الازدواج ويزدوج فيقول: (ألهاكم التكاثر، حتى زرتم المقابر، كلا سوف تعلمون، ثم كلا سوف تعلمون، كلا لو تعلمون علم اليقين، لتروُنّ الجحيم)، وتجده يطيل الازدواج فيقول: (قُتل الإنسان ما أكفره، من أي شيء خلقه، من نطقة خلقه فقدَّره، ثم السبيل يسّره، ثم أماته فأقبره، ثم إذا شاء أنشره، كلاّ لمّا يقضي ما أمره. فلينظر الإنسان إلى طعامه، أنا صببنا الماء صباً، ثم شققنا الأرض شقاً، فأنبتنا فيها حباً، وعنباً وقضباً، وزيتوناً ونخلاً، وحدائق غُلباً، وفاكهة وأبّاً)، وبينما يسير في سجعة معينة إذا هو يعدل عنها إلى سجعة أخرى، فبينما يكون سائراً بالسجع هكذا (فإذا نُقِرَ في الناقور، فذلك يومئذ يوم عسير، على الكافرين غير يسير) إذا هو يعدِل في الآية التي بعدها مباشرة فيقول: (ذرني ومن خلقتُ وحيداً، وجعلت له مالاً ممدوداً، وبنين شهوداً، ثم يطمع أن أزيد، كلا إنه كان لآياتنا عنيداً، سأرهقه صعوداً) ثم يعدل عن هذه السجعة إلى غيرها في الآية التي بعدها مباشرة فيقول: (إنه فكر وقدّر، فقُتل كيف قدّر، ثم قُتل كيف قدّر، ثم نظر، ثم عبس وبسر، ثم أدبر واستكبر)، وهكذا، تتبَّعْ جميع القرآن لا تجده ملتزماً شيئاً مما في أسلوب العرب من شعر أو نثر على مختلف أنواعهما ولا يشبه أي قول من أقوال العرب، ولا يشبهه أي قول من أقوال البشر.
ثم إنك تجد أسلوبه واضحاً قوياً جميلاً يؤدي المعاني بكيفية من التعبير تصوّر المعاني أدق تصوير. فتجده حين يكون المعنى رقيقاً يقول: (إن للمتقين مفازاً، حدائق وأعناباً، وكواعب أتراباً، وكأساً دهاقاً) من الألفاظ الرقيقة والجمل السلسلة. وحين يكون المعنى جزلاً يقول: (إن جهنم كانت مرصاداً، للطاغين مآباً، لابثين فيها أحقاباً، لا يذوقون فيها برداً ولا شراباً، إلاّ حميماً وغسّاقاً، جزاءً وِفاقاً) من الألفاظ الفخمة والجمل الجزلة. وحين يكون المعنى محبَّباً يأتي باللفظ المحبَّب فيقول: (ورفع أبويه على العرش وخرّوا له سُجّداً)، وحين يكون المعنى مستنكراً يأتي باللفظ المناسب لهذا المعنى فيقول: (ألكم الذكر وله الأنثى، تلك إذن قسمة ضيزى)، ويقول: (واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير). وقد صاحَب تأدية المعاني بهذه الكيفية من التعابير التي تصوّر المعاني مراعاة للألفاظ ذات الجرس الذي يحرك النَفَس عند تصورها لهذه المعاني وإدراكها لها. ولذلك كانت تبعث في السامع المدرِك لعمق هذه المعاني وبلاغة التعبير خشوعاً عظيماً حتى كاد بعض المفكرين العرب من البلغاء أن يسجدوا لها مع كفرهم وعنادهم.
ثم إن المدقق في ألفاظ القرآن وجمله يجد أنه يراعي عند وضع الحروف مع بعضها، الأصوات التي تحدث منها عند خروجها من مخارجها، فيجعل الحروف المتقاربة المخارج متقاربة الوضع في الكلمة أو الجملة. وإذا حصل تباعد بين مخارجها، فَصَل بينها بحرف يزيل وحشة الانتقال. وفي نفس الوقت يجعل حرفاً محبَّباً من مخرج خفيف على الأذن يتكرر كاللازمة في الموسيقى، فلا يقول "كالباعق المتدفق" وإنما يقول: (كصيّب)، ولا يقول: "الهُعْخع" وإنما يقول (سُندُس خُضر)، وإذا لزم أن يستعمل الحروف المتباعدة/ وَضَعها في المعنى الذي يليق بها ولا يؤدي المعنى غيرها مثل كلمة (ضيزى)، فإنه لا ينفع مكانها كلمة ظالمة ولا جائزة مع أن المعنى واحد. ومع هذه الدقة في الاستعمال، فإن الحرف الذي يجعله لازمة، يرِد في الآيات واضحاً في التردد، فآية الكرسي مثلاً ترددت اللام فيها ثلاثاً وعشرين مرة بشكل محبَّب يؤثر على الأذن حتى ترهف للسماع وللاستزادة من هذا السماع.
