Abu Taqi
09-09-2024, 06:08 AM
بسم الله الرحمن الرحيم
متابعة سياسية
الترتيبات الأميركية في إقليم جنوب آسيا
يحتل إقليم جنوب آسيا مكانة بارزة في السياسة الخارجية الأميركية، منذ بدأت الصين تشكل تهديدًا سياسيًّا واقتصاديًّا على الولايات المتحدة، والغرب بعامة. وبخاصة بعد النشاط الصيني في مشروع حزام واحد طريق واحد، والذي بات يعرف بمبادرة الحزام والطريق، والتي تم دمجها بالدستور الصيني سنة 2017، وهي مبادرة قامت على أنقاض طريق الحرير في القرن التاسع عشر، من أجل ربط الصين بالعالم؛ لتكون أكبر مشروع بنية تحتية في تاريخ البشرية. وهي تشمل ممرات برية وبحرية لحوالي 60 دولة في آسيا وأوروبا، وستكلف حوالي 8.4 تريليون دولار. ومنذ طرح المشروع والبدء بتنفيذه، لم تخفِ الولايات المتحدة رغبتها في احتواء الصين وإفشال شراكتها مع العديد من الدول وتطويق "مبادرة الحزام والطريق" بكامل فروعها وزرع ألغام التوتر حولها. كما عملت على إعادة ترتيب الإقليم المحيط بالصين، وذلك بتفعيل بؤر التوتر في تايوان والفلبين وأزمة الكوريتين والضغوط على القيادة العسكرية في بورما من خلال التنظيمات المسلحة وعملياتها عبر الحدود التايلندية، ومن خلال المنظمات الدولية والمعارضة الداخلية بقيادة أونج سان سو تشى الحائزة على جائزة السلام والتي أطاح بها الجيش البورمي سنة 2021 بتحريض روسي وصيني. ومن جملة تلك الترتيبات الأميركية أيضًا إسقاطها للرئيس السيريلانكي السابق غوتابايا راجاباكسا وفراره من البلاد، وإسقاطها عرَّابَ المشروع رئيسَ وزراء الباكستان الأسبق عمران خان، وتغذية الثورة الشبابية ضد الشيخة حسينة في بنغلاديش، مما أدى إلى هروبها ولجوئها إلى الهند.
ولفهم ما تريده أميركا في الإقليم المحيط بالصين لا بد من تسليط الضوء على الانقلاب الذي دبرته في بنغلاديش، وأدى إلى سقوط حكم الشيخة حسينة، حيث تمكن المتظاهرون من اقتحام مقر إقامة رئيسة وزراء بنغلاديش الشيخة حسينة في دكا، مسدلين الستار على حكمها الذي استمر 15 عاما بمظاهرات قتل فيها نحو450 شخصًا من المتظاهرين الذي خرجوا احتجاجًا على نظام الحصص في الوظائف الحكومية الذي يخصص 30% من الوظائف العمومية لأفراد عائلات المقاتلين الذين شاركوا في حرب الانفصال عن باكستان عام 1971.
لقد شهدت بنغلاديش ذات الموقع الجيوسياسي الحساس صراعات داخلية واستقطابًا وتنافسًا في إطار اختلاف القوى البنغالية في الولاءات الدولية والتحالفات الإقليمية. فمنذ بداية التسعينات وحالة الصراع مستمرة بين تيار علماني قريب من الهند، تمثله الشيخة حسينة ابنة مجيب الرحمن، وبين التيار العلماني القريب من "الإسلاميين"، ومن الباكستان، وتمثله خالدة ضياء زوجة الجنرال ضياء الرحمن. ولم يكن الشعب البنغالي في هذه الصراعات الموجهة من الدول الاستعمارية الكبرى سوى وقود لتغيير الحكام، دون المساس بالنظام الفاسد.
