كاتب صحفي
08-02-2016, 04:14 PM
التحولات الكبرى فى السياسة الخارجية الروسية
المصدر: السياسة الدولية
بقلم: محمد السيد سليم
لعل أهم معضلة خارجية واجهت روسيا، بعد تفكك الاتحاد السوفيتى فى ديسمبر سنة 1991، هى كيفية صياغة سياسة خارجية جديدة فى ظل حالة الانهيار الشامل لورثة الاتحاد من ناحية، وفى ظل النظام العالمى الجديد الذى تسيطر عليه الولايات المتحدة من ناحية أخرى فقد انهار الاتحاد السوفيتى، وتفككت مؤسساته، أو ـ على الأقل ـ دخلت فى حالة سيولة شاملة واختراق خارجى، وأصبح من المتعين بناء أجهزة صنع سياسة خارجية جديدة، وصياغة منظور جديد للتعامل الدولى الروسى، وذلك كله فى ظل الظروف والأزمة العامة التى شهدها المجتمع الروسى بسبب التفكك فقد تراجع الأداء الاقتصادى، وظهرت قوى سياسية جديدة فى المجتمع تطالب بالتحول نحو سياسات خارجية جديدة، وحدثت حالة شاملة من عدم الاستقرار السياسى، وتزايدت الحركات المطالبة بالانفصال ومن ثم واجهت روسيا مشكلة "إعادة هيكلة" السياسة الخارجية فى ظروف التفكك الشامل المحيط بها، والأزمة العامة من ناحية ثانية فقد ورثت روسيا التركة الدولية للاتحاد السوفيتى، بما فى ذلك مقعده فى مجلس الأمن وسفاراته فى الخارج، وورثت أيضا ترسانته النووية وأدوات نقلها (الصواريخ عابرة القارات) ومن هنا، جاءت المعضلة الثانية، وهى كيف يمكن صياغة مركز دولى جديد لروسيا يتفق مع مقدرتها العسكرية، ويعترف بضعف اقتصادها، وبأنها قد هزمت فى الحرب الباردة كيف يمكن التوفيق بين مقتضيات عظمة روسيا كقوة كبرى، والالتزامات الضخمة لتلك العظمة، والتى لا تستطيع روسيا الوفاء بها؟ من ناحية ثالثة، فقد تزامن مع استقلال روسيا صعود قوى دولية جديدة، كالاتحاد الأوروبى، الذى تكون بموجب معاهدة ماستريخت التى وقعت فى الشهر نفسه الذى انهار فيه الاتحاد السوفيتى، والصين، التى حققت معدلات للنمو بلغت 12% فى المتوسط فى التسعينيات، بالإضافة إلى النمور الآسيوية وبالتالى، أصبح من المتعين على روسيا أن تصوغ سياسات خارجية للتعامل مع القوى الصاعدة الجديدة.
توجهان فى السياسة الخارجية الروسية:
أورو ـ أطلنطى، وأوراسى جديد:
شهدت روسيا منذ الاستقلال سنة 1991 إعادة انبعاث الجدل التاريخى حول هوية روسيا، هل هى دولة أوروبية أم دولة آسيوية؟ وهنا، ينبغى أن نذكر بالشعار الرسمى لروسيا القيصرية والذى كان يمثل نسرا ذا رأسين، واحد ينظر فى اتجاه الشرق (آسيا) والآخر فى اتجاه الغرب (أوروبا).
وقد شهدت روسيا بعد الاستقلال إعادة انبعاث الهويتين فى سياستها الخارجية فقد تراوحت السياسة الخارجية الروسية منذ سنة ـ 1991 بين توجهين أساسيين،
أولهما: توجه أوروبى ـ أطلنطى Euro ـ Atlantic، والثانى "أوراسى جديد".
