أبو أسيد
21-05-2015, 02:13 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
من يقرر المصلحة .. الإنسان أم الله؟!
كثير من المسلمين يحكمون على الأحكام الشرعية بناءً على القناعة العقلية أو الميول والمشاعر كالحكم على تعدد الزوجات مثلا، وهذا تعدٍّ بل وقاحة على الله؛ لأن الحاكمية هي من خصائص الألوهية وليست من شأن العبد {ألا له الخلق والأمر}. وكثير من الناس يحكم على سلوك الآخرين من خلال قاعدته الفكرية المختلفة عن الآخر وهذا خطأ منهجي إذ لا يصح منهجياً أن يسأل المسلم المرأة غير المسلمة لماذا لا تلبسين الحجاب أو يسأل شارب الخمر غير المسلم لماذا تشرب الخمر؟ ولا يصح كذلك أن يُسأل المسلم من غير المسلم لماذا لا تسمحون ببناء كنيسة في مكة وغير ذلك مما يختص بشريعة المسلمين؛ لأن لكلٍّ قاعدته الفكرية التي يأخذ منها مفاهيمه ويضبط بها سلوكه، والأصل هو أن تُناقش القاعدة الفكرية التي تنبثق عنها المفاهيم من حيث صحتها وخطؤها فإذا كانت خاطئة فإن ما بني عليها باطل. ويُخطئ بعض المسلمين أيضاً في مناقشة الأنظمة غير الإسلامية من زاوية أنها تحقق مصلحة أم لا؟! لأن صعيد بحث الأنظمة والقوانين هو الحاكمية، ولأن المصلحة تُبحث على صعيد من له صلاحية تعيينها هل هو الإنسان أم الله. وهناك من يعتقد بوحدة الحقيقة باعتبار أن العقل السليم والشرع الصحيح لا يتناقضان وبالتالي فإن ما يُقرّه العقل لا يخالف الشرع ولا يتناقض معه، ومنهم من يقول بنسبية الحقيقة باعتبار أن لكل شيء ضده في هذه الحياة ولتفاوت الحس بين البشر، مع أن وجود الأضداد لا يعني تعدد الحقيقة أو نسبيتها وإنما يعني وجود حقائق مختلفة كالليل والنهار، وأما تفاوت الحس بين البشر فلا يغيّر من الواقع وإنما يُعدد الحكم عليه. وإذا أضفنا إلى هذه المسائل السائدة في المناخ الفكري للأمة التشكيك بما يُسمى "التراث" وأن النبوة هي مرحلة تاريخية وأن العلمانية والديمقراطية مسألة إجرائية حياتية لا تتعارض مع الأديان مع التركيز غير المسبوق على مسألة حرية العقيدة وعدم تعارضها مع الإسلام فإننا نخلص إلى نتيجة واحدة وهي ضرب مفهوم الحاكمية وجعل التشريع العقلي بديلاً عن التشريع الإلهي أو على الأقل جعل العقل شريكا مع الله في الحاكمية. وهذا يتطلب وضع الأمور في نصابها بشيء من التوضيح :
أولاً: إن وحدة الحقيقة هي أمر صحيح عندما يكون الفكر حكماً على واقع وليس عندما يكون معالجة لواقع. ففي حالة الحكم على الواقع فإن الحقيقة لا تتعدد لأنها مسألة حسية أو مرتكزة على الحس. فقولنا أن الله موجود هي حقيقة، والاختلاف حولها هو خلاف في الحكم على الواقع وليس لتعدد الواقع؛ فإما أن الله حقيقة وإما عدم، ولا يُقال أننا أمام حقيقتين؛ لأن وجوده وعدمه في آن واحدٍ مُحال. أما سبب الخلاف حول الحقائق فيرجع إلى طريقة التفكير ونوعه فيما إذا كان سطحياً أو عميقاً ويرجع كذلك إلى الحس أو المعلومات ذات الصلة بالواقع وليس في حقيقة الواقع. ومقياس صحة الأفكار التي تصف الواقع هو انطباقها عليه. أما مقياس الأفكار التي تُعالج الواقع فهو الدليل وصحته وانطباقه على واقع المسألة. فحرمة الخمر دليلها النهي الجازم في قوله تعالى: {إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجز من عمل الشيطان فاجتنبوه} فكل ما ينطبق عليه وصف الخمر محرم بهذا النص. وأما عدم انطباق الدليل على الواقع فمثاله إباحة التدرج في تطبيق الشريعة بدليل تحريم الخمر على مراحل مستندين إلى قوله تعالى {ولا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى} وهذا الدليل لا ينطبق على واقع الحكم؛ لأن الخمر حرم دفعة