muslem
11-09-2011, 10:24 AM
مسألة: الجزء الثاني التحليل الموضوعي
[ ص: 467 ] الحديث السابع والأربعون عن المقدام بن معدي كرب قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطن ، بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه ، فإن كان لا محالة ، فثلث لطعامه ، وثلث لشرابه ، وثلث لنفسه رواه الإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه ، وقال الترمذي : حديث حسن .
الحاشية رقم: 1
هذا الحديث خرجه الإمام أحمد والترمذي من حديث يحيى بن جابر الطائي عن المقدام ، وخرجه النسائي من هذا الوجه ومن وجه آخر من رواية صالح بن يحيى بن المقدام عن جده ، وخرجه ابن ماجه من وجه آخر عنه وله طرق أخرى . وقد روي هذا الحديث مع ذكر سببه ، فروى أبو القاسم البغوي في " معجمه " من حديث عبد الرحمن بن المرقع ، قال : فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر وهي مخضرة من الفواكه ، فواقع الناس الفاكهة ، فمغثتهم الحمى ، فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنما الحمى رائد الموت وسجن الله في [ ص: 468 ] الأرض ، وهي قطعة من النار ، فإذا أخذتكم فبردوا الماء في الشنان ، فصبوها عليكم بين الصلاتين يعني المغرب والعشاء ، قال : ففعلوا ذلك ، فذهبت عنهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لم يخلق الله وعاء إذا ملئ شرا من بطن ، فإن كان لا بد ، فاجعلوا ثلثا للطعام ، وثلثا للشراب ، وثلثا للريح . وهذا الحديث أصل جامع لأصول الطب كلها . وقد روي أن ابن ماسويه الطبيب لما قرأ هذا الحديث في " كتاب " أبي خيثمة ، قال : لو استعمل الناس هذه الكلمات ، سلموا من الأمراض والأسقام ، ولتعطلت المارستانات ودكاكين الصيادلة ، وإنما قال هذا ؛ لأن أصل كل داء التخم ، كما قال بعضهم : أصل كل داء البردة ، وروي مرفوعا ولا يصح رفعه . وقال الحارث بن كلدة طبيب العرب : الحمية رأس الدواء ، والبطنة رأس [ ص: 469 ] الداء ، ورفعه بعضهم ولا يصح أيضا . وقال الحارث أيضا : الذي قتل البرية ، وأهلك السباع في البرية إدخال الطعام على الطعام قبل الانهضام . وقال غيره : لو قيل لأهل القبور : ما كان سبب آجالكم ؟ قالوا : التخم . فهذا بعض منافع تقليل الغذاء ، وترك التملي من الطعام بالنسبة إلى صلاح البدن وصحته . وأما منافعه بالنسبة إلى القلب وصلاحه ، فإن قلة الغذاء توجب رقة القلب ، وقوة الفهم ، وانكسار النفس ، وضعف الهوى والغضب ، وكثرة الغذاء توجب ضد ذلك . قال الحسن : يابن آدم كل في ثلث بطنك ، واشرب في ثلثه ، ودع ثلث بطنك يتنفس لتتفكر . وقال المروذي : جعل أبو عبد الله ، يعني أحمد يعظم أمر الجوع والفقر ، فقلت له : يؤجر الرجل في ترك الشهوات ، فقال : وكيف لا يؤجر ، وابن عمر يقول : ما شبعت منذ أربعة أشهر ؟ قلت لأبي عبد الله : يجد الرجل من قلبه رقة وهو يشبع ؟ قال : ما أرى . وروى المروذي عن أبي عبد الله قول ابن عمر هذا من وجوه ، فروى بإسناده عن ابن سيرين ، قال : قال رجل لابن عمر : ألا أجيئك بجوارش ؟ قال : [ ص: 470 ] وأي شيء هو ؟ قال : شيء يهضم الطعام إذا أكلته ، قال : ما شبعت منذ أربعة أشهر ، وليس ذاك أني لا أقدر عليه ، ولكن أدركت أقواما يجوعون أكثر مما يشبعون . وبإسناده عن نافع ، قال : جاء رجل بجوارش إلى ابن عمر ، فقال : ما هذا ؟ قال : جوارش : شيء يهضم به الطعام ، قال : ما أصنع به ؟ إني ليأتي علي الشهر ما أشبع فيه من الطعام . وبإسناده عن رجل قال : قلت لابن عمر : يا أبا عبد الرحمن رقت مضغتك ، وكبر سنك ، وجلساؤك لا يعرفون لك حقك ولا شرفك ، فلو أمرت أهلك أن يجعلوا لك شيئا يلطفونك إذا رجعت إليهم ، قال : ويحك ، والله ما شبعت منذ إحدى عشرة سنة ، ولا اثنتي عشرة سنة ، ولا ثلاث عشرة سنة ، ولا أربع عشرة سنة مرة واحدة ، فكيف بي وإنما بقي مني كظمء الحمار . وبإسناده عن عمرو بن الأسود العنسي أنه كان يدع كثيرا من الشبع مخافة الأشر . وروى ابن أبي الدنيا في كتاب " الجوع " بإسناده عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : ما شبعت منذ أسلمت . [ ص: 471 ] وروى بإسناده عن محمد بن واسع ، قال : من قل طعمه فهم وأفهم ، وصفا ، ورق ، وإن كثرة الطعام ليثقل صاحبه عن كثير مما يريد . وعن أبي عبيدة الخواص ، قال : حتفك في شبعك ، وحظك في جوعك ، وإذا أنت شبعت ثقلت ، فنمت ، استمكن منك العدو فجثم عليك ، وإذا أنت تجوعت كنت للعدو بمرصد . وعن عمرو بن قيس ، قال : إياكم والبطنة فإنها تقسي القلب . وعن سلمة بن سعيد قال : إن كان الرجل ليعير بالبطنة كما يعير بالذنب يعمله . وعن بعض العلماء قال : إذا كنت بطينا ، فاعدد نفسك زمنا حتى تخمص . وعن ابن الأعرابي قال : كانت العرب تقول : ما بات رجل بطينا فتم عزمه . وعن أبي سليمان الداراني قال : إذا أردت حاجة من حوائج الدنيا والآخرة ، فلا تأكل حتى تقضيها ، فإن الأكل يغير العقل . وعن مالك بن دينار قال : ما ينبغي للمؤمن أن يكون بطنه أكبر همه ، وأن تكون شهوته هي الغالبة عليه . قال : وحدثني الحسن بن عبد الرحمن ، قال : قال الحسن أو غيره : كانت بلية أبيكم آدم عليه السلام أكلة ، وهي بليتكم إلى يوم القيامة . قال : وكان يقال : من ملك بطنه ، ملك الأعمال الصالحة كلها ، وكان يقال : لا تسكن الحكمة معدة ملأى . [ ص: 472 ] وعن عبد العزيز بن أبي رواد قال : كان يقال : قلة الطعم عون على التسرع إلى الخيرات . وعن قثم العابد قال : كان يقال : ما قل طعم امرئ قط إلا رق قلبه ، ونديت عيناه . وعن عبد الله بن مرزوق قال : لم نر للأشر مثل دوام الجوع ، فقال له أبو عبد الرحمن العمري الزاهد : وما دوامه عندك ؟ قال : دوامه أن لا تشبع أبدا . قال : وكيف يقدر من كان في الدنيا على هذا ؟ قال : ما أيسر ذلك يا أبا عبد الرحمن على أهل ولايته ومن وفقه لطاعته ، لا يأكل إلا دون الشبع هو دوام الجوع . ويشبه هذا قول الحسن لما عرض الطعام على بعض أصحابه ، فقال له : أكلت حتى لا أستطيع أن آكل ، فقال الحسن : سبحان الله ويأكل المسلم حتى لا يستطيع أن يأكل ؟ ! . وروى أيضا بإسناده عن أبي عمران الجوني ، قال : كان يقال : من أحب أن ينور قلبه ، فليقل طعمه . وعن عثمان بن زائدة قال : كتب إلي سفيان الثوري : إن أردت أن يصح جسمك ، ويقل نومك ، فأقل من الأكل . وعن ابن السماك قال : خلا رجل بأخيه ، فقال : أي أخي ، نحن أهون على الله من أن يجيعنا ، إنما يجيع أولياءه . وعن عبد الله بن الفرج قال : قلت لأبي سعيد التميمي : الخائف يشبع ؟ [ ص: 473 ] قال : لا ، قلت : المشتاق يشبع ؟ قال : لا . وعن رياح القيسي أنه قرب إليه طعام ، فأكل منه ، فقيل له : ازدد فما أراك شبعت ، فصاح صيحة وقال : كيف أشبع أيام الدنيا وشجرة الزقوم طعام الأثيم بين يدي ؟ فرفع الرجل الطعام من بين يديه ، وقال : أنت في شيء ونحن في شيء . قال المروذي : قال لي رجل : كيف ذاك المتنعم ؟ يعني أحمد ، قلت له : وكيف هو متنعم ؟ قال : أليس يجد خبزا يأكل ، وله امرأة يسكن إليها ، ويطؤها ، فذكرت ذلك لأبي عبد الله فقال : صدق ، وجعل يسترجع ، وقال : إنا لنشبع . وقال بشر بن الحارث : ما شبعت منذ خمسين سنة ، وقال : ما ينبغي للرجل أن يشبع اليوم من الحلال ، لأنه إذا شبع من الحلال ، دعته نفسه إلى الحرام ، فكيف من هذه الأقذار ؟ . وعن إبراهيم بن أدهم قال : من ضبط بطنه ضبط دينه ، ومن ملك جوعه ملك الأخلاق الصالحة ، وإن معصية الله بعيدة من الجائع ، قريبة من الشبعان ، والشبع يميت القلب ، ومنه يكون الفرح والمرح والضحك . وقال ثابت البناني : بلغنا أن إبليس ظهر ليحيى بن زكريا عليهما السلام ، فرأى عليه معاليق من كل شيء ، فقال له يحيى : يا إبليس ، ما هذه المعاليق التي أرى عليك ؟ قال : هذه الشهوات التي أصيب من بني آدم ، قال : فهل لي فيها شيء ؟ قال : ربما شبعت ، فثقلناك عن الصلاة وعن الذكر ، قال : فهل غير هذا ؟ قال : لا ، قال : لله علي أن لا أملأ بطني من طعام أبدا ، قال : فقال إبليس : لله علي أن لا أنصح مسلما أبدا . [ ص: 474 ] وقال أبو سليمان الداراني : إن النفس إذا جاعت وعطشت ، صفا القلب ورق ، وإذا شبعت ورويت ، عمي القلب ، وقال : مفتاح الدنيا الشبع ، ومفتاح الآخرة الجوع ، وأصل كل خير في الدنيا والآخرة الخوف من الله عز وجل ، وإن الله ليعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب ، وإن الجوع عنده في خزائن مدخرة ، فلا يعطي إلا من أحب خاصة ، ولأن أدع من عشائي لقمة أحب إلي من أن آكلها ثم أقوم من أول الليل إلى آخره . وقال الحسن بن يحيى الخشني : من أراد أن تغزر دموعه ويرق قلبه فليأكل وليشرب في نصف بطنه ، وقال أحمد بن أبي الحواري : فحدثت بهذا أبا سليمان فقال : إنما جاء الحديث : " ثلث طعام وثلث شراب " وأرى هؤلاء قد حاسبوا أنفسهم ، فربحوا سدسا . وقال محمد بن النضر الحارثي : الجوع يبعث على البر كما تبعث البطنة على الأشر . وعن الشافعي ، قال : ما شبعت منذ ست عشرة سنة إلا شبعة اطرحتها ، لأن الشبع يثقل البدن ، ويزيل الفطنة ، ويجلب النوم ، ويضعف صاحبه عن العبادة . وقد ندب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى التقلل من الأكل في حديث المقدام ، وقال : حسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه . وفي " الصحيحين " عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : المؤمن يأكل في معى واحد ، والكافر يأكل في سبعة أمعاء والمراد أن المؤمن [ ص: 475 ] يأكل بأدب الشرع ، فيأكل في معى واحد والكافر يأكل بمقتضى الشهوة والشره والنهم ، فيأكل في سبعة أمعاء . وندب - صلى الله عليه وسلم - مع التقلل من الأكل والاكتفاء ببعض الطعام إلى الإيثار بالباقي منه ، فقال : طعام الواحد يكفي الاثنين ، وطعام الاثنين يكفي الثلاثة ، وطعام الثلاثة يكفي الأربعة فأحسن ما أكل المؤمن في ثلث بطنه ، وشرب في ثلث ، وترك للنفس ثلثا ، كما ذكره النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث المقدام ، فإن كثرة الشرب تجلب النوم ، وتفسد الطعام . قال سفيان : كل ما شئت ولا تشرب ، فإذا لم تشرب ، لم يجئك النوم . وقال بعض السلف : كان شباب يتعبدون في بني إسرائيل ، فإذا كان عند فطرهم ، قام عليهم قائم فقال : لا تأكلوا كثيرا ، فتشربوا كثيرا ، فتناموا كثيرا ، فتخسروا كثيرا . وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه يجوعون كثيرا ، ويتقللون من أكل الشهوات ، وإن كان ذلك لعدم وجود الطعام ، إلا أن الله لا يختار لرسوله إلا أكمل الأحوال وأفضلها . ولهذا كان ابن عمر يتشبه بهم في ذلك - مع قدرته على الطعام - وكذلك كان أبوه من قبله . [ ص: 476 ] ففي " الصحيحين " عن عائشة ، قالت : ما شبع آل محمد - صلى الله عليه وسلم - منذ قدم المدينة من خبز بر ثلاث ليال تباعا حتى قبض . ولمسلم : قالت : ما شبع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من خبز شعير يومين متتابعين حتى قبض . وخرج البخاري عن أبي هريرة قال : ما شبع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من طعام ثلاثة أيام حتى قبض . وعنه قال : خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الدنيا ولم يشبع من خبز الشعير . وفي " صحيح مسلم " عن عمر أنه خطب ، فذكر ما أصاب الناس من الدنيا ، فقال : لقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يظل اليوم يلتوي ما يجد دقلا يملأ به بطنه . وخرج الترمذي ، وابن ماجه من حديث أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال : لقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد ، ولقد أخفت في الله وما يخاف أحد ، ولقد أتت علي ثلاث من بين يوم وليلة وما لي طعام إلا ما واراه إبط بلال
[ ص: 467 ] الحديث السابع والأربعون عن المقدام بن معدي كرب قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطن ، بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه ، فإن كان لا محالة ، فثلث لطعامه ، وثلث لشرابه ، وثلث لنفسه رواه الإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه ، وقال الترمذي : حديث حسن .
الحاشية رقم: 1
هذا الحديث خرجه الإمام أحمد والترمذي من حديث يحيى بن جابر الطائي عن المقدام ، وخرجه النسائي من هذا الوجه ومن وجه آخر من رواية صالح بن يحيى بن المقدام عن جده ، وخرجه ابن ماجه من وجه آخر عنه وله طرق أخرى . وقد روي هذا الحديث مع ذكر سببه ، فروى أبو القاسم البغوي في " معجمه " من حديث عبد الرحمن بن المرقع ، قال : فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر وهي مخضرة من الفواكه ، فواقع الناس الفاكهة ، فمغثتهم الحمى ، فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنما الحمى رائد الموت وسجن الله في [ ص: 468 ] الأرض ، وهي قطعة من النار ، فإذا أخذتكم فبردوا الماء في الشنان ، فصبوها عليكم بين الصلاتين يعني المغرب والعشاء ، قال : ففعلوا ذلك ، فذهبت عنهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لم يخلق الله وعاء إذا ملئ شرا من بطن ، فإن كان لا بد ، فاجعلوا ثلثا للطعام ، وثلثا للشراب ، وثلثا للريح . وهذا الحديث أصل جامع لأصول الطب