ابواحمد
02-10-2012, 10:26 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
الفقر والفساد والجريمة نتائج حتمية للنظام الرأسمالي الديمقراطي
الأصل أن كل نظام في العالم ينبثق عن فكرة أساسية عن الكون والإنسان والحياة، وعن علاقتها جميعها بما قبل الحياة الدنيا وما بعدها. ويتأتى صلاح النظام أو فساده، عدله أو ظلمه من صحة أو فساد الأساس الذي انبثق عنه.
والنظام الرأسمالي الديموقراطي كغيره من النظم، انبثق عن فكرة أساسية عن الكون والإنسان والحياة، هي: فصل الدين عن الحياة. فكيف ظهرت هذه الفكرة؟ وما هو واقعها ومدلولها الفكري؛ أي فلسفتها وتصويرها للوجود؟ وما مفهومها للإنسان ولمعنى وجوده؟ ولسعادته؟ وللمثل العليا؟ وما مقياسها في الحياة؟ وكيف انبثقت عنها الأنظمة؟ وما أثرها على شخصية الإنسان وسلوكه، وعلى المجتمع؟ وما العلاقة بينها وبين الفقر والفساد والجريمة؟
أما بالنسبة لظهور الرأسمالية، وعقيدتها فصل الدين عن الحياة، فإنه نتيجة لما عانته الشعوب الأوروبية طوال ما سمى بالقرون الوسطى من الاستبداد والظلم على أيدي الملوك والأمراء وكذا الكنيسة التي أدخلت كثيراً من الخرافات والأساطير والأفكار الفلسفية الوثنية على المسيحية، وتحريف نصوصها لإعطاء الشرعية لسلطة الملوك وتبرير ممارساتهم ضد شعوبهم وتشريعها الاستبداد باسم الدين. هذا بالإضافة لحالة التعقل التي سرت في الذهن الأوروبي _بتأثير فلسفة ابن رشد التي حركت العقل الغربي نحو التفكير ومحاولة التعقل للكون والإنسان والحياة، ولمعنى الوجود والسياسة، بعيدا عن الدين_ وأدخلته حلبة الصراع في مواجهة ظلم وتسلط الملوك وخرافات الكنيسة، مشهرا فكرة الإلحاد وتأليه العقل. وقد ظل الصراع محتدما بين الجانبين ما يقارب أربعة قرون غرقت خلالها أوروبا في الخرافة والجهل والظلم والظلام.
ولما لم تحسم المعركة لصالح أيٍ من أطراف الصراع، ظهرت فكرة (فصل الدين عن الحياة) كحل وسط بين المتصارعين، بعد أن تبلورت هذه الفكرة في ذهن بعض المفكرين بالاستناد إلى بعض المعتقدات المسيحية _كالفكرة القائلة بمقتل الإله (سبحانه وتعالى) متجسداً في شخص المسيح عيسى عليه السلام_ بالإضافة إلى بعض المقولات الفلسفية كنظرية (الكون الميكانيكي) لنيوتن، التي تشبه الكون بما فيه بالساعة التي استغنت عن الصانع بعد صنعها وضبط قوانينها. وبهذا يكون الله (عز وجل) قد انتهى دوره بخلق الكون (الساعة) وضبط قوانينه. وبالتالي لم تعد هناك حاجة لتدخله في شئون العالم؛ لأن الطبيعة بما فيها من قوانين حتمية كفيلة بتنظيم نفسها. وكذلك الإنسان بما فيه من عقل راشد لم يعد محتاجا للتوجيه والتنظيم الإلهي. ومن هنا لم تبق حاجة ولا نفع للوحي، طالما أن الله أعطى الإنسان وسائل طبيعية للمعرفة أكثر يقيناً، كما يقول جون لوك (أحد كبار الفلاسفة العلمانيين).
هكذا وبالاستناد إلى العوامل السابقة، تبلورت وظهرت فكرة العلمانية (فصل الدين عن الحياة) كفكرة كلية أساسية شاملة للوجود، عقيدة عقلية تنبثق عنها القوانين والأنظمة.