واحدة في آية:{فاجتنبوه} وأما قوله {ولا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى} فهو حكم للصلاة في حالة السُكر وليس حكماً للخمر، ولذلك لا يجوز الخلط في الأفكار بين ما كان حكماً على واقع وما كان معالجة لواقع. ومن جهة أخرى فإن الأفكار التي تعالج الواقع؛ أي الأحكام والقوانين هي مسألة حاكمية وليست مسألة حكم؛ لأن الأصل في المسلم أن يعمل بما جاء به الوحي وليس بما يتفق مع عقله وميوله: {ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون} {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويُسلموا تسليما}. ومن هنا فإن وحدة الحقيقة فيما يقرره الشرع والعقل محصور في الحكم على الواقع وليس في معالجة الواقع، وبالتالي لا تبرر وحدة الحقيقة للعقل تجاوز حدوده المعرفية ومشاركة الله في الحاكمية .
ثانياً: لا خلاف بين البشر على أن الإنسان يميل بطبعه إلى ما يجلب له المصلحة ويدفع عنه المضرة؛ لأن الإنسان مفطور على حب البقاء فيندفع بأعماله لتحقيق ما يضمن بقاءه، ويسعى بنفس الوقت لتحقيق بقاء نوعه لأنه يرى في ذلك بقاء ذاته، إذ لو فرّط ببقاء جنسه فإن ذلك يهدد بقاءه ويُفضي إلى فنائه، ومن جهة أخرى لا يمكن للإنسان الاستغناء عن نوعه لحاجته الفطرية لإشباع ميوله وعواطفه نحو المرأة والطفل والعائلة؛ لذلك كانت غريزتا حب البقاء وبقاء النوع دافعاً حاداً ومؤثراً في تحديد المصلحة وتنظيم العلاقات. غير أن بقاء الذات مقدم على بقاء غيرها _فطرياً_ عندما تهدد مصلحة غيره بقاء الذات، ولهذا السبب لا بد أن تُبحث مصلحة الإنسان على مستوى النظام الذي يكفل بقاء الجنس البشري وليس بقاء الفرد أو الفئة المرتبط بقاؤه ببقائها كالأسرة أو العشيرة أو القوم؛ لأن ترك تقرير المصلحة لميول الفرد وحده وحبه للبقاء سيؤدي إلى إفناء غيره وتهديد مصلحة الإنسان كجنس .
وهذا يقودنا إلى البحث فيمن يقرر المصلحة التي تضمن بقاء النوع الإنساني وليس الفرد أو العرق أو القوم، وما يصلح لإنسان يصلح لكل إنسان في كل زمان ومكان بصرف النظر عن تبدل الأشكال المادية المحيطة به وبخاصة وأن سلوك الإنسان ينتظم وفق مفاهيمه وليس بفعل التاريخ أو الأشكال المادية التي يتعامل معها. فحاجة الرجل للمرأة وحاجته للتملك والأكل والشرب لم تتغير بتغيُر أشكال الحياة والتقدم العلمي وأساليب العيش. وبالنظر إلى السلوك المجرّد للإنسان نجد أن ما يحكم عليه بالحسن يعتبره مصلحة فيُقدِم عليه وما يصفه بالقبيح لا يعتبره مصلحة فيُحجم عنه مما يعني أن المصلحة هي التي تعيّن موقف الإنسان من الأفعال والأشياء، إلا أن ربط المصلحة بميول الفرد وبالواقع يجعل المصلحة تتغير بتغير الميول والواقع، كما يجعلها ترتبط بفرديته لا بنوعه مما يُهدد بقاء النوع بل وبقاء الفرد ذاته؛ لأن ما يرجوه لنفسه يرجوه غيره لنفسه، وفي هذه الحالة يصبح عامل القوة هو الذي يُقرر المصلحة فتنتفي العدالة من الأرض وتنقلب المجتمعات إلى غابة إن لم يُقوّض تضارب المصالح الوجود البشري كله. فلو فرضنا أن منع تعدد الزوجات مصلحة مجتمعية لتعرضت بعض المجتمعات للفناء بسبب الحروب التي تذهب بأرواح الرجال وهو ما حصل في ألمانيا أثناء حرب الكاثوليك والبروتستانت حيث انخفض عدد سكان ألمانيا إلى النصف تقريباً مما دعاهم للعودة إلى تعدد الزوجات وهو ما أقروه في مؤتمر فرانكونيا المنعقد في شباط/فبراير 1650 بمدينة نورنبيرغ، ولذلك لا بد من عزل ميول الإنسان وحُسن الأشياء وقبحها لذاتها عن التدخل في تقرير المصالح وإسناد الحكم على المصالح لجهة لا تقصر عن معرفة المصلحة أو ترجوها لنفسها، وهذا لا يتأتي لبشر .