وكدأب الأنظمة الوظيفية العميلة في احتواء حركة الشعوب ومنعها من التحرر بعد تحريكها وإيهامها بامتلاك زمام أمورها، نحو ما جرى في "الربيع العربي" امتطى الجيش البنغالي حركة الاحتجاجات الشعبية الأخيرة لاحتوائها وإدارتها وتوجيهها. حيث أعلن الفريق أول وقر الزمان رئيس أركان جيش بنغلاديش في الخامس من آب/أغسطس 2024 في خطاب إلى الشعب استقالة رئيسة الوزراء حسينة واجد، التي فرّت إلى الهند عبر مروحية عسكرية، ووعد بتشكيل حكومة مؤقتة، ودعا المتظاهرين للعودة إلى بيوتهم والثقة بالجيش. وصرَّح بأنَّ الجيش سوف يلتقي برئيس البلاد لمناقشة تشكيل حكومة مؤقتة تعيد السلام للبلاد. وفي عجالة جرى الترتيب بين قادة الاحتجاجات الطلابية والجيش على أن يتولى أحد المعارضين البارزين للشيخة حسينة وهو محمد يونس رجل الأعمال والخبير الاقتصادي، والحائز على جائزة نوبل للسلام سنة ٢٠٠٦م رئاسة الحكومة المؤقتة.
ومن تتبع الظروف والمعطيات التي سبقت الاحتجاجات وسقوط نظام الشيخة حسينة يتبين أن الولايات المتحدة كان لها اليد الطولى في تحريك الاحتجاجات عبر قنواتها النشطة في دول الجوار، وعبر وسائلها المعتادة داخل الدول مثل التنظيمات الطلابية، ومنظمات المجتمع المدني المرتبطة تمويليًّا وبرامجيًّا بالمؤسسات الأميركية، ولا يخفى أن ما يسمى بمنظمات المجتمع المدني هي التي أشعلت الثورات الملونة في أوروبا الشرقية وبلدان "الربيع العربي"، وهي التي تنشط في نشر التغريب الثقافي في بلاد المسلمين. ولذلك لم يكن خافيًا على المخابرات الروسية التي كشفت مبكرًا عن ارتباط الثورات الملونة في جورجيا وأوكرانيا و"ثورات الربيع العربي" بالمؤسسات الأميركية. ولهذا أشارت ماريا زاخاروفا المتحدثة باسم الخارجية الروسية في 15 كانون الأول/ديسمبر من العام الماضي إلى ضلوع الولايات المتحدة بما يجري في بنغلاديش بقولها: "في حال عدم رضا الولايات المتحدة عن نتائج تصويت الشعب (في انتخابات كانون الثاني/يناير)، فمن المرجح أن تكون هناك محاولات لمزيد من زعزعة استقرار الوضع في بنغلاديش على غرار ما حدث في الربيع العربي".
وفي وقت سابق من يوم 22 تشرين الثاني/نوفمبر، قالت زاخاروفا إن السفير الأميركي في بنغلاديش بيتر هاس كان يجتمع مع المعارضة الحكومية من أجل مناقشة التجمعات المناهضة للحكومة. علمًا بأن المعارضة البنغالية كانت قد كثفت هجومها على الشيخة حسينة وعلاقتها بالهند، ومن ذلك حملتها لمقاطعة البضائع الهندية العام الماضي ومطلع العام الحالي، ومقاطعتها للانتخابات في بداية هذا العام.
