نائل سيد أحمد
25-05-2009, 10:50 AM
فاخلع نعليك
!
قليلة هي الكلمات التي يمكنها التعبير عن مشاعر الغضب والإهانة التي اجتاحت قلب كل مسلم ومسلمة شاهد بنديكت 16 وهو يطأ أرض مسجد العاصمة عمّان بحذائه الأحمر الشهير، الذي جلب له أقبح التعليقات الجارحة لشخصه، في الصحافة الفرنسية، عند بداية تعيينه في منصب البابوية.. وقليلة هي الكلمات التي يمكنها وصف الامتعاض الذي يشعر به كل من ينظر إلى ذلك "المسلم" الذي يرافقه مرتدياً نعله داخل المسجد دون أن يتحرّج من العباءة والغطرة التي يرتديها، وذلك في الوقت الذي يبدو فيه أحد المرافقين بينهما وقد ارتدى خفاً أزرق اللون على حذائه .. أي أن أبسط مبادئ الأدب والاحترام كانت متوفرة ومتاحة لمن شاء عدم إهانة مقدسات الغير بهذا الاستهتار والاستفزاز !..
ولا يمكن الاعتداد بتبرير المتحدث الرسمي باسم الفاتيكان، الأب فدريكو لومباردي، بأن القائمين على ترتيب الزيارة في الأردن لم يطلبوا منه ذلك! وهو عذر أقبح من ذنب، فمن ناحية، لقد حدث لنفس ذلك البابا أن خلع حذاءه عندما دخل المسجد الأزرق في إسطنبول، عند زيارته لتركيا عام 2006، أي أنه يعلم تماماً ضرورة خلع الحذاء أدباً واحتراما لقدسية المساجد..ومن ناحية أخرى، ما من كبيرة أو صغيرة في الزيارات الرسمية إلا ويتم الاتفاق عليها عند الإعداد للزيارة، وعندما يحدث ما لم يتم الاتفاق عليه لأي ظرفٍ كان، يتم الإعلان فوراً عن أن هذا التصرف لم يكن وارداً في البروتوكول المتفق عليه، وذلك مثلما حدث حين بالغ ملك الأردن وحرمه في الحفاوة ورافقا البابا في جزء من الرحلة لم يكن عليهما أن يرافقاه فيه.. ولمن لا يعلم، فالأدب الخاص بقدسية المسجد تعلمناه من الآية الكريمة حين كان الله سبحانه وتعالى يخاطب موسى، أحد أنبيائه المرسلين وليس أحد الموظفين مهما علا شأنه: (إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالوادِ المقدس طوى) (12: طه).. والمسجد هو المكان المقدس الذي يسجد فيه المسلم لربه أدباً وخشوعاً وتعبداً، وما من إنسان أياً كانت عقيدته يجهل هذه المعلومة التي تعد من الأبجديات..
وليست هذه الإهانة المتعمدة من جانب المؤسسة الفاتيكانية هي الوحيدة التي صدرت عن ذلك الحبر الأعظم أو بمناسبة زيارته المغرضة لهذه المنطقة، فمما يؤسف له، بكل مرارة وألم، أن يقوم التلفزيون الأردني بمنع بث أذان وشعائر صلاة الجمعة يوم وصوله، ومنع تلاوة القرآن الكريم .. ولا يسعني إلا أن أسأل: ألهذا الحد يصل الهوان والتملّق لدى بعض المسؤولين؟.. وقليلة هي الكلمات..
أما عن نتائج زيارة البابا للأردن فيلخصها الأب فدريكو لومباردي قائلاً: "أنها كانت مثمرة جداً فقد تم اجتياز الأزمة الناجمة عن محاضرة راتيسبون (يقصد تلك المحاضرة التي أهان فيها البابا كافة المسلمين بتعمّده سب الإسلام والرسول صلوات الله عليه)، أما الهدف الثاني فكان التعبير عن مساندته لمسيحييّ الشرق الأوسط وتشجيعهم على البقاء لمواصلة رسالتهم، على الرغم من أنهم يمثلون أقل من 2% من السكان في هذه المنطقة وقرابة 3% في مصر، وإن كانت الكنيسة هناك ترفع العدد إلى 10% .. إلا أن الكنيسة بعامة في هذه المنطقة نشطة وشديدة الحيوية".. كما أشار إلى "افتتاح جناح جديد تمت إضافته لمركز مريم "ملكة السلام" لعلاج المعوقين، وإرساء حجر الأساس لجامعة اللاهوت في مادبة التي ستجمع بين المسلمين والمسيحيين الذين سيدرسون معاً كيفية التعاون لفائدة بلدهم، وهو رمز له مغزاه ليس للأردن فحسب وإنما لمنطقة الشرق الأوسط بأسرها! وكذلك إنشاء خمس كنائس جديدة وهو ما يكشف عن أهمية الدور الذي ستقوم به الكنيسة في ثقافة هذا البلد" .. ثم اختتم الأب لومباردي تقييمه قائلاً: "إن هذه المحصّلة توضح أن الكنيسة تتمتع بحيوية واضحة وأنها تتطلع إلى الأمام" .. أما البابا فقد أوجزها قائلاً: "لقد تم غرس البذرة، لنأمل أن تثمر في هذه الأرض القاحلة من الشرق " ..