فهي من حيث الأساس لا تنكر الدين؛ أي وجود خالق لهذا الكون، ولكنها لا تعترف به كمصدر للمفاهيم ونظام الحياة. وبعبارة أخرى: فإن عقيدة فصل الدين عن الحياة، تعترف ضمناً بفكرة الإله وسلطته في خلق الأشياء وإيجادها، وفي نفس الوقت ترفض حاكميته وسيادته على الحياة، و بالتبع تنكر الوحي والنبوة كمصدر للقيم وتنظيم الحياة، وتحل الإنسان محله في ممارسة (الحاكمية) سلطة التوجيه والتشريع ووضع القيم.
وبذلك تكون قد جعلت للحياة إلهين اثنين: أحدهما تقر له بسلطة الخلق فقط _دون سلطة الأمر (الحاكمية)_ وهو الله (عز وجل)، والآخر هو الإنسان الذي تقر له بالحاكمية والسيادة على الحياة.
وبإنكارها حاكمية الله عز وجل وحصر دوره في خلق الأشياء وإيجادها فقط، أعطت وجود الإنسان معنى العبثية. فهو مخلوق عبثي لا غاية لوجوده. ومن هنا جعلت الدنيا هي غايته، والقيمة المادية مثله الأعلى، والمصلحة هي الرابطة بينه وبين بني الإنسان، والسعادة تحقيق أكبر قدر من المتع والشهوات، والمنفعة مقياس الحياة، فالحلال ما يحقق المنفعة وإن كان: الربا والغش والكذب أو التضليل والاحتيال والخداع، أو الغدر والخيانة، أو الاتجار بالمسكرات وبالعرض والشرف، أو الظلم والبغي و العدوان. والحرام ما لا يحقق المنفعة، وإن كان: الصدق والوفاء والأمانة، أو الكرم والنجدة والعفة والنزاهة.
وهكذا فإن معنى فصل الدين عن الحياة، هو جعل الحاكمية؛ أي سلطة الحكم على الأشياء والأفعال، للإنسان وليس للخالق، وجعل الدين (الإيمان بالخالق) ناحية متعلقة بالفرد الذي أطلقت له الحريات ومنها حرية العقيدة. هذا هو واقع العلمانية ومضمونها الفكري، وعن هذا الأساس انبثقت فكرة الديموقراطية؛ أي حكم الشعب نفسه بنفسه، وكان أبرز ما فيها جعل السيادة (سلطة التشريع) للشعب، وعلى أساس نسبية الحقيقة وحرية الرأي، واعتبار رأي الأغلبية هو عنوان الحقيقة وإن كان باطلاً.
ولما كانت فكرة السيادة (الحاكمية) الشعبية نظرية خيالية وغير قابلة للتطبيق في الواقع، جاؤوا بفكرة البرلمان (المجالس النيابية) لتمثيل الشعب في ممارسة السيادة (حاكمية التشريع). ليعبدوا بعد ذلك الطريق أمام رجال المال والنفوذ للوصول إلى البرلمان لممارسة السيادة على الشعب باسم الشعب، وتشريع أهوائهم ومصالحهم قوانين يضعونها سيفاً على رقاب الأغلبية المستعبدة من أبناء الشعوب. هذا من حيث النظام السياسي .
أما فلسفة هذه العقيدة وتفسيرها للمشكلة الاقتصادية؛ أي لمشكلة فقر الإنسان، فقد اعتبرت الندرة النسبية _أي قلة الموارد بالنسبة لحاجات الإنسان_ هي سبب الفقر. ومعنى ذلك أن فقر السواد الأغلب من الناس أمر حتمي؛ أي قضاء وقدر فرضته الطبيعة نفسها. وبناءً على هذا التفسير قررت عدم صلاحية الدولة لتوزيع الثروة بين أفراد المجتمع، ورفض فكرة الملكية العامة للموارد الطبيعية والمرافق الخدمية، وكذا ملكية الدولة لها. وقالت بضرورة الاعتراف للفرد بحرية العمل وبالملكية الفردية للمرافق الخدمية والموارد الطبيعية، وبجهاز الثمن كمنظم لتوزيع الملكية بين أفراد المجتمع، وبالسوق (العرض والطلب) كمحدد لنوعية الإنتاج، وأسعار السلع والخدمات المنتجة.