وبينما كانت الهند تحاول هندسة الانتخابات البنغالية وتدعم رابطة عوامي المساندة للشيخة حسينة، كانت هذه الأخيرة تتعرض لضغوط مسبقة من قِبل الولايات المتحدة لاعتبارات متعلقة باستراتيجية أميركا في خليج البنغال واتصاله بالهند، واستراتيجيتها بمنطقة المحيطين الهندي والهادئ وارتباطهما بالصراع الجيوسياسي وتبعاته الاقتصادية مع الصين. وهذا بالإضافة إلى الإرهاصات السياسية ذات الصلة بالشأن البنغالي نحو الجدل الحاد قبل عامين حول تحذير وزير الدفاع الصيني وسفير الصين في دكا من فكرة ضم بنغلاديش لمجموعة "كواد" الموجهة ضد الصين، وتلويح السفير الصيني بأن من شأن انضمام بنغلاديش إلى "كواد" أن يؤثر على الاستثمارات الصينية في بنغلاديش، فضلًا عن ظهور بوادر أميركية للتوجه نحو إنهاء حكم حسينة واجد مثل العقوبات الاقتصادية على بنغلاديش لإثارة التذمر الشعبي ضدها، وهرولة الهند لنجدتها مجدفة بعكس التيار الأميركي. ولذلك سعت الشيخة حسينة لاسترضاء الولايات المتحدة ومحاولة ثنيها عن تقويض التدخل الهندي في الانتخابات لصالحها، عبر إرسالها وفدًا من ثلاثة أعضاء من مسؤولي شركة بتروبانجلا إلى الولايات المتحدة في 2 كانون الأول/ديسمبر الماضي للقاء المسؤولين التنفيذيين لشركة إكسون موبيل، بشأن استئناف المحادثات للسماح للأخيرة باستكشاف الغاز في المياه العميقة المفتوحة في البلاد. إلا أن الإدارة الأميركية لم تغفر للشيخة حسينة رفضها إقامة قاعدة عسكرية أميركية في خليج البنغال، حيث ذكرت صحيفة The Economic Times نقلًا عن مقربين من الشيخة حسينة قولها: "كان بمقدوري البقاء في السلطة من خلال التخلي عن سيادة جزيرة سانت مارتن ومنح الولايات المتحدة إمكانية السيطرة على خليج البنغال".
وعلى ذلك فإن إسقاط حكم حسينة واجد يندرج هو الآخر في إطار إعادة ترتيب الإقليم المحيط بالصين، وإفشال الشراكات التي تسعى الصين إلى عقدها مع دول الإقليم لتنفيذ مشروع الحزام والطريق. كما يشكل هذا الانقلاب أداة للضغط على الهند الداعمة للقيادات الهندوسية في رابطة عوامي؛ لكبح علاقتها مع روسيا التي كشفت تقارير بريطانية أنها فتحت قنوات خلفية مع الهند لتأمين الإلكترونيات الحيوية لصناعاتها العسكرية، ولذلك حذر والي أديمو، نائب وزير الخزانة الأميركي، في تموز/يوليو الماضي 3 من كبريات منظمات الأعمال في الهند من أن "أي مؤسسة مالية أجنبية تتعامل مع القاعدة الصناعية العسكرية الروسية تخاطر بفرض عقوبات على نفسها". ولا سيما وأن جمالي تجارة الهند مع روسيا قد ارتفعت إلى أعلى مستوى لها على الإطلاق (66 مليار دولار في السنة المالية 2023-2024) بزيادة 5 أضعاف عما قبل الغزو، وتم التعامل مع بعض التجارة بالروبية، مما أتاح لروسيا فائضا من العملة.
وهذا بالإضافة إلى أن الانقلاب في بنغلاديش له تداعيات على علاقة بنغلاديش مع الصين، التي تمدد نفوذها العسكري والاقتصادي فيها في السنوات الأخيرة وتوّج في أيار/مايو الماضي (2024) بإجراء بنغلاديش والصين أول مناورات عسكرية مشتركة بينهما، وهو الأمر الذي جاء على خلاف رغبة أميركا، وأثار مخاوف واسعة في كلٍّ من الهند والولايات المتحدة، وأنذر من مخاطر التمدد الصيني عبر الدعم العسكري والديون والاستثمار الاقتصادي الصيني الذي يوشك أن يُحرز نفوذًا سياسيًّا في بنغلاديش، رغم احتفاظ حسينة واجد بعلاقة توازن مع الهند والولايات المتحدة. ولذلك تستثمر أميركا في مشاعر غضب الشعب البنغالي على بورما المدعومة من الصين بسبب مسلمي الروهينغا الذين نزح بعضهم إلى أراضيها، وتستثمر فيها للتأثير على العلاقة مع الهند بسبب تدخلها المؤثر في بنغلاديش وبسبب قضية مسلمي كشمير والخلافات حول الموارد المائية.
