مؤمن
07-09-2009, 12:37 PM
عبد الرحمن أبو عوف
لم يقدِّم العقيد الليبي معمر القذافي جديدًا حين أبلغ العديد من قادة التمرد في دافور تأييده لانفصال الجنوب ودعم قيام دولة في جنوب السودان حال اختيار الجنوبيين للانفصال عن الشمال، معتبرًا أن الجنوبيين شيء آخر وليسوا سودانيين ولا يشبهون أهل دارفور والنوبة والشرق، ولا يتحدثون اللغة العربية، متابعًا أن الجنوبيين لم يكونوا يومًا من أبناء السودان، بل كان ينبغي أن يكوِّنوا دولة مستقلة أو أن ينضموا لإحدى دول شرق إفريقيا، مناشدًا الجنوبيين للتصويت للانفصال بدون خوف، لأنه سيكون الداعم لهذا الانفصال، وأنه سيرسل الخبراء الليبيين لدعم دولتهم في المجالات الزراعية وإصلاح البنية التحتية.
والمتابع لهذه التصريحات لا يجب أن تملكه الدهشة، فهذا الموقف ليس جديدًا على القذافي، والذي لم ينكر يومًا دعمه لموجة التمرد الجنوبية الأخيرة على يد الجيش الشعبي لتحرير السودان بقيادة جون جارانج في بداية الثمانينات من القرن الماضي ومدِّ الحركة بالمال والسلاح والتأييد الدبلوماسي نكايةً في حكم الرئيس السوداني الراحل جعفر نميري وسعيًا لتقويض نظام حكمه، وهو أمر أكدته مذكرات جون جارانج لدى إشارته لدعم العقيد الليبي الدائم لحق الجنوبيين في تقرير مصيرهم وتأسيس دولتهم المستقلة.
مرحلة العلنية
ولم تقتصر مواقف القذافي في دعم الجنوبيين عند هدا الحد، فقد أكد رئيس حكومة الجنوب سليفا كير أن القذافي أبلغه أكثر من مرة بتأييده لاستقلال الجنوب ودعمه للجنوبيين حال اختيارهم الانفصال، غير أن هده التصريحات جرى نفيها بشكل سريع من قِبل السفارة الليبية في الخرطوم، وعبر عدد من المسئولين الليبيين في حينه، غير أن التصريحات الأخيرة للقذافي كشفت خروج التأييد الليبي لانفصال الجنوب من مرحلة السرية والتكتم لمرحلة العلنية.
ولعل خطورة تصريحات القذافي عن دعمه لانفصال الجنوب تأتي في سياق بالغ الخطورة وشديد التعقيد فيما يخص الأوضاع في السودان وبعلاقاته المتشابكة مع المجتمع الدولي بعد أزمة صدور مذكرة توقيف بحق الرئيس السوداني عمر البشير وحاجة حكومة المؤتمر الوطني لدعم عربي وإقليمي ودولي في أزمتها مع عواصم القرار الدولي، بل إن هذه التصريحات تأخذ بُعْدًا خطيرًا لكونها صادرة من رئيس الاتحاد الإفريقي في دورته الحالية، ومن رجل معروف بدعمه للتكتلات والولايات المتحدة الإفريقية لمواجهة ما يسميه دومًا مؤامرات الغرب، بل إنه يخالف آراءه القديمة عن الوحدة العربية، كما أكد مستشار الرئيس السوداني مصطفى عثمان إسماعيل في معرض استغرابه لتصريحات العقيد.
