ابو اسيد
06-04-2012, 10:41 AM
كتب: جاد بعلبكي
مؤامرات ومكائد شخصية وقبلية ومناطقية، ميليشيات تتنافس على السلطة السياسية، مافيات ومحسوبيات اقتصادية عنيدة، ركام من الأسلحة في مخابئ غير محروسة، مستودعات ذخيرة منهوبة، آلاف من صواريخ أرض- جو المحمولة على الكتف وفراغ أمني مخيف يصيب الأجهزة الرسمية بالشلل. هذه هي باختصار ليبيا ما بعد القذافي، في غياب القيادة الحقيقية والرؤية الوطنية الواضحة.
منذ اعلان هيئات محلية في برقة (شرق ليبيا) عن إقامة مشروع فدرالي في المنطقة، على مساحة تمتد من حدود مصر شرقاً حتى سرت غرباً، والجدل يتصاعد حول دوافع المبادرة والمشاريع التقسيمية التي تعد للبلاد، والاجتهادات تتقاطع حول مخطط بعضه عربي وبعضه أجنبي لاقتسام الثروة النفطية الليبية في مرحلة ما بعد القذافي، وهو مخطّط كان قائماً قبل التغيير الأخير.
وحجة المطالبين بالأقاليم أن ليبيا ما بعد التغيير تعيش مركزية أكثر مما كانت عليه في العهد السابق، كما تعيش أزمة ثقة بين الشرق والغرب، وأن فئات واسعة من الليبيين لا تريد أن تخضع لسلطة طرابلس، مرة أخرى وبأي ثمن. والدليل أن «المؤتمر الوطني» يضم 120 عضواً من طرابلس من أصل 200، وهذا يعني أن القرار السياسي محصور في العاصمة على حساب الأطراف المهمشة.
وواقع الحال أن القوى الذي وظفها الغرب للاطاحة بالقذافي، تعاني بعد رحيله من إحباط كبير، وأن الميليشيات التي نزلت الى الشارع وقاتلت في ورشة الأطلسي، لا تزال في الشارع، في الوقت الذي أظهر «المجلس الوطني الانتقالي» عجزاً حقيقياً عن ضبط الأمور، وفرض هيبته كسلطة قبل الانتخابات المقرر اجراؤها في الصيف المقبل. وقد تبين في الأشهر الأخيرة الماضية أن المجلس يفتقر الى البصيرة السياسية المطلوبة لاتخاذ القرارات الحاسمة، وأن همه في أشهر «الانتفاضة» على النظام السابق كان محصوراً في الاطاحة بالحكم والحصول على اعتراف دولي وتأمين الوصول الى الأصول الليبية المجمدة، ولم يتسع له الوقت من أجل التخطيط لمستقبل ليبيا في المرحلة الانتقالية، هذا اذا كان يملك الموارد البشرية اللازمة لمثل هذه المهمة.
وفي انتظار الانتخابات التي يفترض أن تجري في 23 حزيران المقبل كحد أقصى، لن يتمكن المجلس الانتقالي من تنفيذ التغييرات التي ينتظرها الليبيون، ولن يتمكن من حل الميليشيات التي لا تعد ولا تحصى والتي تعمل على زعزعة الاستقرار الداخلي، لأنه عاجز عن توفير التدريب المهني لهؤلاء المقاتلين من أجل تشجيعهم على العودة الى الحياة المدنية، و«الاصلاحات» المطلوبة تنتظر تشكيل حكومة ما بعد الانتخابات. في غضون ذلك تعم الفوضى في العاصمة والمدن الكبرى والمناطق وسط دعوات تتزايد الى اعادة تقسيم البلاد الى ثلاثة أقاليم: برقة وفزان (جنوباً) وطرابلس (غرباً).
هل تنفجر ليبيا قبل انتهاء المرحلة الانتقالية؟
في أحدث تقرير له تناول مركز ستراتفور الأميركي أربع ظواهر رئيسة مرتبطة بالحديث عن الفدرالية في ليبيا هي:
- الانتخابات المحلية في مدينة مصراتة (غرب) - وهي غالباً ما تصنف ضمن إطار «الدولة- المدينة» – التي أفضت إلى استبدال المجلس المحلي المعين من قبل المجلس الوطني الانتقالي.
