أبو أسيد
28-01-2016, 05:30 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
فلسفة "العلمانيين العرب" في تعطيل العمل بالوحي الإلهي
(أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ)
يزعم العلمانيون العرب بأن العلمانية لا تخالف الإسلام، ولا يجرؤون على نبذ الدين صراحة بخلاف ما تقتضيه عقيدة فصل الدين عن الحياة؛ لأن نبذ الدين يستدعي مناقشة العلمانية، ويكشف الواقع الموضوعي والظروف السياسية والتاريخية التي اقتضت الطلاق بين ما هو ديني وما هو سياسي، ويقود إلى رفض الفكرة باعتبار أنها تختص بدين و"كتاب مقدس" ودولة دينية لا علاقة لها بكتاب المسلمين ودينهم ودولتهم. ولإخفاء حقيقة العلمانية سلك العلمانيون العرب طريق التوفيق بينها وبين الدين، وقدموها على أنها لا تناقض الإسلام بدعوى حرية الاعتقاد وذرائع مختلفة. ولإدراكهم بأن العقيدة الإسلامية عقيدة سياسية روحية يبرهن على اتصالها بشؤون الحياة نصوص قطعية يتعذر معها فصل الدين عن الدولة؛ ولإدراكهم أيضاً أن نصوص الوحي في الإسلام ليست كنصوص الوحي في باقي الأديان؛ لأنها محفوظة وثابتة بالدليل العقلي القاطع. كان لا بد لهم من الإقرار بوحي القرآن وتعطيل العمل به، والاعتراف بصحيح السنة _وفق معايير جديدة_ وحصرها في زمن التنزيل ومكانه، في حين ذهب فريق منهم إلى إنكار وحي السنة وإسقاط حجيتها ليصل إلى طمس معالم الإسلام السياسية وتكييف الدين مع العلمانية. وبصرف النظر إن كان ذلك خطة جهنمية محكمة أم فهماً منحرفاً، فإننا سنناقش فساد الأساس الذي انطلق منه هذا التصور والتصوير الخطير للعقيدة الإسلامية وأصولها.
العلمانية في الأصل؛ هي ترجمة لكلمة لاتينية تفيد ظرفاً زمنيا ويقابلها الروحانية في الاستعمال الديني الإكليركي. ثم أصبحت مصطلحاً للتمييز بين الزماني والروحاني كما يقول المفكر "تشارلز تايلر" في كتاب عصر العلمانية؛ أي أن هناك حياة زمنية وهي الدنيا وحياة روحية هي الآخرة، وكانت السلطة الزمنية تتمثل في الملوك بموجب نظام "الأبوة" وهو وراثة الملوك لحق آدم في رعاية الأبناء والشعب، بينما تتمثل السلطة الروحية في الكنيسة ورجال الدين بموجب "التفويض الإلهي" الذي اكتسبته الكنيسة من وصية المسيح بالرعاية الدينية لخليفته الروحي بطرس الرسول. وبعد الثورة الفرنسية التي قضت على تحالف الكنيسة والملوك، فصلوا الدين عن الدولة ونشأت سلطة زمنية "مدنية" لا دينية تدير شؤون الحياة وفق التفسير العلمي بدل التفسير الكتابي الذي فرضته الكنيسة في عصور الظلام. وهذا ما دعاهم إلى التمسك بنظرية "التطور" كعلّةٍ للخلق رغم افتقارها إلى لدليل العلمي؛ لأن البديل عنها هو قبول التفسير الكتابي ووصاية رجال الدين على الحياة. وقد نجم عن ذلك كله إعادة إنتاج أنظمة الحياة لإدامة تحكم طبقة الأغنياء في المجتمع عبر ديمقراطية زائفة تُقنّع إرادة الأغنياء بإرادة الشعب، وتُعطي الإنسان حق تقرير المصالح العامة والخاصة وإقصاء الدين عن هذا الشأن.