وذلك أن الإنسان مفطور على الشعور بالعجز والنقص والاحتياج لغيره، ولا يتحقق إشباع هذا الشعور إلا بالخضوع لنوع يختلف عن الذات البشرية، إذ لو كان ذلك الغير من نوع الذات لبقي الإنسان يدور كالثور في ساقية لا تُخرجه من حريق الشعور بالعجز والنقص والاحتياج. ولهذا تَجسّدَ مركز القداسة _عبر التاريخ_ في عبادة كل ما يُعبر عن قوة تفوق قدرة الإنسان كعبادة الشمس والنار والحجارة، وهو ما يُفسر توقف الإيمان بالأنبياء ورسالاتهم على المعجزات لإنها تعبر عن قدرة فوق قدرة البشر وتعكس صورة النوع الذي يستحق القداسة وهو نوع يتصف بخصائص يفتقدها الجنس البشري المحدود. وربما هذا ما دعى فرويد وعلماء النفس إلى اختراع "عقدة أوديب" و "عقدة إليكترا" للتعبير عن شعور الإنسان بالعجز والنقص والاحتياج حيث عزوا القضية إلى خرافة أسطورية من تراث اليونان بدل أن يردوها إلى أصلها وهي الحاجة الفطرية للخالق.
من يقرر المصلحة .. الإنسان أم الله؟!
كثير من المسلمين يحكمون على الأحكام الشرعية بناءً على القناعة العقلية أو الميول والمشاعر كالحكم على تعدد الزوجات مثلا، وهذا تعدٍّ بل وقاحة على الله؛ لأن الحاكمية هي من خصائص الألوهية وليست من شأن العبد {ألا له الخلق والأمر}. وكثير من الناس يحكم على سلوك الآخرين من خلال قاعدته الفكرية المختلفة عن الآخر وهذا خطأ منهجي إذ لا يصح منهجياً أن يسأل المسلم المرأة غير المسلمة لماذا لا تلبسين الحجاب أو يسأل شارب الخمر غير المسلم لماذا تشرب الخمر؟ ولا يصح كذلك أن يُسأل المسلم من غير المسلم لماذا لا تسمحون ببناء كنيسة في مكة وغير ذلك مما يختص بشريعة المسلمين؛ لأن لكلٍّ قاعدته الفكرية التي يأخذ منها مفاهيمه ويضبط بها سلوكه، والأصل هو أن تُناقش القاعدة الفكرية التي تنبثق عنها المفاهيم من حيث صحتها وخطؤها فإذا كانت خاطئة فإن ما بني عليها باطل. ويُخطئ بعض المسلمين أيضاً في مناقشة الأنظمة غير الإسلامية من زاوية أنها تحقق مصلحة أم لا؟! لأن صعيد بحث الأنظمة والقوانين هو الحاكمية، ولأن المصلحة تُبحث على صعيد من له صلاحية تعيينها هل هو الإنسان أم الله. وهناك من يعتقد بوحدة الحقيقة باعتبار أن العقل السليم والشرع الصحيح لا يتناقضان وبالتالي فإن ما يُقرّه العقل لا يخالف الشرع ولا يتناقض معه، ومنهم من يقول بنسبية الحقيقة باعتبار أن لكل شيء ضده في هذه الحياة ولتفاوت الحس بين البشر، مع أن وجود الأضداد لا يعني تعدد الحقيقة أو نسبيتها وإنما يعني وجود حقائق مختلفة كالليل والنهار، وأما تفاوت الحس بين البشر فلا يغيّر من الواقع وإنما يُعدد الحكم عليه. وإذا أضفنا إلى هذه المسائل السائدة في المناخ الفكري للأمة التشكيك بما يُسمى "التراث" وأن النبوة هي مرحلة تاريخية وأن العلمانية والديمقراطية مسألة إجرائية حياتية لا تتعارض مع الأديان مع التركيز غير المسبوق على مسألة حرية العقيدة وعدم تعارضها مع الإسلام فإننا نخلص إلى نتيجة واحدة وهي ضرب مفهوم الحاكمية وجعل التشريع العقلي بديلاً عن التشريع الإلهي أو على الأقل جعل العقل شريكا مع الله في الحاكمية. وهذا يتطلب وضع الأمور في نصابها بشيء من التوضيح :
