المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : التحولات الكبرى فى السياسة الخارجية الروسية



كاتب صحفي
08-02-2016, 04:14 PM
التحولات الكبرى فى السياسة الخارجية الروسية
المصدر: السياسة الدولية
بقلم: محمد السيد سليم

لعل أهم معضلة خارجية واجهت روسيا، بعد تفكك الاتحاد السوفيتى فى ديسمبر سنة 1991، هى كيفية صياغة سياسة خارجية جديدة فى ظل حالة الانهيار الشامل لورثة الاتحاد من ناحية، وفى ظل النظام العالمى الجديد الذى تسيطر عليه الولايات المتحدة من ناحية أخرى فقد انهار الاتحاد السوفيتى، وتفككت مؤسساته، أو ـ على الأقل ـ دخلت فى حالة سيولة شاملة واختراق خارجى، وأصبح من المتعين بناء أجهزة صنع سياسة خارجية جديدة، وصياغة منظور جديد للتعامل الدولى الروسى، وذلك كله فى ظل الظروف والأزمة العامة التى شهدها المجتمع الروسى بسبب التفكك فقد تراجع الأداء الاقتصادى، وظهرت قوى سياسية جديدة فى المجتمع تطالب بالتحول نحو سياسات خارجية جديدة، وحدثت حالة شاملة من عدم الاستقرار السياسى، وتزايدت الحركات المطالبة بالانفصال ومن ثم واجهت روسيا مشكلة "إعادة هيكلة" السياسة الخارجية فى ظروف التفكك الشامل المحيط بها، والأزمة العامة من ناحية ثانية فقد ورثت روسيا التركة الدولية للاتحاد السوفيتى، بما فى ذلك مقعده فى مجلس الأمن وسفاراته فى الخارج، وورثت أيضا ترسانته النووية وأدوات نقلها (الصواريخ عابرة القارات) ومن هنا، جاءت المعضلة الثانية، وهى كيف يمكن صياغة مركز دولى جديد لروسيا يتفق مع مقدرتها العسكرية، ويعترف بضعف اقتصادها، وبأنها قد هزمت فى الحرب الباردة كيف يمكن التوفيق بين مقتضيات عظمة روسيا كقوة كبرى، والالتزامات الضخمة لتلك العظمة، والتى لا تستطيع روسيا الوفاء بها؟ من ناحية ثالثة، فقد تزامن مع استقلال روسيا صعود قوى دولية جديدة، كالاتحاد الأوروبى، الذى تكون بموجب معاهدة ماستريخت التى وقعت فى الشهر نفسه الذى انهار فيه الاتحاد السوفيتى، والصين، التى حققت معدلات للنمو بلغت 12% فى المتوسط فى التسعينيات، بالإضافة إلى النمور الآسيوية وبالتالى، أصبح من المتعين على روسيا أن تصوغ سياسات خارجية للتعامل مع القوى الصاعدة الجديدة.

توجهان فى السياسة الخارجية الروسية:
أورو ـ أطلنطى، وأوراسى جديد:
شهدت روسيا منذ الاستقلال سنة 1991 إعادة انبعاث الجدل التاريخى حول هوية روسيا، هل هى دولة أوروبية أم دولة آسيوية؟ وهنا، ينبغى أن نذكر بالشعار الرسمى لروسيا القيصرية والذى كان يمثل نسرا ذا رأسين، واحد ينظر فى اتجاه الشرق (آسيا) والآخر فى اتجاه الغرب (أوروبا).
وقد شهدت روسيا بعد الاستقلال إعادة انبعاث الهويتين فى سياستها الخارجية فقد تراوحت السياسة الخارجية الروسية منذ سنة ـ 1991 بين توجهين أساسيين،
أولهما: توجه أوروبى ـ أطلنطى Euro ـ Atlantic، والثانى "أوراسى جديد".

New Eurasian إلى الحد الذى يمكن فيه تلخيص السياسة الخارجية الروسية فى التقلب بين التوجهين ولكل من التوجهين افتراضاته، ومقولاته، وسياساته ومناصروه فى النخبة السياسية الروسية فالتوجه الأول، الذى سيطر على السياسة الخارجية الروسية منذ نهاية سنة 1991 وحتى نهاية سنة 1995 فى ظل وزير الخارجية آنذاك كوزيريف، انطلق من أهمية اندماج روسيا مع الحضارة الغربية، وبالتحديد مع التكتل المتمثل فى مجموعة دول حلف الأطلنطى، باعتبار أن هذا الاندماج هو وحده الطريق لتمكين روسيا من النهوض اقتصاديا روسيا، كما يرى أنصار هذا التوجه، يجب أن تنطلق بأسرع قوة فى طريق "الاندماج غير المشروط" مع العالم الأوروبى ـ الأطلنطى، لأنه وحده العالم القادر على إخراج روسيا من محنتها، كما أن مثل هذا الاندماج من شأنه إضعاف احتمالات عودة الشيوعية إلى روسيا من ناحية ثانية، انطلق هذا التوجه من مقولة الاعتراف بأن روسيا قد أصبحت قوة دولية "عادية"، أى أنها إحدى القوى الكبرى فى النظام العالمى، وليست أحد ركنى هذا النظام ويتطلب ذلك تخلى روسيا عن تطلعات العظمة والهيمنة، وأن تتبع سياسة تتفق مع هذا الواقع الجديد من ناحية ثالثة، أكد أنصار هذا التوجه أهمية عدم لجوء روسيا إلى استعمال القوة أو التهديد باستعمال القوة فى العلاقات الدولية، حتى ولو كان الأمر متعلقا بحماية الأقليات الروسية فى الدول الجديدة التى انفصلت عن الاتحاد السوفيتى وأخيرا، فقد أكد أنصار التوجه الأوروبى ـ الأطلنطى أن سياسة روسيا الخارجية ينبغى أن تكون سياسة مصلحية، أى "غير أيديولوجية"، لأن روسيا لم يعد لها أعداء فى النظام العالمى ولا أيديولوجية مسيطرة على نظامها السياسى.