New Eurasian إلى الحد الذى يمكن فيه تلخيص السياسة الخارجية الروسية فى التقلب بين التوجهين ولكل من التوجهين افتراضاته، ومقولاته، وسياساته ومناصروه فى النخبة السياسية الروسية فالتوجه الأول، الذى سيطر على السياسة الخارجية الروسية منذ نهاية سنة 1991 وحتى نهاية سنة 1995 فى ظل وزير الخارجية آنذاك كوزيريف، انطلق من أهمية اندماج روسيا مع الحضارة الغربية، وبالتحديد مع التكتل المتمثل فى مجموعة دول حلف الأطلنطى، باعتبار أن هذا الاندماج هو وحده الطريق لتمكين روسيا من النهوض اقتصاديا روسيا، كما يرى أنصار هذا التوجه، يجب أن تنطلق بأسرع قوة فى طريق "الاندماج غير المشروط" مع العالم الأوروبى ـ الأطلنطى، لأنه وحده العالم القادر على إخراج روسيا من محنتها، كما أن مثل هذا الاندماج من شأنه إضعاف احتمالات عودة الشيوعية إلى روسيا من ناحية ثانية، انطلق هذا التوجه من مقولة الاعتراف بأن روسيا قد أصبحت قوة دولية "عادية"، أى أنها إحدى القوى الكبرى فى النظام العالمى، وليست أحد ركنى هذا النظام ويتطلب ذلك تخلى روسيا عن تطلعات العظمة والهيمنة، وأن تتبع سياسة تتفق مع هذا الواقع الجديد من ناحية ثالثة، أكد أنصار هذا التوجه أهمية عدم لجوء روسيا إلى استعمال القوة أو التهديد باستعمال القوة فى العلاقات الدولية، حتى ولو كان الأمر متعلقا بحماية الأقليات الروسية فى الدول الجديدة التى انفصلت عن الاتحاد السوفيتى وأخيرا، فقد أكد أنصار التوجه الأوروبى ـ الأطلنطى أن سياسة روسيا الخارجية ينبغى أن تكون سياسة مصلحية، أى "غير أيديولوجية"، لأن روسيا لم يعد لها أعداء فى النظام العالمى ولا أيديولوجية مسيطرة على نظامها السياسى.
فى إطار هذا التوجه، الذى قاده يلتسين ووزير خارجيته كوزيريف، ركزت روسيا على الاتجاه غربا، واتباع سياسة الحد الأدنى من التفاعل مع باقى دول كومنولث الدول المستقلة إلا بما يحفظ مصالح روسيا الحيوية كذلك، ركزت روسيا على التحالف مع الولايات المتحدة من منطلق القبول بالمنظور الأمريكى للعلاقات الدولية، وإعطاء التنازلات من طرف واحد وقد كان أول تطبيق لهذا التوجه هو زيارة يلتسين للولايات المتحدة فى فبراير سنة 1992 ففى تلك الزيارة، أشار يلتسين إلى أن روسيا تسعى لبناء "سياسة خارجية غير أيديولوجية"، وأنها ستبذل قصارى جهدها ـ للتعاون مع الغرب لإعادة بناء روسيا، وعرض على الولايات المتحدة بناء درع عالمية ضد الصواريخ تحمى "العالم الحر" وتعتمد على تكنولوجيا أمريكية ـ روسية وأكد يلتسين أن روسيا لن تصوب صواريخها النووية صوب المدن والقواعد العسكرية الأمريكية "فأمريكا لم تعد عدوا محتملا لروسيا، بعد أن تغيرت العقيدة العسكرية الروسية" وقد جسد يلتسين هذا كله فى "وثيقة التعاون الأمريكى ـ الروسى" التى وقعت فى كامب ديفيد فى فبراير سنة 1992 بين الرئيس الأمريكى بوش، والرئيس الروسى يلتسين فقد أتت الوثيقة على أسس التحالف بين الدولتين، والذى ارتكز على ستة جوانب: (1) تعتبر الولايات المتحدة وروسيا أن العلاقات بينهما لم تعد علاقات الخصوم أو الأعداء المتنافسين، وإنما علاقات صداقة ومشاركة قائمة على الثقة المتبادلة والاحترام والالتزام المشترك بالديمقراطية، والحرية الكاملة (2) ستعمل الدولتان على إزالة آثار العدوان الذى ترتب على حالة العداء الذى كان قائما بينهما، واتخاذ الإجراءات الضرورية لخفض ترسانة الأسلحة الاستراتيجية (3) سوف تعمل الدولتان على توفير سعادة ورفاهية الشعبين، ودعم الروابط بينهما قدر الإمكان، وعلى أساس الانفتاح والتفاهم (4) سوف تعمل الدولتان معا على أسس حرية التجارة، والاستثمار، والتعاون الاقتصادى (5) سوف نبذل كل جهد لكى نزيد من فاعلية القيم الديمقراطية وحكم القانون واحترام حقوق الإنسان، والأقليات، والحدود (6) سوف نعمل معا على أساس (أ) منع انتشار أسلحة الدمار الشامل، ومنع انتشار الأسلحة الاستراتيجية المتقدمة، (ب) إنهاء الصراعات الإقليمية سلميا، (ج) مواجهة الإرهاب وانتشار المخدرات والمحافظة على البيئة وأضافت وثيقة كامب ديفيد أنه اعتبارا من تاريخ توقيعها، سوف تعمل الدولتان على إنهاء الصراع والخلاف من خلال "صداقة مشتركة وتحالف جديد بين شركاء يعملون معا لمواجهة الأخطار المشتركة التى نواجهها".