إذاً، فالعلمانية هي فكرة سياسية حلت محل التفسير الديني للوجود، لكن فراخ العلمانيين لم يفهموها بل يخالفونها عندما يقولون بأنها لا تفصل الدين عن الحياة وإنما تفصله عن الدولة والقوانين وتُقصي رجال الدين وليس الدين ذاته، ولم يدركوا بأن فكرة العلمانية تتمحور حول علاقة الدين بالحياة والدولة والمجتمع بصرف النظر عن تديّن الحاكم من عدمه أو تدين الشعب من عدمه، فأميركا يحكمها متدينون محافظون، والهند يحكمها متدينون هندوس، وإسرائيل يحكمها متدينون يهود، وألمانيا يحكمها الحزب "المسيحي" الدمقراطي، وتركيا ومصر وتونس وماليزيا حكمها متدينون مسلمون، والسعودية وإيران يحكمها زعماء باسم الإسلام، وكل تلك الدول علمانية تفصل الدين عن الحياة مع فارق بين نظام علماني مستبد ونظام ديمقراطي. وإذا أراد أن يفهم العلمانيون عقيدتهم، عليهم أن يعودوا إلى أقوال منظريها، حيث يبرز التصور العلماني للوجود في تشبيه "فولتير" لعلاقة الخالق بالحياة بقوله: "خلق الإله الكون مثل الساعة يرتب صانعها أجزاءها الدقيقة في هيئة خاصة ويحركها ثم تنقطع صلته بها". “ Voltaire”: “God had created the universe in just the same way as a watch-maker made a watch, assembling the parts, arranging them in a particular order,but afterwards having nothing to do with them.”. وفي قول جون لوك: "وإذا كان في مقدورنا تقرير مسألة ما بمثل هذه الملاحظة المباشرة، فإن معرفتنا تسمو على أي وحي مزعوم، لأنها أوضح وأكثر توكيداً من أي توكيد بأن هذا الوحي الذي نحن بصدده إلهي حقاً" John Locke: “When a matter can be decided by such direct observation, our knowledge is above any supposed revelation, for it is clearer than any certainty we can have that the revelation in question is really divine”. وكأنهم يقولون بأن "صانع الساعة" لا يريد من الناس أن يستعملوها وفق النظام الذي حدده هو، وصانع البوصلة لا يريد من الناس أن يستعملوها وفق قانونه في الاتجاه والمسير؛ لأن تصورهم للإله منبثق من تراثهم العقدي ونظرتهم للمسيح "الرب" بأنه بشر، ولإدراكهم بأن شريعة الكنيسة هي شريعة إلهية مفتراة وأن "الحق الإلهي" زعمٌ كاذب.
إن العلمانية لم تُبنَ على العقل في تفسيرها للوجود وإنما بُنيت على تفسير لواقع مجتمعي وديني متخلّفٍ قاد إلى إنكار الوحي المزعوم الذي مَثّلَ علاقة الخالق بالحياة، وأوجد نظاماً ثيوقراطياً متغوّلاً وفاسداً، ودعا المفكرين إلى فصل الدين عن الحياة، وهذا كله لا علاقة له بواقع العرب والمسلمين؛ لأن أسباب انحطاط المسلمين غير أسباب تخلف الغرب في عصور الظلام، فإذا كان الدين هو سبب تخلف الغرب في العصور الوسطى فإن الإسلام كان سبب نهضة المسلمين في نفس الحقبة التاريخية. وإذا كان لدى الغرب مبررات لنبذ الدين فلا مبرر للمسلمين لإقصاء دينهم لأنه سبب نهضتهم؛ ولأن غيابه سبب انحطاطهم. وبحسب العلمانية، ينبغي فصل كل دين ينطوي على أدنى علاقة بشؤون الحياة والدولة