رسائل خاطئة
ومن مفارقات الموقف الراهن لتصريحات القذافي أن تأتي إبَّان قيامه بدور الوساطة بين الحكومة السودانية والفرقاء في دارفور ضمن المساعي الجارية لتطويق الأزمة، وهو دور يحتِّم على القذافي الوقوف على مسافة واحدة من جميع القوى السياسية بدلاً من إطلاق هذه التصريحات النارية حول دعمه لانفصال الجنوب، لاسيما أن العديد من قادة التمرد في دارفور قد يقرؤون تصريحاته كأنها تشجيع لهم على تبنِّي نزعات انفصالية في غرب السودان مادام هناك داعم قوي للانفصال بشخصية في وزن القذافي أو على الأقل في تبنِّي مواقف متشددة فيما يخص مسيرة التسوية في دارفور.
وأخطر ما في الأمر أن هذه التصريحات جاءت أيضًا في توقيت بالغ التعقيد ومع اقتراب استفتاء تقرير المصير في جنوب السودان المقرر عقده خلال عام 2011، والذي لم يبق عليه إلا شهور، وكأنَّ العقيد القذافي قد تحول للمقترِع الأول لدعم الانفصال والمشجِّع للتيار الانفصالي متعاظم النفوذ حاليًا في حكومة سليفا كير، فضلاً عن التصريحات التي تتواكب مع اشتعال الخلافات بين شريكيْ نيفاشا حول العديد من المسائل، منها قانون الانتخاب والتعدد السكاني وتهديد سليفا كير بمقاطعة الانتخابات إذا لم تُحل الخلافات حول التعداد السكاني وإلغاء كافة القوانين المقيِّدة للحريات بحسب وصف النائب الأول للرئيس السوداني، وهي قضايا تشكِّل ضغطًا من النوع الثقيل على حكومة الخرطوم وإضعافًا لمواقفها مع التيار الانفصالي في جنوب السودان.
موقف مستغرَب
وإذا كانت تصريحات القذافي على إثارتها ليست مستغربة أصلاً فإن الأمر المثير للدهشة حقًّا تمثَّلَ في رد الفعل الهادئ، إن لم يكن البارد، على تصريحات القذافي، وتفضيل المسئولين السودانيين استخدام ردود دبلوماسية لدى تعليقهم على هذه التصريحات، ونفي العديد من المسئولين السودانيين أية احتمالات لمقاطعة الخرطوم للقمة الإفريقية في ليبيا، أو حتى تخفيض مستوى التمثيل في هذه القمة كرسالة اعتراض على مواقف القذافي، وما حدث بالفعل قد خالف كل هذه التوقعات؛ حيث ظهر البشير وشارك في القمة، كأن السودان قد غض الطرف عن هذه التصريحات المثيرة للجدل.
موقف حكومة السودان المستغرَب من تصريحات العقيد الليبي فتح الباب على مصراعيه لتفسير هذا الموقف، فهناك من عزا ذلك للرغبة في الحفاظ على شعرة معاوية مع القذافي، لاسيما أنه يلعب دور الوسيط في قضايا عدة، منها الأزمة في دارفور وتأزُّم العلاقات مع حكومة ادريس ديبي في تشاد، والخلافات مع الجنوبيين في أكثر من ملف، فضلاً عن أزمة مذكرة التوقيف الدولية بحق البشير، بين من يرى أن موقف القذافي الداعم لاستقلال الجنوب موقف تكتيكي أراد من ورائه العقيد إيصال رسالة للفرقاء الجنوبيين بحياده وعدم انحيازه لأي طرف حتى لو كان ذلك مخالفًا لآرائه ومواقفه الكلاسيكية، مستندًا إلى أن القذافي رغم دعمه للانفصال إلا أن حذَّر الجنوبيين من تداعيات الانفصال الذي سيولِّد كيانًا هشًّا سيصير مطمعًا لجميع القوى الكبرى.
