المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : نظـرة في المصـالح المرسلـة-1



أبو زكريّا
13-09-2011, 02:12 PM
بـسم الله الرحمـان الرّحيـم
دراسة مقتبسة من "مدى اعتبار المصلحة في العمل الإسلامي" تأليف إيّاد هلال
مقدّمة
لقد أجمع علماء أصول الفقه على اعتبار القرآن والسنّة والإجماع والقياس من الأدلّة الشرعيّة، باستثناء ابن حزم ومن عرفوا بالظاهريّة الذين لم يعتبروا القياس دليلاً شرعيًّا، واختلف علماء الأصول في غير هذه الأدلّة الأربعة، إذ تجد من الأصوليّين من يعتبر الاستحسان من الأدلّة الشرعيّة مثل أبي حنيفة ومنهم من لا يعتبر الاستحسان دليلاً شرعيًّا مثل الإمام الشّافعي الذي اشتهر عنه أنّه قال :من استحسن فقد شرّع

ومن الأدلّة التي اختلف فيها الأصوليّون في اعتبارها ما يعرف بالمصالح المرسلة، وكان للاختلاف في اعتبارها دليلاً شرعيًّا الأثر الظاهر في اختلاف المجتهدين في بعض الأحكام الشرعيّة التي استدلّ بعضهم لها بالمصالح المرسلة وامتنع الآخرون عن ذلك

وفي العصر الحديث كثر الحديث عن الاستدلال بالمصالح المرسلة في كثير من المجالات ووصل الحدّ إلى تعطيل بعض النّصوص بحجّة أنّ الضرورة أو المصلحة أو الظروف تقتضي ذلك ولم يقتصر الأمر على بعض المشتغلين بالفقه في الوقت الحاضر ولكن الأمر تعدّاه إلى العاملين في الحقل الإسلامي وخصوصًا السياسي منه

المصالح المرسلة
حين بحث الأصوليّون المصلحة ذكروا أنّ المصلحة تُقْسم إلى ثلاثة أقسام

أوّلاً: ما كان الأمر فيه راجِعَا إلى الأدلّة الشرعيّة من قرآن وسنّة وإجماع وقياس، نصّا أو استنباطًا

ثانيًا: المصلحة التي شهد الشرع بإلغائها وبطلانها، وهذه المصلحة اتفق الجميع على عدم اعتبارها

ثالثًا: ما لم يشهد له الشرع بالبطلان أو الاعتبار، وهذا النوع الذي أطلق عليه بأنّه المصالح المرسلة، أي مصالح لا دليل عليها فهي قد أرسلت من الدليل فهي مرسلة.
هذا النوع الأخير هو الذي اختُلِف فيه فنفاه البعض وأخذ به البعض مثل الإمام مالك الذي اشتهر عنه الأخذ بالمصلحة المرسلة

إنّ كُلّ الذين أخذوا بالمصالح المرسلة اشترطوا للأخذ بها عدّة شروط منها
أن تتّفق المصلحة مع مقاصد الشريعة
أن تتلاءم مع المصالح المعتبرة المشهود لها بالأصول
أن تكون مصلحة ضروريّة قطعيّة كُلِيّة تعمّ جميع المسلمين لا فردًا أو أفرادًا

يجدر الملاحظة أنّ القول بالمصالح المرسلة ظهر في العصر الذهبي حيث كانت الخلافة قويّة ولأمّة واعية على الإسلام كفكرًا مهيمنًا على الجميع وادراك معنى مصادر التشريع موجودًا في أذهان المجتهدين ولم يكن يدور في خلد أبي حنيفة أو مالك رضي الله عنهما أو غيرهما الأخذ بالمصالح المرسلة بمعنى الواقعيّة أو المنفعيّة اللاّتي ليست لهما ركائز شرعيّة

يتبع باذن الله ...

أبو زكريّا
13-09-2011, 02:13 PM
لقد استدلّ القائلون بأخذ المصالح المرسلة بأمرين اثنين

الأمر الأوّل: أنّ الشارع اعتبر جنس المصالح في جنس الأحكام فالمصالح المرسلة تكون جزءاً ممّا اعتبره الشارع. ويردّدون هنا أنّ الشارع حفظ المقاصد الخمسة وهي حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال ويتفرّع عن هذا مصالح أخرى يُفهم أنّها مصلحة، إذ كلّ ما يؤيّد هذه المقاصد الشرعيّة ويساعد على تحقيقها فإنّه يكون معتبرًا ولو لم يرد دليل تفصيلي به