كلها . وقد روي أن ابن ماسويه الطبيب لما قرأ هذا الحديث في " كتاب " أبي خيثمة ، قال : لو استعمل الناس هذه الكلمات ، سلموا من الأمراض والأسقام ، ولتعطلت المارستانات ودكاكين الصيادلة ، وإنما قال هذا ؛ لأن أصل كل داء التخم ، كما قال بعضهم : أصل كل داء البردة ، وروي مرفوعا ولا يصح رفعه . وقال الحارث بن كلدة طبيب العرب : الحمية رأس الدواء ، والبطنة رأس [ ص: 469 ] الداء ، ورفعه بعضهم ولا يصح أيضا . وقال الحارث أيضا : الذي قتل البرية ، وأهلك السباع في البرية إدخال الطعام على الطعام قبل الانهضام . وقال غيره : لو قيل لأهل القبور : ما كان سبب آجالكم ؟ قالوا : التخم . فهذا بعض منافع تقليل الغذاء ، وترك التملي من الطعام بالنسبة إلى صلاح البدن وصحته . وأما منافعه بالنسبة إلى القلب وصلاحه ، فإن قلة الغذاء توجب رقة القلب ، وقوة الفهم ، وانكسار النفس ، وضعف الهوى والغضب ، وكثرة الغذاء توجب ضد ذلك . قال الحسن : يابن آدم كل في ثلث بطنك ، واشرب في ثلثه ، ودع ثلث بطنك يتنفس لتتفكر . وقال المروذي : جعل أبو عبد الله ، يعني أحمد يعظم أمر الجوع والفقر ، فقلت له : يؤجر الرجل في ترك الشهوات ، فقال : وكيف لا يؤجر ، وابن عمر يقول : ما شبعت منذ أربعة أشهر ؟ قلت لأبي عبد الله : يجد الرجل من قلبه رقة وهو يشبع ؟ قال : ما أرى . وروى المروذي عن أبي عبد الله قول ابن عمر هذا من وجوه ، فروى بإسناده عن ابن سيرين ، قال : قال رجل لابن عمر : ألا أجيئك بجوارش ؟ قال : [ ص: 470 ] وأي شيء هو ؟ قال : شيء يهضم الطعام إذا أكلته ، قال : ما شبعت منذ أربعة أشهر ، وليس ذاك أني لا أقدر عليه ، ولكن أدركت أقواما يجوعون أكثر مما يشبعون . وبإسناده عن نافع ، قال : جاء رجل بجوارش إلى ابن عمر ، فقال : ما هذا ؟ قال : جوارش : شيء يهضم به الطعام ، قال : ما أصنع به ؟ إني ليأتي علي الشهر ما أشبع فيه من الطعام . وبإسناده عن رجل قال : قلت لابن عمر : يا أبا عبد الرحمن رقت مضغتك ، وكبر سنك ، وجلساؤك لا يعرفون لك حقك ولا شرفك ، فلو أمرت أهلك أن يجعلوا لك شيئا يلطفونك إذا رجعت إليهم ، قال : ويحك ، والله ما شبعت منذ إحدى عشرة سنة ، ولا اثنتي عشرة سنة ، ولا ثلاث عشرة سنة ، ولا أربع عشرة سنة مرة واحدة ، فكيف بي وإنما بقي مني كظمء الحمار . وبإسناده عن عمرو بن الأسود العنسي أنه كان يدع كثيرا من الشبع مخافة الأشر . وروى ابن أبي الدنيا في كتاب " الجوع " بإسناده عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : ما شبعت منذ أسلمت . [ ص: 471 ] وروى بإسناده عن محمد بن واسع ، قال : من قل طعمه فهم وأفهم ، وصفا ، ورق ، وإن كثرة الطعام ليثقل صاحبه عن كثير مما يريد . وعن أبي عبيدة الخواص ، قال : حتفك في شبعك ، وحظك في جوعك ، وإذا أنت شبعت ثقلت ، فنمت ، استمكن منك العدو فجثم عليك ، وإذا أنت تجوعت كنت للعدو بمرصد . وعن عمرو بن قيس ، قال : إياكم والبطنة فإنها تقسي القلب . وعن سلمة بن سعيد قال : إن كان الرجل ليعير بالبطنة كما يعير بالذنب يعمله . وعن بعض العلماء قال : إذا كنت بطينا ، فاعدد نفسك زمنا حتى تخمص . وعن ابن الأعرابي قال : كانت العرب تقول : ما بات رجل بطينا فتم عزمه . وعن أبي سليمان الداراني قال : إذا أردت حاجة من حوائج