وأيًّا كانت التفسيرات لتصريحات القذافي أو رد فعل الحكومة السودانية وتداعياتها الخطيرة على تفاعلات الساحة السياسية السودانية فإن من البديهي الإشارة إلى أن هذه التصريحات تأتي في سياق داعم لانفصال الجنوب، سواء من القوى الدولية المعادية بشكل تقليدي لوحدة السودان واستمراره جسرًا بين العالم العربي والقارة السمراء. والمفارقة العجيبة أن هناك تيارًا قويًّا داخل حكومة الخرطوم حاليًا بدأ يفكر بصوت عالٍ في قبول انفصال الجنوب كأمر واقع والرغبة في النَّأْيِ بالسودان كله عن مشاكله المعقدة، لاسيما أن الرهان على خيار الوحدة مع الجنوب غير مُجْدٍ، وسيكلف السودان الكثير، فضلاً عن وجود إجماع على اشتعال الساحة الجنوبية بالمشاكل والحرب الأهلية بسبب اعتراضات القبائل الكبرى مثل النوير والشلوك على هيمنة الدينكا، وبالتالي فإن من الأفضل أن ينأى الشماليون بأنفسهم عن هذه التعقيدات.
كعكة وصفقات
ويزيد الطين بلة أن هناك دولاً عربية أصبحت تميل للقبول بخيار انفصال الجنوب رغم خطورته واعتباره سابقة قد تتكرر في عديد من الدول العربية، بل إن تقارير أخذت تذهب بعيدًا في هذا الإطار حينما تتحدث عن مفاوضات مكثفة تجريها دولة عربية كبرى مع حكومة الجنوب حول عدم اعتراضها على الانفصال في حالة تقديم دولة الجنوب ودول حوض النيل ضمانات بعدم المساس بحصتها في مياه النيل، بشكل يشير إلى أن قضية وحدة السودان قد تحولت من قضية أمن قومي للعالم العربي إلى "كعكة" يرغب البعض في الحصول على أكبر قدر منها، أو صفقة يجري القبول بها مقابل سيناريوهات يرغب البعض في تمريرها، بل إن البعض قد اعتبر أن تصريحات القذافي قد جاءت كحلقة في مسلسل تهيئة الساحة العربية للقبول بخيار انفصال جنوب السودان انطلاقًا من عدم إبداء أي دولة عربية حتى مجرد الأسف حيال هذه التصريحات المخالفة لـ"إجماع" عربي حول ضرورة بقاء وحدة السودان السيناريو الأكثر إغراءً.
شبح التقسيم
وبالطبع لا يمكن عزل ما يحدث في المنطقة، فيما يخص وحدة السودان، عن سياقها العالمي؛ فمنذ وقت ليس بالقصير خرجت تقارير متطابقة من عديد من مراكز البحوث والدراسات الأمريكية، لعل أكثرها تحديدًا ما ذهب إليه المعهد الوطني الديمقراطي من تأييد الغالبية الساحقة لخيار انفصال الجنوب ووجود استعداد لدى حكومة كير للدخول في مواجهة عسكرية مع الشمال إذا أراد عرقلة الاستفتاء أو سعى للسيطرة على حقول النفط الجنوبية، مراهنة على تنامي قوتها العسكرية بفضل المساعدات العسكرية الغربية.