أما المفاجأة التي لا تقل فداحة واقعة الحذاء الأحمر، فهي الخطاب الذي ألقاه الأمير غازي بن محمد بن طلال عند ترحيبه بالبابا داخل المسجد. والغريب أنه لم تتم الإشارة إلى مضمونه في الصحافة العربية وإنما قام موقع الفاتيكان بنشره كاملاً يوم الاثنين 11 مايو، تحت عنوان "الخطاب الذي لم يُنشر للأمير غازي" .. ومن الصعب التحدث عن كل ما جاء في هذا الخطاب، المكوّن من أربع صفحات من المغالطات وعدم الدقة في مثل هذا الحيز، لكنني أبدأ بالتأكيد على أن من كتبه هو أحد قساوسة الفاتيكان وليس بمسلمٍ، وما كان على سمو الأمير إلا قراءته كالتلميذ "النجيب" دون حتى أن يدرك معنى ما به من طعنات!.. فكل فقرة من فقراته السبع وعشرين بحاجة إلى تعليق وتأنيب، لكنني سأعقّب على بعضٍ مما جاء به..
وبغض الطرف عن اعتباره زيارة البابا شرفاً للمسجد وللمسلمين، فلا يليق بمن يحتل مثل منصبه الاجتماعي والسياسي في الأردن أن يتفوه بما يمكن أن يوصف بالأكاذيب، فالبابا لم يعتذر أبداً عما بدر عنه من إهانة للمسلمين وللرسول عليه الصلاة والسلام، وإنما تأسف لغضب المسلمين من قوله، وتأسف لردود أفعالهم، والفرق جد شاسع بين الموقفين يا سمو الأمير .. فالبابا لم يعتذر مطلقاً عن خطأه في حق الإسلام والمسلمين وخاصة في حق نبيّنا الكريم وإنما يعتمد على التمويه وعلى تنازلات بعض المسلمين ..
أما أن تخطئ يا سمو الأمير في القرآن الكريم بهذا الوضوح، يا من تنتمي لرسول الله وآله الكرام، كما أوضحت للبابا، فذلك ما يضع انتماؤك للإسلام والمسلمين محل نظر: ففي الفقرة السابعة من الخطاب ترد عبارة: "لكن المسلمين قد شعروا بالإهانة في حبهم للنبي، الذي هو، كما يقول الله في القرآن المقدس، أقرب من المؤمنين من حبل الوريد " !! فأي قارئ للقرآن الكريم يدرك تماماً أن المتحدث هنا هو الله عز وجل، ويقول عن نفسه هو: أنه أقرب من عباده من حبل الوريد، وليس الرسول، فالآية تقول:
(ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسْوس بت نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد) (16: ق).
وتواصل نفس الفقرة قائلة: " لذلك قدّر المسلمون بصفة خاصة الإيضاح الذي أعلنه الفاتيكان بأن ما قيل في راتسبون لم يكن يعكس رأى قداستك، وإنما كان مجرد استشهاد في خطاب أكاديمي"!! وهنا لا يسعني إلا أن أهمس في أذن سمو الأمير: أن الاستشهاد في أي بحث أكاديمي لا يقفز وحده من المرجع ليقبع تحت قلم الكاتب، وإنما الكاتب هو الذي يختار الاستشهاد بعناية لسببين لا ثالث لهما: إما أن يكون الاستشهاد يؤيد موقف الكاتب الذي يذكره كتدعيم لقوله وللأطروحة التي يعرضها، أو أن الكاتب يختاره لكي يفنده وينتقده توضيحاً وتأكيداً للرأي الذي يعرضه.. أما أن يتنصّل الكاتب تهرباً من المساءلة ويلقي بوقاحة الاستشهاد على كاتبه في العصور القديمة، فذلك ما يُطلق عليه في المجال الجامعي "الجبن العلمي" و"عدم الأمانة العلمية" و"عدم القدرة على المواجهة".. الخ ، ولا يستحق صاحب مثل هذا الموقف إلا أن يُلغى بحثه بجرة قلم ويُفصل من الحلقة البحثية.. فأول ما يتعلمه الطالب في الجامعة هو كيفية التعبير عن رأيه بأدب علمي له أصوله، وأن يتحمل عاقبة هذا الرأي، أما التهرب والتنصل من المسؤولية فلا مكان له بين الأمناء من طلاب العلم.