وفي هذا الجانب يمكن اعتبار التغيير في بنغلاديش بمنزلة إعادة لصياغة تحالفات المنطقة بشكل يصب في محاصرة الولايات المتحدة للصين ومشروعها، واحتواء الهند وتقليم أظافرها بسبب تقاربها مع روسيا وعدم سماحها لأميركا باستخدامها الكامل في السياسات الإقليمية، مستغلة النزاعات الدينية والقومية والحدودية، وتنافس دول الإقليم على كسب بنغلاديش كورقة ضغط، لما تمثله من موقع جيوسياسي حساس، وبخاصة لمشروع الحزام والطريق الصيني والتجارة الدولية وسلاسل التوريد. حيث تمثل بنغلاديش حلقة وصل حيوية للتعاون التجاري والإقليمي بين الكتل الاقتصادية الكبرى، مثل رابطة دول جنوب شرق آسيا (ASEAN)، ورابطة جنوب آسيا للتعاون الإقليمي (SAARC)، وتمتلك ثلاثة موانئ رئيسية هي: شاتوغرام، ومونجلا، وبايرا، من بين الموانئ الاثني عشر الحيوية للتجارة والأمن البحري في خليج البنغال. ومن اللافت في هذا السياق أن محمد ناهد إسلام منسق الحراك الطلابي والذي تسلم حقيبتين في الحكومة المؤقتة قال في لقاء صحفي إن قادة الحركة الطلابية يدركون "الأهمية الجيوسياسية لبلادنا، فإننا نواجه أعداء داخليين وخارجيين، وخاصة منذ أن أهملت الحكومة السابقة المصالح الوطنية وتعاونت مع قوى كبرى عديدة". وهو ما يكشف عن وجود أجندة مسبقة لدى قادة الحراك تتعلق بالدور الجيوسياسي لبنغلاديش. ولهذا كشفت تقارير استخبارية هندية قبل أيام عن لقاءات جرت بين قادة الحراك البنغالي مع مسؤولين أميركيين وباكستانيين في الباكستان وقطر، وتلقيهم الدعم المالي من قطر.
يتبع>>
متابعة سياسية
الترتيبات الأميركية في إقليم جنوب آسيا
يحتل إقليم جنوب آسيا مكانة بارزة في السياسة الخارجية الأميركية، منذ بدأت الصين تشكل تهديدًا سياسيًّا واقتصاديًّا على الولايات المتحدة، والغرب بعامة. وبخاصة بعد النشاط الصيني في مشروع حزام واحد طريق واحد، والذي بات يعرف بمبادرة الحزام والطريق، والتي تم دمجها بالدستور الصيني سنة 2017، وهي مبادرة قامت على أنقاض طريق الحرير في القرن التاسع عشر، من أجل ربط الصين بالعالم؛ لتكون أكبر مشروع بنية تحتية في تاريخ البشرية. وهي تشمل ممرات برية وبحرية لحوالي 60 دولة في آسيا وأوروبا، وستكلف حوالي 8.4 تريليون دولار. ومنذ طرح المشروع والبدء بتنفيذه، لم تخفِ الولايات المتحدة رغبتها في احتواء الصين وإفشال شراكتها مع العديد من الدول وتطويق "مبادرة الحزام والطريق" بكامل فروعها وزرع ألغام التوتر حولها. كما عملت على إعادة ترتيب الإقليم المحيط بالصين، وذلك بتفعيل بؤر التوتر في تايوان والفلبين وأزمة الكوريتين والضغوط على القيادة العسكرية في بورما من خلال التنظيمات المسلحة وعملياتها عبر الحدود التايلندية، ومن خلال المنظمات الدولية والمعارضة الداخلية بقيادة أونج سان سو تشى الحائزة على جائزة السلام والتي أطاح بها الجيش البورمي سنة 2021 بتحريض روسي وصيني. ومن جملة تلك الترتيبات الأميركية أيضًا إسقاطها للرئيس السيريلانكي السابق غوتابايا راجاباكسا وفراره من البلاد، وإسقاطها عرَّابَ المشروع رئيسَ وزراء الباكستان الأسبق عمران خان، وتغذية الثورة الشبابية ضد الشيخة حسينة في بنغلاديش، مما أدى إلى هروبها ولجوئها إلى الهند.