سيطر هذا التوجه على سياسة روسيا الخارجية بعد ديسمبر سنة 1991 وتطبيقا له، سعت روسيا إلى طمأنة الغرب إلى نياتها من خلال سياسة تقديم التنازلات المنفردة والنزع المنفرد للسلاح، والتعاون العسكرى مع الغرب وقد تمثل ذلك فى المناورات المشتركة للأسطوليين الأمريكى والروسى فى البحر المتوسط فى فبراير سنة 1992، وفى رصد الولايات المتحدة 400 مليون دولار لمساعدة روسيا وباقى دول الكومنولث على تدمير أو تخفيض ترسانتها النووية، بناء على طلب روسيا هذا، فى الوقت الذى لم تلتزم فيه الولايات المتحدة بالالتزامات ذاتها كذلك، وافقت روسيا على فرض العقوبات على يوجوسلافيا، والعراق، وليبيا الأهم من ذلك أن روسيا اقترحت على الولايات المتحدة فى أبريل سنة 1993 المشاركة فى نظام الدفاع الصاروخى المسمى TRUST، وهو المشروع الذى ينهض على فكرة إطلاق أشعة البلازمويد على المنطقة الفضائية المحيطة بالصواريخ المهاجمة، بحيث يتم إخراجها عن مسارها وتدميرها فى الفضاء الخارجى قبل وصولها إلى أهدافها ومع نهاية سنة 1992، بدأت تظهر متغيرات جديدة حدت بروسيا إلى التفكير فى توجه جديد لسياستها الخارجية هذه المتغيرات هى:
1ـ بدأ الرئيس يلتسين يواجه معارضة سياسية قوية لتوجهه الأوروبى ـ الأطلنطى، تمثلت فى معارضة الحزب الشيوعى الروسى والأحزاب القومية فقد انتقدت هذه الأحزاب سياسة يلتسين الخارجية لأنها أضعفت مكانة روسيا، وطالبت باتباع سياسة جديدة قوامها إعادة هيمنة روسيا على الدول التى استقلت عن الاتحاد السوفيتى وحماية الروس المقيمين فى تلك الدول، مع اتباع سياسة استقلالية عن الولايات المتحدة، العدو الأول لروسيا فى نظرهم كذلك، واجه يلتسين معارضة من أحزاب الوسط فقد طالبت تلك الأحزاب باتباع سياسة متوازنة تأخذ فى اعتبارها مصالح روسيا فى "الشرق" (وهو يشمل آسيا الوسطى، والصين، والشرق الأوسط)، وتقوية علاقات روسيا مع الدول التى استقلت عن الاتحاد السوفيتى، والتى اصطلح على تسميتها باسم "الخارج القريب" Near Abroad فى الأدبيات الروسية.
2ـ إن روسيا بدأت تدرك أن هناك حدودا لمدى رغبة الغرب فى إدماجها فى حضارته ومساعدتها للخروج من أزمتها مع بداية سنة ـ 1993، بدأ يتضح وهم الاعتماد على الغرب للخروج من الأزمة.