وإجمالاً ينبغي الإشارة إلى أن شبح تقسيم السودان أصبح يخيِّم على البلاد أكثر من أي وقت آخر، في ظل الصراع الذي تخوضه الحكومة السودانية في أكثر من جبهة، بشكل قد يجعلها مضطرة للتنازل عن الجنوب بمشاكله العديدة، وإيثار الاحتفاظ بباقي السودان، وتراجع نظرية الأمن القومي العربي، وسعي أكثر من دولة عربية لاستخدام سيناريو الانفصال لتكريس قيادتها للساحة الإفريقية مثل ليبيا، أو انشغال دول أخرى بالحفاظ على مصالحها المائية دون النظر للأبعاد الاستراتيجية والكارثية لانفصال جنوب السودان على مصير العديد من الدول العربية التي تعاني مشاكل إثنية وعرقية، لذا يجدر القول بأن جملة التطورات تشير إلى أن الحفاظ على السودان موحدًا صار يحتاج لمعجزة في غير وقت المعجزات
لم يقدِّم العقيد الليبي معمر القذافي جديدًا حين أبلغ العديد من قادة التمرد في دافور تأييده لانفصال الجنوب ودعم قيام دولة في جنوب السودان حال اختيار الجنوبيين للانفصال عن الشمال، معتبرًا أن الجنوبيين شيء آخر وليسوا سودانيين ولا يشبهون أهل دارفور والنوبة والشرق، ولا يتحدثون اللغة العربية، متابعًا أن الجنوبيين لم يكونوا يومًا من أبناء السودان، بل كان ينبغي أن يكوِّنوا دولة مستقلة أو أن ينضموا لإحدى دول شرق إفريقيا، مناشدًا الجنوبيين للتصويت للانفصال بدون خوف، لأنه سيكون الداعم لهذا الانفصال، وأنه سيرسل الخبراء الليبيين لدعم دولتهم في المجالات الزراعية وإصلاح البنية التحتية.
والمتابع لهذه التصريحات لا يجب أن تملكه الدهشة، فهذا الموقف ليس جديدًا على القذافي، والذي لم ينكر يومًا دعمه لموجة التمرد الجنوبية الأخيرة على يد الجيش الشعبي لتحرير السودان بقيادة جون جارانج في بداية الثمانينات من القرن الماضي ومدِّ الحركة بالمال والسلاح والتأييد الدبلوماسي نكايةً في حكم الرئيس السوداني الراحل جعفر نميري وسعيًا لتقويض نظام حكمه، وهو أمر أكدته مذكرات جون جارانج لدى إشارته لدعم العقيد الليبي الدائم لحق الجنوبيين في تقرير مصيرهم وتأسيس دولتهم المستقلة.
مرحلة العلنية
ولم تقتصر مواقف القذافي في دعم الجنوبيين عند هدا الحد، فقد أكد رئيس حكومة الجنوب سليفا كير أن القذافي أبلغه أكثر من مرة بتأييده لاستقلال الجنوب ودعمه للجنوبيين حال اختيارهم الانفصال، غير أن هده التصريحات جرى نفيها بشكل سريع من قِبل السفارة الليبية في الخرطوم، وعبر عدد من المسئولين الليبيين في حينه، غير أن التصريحات الأخيرة للقذافي كشفت خروج التأييد الليبي لانفصال الجنوب من مرحلة السرية والتكتم لمرحلة العلنية.
ولعل خطورة تصريحات القذافي عن دعمه لانفصال الجنوب تأتي في سياق بالغ الخطورة وشديد التعقيد فيما يخص الأوضاع في السودان وبعلاقاته المتشابكة مع المجتمع الدولي بعد أزمة صدور مذكرة توقيف بحق الرئيس السوداني عمر البشير وحاجة حكومة المؤتمر الوطني لدعم عربي وإقليمي ودولي في أزمتها مع عواصم القرار الدولي، بل إن هذه التصريحات تأخذ بُعْدًا خطيرًا لكونها صادرة من رئيس الاتحاد الإفريقي في دورته الحالية، ومن رجل معروف بدعمه للتكتلات والولايات المتحدة الإفريقية لمواجهة ما يسميه دومًا مؤامرات الغرب، بل إنه يخالف آراءه القديمة عن الوحدة العربية، كما أكد مستشار الرئيس السوداني مصطفى عثمان إسماعيل في معرض استغرابه لتصريحات العقيد.
رسائل خاطئة
ومن مفارقات الموقف الراهن لتصريحات القذافي أن تأتي إبَّان قيامه بدور الوساطة بين الحكومة السودانية والفرقاء في دارفور ضمن المساعي الجارية لتطويق الأزمة، وهو دور يحتِّم على القذافي الوقوف على مسافة واحدة من جميع القوى السياسية بدلاً من إطلاق هذه التصريحات النارية حول دعمه لانفصال الجنوب، لاسيما أن العديد من قادة التمرد في دارفور قد يقرؤون تصريحاته كأنها تشجيع لهم على تبنِّي نزعات انفصالية في غرب السودان مادام هناك داعم قوي للانفصال بشخصية في وزن القذافي أو على الأقل في تبنِّي مواقف متشددة فيما يخص مسيرة التسوية في دارفور.