هذه هي الأسس التي بني عليها النظام الاقتصادي الرأسمالي، أو ما يسمى نظام السوق أو الاقتصاد الحر. فقد قام على اعتبار كل فرد هو وحده المسؤول عن إشباع حاجاته وأهله من الغذاء والكساء والسكن وغيرها من الحاجات الأساسية والكمالية. ودون أن يترتب على الدولة أي مسؤولية تجاهه إذا عجز عن كسب المال (جهاز الثمن) اللازم لإشباع حاجته هو أو من يتوجب عليه إعالتهم.
وتطبيقاً لهذه الفلسفة، فقد كانت السياسة الاقتصادية التي ترسمها الدول الرأسمالية لنفسها، هي:-
1- عدم تدخل الدولة في الحياة الاقتصادية، وقصر مسؤوليتها على تأمين الحريات الاقتصادية (حرية العمل وحرية التملك) للأفراد، وتشريع القوانين اللازمة لضمان تمتعهم بها. وسواء تمكن كل فرد بهذه الحريات من الوصول لإشباع حاجاته ومن يتوجب عليه إشباعهم أم لا. الأمر الذي جعل الإنسان يفتقد الشعور بالأمان والطمأنينة، ويعيش الخوف من المستقبل المجهول.
2- خصخصة الموارد والثروات الطبيعية والمرافق الخدمية العامة، بتحويلها إلى ملكيات خاصة لمن يمتلكون وسائل الإنتاج من أفراد أو شركات سواء محلية أو أجنبية. وبذلك تصبح ثروات الشعوب كالنفط والغاز، أو مناجم المعادن من ذهب وفضة ونحاس وغيرها من الموارد. وكذا المرافق الخدمية الضرورية لارتقاء المجتمع: كالتعليم، والإعلام، والصحة، والكهرباء، والاتصالات ونحوها من الخدمات. بالإضافة للموانئ والشواطئ والثروة السمكية وما شاكلها من الملكيات العامة_ متركزة في يد قلة من أفراد المجتمع، والشركات العابرة للقارات.
3- الاعتماد على الضرائب والجبايات، كمصدر لتوفير النفقات اللازمة لتغطية ميزانية الدولة.
أما حقيقة هذه الضرائب، فإن الدولة تقوم من خلال البرلمان (السلطة التشريعية)، بإقرار القوانين بالرسوم الضريبية، وجبايتها من رؤوس المال التجاري والصناعي والزراعي في البلاد، لتغطية ميزانيتها اللازمة للإنفاق على جهازها الإداري، وأجور موظفيها في القطاع المدني، وكذا الجيش والأمن ...الخ. غير أن الذي يدفع هذه الضرائب ويتكبدها في الحقيقة ليس الأغنياء بل الفقراء؛ لأن رأس المال يضيف مبلغ الضرائب والرسوم المدفوعة للدولة على ما ينتجه ويعرضه في السوق من سلع وخدمات للبيع . وهذا ما يفسر لنا ارتفاع أسعار السلع والخدمات، بالتوازي مع كل زيادة جديدة في أجور موظفي الدولة أو القطاع الخاص. فما يعطى للموظف بيد يؤخذ منه باليد الأخرى. وهكذا يزداد الأغنياء غنىً والفقراء فقراً.
4- العمل على زيادة نمو الناتج القومي أو المحلي من السلع والخدمات. أو بعبارة أخرى، ضمان توفير السلع والخدمات اللازمة لتغطية حاجات المجتمع في السوق؛ ليأخذ كل فرد منها بقدر ما يمتلك من النقود (جهاز الثمن) لا بقدر حاجته. وبذلك تكون هذه الفلسفة بنظامها هذا قد قررت أن من لا يمتلك المال (جهاز الثمن) _أما لأنه خُلق عاجزاً عن الكسب أو لأنه لم يجد عملاً_ لا يستحق العيش.
