المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : استراتيجية متقدمة للحرية



عبد الواحد جعفر
31-01-2012, 12:02 PM
استراتيجية متقدمة للحرية

إيليوت أبرامز- (فورين بوليسي) 23/1/2012
ترجمة: عبد الرحمن الحسيني
ثمة مزاج مرير يسود راهناً في ما يتعلق بما يدعى الربيع العربي. فالعصابات المسلحة تجول في ليبيا؛ والسلفيون يكسبون الأصوات في مصر، وتعيش الأقليات مثل الأقباط المصريين في خوف -كما هو حال الشيعة في البحرين. وتبدو "التجربة" برمتها لبعض المنتقدين وأنها بلهاء إذا كان المشروع الذي يعد مثالياً لا يفعل شيئاً غير نشر الفوضى في الشرق الأوسط. وينحو هؤلاء المنتقدون أنفسهم باللوم على الأميركيين الذين أطروا على الثورات العربية في العام الماضي، فيقولون إنهم أشخاص: ساذجون، وأيديولوجيون، وجهلة وخطيرون. وبوصفي واحداً من هؤلاء الأخيرين، اسمحوا لي بالرد.
كانت حالات فشل حكام العالم العربي واضحة ومفصلة صراحة قبل وقت طويل من العام 2011. ولم يكن سراً أن حالات القصور هذه هددت إحكام قبضتهم على زمام الأمور. ففي العام 2002، لاحظ تقرير برنامج التنمية التابع للأمم المتحدة الخاص بالتنمية البشرية في العالم العربي، أن انتشار الديمقراطية في العقود الأخيرة امتداداً من أميركا اللاتينية إلى أوروبا الشرقية "بالكاد وصل إلى الدول العربية". وقال التقرير إن هذا الافتقار إلى الحرية على وجه التحديد هو "ما يقوض التنمية البشرية، وهو أحد أكثر التجسيدات إيلاماً للتخلف على صعيد التنمية السياسية".
وكان الرئيس الأميركي (السابق) جورج دبليو بوش قد أدرك هذه الحقيقة الصادمة. وتساءل في الذكرى السنوية العشرين للمنحة القومية من أجل الديمقراطية: "هل تقف شعوب الشرق الأوسط نوعاً ما خارج إمكانية الوصول إلى الحرية؟" وأضاف: "لم تفعل 60 سنة أمضتها الأمم الغربية وهي تلتمس الأعذار وتستوعب الافتقار إلى الحرية في الشرق الأوسط أي شيء لتجعلنا نشعر بالأمان -لأنه على المدى البعيد لا يمكن شراء الاستقرار على حساب الحرية".
وقد كان تحليل بوش وبرنامج التنمية التابع للأمم المتحدة على حق، فيما أخطأ أولئك الذين حكموا بأن باستطاعة الأنظمة القديمة العيش إلى الأبد. وتبين أن ما يقال إنه "الصمود السلطوي" لا يعدو كونه أقل تأثيراً بعد كل شيء، وأن الكراهية الشعبية لتلك الأنظمة هي أكبر بكثير.
ولذلك، فإن الربيع العربي ليس خاصية تاريخية، وإنما نتيجة طبيعية للأنظمة التي أصبحت بمنتهى البساطة غير شرعية في أعين رعاياها. وقد ذهبت المصادر الممكنة للشرعية -مثل الديمقراطية، والدين، والخلافة الملكية أو خلق الازدهار الكبير. وجرى الإبقاء على الأنظمة في مكانها بفعل القوة وحسب، وقد أصبحت أقل استقراراً بكثير مقارنة مع ما فكرت به الغالبية العظمى من العلماء والدبلوماسيين والقادة السياسيين. ولم تتم الإطاحة بالدكتاتوريين العرب لأن بوش انتقدهم أو لأن باراك اوباما فشل في إنقاذهم، وإنما لأنهم افتقروا إلى دفاع متماسك عن حكمهم الخاص.
وهكذا، فإن المحافظين الجدد والديمقراطيين والآخرين الذين أطروا على الانتفاضات العربية كانوا محقين، لأنه: ماذا كان البديل؟ الإطراء على القمع المستمر؟ أم تعليم الحكام التكتيكات الأفضل، على الطريقة التي تحاضر فيها إيران (وتسلح) بشار الأسد في سورية؟ كان من شأن مثل هذا الموقف أن يسخر من المثاليات الأميركية، وأن يفشل في الحفاظ على هذه الأنظمة المكروهة في مكانها لفترة طويلة جداً، وكان سيترك خلفه نزعة عميقة لا يمكن محوها من معاداة الأمركة. ولعل هذا النوع من السياسة الواقعية هو المسار الذي انتهجته إدارة الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون بعد الانقلاب العسكري في اليونان في العام 1967، وبعد مرور نصف قرن تقريباً، لم يسامح اليونانيون الولايات المتحدة.