وأخطر ما في الأمر أن هذه التصريحات جاءت أيضًا في توقيت بالغ التعقيد ومع اقتراب استفتاء تقرير المصير في جنوب السودان المقرر عقده خلال عام 2011، والذي لم يبق عليه إلا شهور، وكأنَّ العقيد القذافي قد تحول للمقترِع الأول لدعم الانفصال والمشجِّع للتيار الانفصالي متعاظم النفوذ حاليًا في حكومة سليفا كير، فضلاً عن التصريحات التي تتواكب مع اشتعال الخلافات بين شريكيْ نيفاشا حول العديد من المسائل، منها قانون الانتخاب والتعدد السكاني وتهديد سليفا كير بمقاطعة الانتخابات إذا لم تُحل الخلافات حول التعداد السكاني وإلغاء كافة القوانين المقيِّدة للحريات بحسب وصف النائب الأول للرئيس السوداني، وهي قضايا تشكِّل ضغطًا من النوع الثقيل على حكومة الخرطوم وإضعافًا لمواقفها مع التيار الانفصالي في جنوب السودان.
موقف مستغرَب
وإذا كانت تصريحات القذافي على إثارتها ليست مستغربة أصلاً فإن الأمر المثير للدهشة حقًّا تمثَّلَ في رد الفعل الهادئ، إن لم يكن البارد، على تصريحات القذافي، وتفضيل المسئولين السودانيين استخدام ردود دبلوماسية لدى تعليقهم على هذه التصريحات، ونفي العديد من المسئولين السودانيين أية احتمالات لمقاطعة الخرطوم للقمة الإفريقية في ليبيا، أو حتى تخفيض مستوى التمثيل في هذه القمة كرسالة اعتراض على مواقف القذافي، وما حدث بالفعل قد خالف كل هذه التوقعات؛ حيث ظهر البشير وشارك في القمة، كأن السودان قد غض الطرف عن هذه التصريحات المثيرة للجدل.
موقف حكومة السودان المستغرَب من تصريحات العقيد الليبي فتح الباب على مصراعيه لتفسير هذا الموقف، فهناك من عزا ذلك للرغبة في الحفاظ على شعرة معاوية مع القذافي، لاسيما أنه يلعب دور الوسيط في قضايا عدة، منها الأزمة في دارفور وتأزُّم العلاقات مع حكومة ادريس ديبي في تشاد، والخلافات مع الجنوبيين في أكثر من ملف، فضلاً عن أزمة مذكرة التوقيف الدولية بحق البشير، بين من يرى أن موقف القذافي الداعم لاستقلال الجنوب موقف تكتيكي أراد من ورائه العقيد إيصال رسالة للفرقاء الجنوبيين بحياده وعدم انحيازه لأي طرف حتى لو كان ذلك مخالفًا لآرائه ومواقفه الكلاسيكية، مستندًا إلى أن القذافي رغم دعمه للانفصال إلا أن حذَّر الجنوبيين من تداعيات الانفصال الذي سيولِّد كيانًا هشًّا سيصير مطمعًا لجميع القوى الكبرى.