باعتبار أن تدخل الدين في السياسة هو توظيفٌ للمقدس في أعمال وغايات غير مقدسة وباعتبار أنه سبب لتمزق المجتمع وعائق للنهضة والتقدم، وهذه الرؤية التي دعا إليها فرح أنطون وأشياعه من العلمانيين العرب منبثقةٌ من الواقع الأوروبي في عصور الظلام. وبدل أن يربطوا التقدم العلمي بأسباب النهضة الإسلامية التي أحدثت حركة نبوغ في بلاد المسلمين وجعلت منهم دولة عظمى ربطوا التقدم بأسباب النهضة الأوروبية مستغلين التطور العلمي الغربي وتعطل الانتاج الفكري عند المسلمين لضعف اتصالهم بأدوات فهم الإسلام. إن محاولة التوفيق بين العلمانية والإسلام ترتكز على فكرة متناقضة وخبيثة، فهي _بخلاف العلمانية الغربية_ تُقر بحاكمية الله؛ لأن رفضها يناقض نصوصاً قطعية في الكتاب والسنة؛ لكنها تعطل العمل بالوحي بجعل الحاكمية محصورة في زمن معين وهو زمن البعثة النبوية. وبهذه الطريقة تقطع مع الوحي، وتُخرِجُ دعاتها من مأزق إنكار الوحي، وتؤدي إلى علمنة الإسلام دونما تصادم مع عقيدة المسلمين، وهذا يشبه ما حصل مع النصارى في التوفيق بين التوحيد والتثليث عندما تناقض التثليث مع نصوص التوحيد القطعية في "الكتاب المقدس" فجعلوا الثلاثة واحداً والواحد ثلاثة. لقد كان الأجدر بعلماء المسلمين في هذا العصر أن يردوا على العلمانيين العرب كفرح أنطون ومحمد أركون وعلى المستشرقين مثل: رينان، ومرغليون، وجولد تسيهر، وفون كريمر، الذين ينهل "المتنورون العرب" من أفكارهم للتشكيك في أصول الإسلام. ومثل: برنارد لويس الذي يتبنى المحافظون الجدد في الولايات المتحدة نظرته إلى الإسلام والمسلمين، وكان الأجدر بالعلماء مطلع القرن الماضي أن يفصلوا بين العلمانية والإسلام بدل أن يطوعوا مفاهيم الدين وأصوله لتوافق العلمانية. وأن يربأوا بأنفسهم أن يكونوا بالسذاجة التي تجعلهم يصدقون بأن غير العربي من المستشرقين يمكنه أن يحكم على العربية وغير المسلم منهم يحكم على أصول الإسلام. لقد تولى صياغة فلسفة التوفيق بين العلمانية والإسلام وتعطيل الوحي فريق من "حمائم" العلمانيين، وغلاة "القرآنيين"، وملخص فكرتهم هو الاقرار بالوحي وتعطيله بدل إنكاره؛ ليؤدي نفس النتيجة لإنكار الوحي وهي "نَصْرَنَة" الإسلام وفصله عن الحياة؛ أي جعل الإسلام ديناً روحياً منزوع السياسة، محصوراً بالعبادات كالنصرانية، وهو المقاس المناسب للعلمانية والمشاريع القومية. أما بشأن "حمائم" العلمانيين، فقد أسسوا فكرتهم على مقدمات خاطئة عن العقل والوحي لهدم قواعد المنظومة الفكرية الإسلامية "التقليدية" وبناء قواعد جديدة تمحو الحدود بين العلمانية والإسلام وتُذيب المفاهيم الإسلامية في بوتقة العلمانية. فيزعمون أن الوحي إنما نزل لملء فراغ معرفي في الزمن الذي اعتذر فيه العقل والتجربة عن تلبية الحاجة المعرفية. إذ الأصل _بحسب زعمهم_ هو أن الله خلق العقل _مسنوداً بالتجربة_ صانعاً أصيلاً للمعرفة، ومع قصور العقل والتجربة في الزمن الماضي عن تفسير الظواهر الكونية كان لا بد من نزول الوحي لتلبية الحاجة