فى إطار هذا التوجه، الذى قاده يلتسين ووزير خارجيته كوزيريف، ركزت روسيا على الاتجاه غربا، واتباع سياسة الحد الأدنى من التفاعل مع باقى دول كومنولث الدول المستقلة إلا بما يحفظ مصالح روسيا الحيوية كذلك، ركزت روسيا على التحالف مع الولايات المتحدة من منطلق القبول بالمنظور الأمريكى للعلاقات الدولية، وإعطاء التنازلات من طرف واحد وقد كان أول تطبيق لهذا التوجه هو زيارة يلتسين للولايات المتحدة فى فبراير سنة 1992 ففى تلك الزيارة، أشار يلتسين إلى أن روسيا تسعى لبناء "سياسة خارجية غير أيديولوجية"، وأنها ستبذل قصارى جهدها ـ للتعاون مع الغرب لإعادة بناء روسيا، وعرض على الولايات المتحدة بناء درع عالمية ضد الصواريخ تحمى "العالم الحر" وتعتمد على تكنولوجيا أمريكية ـ روسية وأكد يلتسين أن روسيا لن تصوب صواريخها النووية صوب المدن والقواعد العسكرية الأمريكية "فأمريكا لم تعد عدوا محتملا لروسيا، بعد أن تغيرت العقيدة العسكرية الروسية" وقد جسد يلتسين هذا كله فى "وثيقة التعاون الأمريكى ـ الروسى" التى وقعت فى كامب ديفيد فى فبراير سنة 1992 بين الرئيس الأمريكى بوش، والرئيس الروسى يلتسين فقد أتت الوثيقة على أسس التحالف بين الدولتين، والذى ارتكز على ستة جوانب: (1) تعتبر الولايات المتحدة وروسيا أن العلاقات بينهما لم تعد علاقات الخصوم أو الأعداء المتنافسين، وإنما علاقات صداقة ومشاركة قائمة على الثقة المتبادلة والاحترام والالتزام المشترك بالديمقراطية، والحرية الكاملة (2) ستعمل الدولتان على إزالة آثار العدوان الذى ترتب على حالة العداء الذى كان قائما بينهما، واتخاذ الإجراءات الضرورية لخفض ترسانة الأسلحة الاستراتيجية (3) سوف تعمل الدولتان على توفير سعادة ورفاهية الشعبين، ودعم الروابط بينهما قدر الإمكان، وعلى أساس الانفتاح والتفاهم (4) سوف تعمل الدولتان معا على أسس حرية التجارة، والاستثمار، والتعاون الاقتصادى (5) سوف نبذل كل جهد لكى نزيد من فاعلية القيم الديمقراطية وحكم القانون واحترام حقوق الإنسان، والأقليات، والحدود (6) سوف نعمل معا على أساس (أ) منع انتشار أسلحة الدمار الشامل، ومنع انتشار الأسلحة الاستراتيجية المتقدمة، (ب) إنهاء الصراعات الإقليمية سلميا، (ج) مواجهة الإرهاب وانتشار المخدرات والمحافظة على البيئة وأضافت وثيقة كامب ديفيد أنه اعتبارا من تاريخ توقيعها، سوف تعمل الدولتان على إنهاء الصراع والخلاف من خلال "صداقة مشتركة وتحالف جديد بين شركاء يعملون معا لمواجهة الأخطار المشتركة التى نواجهها".
سيطر هذا التوجه على سياسة روسيا الخارجية بعد ديسمبر سنة 1991 وتطبيقا له، سعت روسيا إلى طمأنة الغرب إلى نياتها من خلال سياسة تقديم التنازلات المنفردة والنزع المنفرد للسلاح، والتعاون العسكرى مع الغرب وقد تمثل ذلك فى المناورات المشتركة للأسطوليين الأمريكى والروسى فى البحر المتوسط فى فبراير سنة 1992، وفى رصد الولايات المتحدة 400 مليون دولار لمساعدة روسيا وباقى دول الكومنولث على تدمير أو تخفيض ترسانتها النووية، بناء على طلب روسيا هذا، فى الوقت الذى لم تلتزم فيه الولايات المتحدة بالالتزامات ذاتها كذلك، وافقت روسيا على فرض العقوبات على يوجوسلافيا، والعراق، وليبيا الأهم من ذلك أن روسيا اقترحت على الولايات المتحدة فى أبريل سنة 1993 المشاركة فى نظام الدفاع الصاروخى المسمى TRUST، وهو المشروع الذى ينهض على فكرة إطلاق أشعة البلازمويد على المنطقة الفضائية المحيطة بالصواريخ المهاجمة، بحيث يتم إخراجها عن مسارها وتدميرها فى الفضاء الخارجى قبل وصولها إلى أهدافها ومع نهاية سنة 1992، بدأت تظهر متغيرات جديدة حدت بروسيا إلى التفكير فى توجه جديد لسياستها الخارجية هذه المتغيرات هى:
1ـ بدأ الرئيس يلتسين يواجه معارضة سياسية قوية لتوجهه الأوروبى ـ الأطلنطى، تمثلت فى معارضة الحزب الشيوعى الروسى والأحزاب القومية فقد انتقدت هذه الأحزاب سياسة يلتسين الخارجية لأنها أضعفت مكانة روسيا، وطالبت باتباع سياسة جديدة قوامها إعادة هيمنة روسيا على الدول التى استقلت عن الاتحاد السوفيتى وحماية الروس المقيمين فى تلك الدول، مع اتباع سياسة استقلالية عن الولايات المتحدة، العدو الأول لروسيا فى نظرهم كذلك، واجه يلتسين معارضة من أحزاب الوسط فقد طالبت تلك الأحزاب باتباع سياسة متوازنة تأخذ فى اعتبارها مصالح روسيا فى "الشرق" (وهو يشمل آسيا الوسطى، والصين، والشرق الأوسط)، وتقوية علاقات روسيا مع الدول التى استقلت عن الاتحاد السوفيتى، والتى اصطلح على تسميتها باسم "الخارج القريب" Near Abroad فى الأدبيات الروسية.