- الاشتباكات التي وقعت في بلدة بني وليد بين مسلحين موالين للمجلس الانتقالي وآخرين من مناصري القذافي، والتي انتهت بطرد مقاتلي المجلس الانتقالي من البلدة.
- الاشتباكات القبلية في منطقة الكفرة (جنوب شرق).
- الانفلات الأمني في منطقة جبل نفوسة (غرب).
هذه الظواهر إذا ما أضيفت الى جملة من القضايا المثيرة للقلق، وانتشار السلاح في أيدي الميليشيات، تشكل نقطة انطلاق الى حالة جديدة انفلاتية، وتفتح الباب على تغييرات دراماتيكية مفاجئة.
في هذا السياق يقول الكاتب الصحافي الليبي عبد الله الكبير: لعل المطالبة بالفدرالية في الوقت الراهن تدفع الأمور في اتجاه التقسيم، وقد نسمع غداً دعوات أخرى لمجموعات ومناطق أخرى ترفع المطالب نفسها، وقد تدعو مجموعات متطرفة من التبو الى مؤتمر يخرج بالنتائج نفسها. ويشير الكبير الى أنه بسبب سيطرة ميليشيات من الزنتان ومصراتة على العاصمة ونفوذهم فيها، يخشى المطالبون بالفدرالية من أن يجدوا أنفسهم خارج اللعبة وسط تنامي نفوذ هاتين المنطقتين. ويرى مفتي ليبيا الشيخ الصادق الغرياني في الفدرالية بداية التقسيم، والتقسيم يؤدي حتماً الى الخلاف، ويفتح الباب للنزاع على أشياء كثيرة منها: مصادر الثروات، وهذا هو الذي يريده الأعداء.
خصوصية برقة
يُذكر أن إقليم برقة يمتد بين بلدة بني جواد قرب خليج سرت غرباً ونقطة أمساعد الحدودية بين ليبيا ومصر شرقاً. ورغم أن دستور العام 1951 كرس الوحدة بين برقة (الشرق) وطرابلس (الغرب) وفزان (الجنوب)، إلا أن خضوع ليبيا لنظام مركزي صارم طوال أكثر من أربعة عقود، جعل أهالي برقة متمسكين بالدفاع عن خصوصية مجتمعهم المستندة إلى جملة عوامل تاريخية واقتصادية واجتماعية ودينية. ومن بين العوامل الجغرافية، يشار إلى أن الأقاليم الثلاثة تبدو في حال من عدم الترابط، بسبب وجود مساحات صحراوية شاسعة تفصل في ما بينها. وفي ظل غياب شبكة مواصلات فعلية ـ باستثناء الطريق السريع الوحيد الذي يربط بين طرابلس وبنغازي ـ فإن التواصل بين سكان الأقاليم الثلاثة كان وما زال صعباً، ولذلك فقد بات ليبيو الشرق يعتبرون أنفسهم أقرب إلى مصر منه إلى طرابلس، فيما يعتبر ليبيو الغرب أنفسهم أقرب إلى المغرب العربي منه إلى بنغازي.
أما على المستوى التاريخي، فإن سكان برقة يشددون على أن ثمة خصوصية محلية لإقليمهم، ويشمل ذلك بعدين: البنية الاجتماعية القبلية المتمايزة عن تلك القائمة في الغرب، والبنية السياسية الخاصة، والمتمثلة بشبكة علاقات اقتصادية وقبلية تكوّنت منذ أن تمكن عالم الدين الجزائري محمد السنوسي (السنوسي الأكبر) في أواسط القرن التاسع عشر من توحيد قبائل الشرق، ونجاح هذا التحالف القبلي في السيطرة على الطرق التجارية بين أفريقيا الوسطى وساحل البحر المتوسط.