الأمر الثاني: استدلّ هؤلاء أنّ الصحابة قد أجمعوا على العمل بالمصالح المرسلة وعدّدوا بعض الأمثلة مثل جمع القرآن لم يرد به دليل ومثل جلد شارب الخمر ثمانين جلدة ومثل اتخاذ عمر ابن الخطّاب الدواوين واتخاذه قضاء الحسبة وقتل الجماعة بالواحد وإبقاء الأرض مفتوحة بيد أهلها دون توزيعها على الجند. يعقّب القائلون بالمصالح المرسلة على هذا قائلين إنّ مسند الصحابة في هذا كان المصلحة. وزاد بعضهم أمثلة أخرى مثل قتال مانعي الزكاة وإلغاء عمر ابن الخطّاب سهم المؤلَّفة قلوبهم فيقولون أنّ هذا إنّما هو تمّ بناء على المصلحة

ولو نظرنا إلى الأمرين لما وجدنا فيهما ما يصحّ لاعتبار المصالح المرسلة في الأدلّة الشرعيّة للأمور التالية

أوّلا: لقد جاءت الشريعة مبيّنةً حكم الوقائع المختلفة، والأدلّة الشرعيّة منها ما ورد معلّلاً ومنها ما لم يرِد معلّلاً والواجب ان يقتصر في العليّة على الدليل. ولفهم العلّة يجب أن يرجع المجتهد إلى مسالك معيّنة تعرف بإسم "مسالك العلّة" خلاصتها أنّ العلّة تفهم من النص صراحة مثل تعليل توزيع المال على الفقراء بأنّه منع تداول المال بيد الأغنياء فقط وهذا من قوله تعالى : "كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم".
كما أن العلّة تفهم من النصّ دلالة مثل قوله تعالى " إنّما الصدقات ..." فالمؤلّفة قلوبهم وصف مناسب لحكم إعطاء الزكاة، فعلّة إعطائهم الزّكاة هو تأليف قلوبهم فإذا زالت العلّة يزول الحكم. وأيضًا فإنّ العلّة قد تستنبط من نصوص عديدة، فمثلاً يقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم :"النّاس شركاء في ثلاث، الماء والكلأ والنّار" وثبت عنه صلّى الله عليه وسلّم أنّه سكت عن تملّك النّاس في المدينة والطائف لآبار المياه، فبالرجوع إلى الحالات التي سمح بها الرسول الكريم في تملّك آبار الماء نجد أنّها حالات لم تكن فيها للجماعة حاجة للماء فدلّ هنا أنّ علّة الشراكة في الماء هو كون الماء من مرافق الجماعة فهذه العلّة استنبطت من مجموعة أدلّة ولم ترد صراحة
كما أنّ العلّة قد تقاس على علّة أخرى ورد بها نص شرعي مثل منع القاضي من القضاء وهو جائع واعتبار الجوع علّة يمنع بسببها القاضي من القضاء قياسًا على جعل الغضب علّة منع القضاء في الحديث الشريف:لا يقضي القاضي وهو غضبان
المجال هنا لا يتّسع لبحث العلّة ولكن أوردنا ما أوردناه للدلالة على أنّ العلّة لها مسالك معيّنة ولها ألفاظ محدّدة ولها شروطها المحدّدة وليست أمرا متروكًا لكلّ شخصٍ يعلّل الأحكام كما يشاء
وبالرجوع إلى الأدلّة الشرعيّة لا نجد أنّ جلب المصالح عي علّة الأحكام الشرعيّة بمجملها. بل أنّ الكثير من الأحكام الشرعيّة، مثل حرمة الزنا وإباحة الزواج وفرض الجهاد ابتداء، وأتت بأدلّة تفصيليّة غير معلّلة ولا يُقال أنّ تحقيق المصالح هي علّة هذه الأحكام. والمصالح المعتبرة هي المصالح التي ورد الدليل بها والعلّة إنّما تأخذ بالدليل ولا تأخذ بغير دليل

ثانيًا : أنّ كلّ الأمثلة التي أوردوها من أفعال الصحابة ورد دليل شرعي لها وهم رضوان الله عليهم كانوا قد عاصروا التنزيل مطّلعين على الأدلّة الشرعيّة ضليعين فيها، سليقتهم في معرفة اللّغة سليقة سليمة، تقيّدوا بالكتاب والسنّة دون أن يخرجوا عنها مطلقًا

ثالثًا : إنّ تعريف المصلحة المرسلَة يناقض واقع الحكم الشرعي، فالحكم الشرعي هو خطاب الشّارع، والمصلحة المرسلة لا دليل لها باعتراف القائلين بها وبالتّالي كيف تكون خطاب الشارع ؟

وبالتالي نخلص أنّ المصالح المرسلة ليست دليلاً شرعيًّا ومن غير الجائز أخذها حتّى في حالة عدم تعارضها مع الدليل، فكيف يفتي بعضهم بأخذها رغم تعارض فتاريهم الواضح مع الأدلّة ؟؟؟

في الحلقة القادمة ان شاء الله سنستعرض بعض الحالات المطروحة على الساحة حاليّا ونحاول بحثها ونقاشها
أ- مسألة التحالفات السياسيّة
ب- مسألة إعطاء الثقة للحكومات الحالية
ج- مسألة المشاركة في الحكم وفي البرلمانات

يتبع باذن الله ...