2ـ إن روسيا بدأت تدرك أن هناك حدودا لمدى رغبة الغرب فى إدماجها فى حضارته ومساعدتها للخروج من أزمتها مع بداية سنة ـ 1993، بدأ يتضح وهم الاعتماد على الغرب للخروج من الأزمة.

كاتب صحفي
08-02-2016, 04:16 PM
3ـ ظهرت متغيرات جديدة فى آسيا الوسطى دعت روسيا إلى إعادة التفكير فى توجه سياستها الخارجية، وهى:
أـ اندلاع التنافس التركى ـ الإيرانى على آسيا الوسطى، مما هدد المصالح الروسية فى تلك المنطقة.
ب ـ تدفق الروس من دول ـ الخارج القريب ـ وقد وصل هذا التدفق من كازاخستان وحدها سنة 1993 إلى نحو 200 ألف روسى، مما هدد الاقتصاد الروسى، إذ إنه لم يكن قادرا على استيعاب تلك الأعداد.
ج ـ تصاعد التيارات الأصولية فى آسيا الوسطى واستعمال تلك التيارات للعنف، مما هدد بالتأثير على الأمن القومى الروسى ووحدة الأراضى الروسية.
دـ إن دول آسيا الوسطى ذاتها بدأت تطالب روسيا بأن تلعب دور ضامن الأمن فى تلك الدول، نظرا لعدم قدرتها على القيام بتلك الوظيفة.
هكذا، بدأ يلتسين فى تغيير توجه السياسة الخارجية الروسية اعتبارا من سنة 1994، وبدأت تبلور ملامح توجه "أوراسى جديد" أساس هذا التوجه هو أن روسيا هى دولة أوروبية ـ آسيوية (أوراسية)، وبالتالى، فإن عليها أن توجه سياستها الخارجية نحو هذا العالم ففى العالم الأوراسى، تقع روسيا، وتكمن مصالحها، كما أنه من هذا العالم تنبع مصادر التهديد الأساسية للأمن القومى الروسى من ناحية أخرى، فإن الغرب لن يقيل روسيا من أزمتها، لأنه حريص على بقاء روسيا دولة ضعيفة لأطول فترة ممكنة والدليل على ذلك أن الغرب لم يقبل إدماج روسيا فى مؤسساته، وحرص على إهانة روسيا دوليا بإظهارها فى موقف الدولة التابعة والواقع أن هذا الشعور بالإهانة قد عبر عنه يلتسين ذاته حين قال مخاطبا الغرب، "إن روسيا لا توضع فى غرفة الانتظار" وأخيرا، فإن روسيا ينبغى أن تعمل على التكامل مع دول "الخارج القريب"، والدول المجاورة، مثل إيران وتركيا والصين والهند، واليابان.
وقد بدأ هذا التحول تدريجيا فى عهد كوزيريف، إذ بدأ يتحدث عن أهمية التكامل مع دول الكومنولث، وحماية الأقليات الروسية فيها اعتبارا من الانتخابات الرئاسية سنة 1993 كذلك، زادت روسيا من مبيعات السلاح إلى إيران بما فى ذلك الغواصات، وزار يلتسين الهند سنة 1993، حيث وقع مجموعة اتفاقيات أعادت بناء العلاقات بين الدولتين، وتضمنت تصدير كميات ضخمة من السلاح إلى الهند وبدأت روسيا فى انتقاد سياسة القصف الجوى الأمريكى للعراق، وفى الحديث عن دور روسى باعتبارها ضامن الأمن والاستقرار فى دول الخارج القريب، وبدأت روسيا تتدخل فى نزاعات تلك الدول كالنزاع الجورجى فى أبخازيا، والنزاع الأرمينى ـ الأذرى حول ناجورنو قره باخ، والحرب الأهلية فى طاجيكستان كما اختلفت روسيا مع دول الأطلنطى حول المشكلة اليوجوسلافية. سرعان ما تزايدت وتيرة التوجه الأوراسى الجديد مع حلول عام 1994 فقد بدأت روسيا فى تأكيد نفوذها المهيمن فى دول الحزام الجنوبى فى آسيا الوسطى والقوقاز ففى قرار مهم، قررت روسيا أن تجمد، من طرف واحد، "معاهدة الأسلحة التقليدية فى أوروبا"، والتى تضع قيودا على نشر المعدات الحربية جنوبى روسيا، وأصدر يلتسين مرسوما يقضى بأن تسعى روسيا إلى التأكد من أن دول الكومنولث تتبع "سياسة صديقة" لروسيا، ووضع قوات روسية فى تلك الدول كما بدأت تتبع سياسة الضغط على تلك الدول من خلال التأثير فى قدرتها على تصدير النفط عبر أراضى روسيا (كازاخستان وأذربيجان) وفى ديسمبر سنة 1994، غزت روسيا جمهورية شيشنيا، بادئة بذلك عهد استعمال القوة العسكرية ضد مصادر التهديد للأمن القومى وفى الشرق الأوسط، عقدت مع إيران صفقة بناء مفاعل نووى فى بوشهر، وانتقدت علنا السياسة الأمريكية تجاه العراق، وتبادلت الزيارات مع المسئولين العراقيين، وبدأت فى