وهكذا تجد القرآن طرازاً خاصاً، وتجده ينزل كل معنى من المعاني في اللفظ الذي يليق به، والألفاظ التي حوله، والمعاني التي معه، ولا تجد ذلك يتخلف في أية آية من آياته. فكان إعجازه واضحاً في أسلوبه من حيث كونه طرازاً خاصاً من القول لا يشبه كلام البشر ولا يشبهه كلام البشر. ومن حيث إنزال المعاني في الألفاظ والجمل اللائقة بها، ومن حيث وقع ألفاظه على أسماع من يدرك بلاغتها ويتعمق في معانيها فيخشَع حتى يكاد يسجد لها, وعلى أسماع من لا يدرك ذلك فيأسره جرس هذه الألفاظ في نسق معجِز يخشع له السامع قسراً ولو لم يدرك معانيه. ولذلك كان معجزة وسيظل معجزة حتى قيام الساعة.
إذن فالقرآن واقع محسوس وهو كتاب عربي اللغة والأسلوب، وقد جاء به محمد. فالقرآن كلامٌ عربي في ألفاظه وجمله، والعرب نطقوا بكلام منه الشِّعر بأنواعه، ومنه النثر بأنواعه، وكلامهم مدوَّن في الكتب، ومنقول عنهم استظهاراً ورواه بعضهم عن بعض. فالقرآن من غير طراز كلامهم فيكون الذي قاله غيرُ العرب وقد عجزوا عن أن يقولوا مثله مع أنّه كلام عربي ومع أنّه تحدّاهم وكان لهم أو لبعضهم الدّافع القويّ للإتيان بمثله لإبطال دعوة النبيّ محمّد مع وجود الإمكانيّات الماديّة والمعنويّة لكلّ من أراد ذلك. فكان حتماً من غيرهم. وهذا الغير لن يكون من البشر، لأنه أن عجز العرب أن يأتوا بمثله، فمن باب أولى أن يعجز غير العرب.
يتبع...
أبو زكريّا
30-09-2010, 01:08 AM
إذاً فالاحتمالات العقلية الباقية هي أنّ هذا الكتاب لابد أن يكون: إمّا من محمّد نفسه، أو أنّه حقّاً من الله عزّ وجلّ أنزله على عبده ونبيّه محمّد صلّى الله عليه وسلّم. ولن يكون من أي واحد غير هؤلاء الإثنان. هكذا يحصر العقل السليم الاحتمالات ليصل من هذه العملية العقلية إلى النتيجة القطعية.
أما إنّ القرآن من محمد فباطل لعدة أسباب منها:
1. إن محمداً عربي الأصل واللغة ومن العرب، وإذا كان العرب لم يأتوا بمثله أو بشيء من مثله، فمن باب أولى أن محمداً العربي لا يأتي بمثله مهما كان عبقرياً، فإذا ثبت العجزُ على جنس العرب، فقد ثبت العجز عليه. ولأن التحدي القرآني للعرب لم يستثن أحداً مهما كانت صفته.
2. وطراز التّعبير من حيث الألفاظ والجمل يخضع له كل إنسان، بحسب ما هو مُتعارفٌ عليه في عصره أو ما رُوي عن كلام السابقين له، وحين يُجدِّد في التعبير، فإنما يُجدِّد في استعمال الألفاظ والتعابير لمعان جديدة أو بقالب جديد؛ ويستحيل أن ينطق بما لم يَسبق أن أحسه. والمشاهد في طراز القرآن أن التعبير فيه، من حيث الألفاظ والجمل، لم يكن معروفاً في عصر محمد ولا من قبله، فيستحيل عليه كبشر أن ينطق بشيءٍ لم يسبق أن وقع عليه حسه، لاستحالة ذلك عقلاً. وما محمد إلا واحدٌ من العرب، ومهما سما العبقري فإنه لا يمكن أن يخرج عن عصره كلياً، فإذا عجز العرب عجز محمد لأنه واحد منهم.