من الطبيعي أن أفضل جواب هو أنه كان يتوجب علينا الدفع بشكل أقوى نحو الإصلاح منذ البداية وليس في أعقاب الخط الناشط لبوش والمحافظين الجدد والديمقراطية. خذ مثلاً كلمة وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس في العام 2005 في الجامعة الأميركية في القاهرة، أو خطاب بوش في حفل تنصيبه الثاني -وكلاهما حظي باللعنة من جانب "الواقعيين". سوف يكون حسناً لو أن بعض المنتقدين أقروا الآن بأن هذين الخطابين كانا منبئين. وحتى لو ان الولايات المتحدة كانت مترددة جداً كثيراً في تبني "استراتيجية متقدمة للحرية في الشرق الأوسط"، كما قال بوش في مؤتمر المنحة القومية من أجل الديمقراطية.
وبدلاً من ذلك، يدين المنتقدون هذه الاستراتيجية لأنها أفرزت المخاطر التي نشهدها راهناً. وذلك خطأ بالتحديد، لأنها كانت في الحقيقة سياسة تجاهل القمع المتراكم في العالم العربي هي التي ساعدت في جلبنا إلى شفير هاوية مخاطر اليوم. وبعد كل شيء، لم يكن بوش يحث على تقديم معالجات فورية، وإنما قال إن الدمقرطة هي "عمل مركز للأجيال". وكان يحث على الإصلاح، فيما يعود في جزء منه إلى أنه يعتبر في العادة أكثر أماناً بكثير من الثورة. أما أولئك الذين ظنوا بأن "النزعة السلطوية الدائمة" تستطيع البقاء للأبد، فإن لديهم الأكثر بكثير للاعتذار عنه مقارنة مع بوش وناشطي الديمقراطية أو المحافظين الجدد.
لكننا أصبحنا حيث نحن الآن. وعليه، فإن السؤال التالي هو ما إذا كان الربيع العربي سيفي فعلاً بوعده بتلبية حقوق ديمقراطية أكبر-أم أنه ببساطة سيدخل حقبة من الأنظمة الإسلامية المتطرفة أو أشكال جديدة من السلطوية. وقد يثبت المتشائمون أنهم على حق -وأن أي مقارنة بين المنطقة العربية وأوروبا الشرقية، تشير إلى أن ثمة من العناصر الإيجابية مفقودة، ليس أقلها جاذبية أنموذج الاتحاد الأوروبي.
ومع ذلك، فإنه لا شيئاً يبدو حتمياً. فقد حققت الديمقراطية بلدان إفريقية مثل بوتسوانا وغانا ومالي -والهند فيما يتعلق بتلك المسألة- على الرغم من الفقر ومعدلات محو الأمية المنخفضة والانقسامات المجتمعية المشابهة عموماً لتلك الموجودة في العالم العربي. كما أن التجربة لا توحي بأن انتصارات الإسلامويين يتعذر تجنبها -أو أنها سرمدية على الأقل. وفي هذا السياق، وجدت دراسة أجراها العالمان تشارلز كورزمان وإجلال ناقفي وضمت 21 بلدا إسلامياً، أن الأحزاب الإسلامية فقيرة بشكل أكثر كثيراً مما يعتقد به على الصعيد الشعبي، وأنها تكسب إجمالي الأصوات الأعلى في الانتخابات الأولى فقط.
ويصف كورزمان وناقفي قوساً سياسياً مشتركا للأحزاب الإسلامية. فهي غالباً ما تنجم من قمع النظام السابق بسمعة الأمانة والشجاعة، فتجذب العديد من الناخبين الذين لا يكونون متحمسين متعصبين. ثم عندما تفشل في الخروج بنتائج مادية -أي عندما، ولنقلها صريحة، يتبين أن الإسلام ليس هو الجواب- يتوجه الناخبون إلى مكان آخر. ويقول المؤلفان: "عندما يمنح المسلمون الفرصة للتصويت بحرية لصالح الأحزاب الإسلامية، فإنك تراهم يميلون إلى عدم فعل ذلك".