بناء مسافة بين سياستها وسياسة الولايات المتحدة تجاه الصراع العربى ـ الإسرائيلى، وهو ما تمثل فى الدعوة إلى عقد مؤتمر دولى للسلام فى الشرق الأوسط بعد مذبحة الفلسطينيين فى الخليل فى 4 فبراير سنة 1994 التى ارتكبها متطرف صهيونى. وقد تأكد التحول نحو التوجه الجديد مع تعيين بريما كوف وزيرا لخارجية روسيا فى يناير سنة 1996 كمحصلة لفترة من التغير البطىء فى السياسة الخارجية نحو التوجه الثانى ذلك أن بريماكوف هو أحد خبراء السياسة الروسية فى الشرق الأوسط، وأحد أشد أنصار التيار الثانى فضلا عن كفاءته الإدارية بالمقارنة بسلفه كوزيريف، كما أنه تولى رئاسة الوزراء فى سبتمبر 1998 وحتى مايو سنة 1999 وفى هذا الإطار، بلور ما أصبح يعرف باسم ـ مبدأ بريماكوف ـ فى السياسة الخارجية الروسية وتدور ملامح المبدأ حول:
1- إنشاء نظام عالمى يقوم على التعددية القطبية، واقترح إنشاء تحالف أوراسى بين روسيا والصين والهند "كمثلث استراتيجى" يوازن القوة الأمريكية وفى هذا الإطار، أسهمت روسيا فى إنشاء منظمة شنغهاى للتعاون.
2ـ معارضة توسع حلف الأطلنطى فى دول الكتلة السوفيتية المنتهية ولكنه وقع مع سكرتير عام الحلف ـ القانون التأسيسى حول العلاقات المتبادلة
The Founding Act on Mutual Relations
فى مايو سنة 1997 والذى نص على إنهاء حالة العداء بين روسيا والحلف، وعلى مبادئ وآليات للعلاقات بينهما، ولكنه عارض بقوة الغزو الأطلنطى ليوجوسلافيا سنة 1999
3ـ الدفاع عن تقوية دور الأمم المتحدة بعدما بدا أن دورها يتوارى لحساب حلف الأطلنطى.
تحولات "مبدأ بوتين" فى السياسة الخارجية:
عندما جاء بوتين إلى السلطة فى يناير سنة 2000، سعى إلى تعميق التوجه الأوراسى فى سياسة روسيا الخارجية ففى يونيو سنة ـ 2000، قدم عدة مبادئ لسياسة روسيا الخارجية عرفت باسم "مبدأ بوتين" وفى مقدمة تلك المبادئ التركيز على برامج الإصلاح الداخلى على حساب السياسة الخارجية، وهى الفكرة التى سماها بعض الدارسين بأن "الأهداف الداخلية تلغى أهداف السياسة الخارجية الروسية" من ناحية أخرى، فإن مبدأ بوتين ركز على تطوير دور روسيا فى عالم متعدد الأقطاب لا يخضع لهيمنة قوة عظمى واحدة، والعمل على استعادة دور روسيا فى آسيا والشرق الأوسط بشكل تدريجى، وعدم السماح للغرب بتهميش الدور الروسى فى العلاقات الدولية وقد أضاف مبدأ بوتين ثلاثة عناصر جديدة للسياسة الخارجية الروسية، أولها: إنه إذا استمر توسع حلف الأطلنطى شرقا من روسيا، فستسعى إلى دعم الترابط بين دول الاتحاد السوفيتى السابق لحماية منطقة دفاعها الأول ثانيها: إن روسيا تعارض نظام القطبية الأحادية، ولكنها ستعمل مع الولايات المتحدة فى عدة قضايا مثل الحد من التسلح وحقوق الإنسان وغيرها وأخيرا، فإن روسيا ستعمل على دعم بيئتها الأمنية فى الشرق عن طريق تقوية علاقاتها مع الصين والهند واليابان.
لكن أحداث 11 سبتمبر سنة 2001 فى الولايات المتحدة وما تلاها من تحول فى الاستراتيجية العالمية للولايات المتحدة نحو الحرب الهجومية، واعتبار "الإرهاب" بمثابة القضية المحورية للسياسة الأمريكية، أدت إلى حدوث تحول فى السياسة الخارجية الروسية نحو التوجه الأورو ـ الأطلنطى فقد سعى بوتين إلى استثمار التحول الأمريكى بإحداث تحول مماثل نحو دعم الاستراتيجية الأمريكية الجديدة من خلال تقديم روسيا على أنها شريك فى محاربة الإرهاب، أملا فى الحصول على دعم أمريكى ضد الحركة الانفصالية الشيشانية، والتخلص من النظام الأفغانى المناوئ (نظام طالبان)، والحصول على دعم اقتصادى أمريكى وفى هذا الصدد، كتب ايجور ايفانوف، وزير خارجية روسيا، مشيرا إلى أن أحداث سبتمبر سنة 2001 جعلت توجه روسيا نحو الغرب يسير فى اتجاه "الاندماج فى الفضاء الغربى" كما تحدث بوتين، مشيرا إلى أن جذور روسيا ترتد إلى القيم الغربية.