5- تبني القوانين والسياسات والبرامج اللازمة للحد من الزواج والزواج المبكر، ومنع تعدد الزوجات للحد من الإنجاب، بهدف خفض معدل نمو السكان.
6- تبني برامج ما يسمى منح ومساعدات الضمان الاجتماعي للتخفيف من الفقر. وهذا ما قد يظنه البعض ناحية إيجابية في النظم الرأسمالية وبخاصة في الغرب. لكن ما يجهله كثيرون، هو أن هذه البرامج توجه لمن أصبحوا تحت خط الفقر في المجتمع، لتخديرهم بما لا يسد الرمق تجنباً لثورتهم ضد النظام الرأسمالي، وأن العمال هم في الحقيقة وليس الدولة من يتكبد أعباء تمويل برامج الرعاية الاجتماعية. حيث تقوم الدول الرأسمالية بتمويل هذه البرامج من خلال ضريبة الدخل التي تستقطع من أجور العاملين، سواء في الوظائف الحكومية أو القطاع الخاص، أو أرباب المهن الحرة، وبالتالي تشكل عبئاً آخر غير أعباء الضرائب الأخرى على الفقراء من محدودي الدخل. هذا هو واقع الحال في كل النظم الرأسمالية في العالم، وعلى رأسها الدول الكبرى في الغرب بريطانيا وفرنسا وأمريكا.
وبهذا تتكشف لكل ذي بصر وبصيرة حقيقة الدور الذي تلعبه النظم الرأسمالية الديموقراطية في حياة الشعوب، والمتمثل في: توزيع الثروات والموارد الطبيعية على القلة (الأغنياء والمتنفذين) ليزدادوا غنىً، وتوزيع الفقر والبؤس على الشرفاء والضعفاء وهم الأغلبية في المجتمع. ففرضت بذلك أن تكون الحياة صراعاً شرساً بين الإنسان وأخيه من أجل المنفعة، والنظرة المادية والأخلاق النفعية هي التوجه العام المسيطر على أفراد المجتمع؛ لأن النظم الرأسمالية الديموقراطية، لا تطعم جائعاً ولا تكسو عارياً، ولا تؤوي مشرداً، ولا توفر كرامة الشرفاء والضعفاء من بني الإنسان.
وهكذا يتبين كيف أن عقيدة فصل الدين عن الحياة بنظامها الرأسمالي الديموقراطي، هي السبب الأساس والوحيد للفقر والفساد والظلم والشقاء الذي يعيشه الإنسان الحاضر؛ لأنها من حيث الأساس (العقيدة) قامت على قطع صلة الإنسان بما قبل الحياة (أي بخالقه) فصورته خالقاً عبثياً، وصورت الإنسان مخلوقاً لا غاية لوجوده، وجعلت الدنيا غاية له (إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر). وصورت له الحياة تصويراً مادياً، وجعلت المنفعة مقياسها، والمصلحة هي الرابطة بين الإنسان والإنسان. فأفسدت بذلك عقلية الإنسان ووصمته بالجهل وعقم التفكير وتفاهة الفكر، وأفسدت عليه فطرته بتصويرها السعادة متعاً وشهوات، فجعلت منه كائناً أنانياً جشعاً، لا يرى إلا نفسه وشهواته، يلهث وراءها ككلب مسعور ولو داس أسمى القيم وأقدسها، شعاره "كن ذئباً أو أكلتك الذئاب".
وبنظامها الديمقراطي حررت الإنسان من الخضوع لشرع وإرادة خالقه؛ لتخضعه لإرادة غيره ممن يشرعون له أهواءهم ومصالحهم قوانين وأنظمة، فغدا عبداً لغيره من أبناء جنسه، في الوقت الذي يتوهم أنه حر.