المعرفية للإنسان، وهو ما يجعل الوحي مصدراً معرفياً نسقياً وليس أصيلاً. وهذا يستوجب تعطيل الوحي حال تمكن العقل والتجربة من استعادة دورهما الذي كان يغطيه الوحي في غيابهما، لا سيما أن الوحي في تفسيره لبعض الحوادث لم ينتزع الخرافة وإنما أعاد إنتاجها. وهذه الفكرة تنطوي على اتهام للوحي بالخطأ الذي يترتب عليه تناقضٌ بين النص والعقل في زمن آخر. ثم أفضى هذا التسلسل المنطقي إلى جعل العقل والتجربة طريقاً منفردة للمعرفة وحاكماً على النصوص والقواعد والأحكام الشرعية وعلى اللغة العربية أيضاً. وترتب على ذلك نقض قاعدة "لا اجتهاد مع النص" التي ترسم الحدود بين الكفر والإسلام واستبدال قاعدة "لا نص مع العقل" بها، ونقض قاعدة "العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب" التي تُجسّر للشريعة وتُبقي مفاعيلها إلى آخر الزمان واستبدال قاعدة "العبرة بخصوص السبب أو المناسبة لا بعموم اللفظ أو المعنى" بها_طبقاً لدلالة الخصوص والعموم في المنهج التجريبي _ والتي تضع حداً لامتداد أحكام الإسلام إلى الحاضر. وعلى هذا النحو من التقديم لوظيفة الوحي وما ترتب عليه من تأصيل للمعرفة والقواعد الشرعية لم يحصل تجديد لفهم الدين وإنما حصل هدم لأصوله ومعاييره ومنظومته التشريعية. ولم يحصل إقصاء للدين عن الحياة فحسب بل حصل إقصاء لطريقة التفكير الصحيحة في تحصيل المعارف العقدية والشرعية على نحو يجعل بوصلة الفكر دائماً وأبداً في اتجاه الغرب.
فلسفة "العلمانيين العرب" في تعطيل العمل بالوحي الإلهي
(أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ)
يزعم العلمانيون العرب بأن العلمانية لا تخالف الإسلام، ولا يجرؤون على نبذ الدين صراحة بخلاف ما تقتضيه عقيدة فصل الدين عن الحياة؛ لأن نبذ الدين يستدعي مناقشة العلمانية، ويكشف الواقع الموضوعي والظروف السياسية والتاريخية التي اقتضت الطلاق بين ما هو ديني وما هو سياسي، ويقود إلى رفض الفكرة باعتبار أنها تختص بدين و"كتاب مقدس" ودولة دينية لا علاقة لها بكتاب المسلمين ودينهم ودولتهم. ولإخفاء حقيقة العلمانية سلك العلمانيون العرب طريق التوفيق بينها وبين الدين، وقدموها على أنها لا تناقض الإسلام بدعوى حرية الاعتقاد وذرائع مختلفة. ولإدراكهم بأن العقيدة الإسلامية عقيدة سياسية روحية يبرهن على اتصالها بشؤون الحياة نصوص قطعية يتعذر معها فصل الدين عن الدولة؛ ولإدراكهم أيضاً أن نصوص الوحي في الإسلام ليست كنصوص الوحي في باقي الأديان؛ لأنها محفوظة وثابتة بالدليل العقلي القاطع. كان لا بد لهم من الإقرار بوحي القرآن وتعطيل العمل به، والاعتراف بصحيح السنة _وفق معايير جديدة_ وحصرها في زمن التنزيل ومكانه، في حين ذهب فريق منهم إلى إنكار وحي السنة وإسقاط حجيتها ليصل إلى طمس معالم الإسلام السياسية وتكييف الدين مع العلمانية. وبصرف النظر إن كان ذلك خطة جهنمية محكمة أم فهماً منحرفاً، فإننا سنناقش فساد الأساس الذي انطلق منه هذا التصور والتصوير الخطير للعقيدة الإسلامية وأصولها.