وقد عمق من هذا التحول أن دول آسيا لم تتحمس لفكرة إنشاء ائتلاف دولى آسيوى يضم روسيا على حساب علاقاتها مع الولايات المتحدة، وهى الفكرة التى كان بريماكوف، رئيس وزراء روسيا السابق، قد طرحها فى ديسمبر سنة 1998 وعلى سبيل المثال، فإن الهند لم تتحمس لمشروع انضمامها إلى منظمة شنغهاى للتعاون بناء على اقتراح روسى، حيث إنها رأت أنه يؤدى إلى تقارب أكثر من اللازم مع روسيا على حساب علاقاتها بالولايات المتحدة أضف إلى ذلك أن الأزمة الاقتصادية الروسية قد تعمقت، كما أن الدول الصناعية السبع الكبرى دائنة لروسية بنحو 148 مليار دولار، مما يضع روسيا دائما على حافة الإفلاس إذا قررت تلك الدول المطالبة بديونها.
فى إطار هذا التوجه، أيدت روسيا الغزو الأمريكى لأفغانستان فى أكتوبر سنة 2001، بل وسهلت للولايات المتحدة ـ ولأول مرة ـ الحصول على قواعد عسكرية فى بعض دول آسيا الوسطى، كما حدث فى حالة أوزبكستان، يسهل منها غزو أفغانستان، كما دعمت "تحالف الشمال" للتنسيق مع الغزو الأمريكى كذلك اقترح الرئيس بوتين على الولايات المتحدة فى 23 مايو سنة 2003 التعاون فى مجال الدفاع الصاروخى، وهو الأمر الذى سبق أن اقترحه يلتسين سنة 1993.
لكن روسيا ما لبثت أن تحولت عن هذا التوجه نحو التوجه البديل فى ظل بوتين أيضا و يرجع ذلك إلى عدة عوامل، أهمها السياسة الانفرادية التى اتبعتها الولايات المتحدة بعد 11 سبتمبر سنة 2001، والتى همشت الدور الروسى، وهو ما تمثل فى عدم اكتراثها بالمعارضة الروسية لغزو العراق فى مارس سنة 2003، أو التشاور مع روسيا حول مستقبل إقليم كوسوفو كذلك، فقد أدى ارتفاع أسعار النفط إلى زيادة الناتج القومى الروسى وتقليل اعتمادها على المساعدات الغربية، وهو ما تمثل فى تحول روسيا لأول مرة لأن تكون فى المرتبة الأولى بين دول رابطة الدول المستقلة فى ترتيب التنمية البشرية، طبقا لإحصاءات تقرير التنمية البشرية السنوى سنة 2006 الجديد هنا هو أن بوتين حاول المزج بين التوجهين الأورو ـ أطلنطى والأوراسى الجديد فى سبيكة سياسية جديدة تحقق لروسيا المكانة الدولية، وتنوع البدائل من ناحية، دون أن يعنى ذلك الصدام مع الولايات المتحدة أو أوروبا.

ويمكن إبراز أهم ملامح التوجه الجديد فى السياسة الروسية الخارجية فيما يلى:
1ـ العمل على بناء القوة الذاتية الروسية بشكل مستقل عن النماذج الغربية الجاهزة، والنظر إلى تلك القوة وحدها على أنها المحدد لوضع روسيا فى السياسة الدولية، بخلاف الافتراض الفلسفى التقليدى للتوجه الأورو ـ أطلنطى وقد عبر بوتين عن ذلك فى خطابه أمام البرلمان الروسى فى مايو سنة 2005 بقوله إن روسيا دولة تصون قيمها الخاصة وتحميها، وتلتزم بميراثها وطريقها الخاص للديمقراطية وأضاف أنه "لن يتحدد وضعنا فى العالم الحديث إلا بمقدار نجاحنا وقوتنا" كما أن روسيا لن تتسامح مع أى محاولة لتغيير الحكم بالصورة التى حدثت فى جمهوريات سوفيتية أخرى (مثل جورجيا وأوكرانيا) وفى خطابه فى 26 يوليو سنة 2007، أكد بوتين أن مهمة روسيا هى أن تتصدر ترتيب دول العالم فى مجال التكنولوجيا المعلوماتية بحلول سنة 2015 وفى هذا الإطار، بدأت روسيا فى تحجيم نفوذ المافيا الرأسمالية الروسية الجديدة، وتمثل ذلك فى محاكمة المليونير خوردوكوفسكى، الذى كان أحد حلفاء الرئيس السابق يلتسين وفى هذا السياق، رفضت روسيا التعليقات الأمريكية على التطور الديمقراطى فى روسيا، وجاء ذلك بمناسبة إشارة نائب الرئيس الأمريكى تشينى إلى تراجع الديمقراطية فى روسيا أثناء زيارته إلى ليتوانيا فى مايو سنة 2006 فقد رد بوتين بقوله "إن الولايات المتحدة مثل الرفيق الذئب يأكل ولا يسمع لأحد، وليس لديه نية للاستماع إلى أحد كيف يختفى كل الكلام المبالغ فيه عن الدفاع عن حقوق الإنسان والديمقراطية حين يتعلق الأمر بالدفاع عن مصالحه الخاصة، حينها يصبح كل شئ ممكنا، ولا تعود هناك حدود".