وبغض الطرف أيضاً عن كل ما استعرضه سمو الأمير على أنه إنجازات يُشكر عليها البابا، في حين أنها في واقع الأمر ليست إلا تنازلات فُرضت على بعض المسلمين وقدّموها جهلاً أو عن عمد إلى المؤسسة الفاتيكانية، من قبيل اعتبار خطاب ال138 حدثاً تاريخياً، بينما هو في الواقع فضيحة علمية دينية أن يبصُم كل هؤلاء العلماء على أننا نعبد نفس الإله، فأبسط إنسان يعلم أن النصارى يعبدون "ربنا يسوع الميسح" الإنسان الذي تم تأليهه في مجمع نيقية عام 325، أو الإنسان الذي عُذب وصُلب ودُفن ثلاثة أيام ثم صعد ليجلس بجوار ربه، الذي هو نفسه وهو ابنه، بينما نحن فنعبد الله الواحد الأحد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد .. وهذه العبارة المريرة المؤسفة والتي تنص على أننا نعبد نفس الإله يتلفظ بها البابا حالياً لمواصلة الهدف الذي لا يكف عن إعلانه وهو: تنصير العالم تحت لواء كاثوليكيته!
ونفس الملاحظة المريرة حول مساواة سُموك الكتاب المقدس بالقرآن الكريم، فالقرآن الكريم لم يتبدّل منه حرف منذ أُنزل على سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، بينما الكتاب المقدس فيغص بآلاف المتناقضات والتحريف والتبديل، ويكفي سُموك الإطلاع على إعترافات القديس جيروم بما قام به في الأناجيل الأربعة، أو الإطلاع على نتائج أبحاث "ندوة عيسى" التي أثبتت أن 82% من الأقوال المنسوبة إلى يسوع لم يتفوه بها، وأن 86% من الأعمال المنسوبة إليه لم يقم بها..
أما من حيث المعلومات العامة وحديث سُموك عن "كنيسة القديس يعقوب"، شقيق يسوع عليه السلام، فلم تكن هناك كنائس في ذلك الوقت وإنما كان الحواريون يجتمعون معه في داره للتشاور، كما كانوا يجتمعون في الأقبية ودهاليز المقابر الجماعية حتى نهاية عصر الاضطهاد في القرن الرابع، وكل الآثار التي راح البابا يدشنها في رحلته الحالية بنتها والدة الإمبراطور قسطنطين، في القرن الرابع الميلادي، بعدما تم إعتبار المسيحية ديانة رسمية للإمبراطورية الرومانية وتبينوا ضرورة بناء الآثار التي تدل على ما ابتدعوه .. ووجود كلمة "كنيسة" في أناجيل اليوم يعتبرها العلماء من ضمن الإضافات اللاحقة.
وأخيراً وليس آخراً، فإن اسم سيدنا محمد صلوات الله عليه يُنطق ويُكتب محمّد Muhammad وليس "ما أو ميه" Mahomet كما دأب المستشرقون والكنسيون على تحريفه منذ القرون الوسطى .. وكان الأكرم لمن هو من العائلة الهاشمية وآل البيت أن يطالب ذلك البابا، الذي يوجه له مثل هذا الخطاب، بتصويب كتابة اسم سيدنا محمد في كافة نصوصهم، خاصة وأنهم يجيدون كتابته إذا ما تعلق بأي شخص آخر .. أما توجيه الشكر الممجوج للبابا على شجاعته الأدبية والعلمية واللاهوتية "على إعادة إدخال طقس قراءة القداس باللغة اللاتينية في الكنائس" فلا يسعني إلا إضافة : لا حول ولا قوة إلا بالله .. اللهم لا تعليق!!.(13 مايو 2009).
بقلم الدكتورة زينب عبد العزيز
أستاذة الحضارة الفرنسية
dr.z.abdelaziz@ gmail.com
!