ولفهم ما تريده أميركا في الإقليم المحيط بالصين لا بد من تسليط الضوء على الانقلاب الذي دبرته في بنغلاديش، وأدى إلى سقوط حكم الشيخة حسينة، حيث تمكن المتظاهرون من اقتحام مقر إقامة رئيسة وزراء بنغلاديش الشيخة حسينة في دكا، مسدلين الستار على حكمها الذي استمر 15 عاما بمظاهرات قتل فيها نحو450 شخصًا من المتظاهرين الذي خرجوا احتجاجًا على نظام الحصص في الوظائف الحكومية الذي يخصص 30% من الوظائف العمومية لأفراد عائلات المقاتلين الذين شاركوا في حرب الانفصال عن باكستان عام 1971.
لقد شهدت بنغلاديش ذات الموقع الجيوسياسي الحساس صراعات داخلية واستقطابًا وتنافسًا في إطار اختلاف القوى البنغالية في الولاءات الدولية والتحالفات الإقليمية. فمنذ بداية التسعينات وحالة الصراع مستمرة بين تيار علماني قريب من الهند، تمثله الشيخة حسينة ابنة مجيب الرحمن، وبين التيار العلماني القريب من "الإسلاميين"، ومن الباكستان، وتمثله خالدة ضياء زوجة الجنرال ضياء الرحمن. ولم يكن الشعب البنغالي في هذه الصراعات الموجهة من الدول الاستعمارية الكبرى سوى وقود لتغيير الحكام، دون المساس بالنظام الفاسد.
وكدأب الأنظمة الوظيفية العميلة في احتواء حركة الشعوب ومنعها من التحرر بعد تحريكها وإيهامها بامتلاك زمام أمورها، نحو ما جرى في "الربيع العربي" امتطى الجيش البنغالي حركة الاحتجاجات الشعبية الأخيرة لاحتوائها وإدارتها وتوجيهها. حيث أعلن الفريق أول وقر الزمان رئيس أركان جيش بنغلاديش في الخامس من آب/أغسطس 2024 في خطاب إلى الشعب استقالة رئيسة الوزراء حسينة واجد، التي فرّت إلى الهند عبر مروحية عسكرية، ووعد بتشكيل حكومة مؤقتة، ودعا المتظاهرين للعودة إلى بيوتهم والثقة بالجيش. وصرَّح بأنَّ الجيش سوف يلتقي برئيس البلاد لمناقشة تشكيل حكومة مؤقتة تعيد السلام للبلاد. وفي عجالة جرى الترتيب بين قادة الاحتجاجات الطلابية والجيش على أن يتولى أحد المعارضين البارزين للشيخة حسينة وهو محمد يونس رجل الأعمال والخبير الاقتصادي، والحائز على جائزة نوبل للسلام سنة ٢٠٠٦م رئاسة الحكومة المؤقتة.
ومن تتبع الظروف والمعطيات التي سبقت الاحتجاجات وسقوط نظام الشيخة حسينة يتبين أن الولايات المتحدة كان لها اليد الطولى في تحريك الاحتجاجات عبر قنواتها النشطة في دول الجوار، وعبر وسائلها المعتادة داخل الدول مثل التنظيمات الطلابية، ومنظمات المجتمع المدني المرتبطة تمويليًّا وبرامجيًّا بالمؤسسات الأميركية، ولا يخفى أن ما يسمى بمنظمات المجتمع المدني هي التي أشعلت الثورات الملونة في أوروبا الشرقية وبلدان "الربيع العربي"، وهي التي تنشط في نشر التغريب الثقافي في بلاد المسلمين. ولذلك لم يكن خافيًا على المخابرات الروسية التي كشفت مبكرًا عن ارتباط الثورات الملونة في جورجيا وأوكرانيا و"ثورات الربيع العربي" بالمؤسسات الأميركية. ولهذا أشارت ماريا زاخاروفا المتحدثة باسم الخارجية الروسية في 15 كانون الأول/ديسمبر من العام الماضي إلى ضلوع الولايات المتحدة بما يجري في بنغلاديش بقولها: "في حال عدم رضا الولايات المتحدة عن نتائج تصويت الشعب (في انتخابات كانون الثاني/يناير)، فمن المرجح أن تكون هناك محاولات لمزيد من زعزعة استقرار الوضع في بنغلاديش على غرار ما حدث في الربيع العربي".