العلمانية في الأصل؛ هي ترجمة لكلمة لاتينية تفيد ظرفاً زمنيا ويقابلها الروحانية في الاستعمال الديني الإكليركي. ثم أصبحت مصطلحاً للتمييز بين الزماني والروحاني كما يقول المفكر "تشارلز تايلر" في كتاب عصر العلمانية؛ أي أن هناك حياة زمنية وهي الدنيا وحياة روحية هي الآخرة، وكانت السلطة الزمنية تتمثل في الملوك بموجب نظام "الأبوة" وهو وراثة الملوك لحق آدم في رعاية الأبناء والشعب، بينما تتمثل السلطة الروحية في الكنيسة ورجال الدين بموجب "التفويض الإلهي" الذي اكتسبته الكنيسة من وصية المسيح بالرعاية الدينية لخليفته الروحي بطرس الرسول. وبعد الثورة الفرنسية التي قضت على تحالف الكنيسة والملوك، فصلوا الدين عن الدولة ونشأت سلطة زمنية "مدنية" لا دينية تدير شؤون الحياة وفق التفسير العلمي بدل التفسير الكتابي الذي فرضته الكنيسة في عصور الظلام. وهذا ما دعاهم إلى التمسك بنظرية "التطور" كعلّةٍ للخلق رغم افتقارها إلى لدليل العلمي؛ لأن البديل عنها هو قبول التفسير الكتابي ووصاية رجال الدين على الحياة. وقد نجم عن ذلك كله إعادة إنتاج أنظمة الحياة لإدامة تحكم طبقة الأغنياء في المجتمع عبر ديمقراطية زائفة تُقنّع إرادة الأغنياء بإرادة الشعب، وتُعطي الإنسان حق تقرير المصالح العامة والخاصة وإقصاء الدين عن هذا الشأن.
إذاً، فالعلمانية هي فكرة سياسية حلت محل التفسير الديني للوجود، لكن فراخ العلمانيين لم يفهموها بل يخالفونها عندما يقولون بأنها لا تفصل الدين عن الحياة وإنما تفصله عن الدولة والقوانين وتُقصي رجال الدين وليس الدين ذاته، ولم يدركوا بأن فكرة العلمانية تتمحور حول علاقة الدين بالحياة والدولة والمجتمع بصرف النظر عن تديّن الحاكم من عدمه أو تدين الشعب من عدمه، فأميركا يحكمها متدينون محافظون، والهند يحكمها متدينون هندوس، وإسرائيل يحكمها متدينون يهود، وألمانيا يحكمها الحزب "المسيحي" الدمقراطي، وتركيا ومصر وتونس وماليزيا حكمها متدينون مسلمون، والسعودية وإيران يحكمها زعماء باسم الإسلام، وكل تلك الدول علمانية تفصل الدين عن الحياة مع فارق بين نظام علماني مستبد ونظام ديمقراطي. وإذا أراد أن يفهم العلمانيون عقيدتهم، عليهم أن يعودوا إلى أقوال منظريها، حيث يبرز التصور العلماني للوجود في تشبيه "فولتير" لعلاقة الخالق بالحياة بقوله: "خلق الإله الكون مثل الساعة يرتب صانعها أجزاءها الدقيقة في هيئة خاصة ويحركها ثم تنقطع صلته بها". “ Voltaire”: “God had created the universe in just the same way as a watch-maker made a watch, assembling the parts, arranging them in a particular order,but afterwards having nothing to do with them.”. وفي قول جون لوك: "وإذا كان في مقدورنا تقرير مسألة ما بمثل هذه الملاحظة المباشرة، فإن معرفتنا تسمو على أي وحي مزعوم، لأنها أوضح وأكثر توكيداً من أي توكيد بأن هذا الوحي الذي نحن بصدده إلهي حقاً" John Locke: “When a matter can be decided by such direct observation, our knowledge is above any supposed revelation, for it is clearer than any certainty we can have that the revelation in question is really divine”. وكأنهم يقولون بأن "صانع الساعة" لا يريد من الناس أن يستعملوها وفق النظام الذي حدده هو، وصانع البوصلة لا يريد من الناس أن يستعملوها وفق قانونه في الاتجاه والمسير؛ لأن تصورهم للإله منبثق من تراثهم العقدي ونظرتهم للمسيح "الرب" بأنه بشر، ولإدراكهم بأن شريعة الكنيسة هي شريعة إلهية مفتراة وأن "الحق الإلهي" زعمٌ كاذب.