قليلة هي الكلمات التي يمكنها التعبير عن مشاعر الغضب والإهانة التي اجتاحت قلب كل مسلم ومسلمة شاهد بنديكت 16 وهو يطأ أرض مسجد العاصمة عمّان بحذائه الأحمر الشهير، الذي جلب له أقبح التعليقات الجارحة لشخصه، في الصحافة الفرنسية، عند بداية تعيينه في منصب البابوية.. وقليلة هي الكلمات التي يمكنها وصف الامتعاض الذي يشعر به كل من ينظر إلى ذلك "المسلم" الذي يرافقه مرتدياً نعله داخل المسجد دون أن يتحرّج من العباءة والغطرة التي يرتديها، وذلك في الوقت الذي يبدو فيه أحد المرافقين بينهما وقد ارتدى خفاً أزرق اللون على حذائه .. أي أن أبسط مبادئ الأدب والاحترام كانت متوفرة ومتاحة لمن شاء عدم إهانة مقدسات الغير بهذا الاستهتار والاستفزاز !..
ولا يمكن الاعتداد بتبرير المتحدث الرسمي باسم الفاتيكان، الأب فدريكو لومباردي، بأن القائمين على ترتيب الزيارة في الأردن لم يطلبوا منه ذلك! وهو عذر أقبح من ذنب، فمن ناحية، لقد حدث لنفس ذلك البابا أن خلع حذاءه عندما دخل المسجد الأزرق في إسطنبول، عند زيارته لتركيا عام 2006، أي أنه يعلم تماماً ضرورة خلع الحذاء أدباً واحتراما لقدسية المساجد..ومن ناحية أخرى، ما من كبيرة أو صغيرة في الزيارات الرسمية إلا ويتم الاتفاق عليها عند الإعداد للزيارة، وعندما يحدث ما لم يتم الاتفاق عليه لأي ظرفٍ كان، يتم الإعلان فوراً عن أن هذا التصرف لم يكن وارداً في البروتوكول المتفق عليه، وذلك مثلما حدث حين بالغ ملك الأردن وحرمه في الحفاوة ورافقا البابا في جزء من الرحلة لم يكن عليهما أن يرافقاه فيه.. ولمن لا يعلم، فالأدب الخاص بقدسية المسجد تعلمناه من الآية الكريمة حين كان الله سبحانه وتعالى يخاطب موسى، أحد أنبيائه المرسلين وليس أحد الموظفين مهما علا شأنه: (إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالوادِ المقدس طوى) (12: طه).. والمسجد هو المكان المقدس الذي يسجد فيه المسلم لربه أدباً وخشوعاً وتعبداً، وما من إنسان أياً كانت عقيدته يجهل هذه المعلومة التي تعد من الأبجديات..
وليست هذه الإهانة المتعمدة من جانب المؤسسة الفاتيكانية هي الوحيدة التي صدرت عن ذلك الحبر الأعظم أو بمناسبة زيارته المغرضة لهذه المنطقة، فمما يؤسف له، بكل مرارة وألم، أن يقوم التلفزيون الأردني بمنع بث أذان وشعائر صلاة الجمعة يوم وصوله، ومنع تلاوة القرآن الكريم .. ولا يسعني إلا أن أسأل: ألهذا الحد يصل الهوان والتملّق لدى بعض المسؤولين؟.. وقليلة هي الكلمات..
أما عن نتائج زيارة البابا للأردن فيلخصها الأب فدريكو لومباردي قائلاً: "أنها كانت مثمرة جداً فقد تم اجتياز الأزمة الناجمة عن محاضرة راتيسبون (يقصد تلك المحاضرة التي أهان فيها البابا كافة المسلمين بتعمّده سب الإسلام والرسول صلوات الله عليه)، أما الهدف الثاني فكان التعبير عن مساندته لمسيحييّ الشرق الأوسط وتشجيعهم على البقاء لمواصلة رسالتهم، على الرغم من أنهم يمثلون أقل من 2% من السكان في هذه المنطقة وقرابة 3% في مصر، وإن كانت الكنيسة هناك ترفع العدد إلى 10% .. إلا أن الكنيسة بعامة في هذه المنطقة نشطة وشديدة الحيوية".. كما أشار إلى "افتتاح جناح جديد تمت إضافته لمركز مريم "ملكة السلام" لعلاج المعوقين، وإرساء حجر الأساس لجامعة اللاهوت في مادبة التي ستجمع بين المسلمين والمسيحيين الذين سيدرسون معاً كيفية التعاون لفائدة بلدهم، وهو رمز له مغزاه ليس للأردن فحسب وإنما لمنطقة الشرق الأوسط بأسرها! وكذلك إنشاء خمس كنائس جديدة وهو ما يكشف عن أهمية الدور الذي ستقوم به الكنيسة في ثقافة هذا البلد" .. ثم اختتم الأب لومباردي تقييمه قائلاً: "إن هذه المحصّلة توضح أن الكنيسة تتمتع بحيوية واضحة وأنها تتطلع إلى الأمام" .. أما البابا فقد أوجزها قائلاً: "لقد تم غرس البذرة، لنأمل أن تثمر في هذه الأرض القاحلة من الشرق " ..