أولاً: إن وحدة الحقيقة هي أمر صحيح عندما يكون الفكر حكماً على واقع وليس عندما يكون معالجة لواقع. ففي حالة الحكم على الواقع فإن الحقيقة لا تتعدد لأنها مسألة حسية أو مرتكزة على الحس. فقولنا أن الله موجود هي حقيقة، والاختلاف حولها هو خلاف في الحكم على الواقع وليس لتعدد الواقع؛ فإما أن الله حقيقة وإما عدم، ولا يُقال أننا أمام حقيقتين؛ لأن وجوده وعدمه في آن واحدٍ مُحال. أما سبب الخلاف حول الحقائق فيرجع إلى طريقة التفكير ونوعه فيما إذا كان سطحياً أو عميقاً ويرجع كذلك إلى الحس أو المعلومات ذات الصلة بالواقع وليس في حقيقة الواقع. ومقياس صحة الأفكار التي تصف الواقع هو انطباقها عليه. أما مقياس الأفكار التي تُعالج الواقع فهو الدليل وصحته وانطباقه على واقع المسألة. فحرمة الخمر دليلها النهي الجازم في قوله تعالى: {إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجز من عمل الشيطان فاجتنبوه} فكل ما ينطبق عليه وصف الخمر محرم بهذا النص. وأما عدم انطباق الدليل على الواقع فمثاله إباحة التدرج في تطبيق الشريعة بدليل تحريم الخمر على مراحل مستندين إلى قوله تعالى {ولا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى} وهذا الدليل لا ينطبق على واقع الحكم؛ لأن الخمر حرم دفعة واحدة في آية:{فاجتنبوه} وأما قوله {ولا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى} فهو حكم للصلاة في حالة السُكر وليس حكماً للخمر، ولذلك لا يجوز الخلط في الأفكار بين ما كان حكماً على واقع وما كان معالجة لواقع. ومن جهة أخرى فإن الأفكار التي تعالج الواقع؛ أي الأحكام والقوانين هي مسألة حاكمية وليست مسألة حكم؛ لأن الأصل في المسلم أن يعمل بما جاء به الوحي وليس بما يتفق مع عقله وميوله: {ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون} {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويُسلموا تسليما}. ومن هنا فإن وحدة الحقيقة فيما يقرره الشرع والعقل محصور في الحكم على الواقع وليس في معالجة الواقع، وبالتالي لا تبرر وحدة الحقيقة للعقل تجاوز حدوده المعرفية ومشاركة الله في الحاكمية .
ثانياً: لا خلاف بين البشر على أن الإنسان يميل بطبعه إلى ما يجلب له المصلحة ويدفع عنه المضرة؛ لأن الإنسان مفطور على حب البقاء فيندفع بأعماله لتحقيق ما يضمن بقاءه، ويسعى بنفس الوقت لتحقيق بقاء نوعه لأنه يرى في ذلك بقاء ذاته، إذ لو فرّط ببقاء جنسه فإن ذلك يهدد بقاءه ويُفضي إلى فنائه، ومن جهة أخرى لا يمكن للإنسان الاستغناء عن نوعه لحاجته الفطرية لإشباع ميوله وعواطفه نحو المرأة والطفل والعائلة؛ لذلك كانت غريزتا حب البقاء وبقاء النوع دافعاً حاداً ومؤثراً في تحديد المصلحة وتنظيم العلاقات. غير أن بقاء الذات مقدم على بقاء غيرها _فطرياً_ عندما تهدد مصلحة غيره بقاء الذات، ولهذا السبب لا بد أن تُبحث مصلحة الإنسان على مستوى النظام الذي يكفل بقاء الجنس البشري وليس بقاء الفرد أو الفئة المرتبط بقاؤه ببقائها كالأسرة أو العشيرة أو القوم؛ لأن ترك تقرير المصلحة لميول الفرد وحده وحبه للبقاء سيؤدي إلى إفناء غيره وتهديد مصلحة الإنسان كجنس .