وفي وقت سابق من يوم 22 تشرين الثاني/نوفمبر، قالت زاخاروفا إن السفير الأميركي في بنغلاديش بيتر هاس كان يجتمع مع المعارضة الحكومية من أجل مناقشة التجمعات المناهضة للحكومة. علمًا بأن المعارضة البنغالية كانت قد كثفت هجومها على الشيخة حسينة وعلاقتها بالهند، ومن ذلك حملتها لمقاطعة البضائع الهندية العام الماضي ومطلع العام الحالي، ومقاطعتها للانتخابات في بداية هذا العام.
وبينما كانت الهند تحاول هندسة الانتخابات البنغالية وتدعم رابطة عوامي المساندة للشيخة حسينة، كانت هذه الأخيرة تتعرض لضغوط مسبقة من قِبل الولايات المتحدة لاعتبارات متعلقة باستراتيجية أميركا في خليج البنغال واتصاله بالهند، واستراتيجيتها بمنطقة المحيطين الهندي والهادئ وارتباطهما بالصراع الجيوسياسي وتبعاته الاقتصادية مع الصين. وهذا بالإضافة إلى الإرهاصات السياسية ذات الصلة بالشأن البنغالي نحو الجدل الحاد قبل عامين حول تحذير وزير الدفاع الصيني وسفير الصين في دكا من فكرة ضم بنغلاديش لمجموعة "كواد" الموجهة ضد الصين، وتلويح السفير الصيني بأن من شأن انضمام بنغلاديش إلى "كواد" أن يؤثر على الاستثمارات الصينية في بنغلاديش، فضلًا عن ظهور بوادر أميركية للتوجه نحو إنهاء حكم حسينة واجد مثل العقوبات الاقتصادية على بنغلاديش لإثارة التذمر الشعبي ضدها، وهرولة الهند لنجدتها مجدفة بعكس التيار الأميركي. ولذلك سعت الشيخة حسينة لاسترضاء الولايات المتحدة ومحاولة ثنيها عن تقويض التدخل الهندي في الانتخابات لصالحها، عبر إرسالها وفدًا من ثلاثة أعضاء من مسؤولي شركة بتروبانجلا إلى الولايات المتحدة في 2 كانون الأول/ديسمبر الماضي للقاء المسؤولين التنفيذيين لشركة إكسون موبيل، بشأن استئناف المحادثات للسماح للأخيرة باستكشاف الغاز في المياه العميقة المفتوحة في البلاد. إلا أن الإدارة الأميركية لم تغفر للشيخة حسينة رفضها إقامة قاعدة عسكرية أميركية في خليج البنغال، حيث ذكرت صحيفة The Economic Times نقلًا عن مقربين من الشيخة حسينة قولها: "كان بمقدوري البقاء في السلطة من خلال التخلي عن سيادة جزيرة سانت مارتن ومنح الولايات المتحدة إمكانية السيطرة على خليج البنغال".