أما المفاجأة التي لا تقل فداحة واقعة الحذاء الأحمر، فهي الخطاب الذي ألقاه الأمير غازي بن محمد بن طلال عند ترحيبه بالبابا داخل المسجد. والغريب أنه لم تتم الإشارة إلى مضمونه في الصحافة العربية وإنما قام موقع الفاتيكان بنشره كاملاً يوم الاثنين 11 مايو، تحت عنوان "الخطاب الذي لم يُنشر للأمير غازي" .. ومن الصعب التحدث عن كل ما جاء في هذا الخطاب، المكوّن من أربع صفحات من المغالطات وعدم الدقة في مثل هذا الحيز، لكنني أبدأ بالتأكيد على أن من كتبه هو أحد قساوسة الفاتيكان وليس بمسلمٍ، وما كان على سمو الأمير إلا قراءته كالتلميذ "النجيب" دون حتى أن يدرك معنى ما به من طعنات!.. فكل فقرة من فقراته السبع وعشرين بحاجة إلى تعليق وتأنيب، لكنني سأعقّب على بعضٍ مما جاء به..
وبغض الطرف عن اعتباره زيارة البابا شرفاً للمسجد وللمسلمين، فلا يليق بمن يحتل مثل منصبه الاجتماعي والسياسي في الأردن أن يتفوه بما يمكن أن يوصف بالأكاذيب، فالبابا لم يعتذر أبداً عما بدر عنه من إهانة للمسلمين وللرسول عليه الصلاة والسلام، وإنما تأسف لغضب المسلمين من قوله، وتأسف لردود أفعالهم، والفرق جد شاسع بين الموقفين يا سمو الأمير .. فالبابا لم يعتذر مطلقاً عن خطأه في حق الإسلام والمسلمين وخاصة في حق نبيّنا الكريم وإنما يعتمد على التمويه وعلى تنازلات بعض المسلمين ..
أما أن تخطئ يا سمو الأمير في القرآن الكريم بهذا الوضوح، يا من تنتمي لرسول الله وآله الكرام، كما أوضحت للبابا، فذلك ما يضع انتماؤك للإسلام والمسلمين محل نظر: ففي الفقرة السابعة من الخطاب ترد عبارة: "لكن المسلمين قد شعروا بالإهانة في حبهم للنبي، الذي هو، كما يقول الله في القرآن المقدس، أقرب من المؤمنين من حبل الوريد " !! فأي قارئ للقرآن الكريم يدرك تماماً أن المتحدث هنا هو الله عز وجل، ويقول عن نفسه هو: أنه أقرب من عباده من حبل الوريد، وليس الرسول، فالآية تقول:
(ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسْوس بت نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد) (16: ق).
وتواصل نفس الفقرة قائلة: " لذلك قدّر المسلمون بصفة خاصة الإيضاح الذي أعلنه الفاتيكان بأن ما قيل في راتسبون لم يكن يعكس رأى قداستك، وإنما كان مجرد استشهاد في خطاب أكاديمي"!! وهنا لا يسعني إلا أن أهمس في أذن سمو الأمير: أن الاستشهاد في أي بحث أكاديمي لا يقفز وحده من المرجع ليقبع تحت قلم الكاتب، وإنما الكاتب هو الذي يختار الاستشهاد بعناية لسببين لا ثالث لهما: إما أن يكون الاستشهاد يؤيد موقف الكاتب الذي يذكره كتدعيم لقوله وللأطروحة التي يعرضها، أو أن الكاتب يختاره لكي يفنده وينتقده توضيحاً وتأكيداً للرأي الذي يعرضه.. أما أن يتنصّل الكاتب تهرباً من المساءلة ويلقي بوقاحة الاستشهاد على كاتبه في العصور القديمة، فذلك ما يُطلق عليه في المجال الجامعي "الجبن العلمي" و"عدم الأمانة العلمية" و"عدم القدرة على المواجهة".. الخ ، ولا يستحق صاحب مثل هذا الموقف إلا أن يُلغى بحثه بجرة قلم ويُفصل من الحلقة البحثية.. فأول ما يتعلمه الطالب في الجامعة هو كيفية التعبير عن رأيه بأدب علمي له أصوله، وأن يتحمل عاقبة هذا الرأي، أما التهرب والتنصل من المسؤولية فلا مكان له بين الأمناء من طلاب العلم.