وأيًّا كانت التفسيرات لتصريحات القذافي أو رد فعل الحكومة السودانية وتداعياتها الخطيرة على تفاعلات الساحة السياسية السودانية فإن من البديهي الإشارة إلى أن هذه التصريحات تأتي في سياق داعم لانفصال الجنوب، سواء من القوى الدولية المعادية بشكل تقليدي لوحدة السودان واستمراره جسرًا بين العالم العربي والقارة السمراء. والمفارقة العجيبة أن هناك تيارًا قويًّا داخل حكومة الخرطوم حاليًا بدأ يفكر بصوت عالٍ في قبول انفصال الجنوب كأمر واقع والرغبة في النَّأْيِ بالسودان كله عن مشاكله المعقدة، لاسيما أن الرهان على خيار الوحدة مع الجنوب غير مُجْدٍ، وسيكلف السودان الكثير، فضلاً عن وجود إجماع على اشتعال الساحة الجنوبية بالمشاكل والحرب الأهلية بسبب اعتراضات القبائل الكبرى مثل النوير والشلوك على هيمنة الدينكا، وبالتالي فإن من الأفضل أن ينأى الشماليون بأنفسهم عن هذه التعقيدات.
كعكة وصفقات
ويزيد الطين بلة أن هناك دولاً عربية أصبحت تميل للقبول بخيار انفصال الجنوب رغم خطورته واعتباره سابقة قد تتكرر في عديد من الدول العربية، بل إن تقارير أخذت تذهب بعيدًا في هذا الإطار حينما تتحدث عن مفاوضات مكثفة تجريها دولة عربية كبرى مع حكومة الجنوب حول عدم اعتراضها على الانفصال في حالة تقديم دولة الجنوب ودول حوض النيل ضمانات بعدم المساس بحصتها في مياه النيل، بشكل يشير إلى أن قضية وحدة السودان قد تحولت من قضية أمن قومي للعالم العربي إلى "كعكة" يرغب البعض في الحصول على أكبر قدر منها، أو صفقة يجري القبول بها مقابل سيناريوهات يرغب البعض في تمريرها، بل إن البعض قد اعتبر أن تصريحات القذافي قد جاءت كحلقة في مسلسل تهيئة الساحة العربية للقبول بخيار انفصال جنوب السودان انطلاقًا من عدم إبداء أي دولة عربية حتى مجرد الأسف حيال هذه التصريحات المخالفة لـ"إجماع" عربي حول ضرورة بقاء وحدة السودان السيناريو الأكثر إغراءً.
شبح التقسيم
وبالطبع لا يمكن عزل ما يحدث في المنطقة، فيما يخص وحدة السودان، عن سياقها العالمي؛ فمنذ وقت ليس بالقصير خرجت تقارير متطابقة من عديد من مراكز البحوث والدراسات الأمريكية، لعل أكثرها تحديدًا ما ذهب إليه المعهد الوطني الديمقراطي من تأييد الغالبية الساحقة لخيار انفصال الجنوب ووجود استعداد لدى حكومة كير للدخول في مواجهة عسكرية مع الشمال إذا أراد عرقلة الاستفتاء أو سعى للسيطرة على حقول النفط الجنوبية، مراهنة على تنامي قوتها العسكرية بفضل المساعدات العسكرية الغربية.
وإجمالاً ينبغي الإشارة إلى أن شبح تقسيم السودان أصبح يخيِّم على البلاد أكثر من أي وقت آخر، في ظل الصراع الذي تخوضه الحكومة السودانية في أكثر من جبهة، بشكل قد يجعلها مضطرة للتنازل عن الجنوب بمشاكله العديدة، وإيثار الاحتفاظ بباقي السودان، وتراجع نظرية الأمن القومي العربي، وسعي أكثر من دولة عربية لاستخدام سيناريو الانفصال لتكريس قيادتها للساحة الإفريقية مثل ليبيا، أو انشغال دول أخرى بالحفاظ على مصالحها المائية دون النظر للأبعاد الاستراتيجية والكارثية لانفصال جنوب السودان على مصير العديد من الدول العربية التي تعاني مشاكل إثنية وعرقية، لذا يجدر القول بأن جملة التطورات تشير إلى أن الحفاظ على السودان موحدًا صار يحتاج لمعجزة في غير وقت المعجزات