يتبع................
الفقر والفساد والجريمة نتائج حتمية للنظام الرأسمالي الديمقراطي
الأصل أن كل نظام في العالم ينبثق عن فكرة أساسية عن الكون والإنسان والحياة، وعن علاقتها جميعها بما قبل الحياة الدنيا وما بعدها. ويتأتى صلاح النظام أو فساده، عدله أو ظلمه من صحة أو فساد الأساس الذي انبثق عنه.
والنظام الرأسمالي الديموقراطي كغيره من النظم، انبثق عن فكرة أساسية عن الكون والإنسان والحياة، هي: فصل الدين عن الحياة. فكيف ظهرت هذه الفكرة؟ وما هو واقعها ومدلولها الفكري؛ أي فلسفتها وتصويرها للوجود؟ وما مفهومها للإنسان ولمعنى وجوده؟ ولسعادته؟ وللمثل العليا؟ وما مقياسها في الحياة؟ وكيف انبثقت عنها الأنظمة؟ وما أثرها على شخصية الإنسان وسلوكه، وعلى المجتمع؟ وما العلاقة بينها وبين الفقر والفساد والجريمة؟
أما بالنسبة لظهور الرأسمالية، وعقيدتها فصل الدين عن الحياة، فإنه نتيجة لما عانته الشعوب الأوروبية طوال ما سمى بالقرون الوسطى من الاستبداد والظلم على أيدي الملوك والأمراء وكذا الكنيسة التي أدخلت كثيراً من الخرافات والأساطير والأفكار الفلسفية الوثنية على المسيحية، وتحريف نصوصها لإعطاء الشرعية لسلطة الملوك وتبرير ممارساتهم ضد شعوبهم وتشريعها الاستبداد باسم الدين. هذا بالإضافة لحالة التعقل التي سرت في الذهن الأوروبي _بتأثير فلسفة ابن رشد التي حركت العقل الغربي نحو التفكير ومحاولة التعقل للكون والإنسان والحياة، ولمعنى الوجود والسياسة، بعيدا عن الدين_ وأدخلته حلبة الصراع في مواجهة ظلم وتسلط الملوك وخرافات الكنيسة، مشهرا فكرة الإلحاد وتأليه العقل. وقد ظل الصراع محتدما بين الجانبين ما يقارب أربعة قرون غرقت خلالها أوروبا في الخرافة والجهل والظلم والظلام.
ولما لم تحسم المعركة لصالح أيٍ من أطراف الصراع، ظهرت فكرة (فصل الدين عن الحياة) كحل وسط بين المتصارعين، بعد أن تبلورت هذه الفكرة في ذهن بعض المفكرين بالاستناد إلى بعض المعتقدات المسيحية _كالفكرة القائلة بمقتل الإله (سبحانه وتعالى) متجسداً في شخص المسيح عيسى عليه السلام_ بالإضافة إلى بعض المقولات الفلسفية كنظرية (الكون الميكانيكي) لنيوتن، التي تشبه الكون بما فيه بالساعة التي استغنت عن الصانع بعد صنعها وضبط قوانينها. وبهذا يكون الله (عز وجل) قد انتهى دوره بخلق الكون (الساعة) وضبط قوانينه. وبالتالي لم تعد هناك حاجة لتدخله في شئون العالم؛ لأن الطبيعة بما فيها من قوانين حتمية كفيلة بتنظيم نفسها. وكذلك الإنسان بما فيه من عقل راشد لم يعد محتاجا للتوجيه والتنظيم الإلهي. ومن هنا لم تبق حاجة ولا نفع للوحي، طالما أن الله أعطى الإنسان وسائل طبيعية للمعرفة أكثر يقيناً، كما يقول جون لوك (أحد كبار الفلاسفة العلمانيين).
هكذا وبالاستناد إلى العوامل السابقة، تبلورت وظهرت فكرة العلمانية (فصل الدين عن الحياة) كفكرة كلية أساسية شاملة للوجود، عقيدة عقلية تنبثق عنها القوانين والأنظمة.