المصدر: السياسة الدولية
بقلم: محمد السيد سليم
لعل أهم معضلة خارجية واجهت روسيا، بعد تفكك الاتحاد السوفيتى فى ديسمبر سنة 1991، هى كيفية صياغة سياسة خارجية جديدة فى ظل حالة الانهيار الشامل لورثة الاتحاد من ناحية، وفى ظل النظام العالمى الجديد الذى تسيطر عليه الولايات المتحدة من ناحية أخرى فقد انهار الاتحاد السوفيتى، وتفككت مؤسساته، أو ـ على الأقل ـ دخلت فى حالة سيولة شاملة واختراق خارجى، وأصبح من المتعين بناء أجهزة صنع سياسة خارجية جديدة، وصياغة منظور جديد للتعامل الدولى الروسى، وذلك كله فى ظل الظروف والأزمة العامة التى شهدها المجتمع الروسى بسبب التفكك فقد تراجع الأداء الاقتصادى، وظهرت قوى سياسية جديدة فى المجتمع تطالب بالتحول نحو سياسات خارجية جديدة، وحدثت حالة شاملة من عدم الاستقرار السياسى، وتزايدت الحركات المطالبة بالانفصال ومن ثم واجهت روسيا مشكلة "إعادة هيكلة" السياسة الخارجية فى ظروف التفكك الشامل المحيط بها، والأزمة العامة من ناحية ثانية فقد ورثت روسيا التركة الدولية للاتحاد السوفيتى، بما فى ذلك مقعده فى مجلس الأمن وسفاراته فى الخارج، وورثت أيضا ترسانته النووية وأدوات نقلها (الصواريخ عابرة القارات) ومن هنا، جاءت المعضلة الثانية، وهى كيف يمكن صياغة مركز دولى جديد لروسيا يتفق مع مقدرتها العسكرية، ويعترف بضعف اقتصادها، وبأنها قد هزمت فى الحرب الباردة كيف يمكن التوفيق بين مقتضيات عظمة روسيا كقوة كبرى، والالتزامات الضخمة لتلك العظمة، والتى لا تستطيع روسيا الوفاء بها؟ من ناحية ثالثة، فقد تزامن مع استقلال روسيا صعود قوى دولية جديدة، كالاتحاد الأوروبى، الذى تكون بموجب معاهدة ماستريخت التى وقعت فى الشهر نفسه الذى انهار فيه الاتحاد السوفيتى، والصين، التى حققت معدلات للنمو بلغت 12% فى المتوسط فى التسعينيات، بالإضافة إلى النمور الآسيوية وبالتالى، أصبح من المتعين على روسيا أن تصوغ سياسات خارجية للتعامل مع القوى الصاعدة الجديدة.
توجهان فى السياسة الخارجية الروسية:
أورو ـ أطلنطى، وأوراسى جديد:
شهدت روسيا منذ الاستقلال سنة 1991 إعادة انبعاث الجدل التاريخى حول هوية روسيا، هل هى دولة أوروبية أم دولة آسيوية؟ وهنا، ينبغى أن نذكر بالشعار الرسمى لروسيا القيصرية والذى كان يمثل نسرا ذا رأسين، واحد ينظر فى اتجاه الشرق (آسيا) والآخر فى اتجاه الغرب (أوروبا).
وقد شهدت روسيا بعد الاستقلال إعادة انبعاث الهويتين فى سياستها الخارجية فقد تراوحت السياسة الخارجية الروسية منذ سنة ـ 1991 بين توجهين أساسيين،
أولهما: توجه أوروبى ـ أطلنطى Euro ـ Atlantic، والثانى "أوراسى جديد".