الى جانب خصوصية برقة هناك حديث عن خصوصيات أخرى بدءاً بخصوصية الزنتان. وفي معلومات «الكفاح العربي» أن ألوية الزنتان القادمة من منطقة الجبل الغربي تتولى حماية المطارات وحقول النفط في الجنوب، لأن المجلس الوطني الانتقالي عاجز عن توفير هذه الحماية. ومعروف أن مقاتلي الزنتان هم الذين ألقوا القبض على سيف الاسلام القذافي ونقله من الزنتان الى بلدة تقع في الجبل الغربي أو جبل نفوسة على بعد ساعتين من العاصمة. ويبدو أن التواصل مع سيف الاسلام خلق نوعاً من التلاقي بين الزنتانيين والقذاذفة بدليل أن اتصالات تجري بين الطرفين لاقامة تحالف يمهد لنوع من المصالحة بين قبيلة القذافي والحكم الليبي الجديد، بما يضمن رفع الغبن عن الزنتانيين الذين يقاتلون في كل مكان ويشعرون في الوقت نفسه أنهم مستبعدون عن المواقع الحساسة في القرارين السياسي والأمني، وعودة القذاذفة الى بلادهم.
في هذه المعلومات أيضاً أن الطيار عبد الله المهدي قائد الطائرة الروسية الصنع التي نقلت سيف الاسلام الى الزنتان، استقبل نجل القذافي في بيته الريفي فوق الجبل المطل على البلدة، وقد نقل عنه قوله: سيف أخبرني أنه يريد المجيء الى الزنتان وهو يعرف أنه سوف يكون في أمان هنا. وقد أضاف: قصة سيف الاسلام مأساة. أبوه مات وأخوته ماتوا وأمه وأخته فرتا...
وتقول الجماعة التي رافقت المهدي في رحلة سيف الاسلام الى الزنتان: إن البلدة مرتبطة باتفاقية قبلية مع القذاذفة عمرها مئتا سنة تضمن حماية أسرى الحرب، وهي لا تزال قائمة.
يبقى سؤال: هل يعيد التاريخ نفسه وتعود ليبيا الى الصيغة الاتحادية؟ وكالة «سويس انفو» نقلت في 20 اذار الفائت عن الأكاديمي المعروف الدكتور مصطفى عمر التير، أستاذ علم الاجتماع في جامعة طرابلس، أن الدعوة إلى استقلال إقليم برقة ليست جديدة. فهي قديمة قِـدَم الأيام الأولى للمطالبة بالإستقلال بعد انسحاب الجيش الإيطالي من البلاد. وليبيا كإقليم لها تاريخ طويل، فالاسم ينتمي الى الحضارات القديمة، كما أن أسماء الأقاليم الفرعية، طرابلس وبرقة وفزان، كانت هي الأخرى معروفة. وعندما قررت إيطاليا أن تحتل موقعا في شمال إفريقيا، اختارت ليبيا بأقاليمها الثلاثة التي كانت جزءا من الإمبراطورية العثمانية، ودخل الليبيون في حرب شعواء، استمرت عشرين سنة، قبل أن تتمكن إيطاليا من بسْـط سلطتها على التراب الليبي.
وأشار التير إلى أن عددا من ليبيي المهجَـر نشطوا سياسيا، بحيث بقيت القضية الليبية حية وارتفعت وتيرة النشاط عند بداية الحرب الكونية الثانية، فتكاثر عدد المطالبين بالإستقلال. وأوضح أن الأسْـرة السنوسية ليست ليبية، وإنما جاءت إلى ليبيا من الجزائر، ثم انتشرت في أنحاء مختلفة من ليبيا وفي الأقاليم المجاورة، لكن انتشارها الأكثر كان في إقليم برقة، حيث نجح مؤسِّس الدّعوة في كسب ثقة جميع شيوخ القبائل. لذلك، انتشرت الزوايا السنوسية في كل قرية وبلدة. وعندما غزت إيطاليا البلاد، كانت الفرق الليبية المحاربة متعدِّدة في إقليم طرابلس، بينما اتَّحدت الفِـرق في إقليم برقة تحت الزعامة السنوسية. وبعدما انتصر الحلفاء في الحرب، انسحبت الجيوش الإيطالية من ليبيا، وبدأ سيل رجوع الليبيين من المهجر، وارتفع صوت المطالبة بالإستقلال.