فهي من حيث الأساس لا تنكر الدين؛ أي وجود خالق لهذا الكون، ولكنها لا تعترف به كمصدر للمفاهيم ونظام الحياة. وبعبارة أخرى: فإن عقيدة فصل الدين عن الحياة، تعترف ضمناً بفكرة الإله وسلطته في خلق الأشياء وإيجادها، وفي نفس الوقت ترفض حاكميته وسيادته على الحياة، و بالتبع تنكر الوحي والنبوة كمصدر للقيم وتنظيم الحياة، وتحل الإنسان محله في ممارسة (الحاكمية) سلطة التوجيه والتشريع ووضع القيم.
وبذلك تكون قد جعلت للحياة إلهين اثنين: أحدهما تقر له بسلطة الخلق فقط _دون سلطة الأمر (الحاكمية)_ وهو الله (عز وجل)، والآخر هو الإنسان الذي تقر له بالحاكمية والسيادة على الحياة.
وبإنكارها حاكمية الله عز وجل وحصر دوره في خلق الأشياء وإيجادها فقط، أعطت وجود الإنسان معنى العبثية. فهو مخلوق عبثي لا غاية لوجوده. ومن هنا جعلت الدنيا هي غايته، والقيمة المادية مثله الأعلى، والمصلحة هي الرابطة بينه وبين بني الإنسان، والسعادة تحقيق أكبر قدر من المتع والشهوات، والمنفعة مقياس الحياة، فالحلال ما يحقق المنفعة وإن كان: الربا والغش والكذب أو التضليل والاحتيال والخداع، أو الغدر والخيانة، أو الاتجار بالمسكرات وبالعرض والشرف، أو الظلم والبغي و العدوان. والحرام ما لا يحقق المنفعة، وإن كان: الصدق والوفاء والأمانة، أو الكرم والنجدة والعفة والنزاهة.
وهكذا فإن معنى فصل الدين عن الحياة، هو جعل الحاكمية؛ أي سلطة الحكم على الأشياء والأفعال، للإنسان وليس للخالق، وجعل الدين (الإيمان بالخالق) ناحية متعلقة بالفرد الذي أطلقت له الحريات ومنها حرية العقيدة. هذا هو واقع العلمانية ومضمونها الفكري، وعن هذا الأساس انبثقت فكرة الديموقراطية؛ أي حكم الشعب نفسه بنفسه، وكان أبرز ما فيها جعل السيادة (سلطة التشريع) للشعب، وعلى أساس نسبية الحقيقة وحرية الرأي، واعتبار رأي الأغلبية هو عنوان الحقيقة وإن كان باطلاً.
ولما كانت فكرة السيادة (الحاكمية) الشعبية نظرية خيالية وغير قابلة للتطبيق في الواقع، جاؤوا بفكرة البرلمان (المجالس النيابية) لتمثيل الشعب في ممارسة السيادة (حاكمية التشريع). ليعبدوا بعد ذلك الطريق أمام رجال المال والنفوذ للوصول إلى البرلمان لممارسة السيادة على الشعب باسم الشعب، وتشريع أهوائهم ومصالحهم قوانين يضعونها سيفاً على رقاب الأغلبية المستعبدة من أبناء الشعوب. هذا من حيث النظام السياسي .
أما فلسفة هذه العقيدة وتفسيرها للمشكلة الاقتصادية؛ أي لمشكلة فقر الإنسان، فقد اعتبرت الندرة النسبية _أي قلة الموارد بالنسبة لحاجات الإنسان_ هي سبب الفقر. ومعنى ذلك أن فقر السواد الأغلب من الناس أمر حتمي؛ أي قضاء وقدر فرضته الطبيعة نفسها. وبناءً على هذا التفسير قررت عدم صلاحية الدولة لتوزيع الثروة بين أفراد المجتمع، ورفض فكرة الملكية العامة للموارد الطبيعية والمرافق الخدمية، وكذا ملكية الدولة لها. وقالت بضرورة الاعتراف للفرد بحرية العمل وبالملكية الفردية للمرافق الخدمية والموارد الطبيعية، وبجهاز الثمن كمنظم لتوزيع الملكية بين أفراد المجتمع، وبالسوق (العرض والطلب) كمحدد لنوعية الإنتاج، وأسعار السلع والخدمات المنتجة.