إن العلمانية لم تُبنَ على العقل في تفسيرها للوجود وإنما بُنيت على تفسير لواقع مجتمعي وديني متخلّفٍ قاد إلى إنكار الوحي المزعوم الذي مَثّلَ علاقة الخالق بالحياة، وأوجد نظاماً ثيوقراطياً متغوّلاً وفاسداً، ودعا المفكرين إلى فصل الدين عن الحياة، وهذا كله لا علاقة له بواقع العرب والمسلمين؛ لأن أسباب انحطاط المسلمين غير أسباب تخلف الغرب في عصور الظلام، فإذا كان الدين هو سبب تخلف الغرب في العصور الوسطى فإن الإسلام كان سبب نهضة المسلمين في نفس الحقبة التاريخية. وإذا كان لدى الغرب مبررات لنبذ الدين فلا مبرر للمسلمين لإقصاء دينهم لأنه سبب نهضتهم؛ ولأن غيابه سبب انحطاطهم. وبحسب العلمانية، ينبغي فصل كل دين ينطوي على أدنى علاقة بشؤون الحياة والدولة باعتبار أن تدخل الدين في السياسة هو توظيفٌ للمقدس في أعمال وغايات غير مقدسة وباعتبار أنه سبب لتمزق المجتمع وعائق للنهضة والتقدم، وهذه الرؤية التي دعا إليها فرح أنطون وأشياعه من العلمانيين العرب منبثقةٌ من الواقع الأوروبي في عصور الظلام. وبدل أن يربطوا التقدم العلمي بأسباب النهضة الإسلامية التي أحدثت حركة نبوغ في بلاد المسلمين وجعلت منهم دولة عظمى ربطوا التقدم بأسباب النهضة الأوروبية مستغلين التطور العلمي الغربي وتعطل الانتاج الفكري عند المسلمين لضعف اتصالهم بأدوات فهم الإسلام. إن محاولة التوفيق بين العلمانية والإسلام ترتكز على فكرة متناقضة وخبيثة، فهي _بخلاف العلمانية الغربية_ تُقر بحاكمية الله؛ لأن رفضها يناقض نصوصاً قطعية في الكتاب والسنة؛ لكنها تعطل العمل بالوحي بجعل الحاكمية محصورة في زمن معين وهو زمن البعثة النبوية. وبهذه الطريقة تقطع مع الوحي، وتُخرِجُ دعاتها من مأزق إنكار الوحي، وتؤدي إلى علمنة الإسلام دونما تصادم مع عقيدة المسلمين، وهذا يشبه ما حصل مع النصارى في التوفيق بين التوحيد والتثليث عندما تناقض التثليث مع نصوص التوحيد القطعية في "الكتاب المقدس" فجعلوا الثلاثة واحداً والواحد ثلاثة. لقد كان الأجدر بعلماء المسلمين في هذا العصر أن يردوا على العلمانيين العرب كفرح أنطون ومحمد أركون وعلى المستشرقين مثل: رينان، ومرغليون، وجولد تسيهر، وفون كريمر، الذين ينهل "المتنورون العرب" من أفكارهم للتشكيك في أصول الإسلام. ومثل: برنارد لويس الذي يتبنى المحافظون الجدد في الولايات المتحدة نظرته إلى الإسلام والمسلمين، وكان الأجدر بالعلماء مطلع القرن الماضي أن يفصلوا بين العلمانية والإسلام بدل أن يطوعوا مفاهيم الدين وأصوله لتوافق العلمانية. وأن يربأوا بأنفسهم أن يكونوا بالسذاجة التي تجعلهم يصدقون بأن غير العربي من