وهذا يقودنا إلى البحث فيمن يقرر المصلحة التي تضمن بقاء النوع الإنساني وليس الفرد أو العرق أو القوم، وما يصلح لإنسان يصلح لكل إنسان في كل زمان ومكان بصرف النظر عن تبدل الأشكال المادية المحيطة به وبخاصة وأن سلوك الإنسان ينتظم وفق مفاهيمه وليس بفعل التاريخ أو الأشكال المادية التي يتعامل معها. فحاجة الرجل للمرأة وحاجته للتملك والأكل والشرب لم تتغير بتغيُر أشكال الحياة والتقدم العلمي وأساليب العيش. وبالنظر إلى السلوك المجرّد للإنسان نجد أن ما يحكم عليه بالحسن يعتبره مصلحة فيُقدِم عليه وما يصفه بالقبيح لا يعتبره مصلحة فيُحجم عنه مما يعني أن المصلحة هي التي تعيّن موقف الإنسان من الأفعال والأشياء، إلا أن ربط المصلحة بميول الفرد وبالواقع يجعل المصلحة تتغير بتغير الميول والواقع، كما يجعلها ترتبط بفرديته لا بنوعه مما يُهدد بقاء النوع بل وبقاء الفرد ذاته؛ لأن ما يرجوه لنفسه يرجوه غيره لنفسه، وفي هذه الحالة يصبح عامل القوة هو الذي يُقرر المصلحة فتنتفي العدالة من الأرض وتنقلب المجتمعات إلى غابة إن لم يُقوّض تضارب المصالح الوجود البشري كله. فلو فرضنا أن منع تعدد الزوجات مصلحة مجتمعية لتعرضت بعض المجتمعات للفناء بسبب الحروب التي تذهب بأرواح الرجال وهو ما حصل في ألمانيا أثناء حرب الكاثوليك والبروتستانت حيث انخفض عدد سكان ألمانيا إلى النصف تقريباً مما دعاهم للعودة إلى تعدد الزوجات وهو ما أقروه في مؤتمر فرانكونيا المنعقد في شباط/فبراير 1650 بمدينة نورنبيرغ، ولذلك لا بد من عزل ميول الإنسان وحُسن الأشياء وقبحها لذاتها عن التدخل في تقرير المصالح وإسناد الحكم على المصالح لجهة لا تقصر عن معرفة المصلحة أو ترجوها لنفسها، وهذا لا يتأتي لبشر .
وذلك أن الإنسان مفطور على الشعور بالعجز والنقص والاحتياج لغيره، ولا يتحقق إشباع هذا الشعور إلا بالخضوع لنوع يختلف عن الذات البشرية، إذ لو كان ذلك الغير من نوع الذات لبقي الإنسان يدور كالثور في ساقية لا تُخرجه من حريق الشعور بالعجز والنقص والاحتياج. ولهذا تَجسّدَ مركز القداسة _عبر التاريخ_ في عبادة كل ما يُعبر عن قوة تفوق قدرة الإنسان كعبادة الشمس والنار والحجارة، وهو ما يُفسر توقف الإيمان بالأنبياء ورسالاتهم على المعجزات لإنها تعبر عن قدرة فوق قدرة البشر وتعكس صورة النوع الذي يستحق القداسة وهو نوع يتصف بخصائص يفتقدها الجنس البشري المحدود. وربما هذا ما دعى فرويد وعلماء النفس إلى اختراع "عقدة أوديب" و "عقدة إليكترا" للتعبير عن شعور الإنسان بالعجز والنقص والاحتياج حيث عزوا القضية إلى خرافة أسطورية من تراث اليونان بدل أن يردوها إلى أصلها وهي الحاجة الفطرية للخالق.