وبغض الطرف أيضاً عن كل ما استعرضه سمو الأمير على أنه إنجازات يُشكر عليها البابا، في حين أنها في واقع الأمر ليست إلا تنازلات فُرضت على بعض المسلمين وقدّموها جهلاً أو عن عمد إلى المؤسسة الفاتيكانية، من قبيل اعتبار خطاب ال138 حدثاً تاريخياً، بينما هو في الواقع فضيحة علمية دينية أن يبصُم كل هؤلاء العلماء على أننا نعبد نفس الإله، فأبسط إنسان يعلم أن النصارى يعبدون "ربنا يسوع الميسح" الإنسان الذي تم تأليهه في مجمع نيقية عام 325، أو الإنسان الذي عُذب وصُلب ودُفن ثلاثة أيام ثم صعد ليجلس بجوار ربه، الذي هو نفسه وهو ابنه، بينما نحن فنعبد الله الواحد الأحد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد .. وهذه العبارة المريرة المؤسفة والتي تنص على أننا نعبد نفس الإله يتلفظ بها البابا حالياً لمواصلة الهدف الذي لا يكف عن إعلانه وهو: تنصير العالم تحت لواء كاثوليكيته!
ونفس الملاحظة المريرة حول مساواة سُموك الكتاب المقدس بالقرآن الكريم، فالقرآن الكريم لم يتبدّل منه حرف منذ أُنزل على سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، بينما الكتاب المقدس فيغص بآلاف المتناقضات والتحريف والتبديل، ويكفي سُموك الإطلاع على إعترافات القديس جيروم بما قام به في الأناجيل الأربعة، أو الإطلاع على نتائج أبحاث "ندوة عيسى" التي أثبتت أن 82% من الأقوال المنسوبة إلى يسوع لم يتفوه بها، وأن 86% من الأعمال المنسوبة إليه لم يقم بها..
أما من حيث المعلومات العامة وحديث سُموك عن "كنيسة القديس يعقوب"، شقيق يسوع عليه السلام، فلم تكن هناك كنائس في ذلك الوقت وإنما كان الحواريون يجتمعون معه في داره للتشاور، كما كانوا يجتمعون في الأقبية ودهاليز المقابر الجماعية حتى نهاية عصر الاضطهاد في القرن الرابع، وكل الآثار التي راح البابا يدشنها في رحلته الحالية بنتها والدة الإمبراطور قسطنطين، في القرن الرابع الميلادي، بعدما تم إعتبار المسيحية ديانة رسمية للإمبراطورية الرومانية وتبينوا ضرورة بناء الآثار التي تدل على ما ابتدعوه .. ووجود كلمة "كنيسة" في أناجيل اليوم يعتبرها العلماء من ضمن الإضافات اللاحقة.
وأخيراً وليس آخراً، فإن اسم سيدنا محمد صلوات الله عليه يُنطق ويُكتب محمّد Muhammad وليس "ما أو ميه" Mahomet كما دأب المستشرقون والكنسيون على تحريفه منذ القرون الوسطى .. وكان الأكرم لمن هو من العائلة الهاشمية وآل البيت أن يطالب ذلك البابا، الذي يوجه له مثل هذا الخطاب، بتصويب كتابة اسم سيدنا محمد في كافة نصوصهم، خاصة وأنهم يجيدون كتابته إذا ما تعلق بأي شخص آخر .. أما توجيه الشكر الممجوج للبابا على شجاعته الأدبية والعلمية واللاهوتية "على إعادة إدخال طقس قراءة القداس باللغة اللاتينية في الكنائس" فلا يسعني إلا إضافة : لا حول ولا قوة إلا بالله .. اللهم لا تعليق!!.(13 مايو 2009).
بقلم الدكتورة زينب عبد العزيز
أستاذة الحضارة الفرنسية
dr.z.abdelaziz@ gmail.com