كاتب صحفي
08-02-2016, 04:17 PM
2ـ معارضة الغزو الأمريكى للعراق سنة 2003 بدون ترخيص من مجلس الأمن وفى هذا الميدان، نسقت روسيا سياستها مع ما بدا لها أنه معارضة ألمانية ـ فرنسية للسياسة الأمريكية وبعد اكتمال الغزو، طالب بوتين بأن تستكمل لجان التفتيش على أسلحة الدمار الشامل أعمالها وتعلن نتائج جهودها، وهو ما أصرت الولايات المتحدة على رفضه، وذلك بإصرارها على إنهاء عمل تلك اللجان.
3ـ انتقد الرئيس بوتين السياسة الأمريكية الأحادية والانفرادية، وطالب بإنشاء نظام عالمى ديمقراطى أى متعدد الأقطاب وبتقوية دور القانون الدولى، وذلك فى مقابلة صحفية له فى يناير سنة 2007 وفى خطابه أمام مؤتمر ميونخ للسياسات الأمنية فى فبراير سنة 2007، انتقد "الهيمنة الاحتكارية" الأمريكية على السياسة الدولية وميل الولايات المتحدة إلى الاستعمال المفرط للقوة العسكرية فى تلك السياسة وأضاف أنه فى ظل تلك الظروف، فإن أحدا لا يشعر بالأمن، مما يغذى من سباق التسلح وقدم بوتين مبادرات لحظر نشر أسلحة الدمار الشامل فى الفضاء الخارجى، وإنشاء مراكز دولية لتخصيب اليورانيوم وفى مناسبة الانتصار السوفيتى فى ستالينجراد على النازية أشار بوتين إلى أن الأخطار التى شكلتها النازية لم تختف، وإنما اتخذت أشكالا جديدة "فأفكار الرايخ الثالث التى تتسم باحتقار البشر، والسعى للهيمنة على العالم مازالت قائمة"، مما كان يعد إشارة إلى أن الخطر الأمريكى يعادل الخطر النازى وفى خطابه أمام البرلمان الروسى فى مايو سنة 2006، أشار إلى أن ميزانية التسلح الأمريكية تفوق ميزانية التسلح الروسية بخمسة وعشرين مثلا، وبالتالى فإنه على روسيا أن تبنى حصنها، وأشار إلى أن سباق التسلح وصل إلى مستوى تكنولوجى جديد.
4ـ عارض بوتين إنشاء الولايات المتحدة للدرع الصاروخية والمحطة الرادارية فى بولندا وجمهورية التشيك، حيث اعتبر أن الدرع والمحطة ليستا موجهتين ضد إيران، وإنما ضد روسيا ذاتها وردا على المشروع الأمريكى، أعلن فى خطابه السنوى أمام الجمعية الاتحادية الروسية فى 26 أبريل سنة 2007 عزم روسيا تجميد عضويتها فى معاهدة الأسلحة التقليدية فى أوروبا سنة 1999
(وكان يلتسين قد فعل ذلك بالنسبة لاتفاقية 1990 وتراجع عنه)، حتى تقوم دول حلف الأطلنطى بالتصديق عليها وتطبيقها، مشيرا إلى أن روسيا تفعل ذلك من طرف واحد كما أن الدول الجديدة فى حلف الأطلنطى لم توقع الاتفاقية، مما يهدد الأمن القومى الروسى وفى 13 يوليو سنة 2007، وقع بوتين قانونا ينص على أن ظروفا استثنائية تحتم تجميد تطبيق الاتفاقية ومن الجدير بالذكر أن دول حلف الأطلنطى لم تصدق على الاتفاقية، واشترطت أن تسحب روسيا قواتها الموجودة فى ابخازيا (جورجيا)، والدنيستر (مولدوفيا) للتصديق على المعاهدة وفى الوقت الراهن، تعد الدرع الصاروخية الأمريكية، واتفاقية القوات التقليدية فى أوروبا أهم معضلتين فى علاقات روسيا بحلف الأطلنطى وفى تطور مفاجئ، اقترح بوتين فى 7 يونيو سنة 2007 على الولايات المتحدة المشاركة فى استعمال الرادار الروسى الموجود فى جابالا فى أذربيجان منذ العهد السوفيتى، مما يعنى أن الولايات المتحدة لن تكون بحاجة إلى بناء صواريخ اعتراضية فى بولندا مع فتح الباب أمام مشاركة دول أوروبية أخرى فى المشروع والهدف من الاقتراح هو اختبار النوايا الأمريكية فإذا كان الهدف الأمريكى هو رصد واعتراض الصواريخ الإيرانية، فإن ذلك سيتم بشكل مشترك من أذربيجان أما إذا كانت روسيا ذاتها مستهدفة، فإن الولايات المتحدة سترفض الاقتراح وقد رد بوش على الاقتراح الروسى بما يشبه الرفض، حينما قال إن الاقتراح "واقعى ومبتكر واستراتيجى، ولكن بولندا وجمهورية التشيك هما جزء لا يتجزأ من المنظومة الصاروخية".
5ـ فى يوليو سنة 2007، دخلت روسيا فى منافسة مع الولايات المتحدة لتأكيد حقوق السيادة على الموارد النفطية فى أقصى شمالى المحيط المتجمد الشمالى ففى هذا الشهر، أرسلت الولايات المتحدة بعثة علمية إلى ذلك المنطقة لبحث ما سمته "الفوهات المائية الحرارية" فى المنطقة وقد شككت روسيا فى هذا الهدف وأرسلت بعثة أكبر إلى المنطقة بدعوى تعيين حدود الجرف القارى الروسى وإثبات أنه يتصل بالأراضى الروسية وقامت البعثة الروسية بوضع العلم الروسى فى أماكن متعددة من المنطقة لإثبات سيادة روسيا عليها، وهو ما أدى إلى احتجاج أمريكى وإذا تبين وجود حقول نفط وغاز طبيعى فى تلك المنطقة، فانه من المؤكد أن يؤدى إلى تصعيد فى التوتر بين روسيا والولايات المتحدة.