هذه هي الأسس التي بني عليها النظام الاقتصادي الرأسمالي، أو ما يسمى نظام السوق أو الاقتصاد الحر. فقد قام على اعتبار كل فرد هو وحده المسؤول عن إشباع حاجاته وأهله من الغذاء والكساء والسكن وغيرها من الحاجات الأساسية والكمالية. ودون أن يترتب على الدولة أي مسؤولية تجاهه إذا عجز عن كسب المال (جهاز الثمن) اللازم لإشباع حاجته هو أو من يتوجب عليه إعالتهم.
وتطبيقاً لهذه الفلسفة، فقد كانت السياسة الاقتصادية التي ترسمها الدول الرأسمالية لنفسها، هي:-
1- عدم تدخل الدولة في الحياة الاقتصادية، وقصر مسؤوليتها على تأمين الحريات الاقتصادية (حرية العمل وحرية التملك) للأفراد، وتشريع القوانين اللازمة لضمان تمتعهم بها. وسواء تمكن كل فرد بهذه الحريات من الوصول لإشباع حاجاته ومن يتوجب عليه إشباعهم أم لا. الأمر الذي جعل الإنسان يفتقد الشعور بالأمان والطمأنينة، ويعيش الخوف من المستقبل المجهول.
2- خصخصة الموارد والثروات الطبيعية والمرافق الخدمية العامة، بتحويلها إلى ملكيات خاصة لمن يمتلكون وسائل الإنتاج من أفراد أو شركات سواء محلية أو أجنبية. وبذلك تصبح ثروات الشعوب كالنفط والغاز، أو مناجم المعادن من ذهب وفضة ونحاس وغيرها من الموارد. وكذا المرافق الخدمية الضرورية لارتقاء المجتمع: كالتعليم، والإعلام، والصحة، والكهرباء، والاتصالات ونحوها من الخدمات. بالإضافة للموانئ والشواطئ والثروة السمكية وما شاكلها من الملكيات العامة_ متركزة في يد قلة من أفراد المجتمع، والشركات العابرة للقارات.
3- الاعتماد على الضرائب والجبايات، كمصدر لتوفير النفقات اللازمة لتغطية ميزانية الدولة.
أما حقيقة هذه الضرائب، فإن الدولة تقوم من خلال البرلمان (السلطة التشريعية)، بإقرار القوانين بالرسوم الضريبية، وجبايتها من رؤوس المال التجاري والصناعي والزراعي في البلاد، لتغطية ميزانيتها اللازمة للإنفاق على جهازها الإداري، وأجور موظفيها في القطاع المدني، وكذا الجيش والأمن ...الخ. غير أن الذي يدفع هذه الضرائب ويتكبدها في الحقيقة ليس الأغنياء بل الفقراء؛ لأن رأس المال يضيف مبلغ الضرائب والرسوم المدفوعة للدولة على ما ينتجه ويعرضه في السوق من سلع وخدمات للبيع . وهذا ما يفسر لنا ارتفاع أسعار السلع والخدمات، بالتوازي مع كل زيادة جديدة في أجور موظفي الدولة أو القطاع الخاص. فما يعطى للموظف بيد يؤخذ منه باليد الأخرى. وهكذا يزداد الأغنياء غنىً والفقراء فقراً.
4- العمل على زيادة نمو الناتج القومي أو المحلي من السلع والخدمات. أو بعبارة أخرى، ضمان توفير السلع والخدمات اللازمة لتغطية حاجات المجتمع في السوق؛ ليأخذ كل فرد منها بقدر ما يمتلك من النقود (جهاز الثمن) لا بقدر حاجته. وبذلك تكون هذه الفلسفة بنظامها هذا قد قررت أن من لا يمتلك المال (جهاز الثمن) _أما لأنه خُلق عاجزاً عن الكسب أو لأنه لم يجد عملاً_ لا يستحق العيش.