New Eurasian إلى الحد الذى يمكن فيه تلخيص السياسة الخارجية الروسية فى التقلب بين التوجهين ولكل من التوجهين افتراضاته، ومقولاته، وسياساته ومناصروه فى النخبة السياسية الروسية فالتوجه الأول، الذى سيطر على السياسة الخارجية الروسية منذ نهاية سنة 1991 وحتى نهاية سنة 1995 فى ظل وزير الخارجية آنذاك كوزيريف، انطلق من أهمية اندماج روسيا مع الحضارة الغربية، وبالتحديد مع التكتل المتمثل فى مجموعة دول حلف الأطلنطى، باعتبار أن هذا الاندماج هو وحده الطريق لتمكين روسيا من النهوض اقتصاديا روسيا، كما يرى أنصار هذا التوجه، يجب أن تنطلق بأسرع قوة فى طريق "الاندماج غير المشروط" مع العالم الأوروبى ـ الأطلنطى، لأنه وحده العالم القادر على إخراج روسيا من محنتها، كما أن مثل هذا الاندماج من شأنه إضعاف احتمالات عودة الشيوعية إلى روسيا من ناحية ثانية، انطلق هذا التوجه من مقولة الاعتراف بأن روسيا قد أصبحت قوة دولية "عادية"، أى أنها إحدى القوى الكبرى فى النظام العالمى، وليست أحد ركنى هذا النظام ويتطلب ذلك تخلى روسيا عن تطلعات العظمة والهيمنة، وأن تتبع سياسة تتفق مع هذا الواقع الجديد من ناحية ثالثة، أكد أنصار هذا التوجه أهمية عدم لجوء روسيا إلى استعمال القوة أو التهديد باستعمال القوة فى العلاقات الدولية، حتى ولو كان الأمر متعلقا بحماية الأقليات الروسية فى الدول الجديدة التى انفصلت عن الاتحاد السوفيتى وأخيرا، فقد أكد أنصار التوجه الأوروبى ـ الأطلنطى أن سياسة روسيا الخارجية ينبغى أن تكون سياسة مصلحية، أى "غير أيديولوجية"، لأن روسيا لم يعد لها أعداء فى النظام العالمى ولا أيديولوجية مسيطرة على نظامها السياسى.
فى إطار هذا التوجه، الذى قاده يلتسين ووزير خارجيته كوزيريف، ركزت روسيا على الاتجاه غربا، واتباع سياسة الحد الأدنى من التفاعل مع باقى دول كومنولث الدول المستقلة إلا بما يحفظ مصالح روسيا الحيوية كذلك، ركزت روسيا على التحالف مع الولايات المتحدة من منطلق القبول بالمنظور الأمريكى للعلاقات الدولية، وإعطاء التنازلات من طرف واحد وقد كان أول تطبيق لهذا التوجه هو زيارة يلتسين للولايات المتحدة فى فبراير سنة 1992 ففى تلك الزيارة، أشار يلتسين إلى أن روسيا تسعى لبناء "سياسة خارجية غير أيديولوجية"، وأنها ستبذل قصارى جهدها ـ للتعاون مع الغرب لإعادة بناء روسيا، وعرض على الولايات المتحدة بناء درع عالمية ضد الصواريخ تحمى "العالم الحر" وتعتمد على تكنولوجيا أمريكية ـ روسية وأكد يلتسين أن روسيا لن تصوب صواريخها النووية صوب المدن والقواعد العسكرية الأمريكية "فأمريكا لم تعد عدوا محتملا لروسيا، بعد أن تغيرت العقيدة العسكرية الروسية" وقد جسد يلتسين هذا كله فى "وثيقة التعاون الأمريكى ـ الروسى" التى وقعت فى كامب ديفيد فى فبراير سنة 1992 بين الرئيس الأمريكى بوش، والرئيس الروسى يلتسين فقد أتت الوثيقة على أسس التحالف بين الدولتين، والذى ارتكز على ستة جوانب: (1) تعتبر الولايات المتحدة وروسيا أن العلاقات بينهما لم تعد علاقات الخصوم أو الأعداء المتنافسين، وإنما علاقات صداقة ومشاركة قائمة على الثقة المتبادلة والاحترام والالتزام المشترك بالديمقراطية، والحرية الكاملة (2) ستعمل الدولتان على إزالة آثار العدوان الذى ترتب على حالة العداء الذى كان قائما بينهما، واتخاذ الإجراءات الضرورية لخفض ترسانة الأسلحة الاستراتيجية (3) سوف تعمل الدولتان على توفير سعادة ورفاهية الشعبين، ودعم الروابط بينهما قدر الإمكان، وعلى أساس الانفتاح والتفاهم (4) سوف تعمل الدولتان معا على أسس حرية التجارة، والاستثمار، والتعاون الاقتصادى (5) سوف نبذل كل جهد لكى نزيد من فاعلية القيم الديمقراطية وحكم القانون واحترام حقوق الإنسان، والأقليات، والحدود (6) سوف نعمل معا على أساس (أ) منع انتشار أسلحة الدمار الشامل، ومنع انتشار الأسلحة الاستراتيجية المتقدمة، (ب) إنهاء الصراعات الإقليمية سلميا، (ج) مواجهة الإرهاب وانتشار المخدرات والمحافظة على البيئة وأضافت وثيقة كامب ديفيد أنه اعتبارا من تاريخ توقيعها، سوف تعمل الدولتان على إنهاء الصراع والخلاف من خلال "صداقة مشتركة وتحالف جديد بين شركاء يعملون معا لمواجهة الأخطار المشتركة التى نواجهها".