ويُشدد الدكتور التير على التَّـشابه الكبير بين الإعلان الأخير عن الفدرالية والإعلان عن استقلال برقة في العام 1949، مُذكِّـرا بالعلاقة الخاصة التي كانت تربط بريطانيا بالأمير ادريس السنوسي، إذ وافقت على إعطاء برقة حُـكما ذاتيا تحت إمارته، وهكذا أعلن عن استقلال الإقليم في أول حزيران 1949، ورأى في تلك الخُـطوة عملا يتَّـسق مع البرنامج السياسي لبريطانيا خلال تلك الفترة، الذي رمى إلى تحويل مناطق نفوذ الإمبراطورية العثمانية إلى دويلات مَـلكية ترتبط بالتاج البريطاني، وهو البرنامج الذي بدأ بمملكتَي العراق وما سُـمي عندئذ بشرق الأردن. وفي هذا الإطار، اتخذ النظام الجديد في برقة قرارا منفرِدا وطلب من بقية الليبيين الإنضمام إليه، بعد القبول بالشروط التي وضعها، كما قرّر ذلك النظام بوضوح في حالة تخلف بقية الليبيين عن اللِّحاق بالنظام الذي أعلن في برقة، تحويلها إلى دولة مستقلة.
ويشكل وجود القسم الأعظم من احتياطات الطاقة الليبية في المنطقة الشرقية، أحد الحوافز الرئيسة لطرح مشروع الفدرالية. ويمتد إقليم برقة من الحدود المصرية الليبية شرقا إلى وسط البلاد غربا، ومن سواحل المتوسط شمالا إلى حدود السودان وتشاد جنوبا. والحجّة التي يطرحها الإنفصاليون تبريرا للفدرالية، هي «الظلم» الذي عانت منه بنغازي طيلة حكم القذافي. ويُقِـر الكاتب والمحلل السياسي عبد المنصف البوري، المنحدر من بنغازي، بأن مدينته والمناطق الشرقية عموما، عانت من الإقصاء والحِرمان عقودا طويلة. ويستدِل على ذلك، بأن نظام القذافي لم يُقِـم فيها مشاريع تنموية، بل إن مطارها المعروف بمطار بنينة - بنغازي، لم يُدخل عليه أي تغيير منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
.
مؤامرات ومكائد شخصية وقبلية ومناطقية، ميليشيات تتنافس على السلطة السياسية، مافيات ومحسوبيات اقتصادية عنيدة، ركام من الأسلحة في مخابئ غير محروسة، مستودعات ذخيرة منهوبة، آلاف من صواريخ أرض- جو المحمولة على الكتف وفراغ أمني مخيف يصيب الأجهزة الرسمية بالشلل. هذه هي باختصار ليبيا ما بعد القذافي، في غياب القيادة الحقيقية والرؤية الوطنية الواضحة.
منذ اعلان هيئات محلية في برقة (شرق ليبيا) عن إقامة مشروع فدرالي في المنطقة، على مساحة تمتد من حدود مصر شرقاً حتى سرت غرباً، والجدل يتصاعد حول دوافع المبادرة والمشاريع التقسيمية التي تعد للبلاد، والاجتهادات تتقاطع حول مخطط بعضه عربي وبعضه أجنبي لاقتسام الثروة النفطية الليبية في مرحلة ما بعد القذافي، وهو مخطّط كان قائماً قبل التغيير الأخير.
وحجة المطالبين بالأقاليم أن ليبيا ما بعد التغيير تعيش مركزية أكثر مما كانت عليه في العهد السابق، كما تعيش أزمة ثقة بين الشرق والغرب، وأن فئات واسعة من الليبيين لا تريد أن تخضع لسلطة طرابلس، مرة أخرى وبأي ثمن. والدليل أن «المؤتمر الوطني» يضم 120 عضواً من طرابلس من أصل 200، وهذا يعني أن القرار السياسي محصور في العاصمة على حساب الأطراف المهمشة.