6ـ سعت روسيا إلى تقليص النفوذ الأمريكى فى آسيا الوسطى، وطالبت الولايات المتحدة بسحب قواعدها العسكرية فى أوزبكستان وقيرغيزستان، وبالفعل نجحت من خلال علاقاتها الجديدة مع أوزبكستان فى إنهاء الوجود العسكرى الأمريكى فى تلك الدول.
7ـ سعت روسيا إلى بناء مشاركة استراتيجية مؤسسية مع الصين فى إطار منظمة شنغهاى للتعاون، والتى تضم دول آسيا الوسطى عدا تركمانستان، وشمل ذلك مشاركة نفطية لمد خطوط نقل النفط الروسى مع سيبيريا إلى الصين، مع السعى إلى إعطاء المنظمة بعدا عسكريا ففى أغسطس سنة 2007، أعلن الجنرال بالويفسكى، رئيس الأركان الروسى، ضرورة أن يتم استكمال التعاون الاقتصادى بين الدول الأعضاء فى منظمة شنغهاى للتعاون بتنسيق عسكرى يشمل بلورة عقيدة عسكرية مشتركة، وهو الأمر الذى تتحفظ عليه الصين.
8ـ سعت روسيا إلى إعادة تقوية علاقاتها مع دول كومنولث (رابطة) الدول المستقلة، من خلال عدة أساليب، بما فيها الدبلوماسية "القسرية"، خاصة لدى الدول ذات التوجه الأمريكى فى سياستها الخارجية، وعلى الأخص جورجيا فقد نجحت فى إعادة دول آسيا الوسطى إلى حظيرة النفوذ الروسى من خلال دعم نظمها ضد الحركات السياسية الإسلامية المحلية المعارضة، وضغطت على جورجيا تحت حكم ساكاشفيلى ذى التوجه الأمريكى، من خلال دعم الحركة الانفصالية فى أبخازيا، وطرد الجورجيين المقيمين فى روسيا، ووقف الواردات من جورجيا، والإقلال من مد جورجيا بالنفط والغاز الطبيعى، هذا بالإضافة إلى مشروعات التكامل مع بعض دول الكومنولث مثل بيلاروسيا من ناحية أخرى، قامت روسيا بتقوية علاقاتها المؤسسية الأمنية والاقتصادية بدول الكومنولث ففى 7 يوليو سنة 2002، تم إنشاء منظمة معاهدة الأمن الجماعى بموجب ـ ميثاق كيشناو، وتضم روسيا، ومولدوفيا، وأوزبكستان وأرمينيا، وكازاخستان، وقيرغيزستان، وطاجيكستان، وأذربيجان وكان قد تم إنشاء "الجماعة الاقتصادية الأوراسية" فى 10 أكتوبر سنة 2000، وتضم روسيا، وبيلاروسيا، وكازاخستان، وطاجيكستان، وأوزبكستان، وقيرغيزستان، ولكل من المنظمة والجماعة أمانة عامة فى موسكو بيد أن تجارة روسيا مع دول الكومنولث تتراجع باطراد ووصلت إلى نحو 20% فقط من التجارة الخارجية الروسية، مقابل 52% مع الدول الغربية.
9ـ سعت روسيا إلى الاضطلاع بدور أقوى فى منطقة الشرق الأوسط، وتحول بوتين من سياسة الحياد السلبى إزاء قضايا المنطقة إلى سياسة المبادرات وتمثل ذلك فى زيارة بوتين للشرق الأوسط فى فبراير سنة 2007، زار خلالها السعودية، وقطر، والأردن، وأعلن من خلالها أن غزو العراق هو "نموذج للتصرفات الأمريكية الفردية التى تزيد الأمور سوءا" - ودعا إلى عقد مؤتمر إقليمى موسع للشرق الأوسط فى إشارة إلى اشتراك سوريا وإيران فى حل مشكلات المنطقة.