المستشرقين يمكنه أن يحكم على العربية وغير المسلم منهم يحكم على أصول الإسلام. لقد تولى صياغة فلسفة التوفيق بين العلمانية والإسلام وتعطيل الوحي فريق من "حمائم" العلمانيين، وغلاة "القرآنيين"، وملخص فكرتهم هو الاقرار بالوحي وتعطيله بدل إنكاره؛ ليؤدي نفس النتيجة لإنكار الوحي وهي "نَصْرَنَة" الإسلام وفصله عن الحياة؛ أي جعل الإسلام ديناً روحياً منزوع السياسة، محصوراً بالعبادات كالنصرانية، وهو المقاس المناسب للعلمانية والمشاريع القومية. أما بشأن "حمائم" العلمانيين، فقد أسسوا فكرتهم على مقدمات خاطئة عن العقل والوحي لهدم قواعد المنظومة الفكرية الإسلامية "التقليدية" وبناء قواعد جديدة تمحو الحدود بين العلمانية والإسلام وتُذيب المفاهيم الإسلامية في بوتقة العلمانية. فيزعمون أن الوحي إنما نزل لملء فراغ معرفي في الزمن الذي اعتذر فيه العقل والتجربة عن تلبية الحاجة المعرفية. إذ الأصل _بحسب زعمهم_ هو أن الله خلق العقل _مسنوداً بالتجربة_ صانعاً أصيلاً للمعرفة، ومع قصور العقل والتجربة في الزمن الماضي عن تفسير الظواهر الكونية كان لا بد من نزول الوحي لتلبية الحاجة المعرفية للإنسان، وهو ما يجعل الوحي مصدراً معرفياً نسقياً وليس أصيلاً. وهذا يستوجب تعطيل الوحي حال تمكن العقل والتجربة من استعادة دورهما الذي كان يغطيه الوحي في غيابهما، لا سيما أن الوحي في تفسيره لبعض الحوادث لم ينتزع الخرافة وإنما أعاد إنتاجها. وهذه الفكرة تنطوي على اتهام للوحي بالخطأ الذي يترتب عليه تناقضٌ بين النص والعقل في زمن آخر. ثم أفضى هذا التسلسل المنطقي إلى جعل العقل والتجربة طريقاً منفردة للمعرفة وحاكماً على النصوص والقواعد والأحكام الشرعية وعلى اللغة العربية أيضاً. وترتب على ذلك نقض قاعدة "لا اجتهاد مع النص" التي ترسم الحدود بين الكفر والإسلام واستبدال قاعدة "لا نص مع العقل" بها، ونقض قاعدة "العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب" التي تُجسّر للشريعة وتُبقي مفاعيلها إلى آخر الزمان واستبدال قاعدة "العبرة بخصوص السبب أو المناسبة لا بعموم اللفظ أو المعنى" بها_طبقاً لدلالة الخصوص والعموم في المنهج التجريبي _ والتي تضع حداً لامتداد أحكام الإسلام إلى الحاضر. وعلى هذا النحو من التقديم لوظيفة الوحي وما ترتب عليه من تأصيل للمعرفة والقواعد الشرعية لم يحصل تجديد لفهم الدين وإنما حصل هدم لأصوله ومعاييره ومنظومته التشريعية. ولم يحصل إقصاء للدين عن الحياة فحسب بل حصل إقصاء لطريقة التفكير الصحيحة في تحصيل المعارف العقدية والشرعية على نحو يجعل بوصلة الفكر دائماً وأبداً في اتجاه الغرب.