وعلى ذلك فإن إسقاط حكم حسينة واجد يندرج هو الآخر في إطار إعادة ترتيب الإقليم المحيط بالصين، وإفشال الشراكات التي تسعى الصين إلى عقدها مع دول الإقليم لتنفيذ مشروع الحزام والطريق. كما يشكل هذا الانقلاب أداة للضغط على الهند الداعمة للقيادات الهندوسية في رابطة عوامي؛ لكبح علاقتها مع روسيا التي كشفت تقارير بريطانية أنها فتحت قنوات خلفية مع الهند لتأمين الإلكترونيات الحيوية لصناعاتها العسكرية، ولذلك حذر والي أديمو، نائب وزير الخزانة الأميركي، في تموز/يوليو الماضي 3 من كبريات منظمات الأعمال في الهند من أن "أي مؤسسة مالية أجنبية تتعامل مع القاعدة الصناعية العسكرية الروسية تخاطر بفرض عقوبات على نفسها". ولا سيما وأن جمالي تجارة الهند مع روسيا قد ارتفعت إلى أعلى مستوى لها على الإطلاق (66 مليار دولار في السنة المالية 2023-2024) بزيادة 5 أضعاف عما قبل الغزو، وتم التعامل مع بعض التجارة بالروبية، مما أتاح لروسيا فائضا من العملة.
وهذا بالإضافة إلى أن الانقلاب في بنغلاديش له تداعيات على علاقة بنغلاديش مع الصين، التي تمدد نفوذها العسكري والاقتصادي فيها في السنوات الأخيرة وتوّج في أيار/مايو الماضي (2024) بإجراء بنغلاديش والصين أول مناورات عسكرية مشتركة بينهما، وهو الأمر الذي جاء على خلاف رغبة أميركا، وأثار مخاوف واسعة في كلٍّ من الهند والولايات المتحدة، وأنذر من مخاطر التمدد الصيني عبر الدعم العسكري والديون والاستثمار الاقتصادي الصيني الذي يوشك أن يُحرز نفوذًا سياسيًّا في بنغلاديش، رغم احتفاظ حسينة واجد بعلاقة توازن مع الهند والولايات المتحدة. ولذلك تستثمر أميركا في مشاعر غضب الشعب البنغالي على بورما المدعومة من الصين بسبب مسلمي الروهينغا الذين نزح بعضهم إلى أراضيها، وتستثمر فيها للتأثير على العلاقة مع الهند بسبب تدخلها المؤثر في بنغلاديش وبسبب قضية مسلمي كشمير والخلافات حول الموارد المائية.
وفي هذا الجانب يمكن اعتبار التغيير في بنغلاديش بمنزلة إعادة لصياغة تحالفات المنطقة بشكل يصب في محاصرة الولايات المتحدة للصين ومشروعها، واحتواء الهند وتقليم أظافرها بسبب تقاربها مع روسيا وعدم سماحها لأميركا باستخدامها الكامل في السياسات الإقليمية، مستغلة النزاعات الدينية والقومية والحدودية، وتنافس دول الإقليم على كسب بنغلاديش كورقة ضغط، لما تمثله من موقع جيوسياسي حساس، وبخاصة لمشروع الحزام والطريق الصيني والتجارة الدولية وسلاسل التوريد. حيث تمثل بنغلاديش حلقة وصل حيوية للتعاون التجاري والإقليمي بين الكتل الاقتصادية الكبرى، مثل رابطة دول جنوب شرق آسيا (ASEAN)، ورابطة جنوب آسيا للتعاون الإقليمي (SAARC)، وتمتلك ثلاثة موانئ رئيسية هي: شاتوغرام، ومونجلا، وبايرا، من بين الموانئ الاثني عشر الحيوية للتجارة والأمن البحري في خليج البنغال. ومن اللافت في هذا السياق أن محمد ناهد إسلام منسق الحراك الطلابي والذي تسلم حقيبتين في الحكومة المؤقتة قال في لقاء صحفي إن قادة الحركة الطلابية يدركون "الأهمية الجيوسياسية لبلادنا، فإننا نواجه أعداء داخليين وخارجيين، وخاصة منذ أن أهملت الحكومة السابقة المصالح الوطنية وتعاونت مع قوى كبرى عديدة". وهو ما يكشف عن وجود أجندة مسبقة لدى قادة الحراك تتعلق بالدور الجيوسياسي لبنغلاديش. ولهذا كشفت تقارير استخبارية هندية قبل أيام عن لقاءات جرت بين قادة الحراك البنغالي مع مسؤولين أميركيين وباكستانيين في الباكستان وقطر، وتلقيهم الدعم المالي من قطر.
يتبع>>