قلنا إن روسيا أجرت تلك التحولات دون أن تدخل فى صدامات حادة مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى وقد أشار بوتين إلى أنه يسعى إلى تحقيق سياساته الجديدة من خلال الحوار القائم على المساواة بين كل الأطراف والمصالح كما أنه حين اقترح المشاركة مع الولايات المتحدة فى القاعدة الرادارية فى أذربيجان، اقترح مشاركة أوروبا أيضا كما أن أزمة الطرد المتبادل للدبلوماسيين بين روسيا وبريطانيا فى يوليو سنة 2007 لم تتصاعد إلى حد المواجهة السياسية بين الدولتين كما استمرت روسيا فى المشاركة فى أعمال قمة الدول الصناعية الثمانى، بل ورأست المجموعة سنة 2006 ونسقت أعمالها كذلك، استطاعت روسيا أن تنشئ مشاركة فى مجال النفط والغاز الطبيعى مع دول الاتحاد الأوروبى، وذلك من خلال مد أنابيب نقل السلعتين إلى دول الاتحاد، بالإضافة إلى خط مستقل مع ألمانيا واتفق الطرفان على حق روسيا فى شراء الشركات الأوروبية العاملة فى ميدان توزيع النفط والغاز الطبيعى، مقابل حق مماثل للاتحاد الأوروبى فى الشركات الروسية العاملة فى ميدان إنتاج النفط كذلك، فإن روسيا لم تستعمل حق النقض فى مجلس الأمن ضد مشروعات القرارات الأمريكية المدعومة أوروبيا إلا فى حالة ثانوية واحدة، هى حالة مشروع القرار الأمريكى الخاص بحقوق الإنسان فى ميانمار، إذ بررت روسيا اعتراضها على أساس أن الموقف فى ميانمار لا يشكل تهديدا للسلم والأمن الدوليين، بينما اكتفت بالامتناع عن التصويت عن مشروع القرار الخاص بتشكيل محكمة دولية جنائية لمحاكمة قتلة رئيس الوزراء اللبنانى الأسبق رفيق الحريرى، رغم انتقادها للمشروع، وقس على ذلك كل المشروعات الأخرى المدعومة أمريكيا وأخيرا، فقد أصدرت روسيا والولايات المتحدة فى 3 يوليو سنة 2007 إعلانا ينص على التعاون فى مجال الاستخدام السلمى للطاقة النووية بينهما ومع الدول النامية ولذلك، يبدو أن قول المؤرخة الأمريكية آن ابلباوم عن عودة أجواء الحرب الباردة، أو المؤرخ البريطانى هاستينجز عن أن بوتين هو الوريث الروحى لستالين أو تحذير وزير الدفاع الأمريكى جيتس من أن حربا باردة واحدة تكفى ـ هو من باب التحذير لروسيا من الخروج من عباءة التوجه الأورو ـ أطلنطى، أكثر منه من باب الوصف للتحولات فى السياسة الخارجية الروسية فروسيا تتحول نحو بناء عالم متعدد الأقطاب فى إطار بناء قوتها الذاتية وإعادة بناء محيطها الإقليمى، دون أن تدخل فى مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة. المعضلات الروسية فى مجال السياسة الخارجية:
تواجه روسيا عدة معضلات فى تنفيذ السياسة الخارجية الجديدة للرئيس بوتين لعل أولى تلك المعضلات هى المعضلة السكانية والاقتصادية وقد أشار بوتين فى خطابه فى مايو سنة 2006 أمام البرلمان إلى أن "أكبر مشكلة تواجه البلاد هى مشكلة تراجع عدد السكان"، مشيرا إلى أن عدد السكان البالغ 143 مليون نسمة يتراجع بمعدل 700 ألف نسمة سنويا وهذا التراجع هو مؤشر عام على نوعية الحياة فى روسيا، ومدى قدرتها على دعم سياسة خارجية نشيطة ويتضح ذلك إذا تذكرنا أنه ـ حسب إحصاءات سنة 2004 ـ بلغ الناتج القومى الروسى 1.4% من الناتج القومى الإجمالى العالمى، وهو الأمر الذى لا يدعم اقتصاديا دورا روسيا خارجيا نشيطا أما المعضلة الثانية، فهى المعضلة الأطلنطية، وبالتحديد توسع حلف الأطلنطى شرقا فى مناطق النفوذ الروسية التقليدية فقد ضم الحلف دول بحر البلطيق الثلاث التى كانت جزءا من الاتحاد السوفيتى، ويسعى لضم أوكرانيا، كما أنه يلعب أدوارا عسكرية فى المحيط الخارجى لروسيا، خاصة فى أفغانستان (الوجود العسكرى)، وبعض دول آسيا الوسطى (مشروع المشاركة من أجل السلام)، وفى بعض دول القوقاز، فيما يشبه إعادة تطبيق لاستراتيجية الاحتواء التى طبقتها الولايات المتحدة إبان الحرب الباردة.

كاتب صحفي
08-02-2016, 04:18 PM
ولكن من ناحية أخرى، فإن لروسيا والرئيس بواتين عدة عناصر قوة، أهمها التحسن الواضح فى الاقتصاد الروسى نتيجة ارتفاع أسعار النفط ويوضح تقرير التنمية البشرية لسنة 2006 أن روسيا قد أصبحت اعلى دول الكومنولث فى التنمية البشرية كذلك، فالتوجه الأورو ـ أطلنطى للرئيس بوتين يحظى بدعم الرأى العام الروسى إلى حد بعيد وفى استطلاع للرأى العام الروسى، عبر 52% من الروس عن رغبتهم فى عودة بوتين إلى رئاسة الدولة سنة 2012، أى بعد انتهاء رئاسته الحالية، وتولى آخر الرئاسة لفترة رئاسية واحدة وسيكون الاختبار الحقيقى للقوة الروسية خلال العامين القادمين مرتبطا بموضوعى استقلال كوسوفو، والدرع الصاروخية الأمريكية فهذان الموضوعان يمسان بشكل مباشر المصالح القومية الروسية، ذلك أن صربيا هى أقوى حليف تاريخى لروسيا فى البلقان بحكم التراث السلافى ـ الأرثوذكسى المشترك (روسيا القيصرية دخلت الحرب العالمية الأولى من أجل صربيا)، واستقلال كوسوفو عنها إنما يعنى ضربة كبرى، ليس للفكرة اليوجوسلافية (التى دمرت بالفعل)، ولكن للفكرة الصربية ذاتها فإذا صمدت روسيا أمام الضغوط الأوروبية ـ الأمريكية من أجل استقلال كوسوفو، فإن ذلك سيعنى عهدا جديدا فى السياسة الخارجية الروسية وإن لم تصمد، فإن ذلك سيكون بمثابة بداية عهد طويل من الركود فى الدور الخارجى الروسى كذلك، فإن رد فعل روسيا تجاه مشروع الدرع الصاروخية الأمريكية سيحدد ـ إلى حد كبير ـ مستقبل الدور الروسى فى السياسة الدولية.