3. لأن الأحاديث الصحيحة والمتواترة التي رويت لمحمد لا يوجد أي تشابه بينها وبين الآيات القرآنية في الأسلوب، مع أنها صدرت في زمن واحد. وكلام الشخص الذي يصدر منه يتشابه في الأسلوب مهما نوّعه. فمحمّد إنسان من البشر تختلف أحواله حاله حال الإنسان الذي تختلف أحواله فتسعفه الفصاحة حينًا وتتعذّر عليه حينًا آخر، وكذلك يميل للشيء مرّة ، ويميل عنْه أخرى، فيوجب ذلك إختلاف في كلامه بالضرورة ، فلا يُصادَف إنسانا يتكلّم ثلاث وعشرين سنة على غرض ومنهاج واحد.
4. لأن القرآن الذي جاء به محمد لم يتغيِّر فيه أي كلمة أو حتى حرف منذ أن جاء به محمد وحتى يومنا الحالي، وهذا متواتر وثابت للجميع. وإذا قارنّا هذا الكتاب بأي كتاب آخر نجد أن جميع الشعراء والكتّاب والفلاسفة والمفكرين في العالم يبدأون بأسلوب فيه بعض الضَّعف، ثم يأخذ أسلوبهم في الارتفاع إلى أن يصلوا إلى ذروة قُدرتهم، ولذلك يكون أسلوبهم مختلفاً قُوةً وضعفاً، فضلاً عن وجود بعض الأفكار والتعابير الركيكة في كلامهم. في حين نجد أن القرآن على نسق واحد، من أوله إلى آخره ومن أول يوم بدأ محمّد بدعوته إلى آخر يوم بلَّغ فيه رسالته، في الذروة من البلاغة والفصاحة وعلوّ الأفكار وقوة التعبير.
5. لو كان القرآن كلام محمّد أو غيره من البشر لوجدوا فيه إختلافات وتناقضات كثيرة، سواءا في القرآن نفسه أو بين القرآن وبين الحديث ، خاصّة أنّ القرآن قد إحتوى على مواد متعدّدة ومعقّدة. فالقرآن قد حوى كلام في أمور العقيدة من وجود الله وتوحيده والقضاء والقدر والرزق واليوم الآخر والجنّة والنّار والملائكة وغيرها كما نجد في القرآن الكريم العديد من قصص الأنبياء ، فقصّة نبيّ واحد قد تسرد في أكثر من ثلاث سور مختلفة، والعديد من الأمثال البالغة الحكمة ، كما نجد في القرآن كتاب تشريع كامل للإنسان يبيّن له كيف ينظّم علاقته بربّه وخالقه بالعبادات من صلاة وصوم وحجّ وغيرها ، وكيف ينظّم علاقته بنفسه بأحكام المأكل والمشرب والملبس والأخلاق وغيرها ، وكيف ينظّم علاقته بغيره من أحكام إقتصاديّة وإجتماعيّة وسياسيّة وغيرها. ولكن واقع الحال أنّ لا يوجد ولو تناقض واحد.
6. إنّ العرب كانوا من أعلم النّاس بأساليب كلام العرب ونظمه ولم يدّع أحد منهم أنّه كلام محمّد أو أنّه يشبه كلامه ، بل كان إجماع العرب من الذين آمنوا برسالة محمّد والذين لم يؤمنوا أنّ القرآن ليس بكلام أحدٍ من العرب وكلّ ما وجد الكفّار إدّعاءه أنّ غلاما نصرانيّا هو الذي أتى بالقرآن، فكان إجبت القرآن سريعة وقاضية (وقد نعلم أنّهم يقولون إنّما يعلّمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجميّ وهذا لسان عربيّ مبين)
وبنفي هذين الاحتمالين لا يبقى إلا الاحتمال الثالث، وهو أن الله سبحانه وتعالى العالم باللغة العربية وأساليبها، والمحيط علمه بكل شيء، هو الذي أنزله على محمد الذي أتى به وبلّغه للناس. ما يجعل محمداً نبيّاً ورسولاً بالدليل العقلي القطعي.
يتبع إن شـــــاء الله
نائل سيد أحمد
07-05-2014, 12:36 PM
في إنتظار البقية ومن خلال نظرة سريعة رأيت أن معظم المواضيع لها أصل فهي منقولة ، وكان الأفضل لمن يقدر أن يأتي بجديد ، أعتذر عن التسرع في الرد .
vBulletin® v4.0.2, Copyright ©2000-2024, Jelsoft Enterprises Ltd.