وواقع الحال أن القوى الذي وظفها الغرب للاطاحة بالقذافي، تعاني بعد رحيله من إحباط كبير، وأن الميليشيات التي نزلت الى الشارع وقاتلت في ورشة الأطلسي، لا تزال في الشارع، في الوقت الذي أظهر «المجلس الوطني الانتقالي» عجزاً حقيقياً عن ضبط الأمور، وفرض هيبته كسلطة قبل الانتخابات المقرر اجراؤها في الصيف المقبل. وقد تبين في الأشهر الأخيرة الماضية أن المجلس يفتقر الى البصيرة السياسية المطلوبة لاتخاذ القرارات الحاسمة، وأن همه في أشهر «الانتفاضة» على النظام السابق كان محصوراً في الاطاحة بالحكم والحصول على اعتراف دولي وتأمين الوصول الى الأصول الليبية المجمدة، ولم يتسع له الوقت من أجل التخطيط لمستقبل ليبيا في المرحلة الانتقالية، هذا اذا كان يملك الموارد البشرية اللازمة لمثل هذه المهمة.
وفي انتظار الانتخابات التي يفترض أن تجري في 23 حزيران المقبل كحد أقصى، لن يتمكن المجلس الانتقالي من تنفيذ التغييرات التي ينتظرها الليبيون، ولن يتمكن من حل الميليشيات التي لا تعد ولا تحصى والتي تعمل على زعزعة الاستقرار الداخلي، لأنه عاجز عن توفير التدريب المهني لهؤلاء المقاتلين من أجل تشجيعهم على العودة الى الحياة المدنية، و«الاصلاحات» المطلوبة تنتظر تشكيل حكومة ما بعد الانتخابات. في غضون ذلك تعم الفوضى في العاصمة والمدن الكبرى والمناطق وسط دعوات تتزايد الى اعادة تقسيم البلاد الى ثلاثة أقاليم: برقة وفزان (جنوباً) وطرابلس (غرباً).
هل تنفجر ليبيا قبل انتهاء المرحلة الانتقالية؟
في أحدث تقرير له تناول مركز ستراتفور الأميركي أربع ظواهر رئيسة مرتبطة بالحديث عن الفدرالية في ليبيا هي:
- الانتخابات المحلية في مدينة مصراتة (غرب) - وهي غالباً ما تصنف ضمن إطار «الدولة- المدينة» – التي أفضت إلى استبدال المجلس المحلي المعين من قبل المجلس الوطني الانتقالي.
- الاشتباكات التي وقعت في بلدة بني وليد بين مسلحين موالين للمجلس الانتقالي وآخرين من مناصري القذافي، والتي انتهت بطرد مقاتلي المجلس الانتقالي من البلدة.
- الاشتباكات القبلية في منطقة الكفرة (جنوب شرق).
- الانفلات الأمني في منطقة جبل نفوسة (غرب).
هذه الظواهر إذا ما أضيفت الى جملة من القضايا المثيرة للقلق، وانتشار السلاح في أيدي الميليشيات، تشكل نقطة انطلاق الى حالة جديدة انفلاتية، وتفتح الباب على تغييرات دراماتيكية مفاجئة.
في هذا السياق يقول الكاتب الصحافي الليبي عبد الله الكبير: لعل المطالبة بالفدرالية في الوقت الراهن تدفع الأمور في اتجاه التقسيم، وقد نسمع غداً دعوات أخرى لمجموعات ومناطق أخرى ترفع المطالب نفسها، وقد تدعو مجموعات متطرفة من التبو الى مؤتمر يخرج بالنتائج نفسها. ويشير الكبير الى أنه بسبب سيطرة ميليشيات من الزنتان ومصراتة على العاصمة ونفوذهم فيها، يخشى المطالبون بالفدرالية من أن يجدوا أنفسهم خارج اللعبة وسط تنامي نفوذ هاتين المنطقتين. ويرى مفتي ليبيا الشيخ الصادق الغرياني في الفدرالية بداية التقسيم، والتقسيم يؤدي حتماً الى الخلاف، ويفتح الباب للنزاع على أشياء كثيرة منها: مصادر الثروات، وهذا هو الذي يريده الأعداء.