سيطر هذا التوجه على سياسة روسيا الخارجية بعد ديسمبر سنة 1991 وتطبيقا له، سعت روسيا إلى طمأنة الغرب إلى نياتها من خلال سياسة تقديم التنازلات المنفردة والنزع المنفرد للسلاح، والتعاون العسكرى مع الغرب وقد تمثل ذلك فى المناورات المشتركة للأسطوليين الأمريكى والروسى فى البحر المتوسط فى فبراير سنة 1992، وفى رصد الولايات المتحدة 400 مليون دولار لمساعدة روسيا وباقى دول الكومنولث على تدمير أو تخفيض ترسانتها النووية، بناء على طلب روسيا هذا، فى الوقت الذى لم تلتزم فيه الولايات المتحدة بالالتزامات ذاتها كذلك، وافقت روسيا على فرض العقوبات على يوجوسلافيا، والعراق، وليبيا الأهم من ذلك أن روسيا اقترحت على الولايات المتحدة فى أبريل سنة 1993 المشاركة فى نظام الدفاع الصاروخى المسمى TRUST، وهو المشروع الذى ينهض على فكرة إطلاق أشعة البلازمويد على المنطقة الفضائية المحيطة بالصواريخ المهاجمة، بحيث يتم إخراجها عن مسارها وتدميرها فى الفضاء الخارجى قبل وصولها إلى أهدافها ومع نهاية سنة 1992، بدأت تظهر متغيرات جديدة حدت بروسيا إلى التفكير فى توجه جديد لسياستها الخارجية هذه المتغيرات هى:
1ـ بدأ الرئيس يلتسين يواجه معارضة سياسية قوية لتوجهه الأوروبى ـ الأطلنطى، تمثلت فى معارضة الحزب الشيوعى الروسى والأحزاب القومية فقد انتقدت هذه الأحزاب سياسة يلتسين الخارجية لأنها أضعفت مكانة روسيا، وطالبت باتباع سياسة جديدة قوامها إعادة هيمنة روسيا على الدول التى استقلت عن الاتحاد السوفيتى وحماية الروس المقيمين فى تلك الدول، مع اتباع سياسة استقلالية عن الولايات المتحدة، العدو الأول لروسيا فى نظرهم كذلك، واجه يلتسين معارضة من أحزاب الوسط فقد طالبت تلك الأحزاب باتباع سياسة متوازنة تأخذ فى اعتبارها مصالح روسيا فى "الشرق" (وهو يشمل آسيا الوسطى، والصين، والشرق الأوسط)، وتقوية علاقات روسيا مع الدول التى استقلت عن الاتحاد السوفيتى، والتى اصطلح على تسميتها باسم "الخارج القريب" Near Abroad فى الأدبيات الروسية.
2ـ إن روسيا بدأت تدرك أن هناك حدودا لمدى رغبة الغرب فى إدماجها فى حضارته ومساعدتها للخروج من أزمتها مع بداية سنة ـ 1993، بدأ يتضح وهم الاعتماد على الغرب للخروج من الأزمة.