5- تبني القوانين والسياسات والبرامج اللازمة للحد من الزواج والزواج المبكر، ومنع تعدد الزوجات للحد من الإنجاب، بهدف خفض معدل نمو السكان.
6- تبني برامج ما يسمى منح ومساعدات الضمان الاجتماعي للتخفيف من الفقر. وهذا ما قد يظنه البعض ناحية إيجابية في النظم الرأسمالية وبخاصة في الغرب. لكن ما يجهله كثيرون، هو أن هذه البرامج توجه لمن أصبحوا تحت خط الفقر في المجتمع، لتخديرهم بما لا يسد الرمق تجنباً لثورتهم ضد النظام الرأسمالي، وأن العمال هم في الحقيقة وليس الدولة من يتكبد أعباء تمويل برامج الرعاية الاجتماعية. حيث تقوم الدول الرأسمالية بتمويل هذه البرامج من خلال ضريبة الدخل التي تستقطع من أجور العاملين، سواء في الوظائف الحكومية أو القطاع الخاص، أو أرباب المهن الحرة، وبالتالي تشكل عبئاً آخر غير أعباء الضرائب الأخرى على الفقراء من محدودي الدخل. هذا هو واقع الحال في كل النظم الرأسمالية في العالم، وعلى رأسها الدول الكبرى في الغرب بريطانيا وفرنسا وأمريكا.
وبهذا تتكشف لكل ذي بصر وبصيرة حقيقة الدور الذي تلعبه النظم الرأسمالية الديموقراطية في حياة الشعوب، والمتمثل في: توزيع الثروات والموارد الطبيعية على القلة (الأغنياء والمتنفذين) ليزدادوا غنىً، وتوزيع الفقر والبؤس على الشرفاء والضعفاء وهم الأغلبية في المجتمع. ففرضت بذلك أن تكون الحياة صراعاً شرساً بين الإنسان وأخيه من أجل المنفعة، والنظرة المادية والأخلاق النفعية هي التوجه العام المسيطر على أفراد المجتمع؛ لأن النظم الرأسمالية الديموقراطية، لا تطعم جائعاً ولا تكسو عارياً، ولا تؤوي مشرداً، ولا توفر كرامة الشرفاء والضعفاء من بني الإنسان.
وهكذا يتبين كيف أن عقيدة فصل الدين عن الحياة بنظامها الرأسمالي الديموقراطي، هي السبب الأساس والوحيد للفقر والفساد والظلم والشقاء الذي يعيشه الإنسان الحاضر؛ لأنها من حيث الأساس (العقيدة) قامت على قطع صلة الإنسان بما قبل الحياة (أي بخالقه) فصورته خالقاً عبثياً، وصورت الإنسان مخلوقاً لا غاية لوجوده، وجعلت الدنيا غاية له (إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر). وصورت له الحياة تصويراً مادياً، وجعلت المنفعة مقياسها، والمصلحة هي الرابطة بين الإنسان والإنسان. فأفسدت بذلك عقلية الإنسان ووصمته بالجهل وعقم التفكير وتفاهة الفكر، وأفسدت عليه فطرته بتصويرها السعادة متعاً وشهوات، فجعلت منه كائناً أنانياً جشعاً، لا يرى إلا نفسه وشهواته، يلهث وراءها ككلب مسعور ولو داس أسمى القيم وأقدسها، شعاره "كن ذئباً أو أكلتك الذئاب".
وبنظامها الديمقراطي حررت الإنسان من الخضوع لشرع وإرادة خالقه؛ لتخضعه لإرادة غيره ممن يشرعون له أهواءهم ومصالحهم قوانين وأنظمة، فغدا عبداً لغيره من أبناء جنسه، في الوقت الذي يتوهم أنه حر.
يتبع................