خصوصية برقة
يُذكر أن إقليم برقة يمتد بين بلدة بني جواد قرب خليج سرت غرباً ونقطة أمساعد الحدودية بين ليبيا ومصر شرقاً. ورغم أن دستور العام 1951 كرس الوحدة بين برقة (الشرق) وطرابلس (الغرب) وفزان (الجنوب)، إلا أن خضوع ليبيا لنظام مركزي صارم طوال أكثر من أربعة عقود، جعل أهالي برقة متمسكين بالدفاع عن خصوصية مجتمعهم المستندة إلى جملة عوامل تاريخية واقتصادية واجتماعية ودينية. ومن بين العوامل الجغرافية، يشار إلى أن الأقاليم الثلاثة تبدو في حال من عدم الترابط، بسبب وجود مساحات صحراوية شاسعة تفصل في ما بينها. وفي ظل غياب شبكة مواصلات فعلية ـ باستثناء الطريق السريع الوحيد الذي يربط بين طرابلس وبنغازي ـ فإن التواصل بين سكان الأقاليم الثلاثة كان وما زال صعباً، ولذلك فقد بات ليبيو الشرق يعتبرون أنفسهم أقرب إلى مصر منه إلى طرابلس، فيما يعتبر ليبيو الغرب أنفسهم أقرب إلى المغرب العربي منه إلى بنغازي.
أما على المستوى التاريخي، فإن سكان برقة يشددون على أن ثمة خصوصية محلية لإقليمهم، ويشمل ذلك بعدين: البنية الاجتماعية القبلية المتمايزة عن تلك القائمة في الغرب، والبنية السياسية الخاصة، والمتمثلة بشبكة علاقات اقتصادية وقبلية تكوّنت منذ أن تمكن عالم الدين الجزائري محمد السنوسي (السنوسي الأكبر) في أواسط القرن التاسع عشر من توحيد قبائل الشرق، ونجاح هذا التحالف القبلي في السيطرة على الطرق التجارية بين أفريقيا الوسطى وساحل البحر المتوسط.
الى جانب خصوصية برقة هناك حديث عن خصوصيات أخرى بدءاً بخصوصية الزنتان. وفي معلومات «الكفاح العربي» أن ألوية الزنتان القادمة من منطقة الجبل الغربي تتولى حماية المطارات وحقول النفط في الجنوب، لأن المجلس الوطني الانتقالي عاجز عن توفير هذه الحماية. ومعروف أن مقاتلي الزنتان هم الذين ألقوا القبض على سيف الاسلام القذافي ونقله من الزنتان الى بلدة تقع في الجبل الغربي أو جبل نفوسة على بعد ساعتين من العاصمة. ويبدو أن التواصل مع سيف الاسلام خلق نوعاً من التلاقي بين الزنتانيين والقذاذفة بدليل أن اتصالات تجري بين الطرفين لاقامة تحالف يمهد لنوع من المصالحة بين قبيلة القذافي والحكم الليبي الجديد، بما يضمن رفع الغبن عن الزنتانيين الذين يقاتلون في كل مكان ويشعرون في الوقت نفسه أنهم مستبعدون عن المواقع الحساسة في القرارين السياسي والأمني، وعودة القذاذفة الى بلادهم.
في هذه المعلومات أيضاً أن الطيار عبد الله المهدي قائد الطائرة الروسية الصنع التي نقلت سيف الاسلام الى الزنتان، استقبل نجل القذافي في بيته الريفي فوق الجبل المطل على البلدة، وقد نقل عنه قوله: سيف أخبرني أنه يريد المجيء الى الزنتان وهو يعرف أنه سوف يكون في أمان هنا. وقد أضاف: قصة سيف الاسلام مأساة. أبوه مات وأخوته ماتوا وأمه وأخته فرتا...
وتقول الجماعة التي رافقت المهدي في رحلة سيف الاسلام الى الزنتان: إن البلدة مرتبطة باتفاقية قبلية مع القذاذفة عمرها مئتا سنة تضمن حماية أسرى الحرب، وهي لا تزال قائمة.