من الطبيعي أن يكون ثمة الكثير من المحاذير. والمعروف أن الأحزاب الإسلامية تؤدي أداء أفضل في المعدل في البلدان العربية قياساً مع أدائها في البلدان غير العربية. وعلى أية حال، فإن هذه العملية تستغرق وقتاً، وهو ما يتطلب في الغالب إجراء انتخابات حرة ثانية وثالثة. لكن الوقت يعد أيضاً جزءاً من البلسم الشافي للنزعة التطرفية. وكما أشار بوش في كلمته أمام مؤتمر المنحة القومية من أجل الديمقراطية، فإن "العمل اليومي للديمقراطية نفسها هو المسار باتجاه التقدم. إنها تتعلق بالتعاون والتبادل الحر للأفكار والحل السلمي للخلافات." وعليه، هل تستطيع الأحزاب الإسلامية تعلم اللعب على طول هذا الخط؟ يقول كورزمان وناقفي، نعم: "إن توجه الأحزاب الإسلامية عموماً إلى تبني نماذج كونية للديمقراطية وحقوق الإنسان مهم... فقد غيرت خبرة المشاركة السياسية، سواء في الحكومة أو في المجتمع المدني، من نظراتها بطرق لم تتخيلها هي نفسها عندما شرعت بالسير على درب السياسة الانتخابية".
لا بد من التشديد هنا على القول مرة أخرى إن تجريد الأنظمة السلطوية المتجذرة بعمق منذ وقت طويل هو عملية طويلة وخطيرة وعنيفة. وإذا كانت النتيجة الفوضى وانهيار الاقتصاد، فإننا قد نشهد تكرار التجربة الروسية: حيث الديمقراطية تتعادل مع الفوضى العارمة: وينجم فلاديمير بوتين آخر. وكما نشهد راهناً في روسيا، وعلى الرغم من الأداء البائس المفاجئ لحزب بوتين الحاكم في الانتخابات البرلمانية الأخيرة والتظاهرات الجماهيرية للمحتجين في موسكو، فإن هذا لا يبدو وأنه سيخلُد إلى الابد.
كما واجهت الأنظمة العربية القديمة الطريقة الصعبة خلال العام الماضي، فإن الحكم السلطوي يظل غير مستقر بنيوياً. وببساطة، فإن الشعب يريد المزيد. وقد كتب أستاذ جامعة كولومبيا أندرو ناثان عن النظام الشيوعي في الصين قائلاً: "يوسم هذا النظام بأنه نفعي، ومؤقت وانتقالي يلزم للوفاء بمتطلبات زمانه". وأضاف: "وبهذا المفهوم، فإن الأنظمة السلطوية لن تمكث إلى الأبد. ومع كل تنوعها وطول أمدها، فهي تعيش في ظل المستقبل، هشة وعرضة للتحديات الوجودية التي لا تواجه مثلها الأنظمة الديمقراطية".
سوف تحتاج الحكومات الجديدة في الشرق الأوسط إلى كسب ولاءات الشعوب التي تسعى إلى تحقيق المزيد من الكرامة والعزة، وإلى المزيد من التحرر من القمع وعيش حياة أفضل. وستثبت الثقافة العربية أنها عائق أمام التقدم إلى الأمام: إذ ستقوض كلا من معاملة النساء ونظريات المؤامرة المنتشرة على نطاق واسع، والتي تلوم اليهود وغيرهم على حالات الفشل القومية، ستقوض قدرة الشعب على تولي المسؤولية عن مستقبله الخاص. وتكمن أعوام الخطر في قادم الأيام. ومن المؤكد أنها ستكون هناك نماذج غير متساوية من الدمقرطة -مثلما هي الحالة بعد كل شيء، ليس في أفريقيا وأميركا اللاتينية فقط، وإنما حتى في أوروبا. لكن "التحليلات" المريرة القائلة بأن الثورات العربية ستفضي فقط، وبشكل حتمي وسرمدي إلى الكارثة، إنما لا تستند إلى لا خبرة أو ثقافة وعلم.
ولكن، ما الذي يتوجب على الولايات المتحدة فعله؟ التقليل من المواقف المتسرعة كبداية. فمن يستطيع قول إن الحالة السياسية في مصر أو ليبيا سوف تحل في غضون عامين أو أربعة؟ ويجب أن تتهيأوا لحماية مصالح أميركا وحلفائها في حال تعرضت للتهديد خلال هذه العملية الطويلة وغير المتساوية. وبالإضافة إلى ذلك، فإن ما يتوجب على أميركا فعله هو المساعدة: مساعدة الليبراليين والدستوريين والديمقراطيين والمنافحين عن حقوق الإنسان، الذين سيحظى خصومهم -في المساجد أو الشوارع أو الثكنات- بالكثير من الدعم الخارجي.
ربما يمكنك أن تسمي ذلك "استراتيجية متقدمة للحرية" والتي تتطلب، كما قال الرئيس بوش: "مثابرة وطاقة ومثالية". إننا لن نحدد ناتج هذه الصراعات، لكن بوسعنا أن نبذل قصارى جهودنا لمساعدة الأشخاص الجيدين لكي يكسبوا، ويكسبوا قريباً.

*نشرت هذه القراءة تحت عنوان:
A Forward Strategy of Freedom
[email protected]