يبقى سؤال: هل يعيد التاريخ نفسه وتعود ليبيا الى الصيغة الاتحادية؟ وكالة «سويس انفو» نقلت في 20 اذار الفائت عن الأكاديمي المعروف الدكتور مصطفى عمر التير، أستاذ علم الاجتماع في جامعة طرابلس، أن الدعوة إلى استقلال إقليم برقة ليست جديدة. فهي قديمة قِـدَم الأيام الأولى للمطالبة بالإستقلال بعد انسحاب الجيش الإيطالي من البلاد. وليبيا كإقليم لها تاريخ طويل، فالاسم ينتمي الى الحضارات القديمة، كما أن أسماء الأقاليم الفرعية، طرابلس وبرقة وفزان، كانت هي الأخرى معروفة. وعندما قررت إيطاليا أن تحتل موقعا في شمال إفريقيا، اختارت ليبيا بأقاليمها الثلاثة التي كانت جزءا من الإمبراطورية العثمانية، ودخل الليبيون في حرب شعواء، استمرت عشرين سنة، قبل أن تتمكن إيطاليا من بسْـط سلطتها على التراب الليبي.
وأشار التير إلى أن عددا من ليبيي المهجَـر نشطوا سياسيا، بحيث بقيت القضية الليبية حية وارتفعت وتيرة النشاط عند بداية الحرب الكونية الثانية، فتكاثر عدد المطالبين بالإستقلال. وأوضح أن الأسْـرة السنوسية ليست ليبية، وإنما جاءت إلى ليبيا من الجزائر، ثم انتشرت في أنحاء مختلفة من ليبيا وفي الأقاليم المجاورة، لكن انتشارها الأكثر كان في إقليم برقة، حيث نجح مؤسِّس الدّعوة في كسب ثقة جميع شيوخ القبائل. لذلك، انتشرت الزوايا السنوسية في كل قرية وبلدة. وعندما غزت إيطاليا البلاد، كانت الفرق الليبية المحاربة متعدِّدة في إقليم طرابلس، بينما اتَّحدت الفِـرق في إقليم برقة تحت الزعامة السنوسية. وبعدما انتصر الحلفاء في الحرب، انسحبت الجيوش الإيطالية من ليبيا، وبدأ سيل رجوع الليبيين من المهجر، وارتفع صوت المطالبة بالإستقلال.
ويُشدد الدكتور التير على التَّـشابه الكبير بين الإعلان الأخير عن الفدرالية والإعلان عن استقلال برقة في العام 1949، مُذكِّـرا بالعلاقة الخاصة التي كانت تربط بريطانيا بالأمير ادريس السنوسي، إذ وافقت على إعطاء برقة حُـكما ذاتيا تحت إمارته، وهكذا أعلن عن استقلال الإقليم في أول حزيران 1949، ورأى في تلك الخُـطوة عملا يتَّـسق مع البرنامج السياسي لبريطانيا خلال تلك الفترة، الذي رمى إلى تحويل مناطق نفوذ الإمبراطورية العثمانية إلى دويلات مَـلكية ترتبط بالتاج البريطاني، وهو البرنامج الذي بدأ بمملكتَي العراق وما سُـمي عندئذ بشرق الأردن. وفي هذا الإطار، اتخذ النظام الجديد في برقة قرارا منفرِدا وطلب من بقية الليبيين الإنضمام إليه، بعد القبول بالشروط التي وضعها، كما قرّر ذلك النظام بوضوح في حالة تخلف بقية الليبيين عن اللِّحاق بالنظام الذي أعلن في برقة، تحويلها إلى دولة مستقلة.
ويشكل وجود القسم الأعظم من احتياطات الطاقة الليبية في المنطقة الشرقية، أحد الحوافز الرئيسة لطرح مشروع الفدرالية. ويمتد إقليم برقة من الحدود المصرية الليبية شرقا إلى وسط البلاد غربا، ومن سواحل المتوسط شمالا إلى حدود السودان وتشاد جنوبا. والحجّة التي يطرحها الإنفصاليون تبريرا للفدرالية، هي «الظلم» الذي عانت منه بنغازي طيلة حكم القذافي. ويُقِـر الكاتب والمحلل السياسي عبد المنصف البوري، المنحدر من بنغازي، بأن مدينته والمناطق الشرقية عموما، عانت من الإقصاء والحِرمان عقودا طويلة. ويستدِل على ذلك، بأن نظام القذافي لم يُقِـم فيها مشاريع تنموية، بل إن مطارها المعروف بمطار بنينة - بنغازي، لم يُدخل عليه أي تغيير منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
.