الدنيا والآخرة ، فلا تأكل حتى تقضيها ، فإن الأكل يغير العقل . وعن مالك بن دينار قال : ما ينبغي للمؤمن أن يكون بطنه أكبر همه ، وأن تكون شهوته هي الغالبة عليه . قال : وحدثني الحسن بن عبد الرحمن ، قال : قال الحسن أو غيره : كانت بلية أبيكم آدم عليه السلام أكلة ، وهي بليتكم إلى يوم القيامة . قال : وكان يقال : من ملك بطنه ، ملك الأعمال الصالحة كلها ، وكان يقال : لا تسكن الحكمة معدة ملأى . [ ص: 472 ] وعن عبد العزيز بن أبي رواد قال : كان يقال : قلة الطعم عون على التسرع إلى الخيرات . وعن قثم العابد قال : كان يقال : ما قل طعم امرئ قط إلا رق قلبه ، ونديت عيناه . وعن عبد الله بن مرزوق قال : لم نر للأشر مثل دوام الجوع ، فقال له أبو عبد الرحمن العمري الزاهد : وما دوامه عندك ؟ قال : دوامه أن لا تشبع أبدا . قال : وكيف يقدر من كان في الدنيا على هذا ؟ قال : ما أيسر ذلك يا أبا عبد الرحمن على أهل ولايته ومن وفقه لطاعته ، لا يأكل إلا دون الشبع هو دوام الجوع . ويشبه هذا قول الحسن لما عرض الطعام على بعض أصحابه ، فقال له : أكلت حتى لا أستطيع أن آكل ، فقال الحسن : سبحان الله ويأكل المسلم حتى لا يستطيع أن يأكل ؟ ! . وروى أيضا بإسناده عن أبي عمران الجوني ، قال : كان يقال : من أحب أن ينور قلبه ، فليقل طعمه . وعن عثمان بن زائدة قال : كتب إلي سفيان الثوري : إن أردت أن يصح جسمك ، ويقل نومك ، فأقل من الأكل . وعن ابن السماك قال : خلا رجل بأخيه ، فقال : أي أخي ، نحن أهون على الله من أن يجيعنا ، إنما يجيع أولياءه . وعن عبد الله بن الفرج قال : قلت لأبي سعيد التميمي : الخائف يشبع ؟ [ ص: 473 ] قال : لا ، قلت : المشتاق يشبع ؟ قال : لا . وعن رياح القيسي أنه قرب إليه طعام ، فأكل منه ، فقيل له : ازدد فما أراك شبعت ، فصاح صيحة وقال : كيف أشبع أيام الدنيا وشجرة الزقوم طعام الأثيم بين يدي ؟ فرفع الرجل الطعام من بين يديه ، وقال : أنت في شيء ونحن في شيء . قال المروذي : قال لي رجل : كيف ذاك المتنعم ؟ يعني أحمد ، قلت له : وكيف هو متنعم ؟ قال : أليس يجد خبزا يأكل ، وله امرأة يسكن إليها ، ويطؤها ، فذكرت ذلك لأبي عبد الله فقال : صدق ، وجعل يسترجع ، وقال : إنا لنشبع . وقال بشر بن الحارث : ما شبعت منذ خمسين سنة ، وقال : ما ينبغي للرجل أن يشبع اليوم من الحلال ، لأنه إذا شبع من الحلال ، دعته نفسه إلى الحرام ، فكيف من هذه الأقذار ؟ . وعن إبراهيم بن أدهم قال : من ضبط بطنه ضبط دينه ، ومن ملك جوعه ملك الأخلاق الصالحة ، وإن معصية الله بعيدة من الجائع ، قريبة من الشبعان ، والشبع يميت القلب ، ومنه يكون الفرح والمرح والضحك . وقال ثابت البناني : بلغنا أن إبليس ظهر ليحيى بن زكريا عليهما السلام ، فرأى عليه معاليق من كل شيء ، فقال له يحيى : يا إبليس ، ما هذه المعاليق التي أرى عليك ؟ قال : هذه الشهوات التي أصيب من بني آدم ، قال : فهل لي فيها شيء ؟ قال : ربما شبعت ، فثقلناك عن الصلاة وعن الذكر ، قال : فهل غير هذا ؟ قال : لا ، قال : لله علي أن لا أملأ بطني من طعام أبدا ، قال : فقال إبليس : لله علي أن لا أنصح مسلما أبدا . [ ص: 474 ] وقال أبو سليمان الداراني : إن النفس إذا جاعت وعطشت ، صفا القلب ورق ، وإذا شبعت ورويت ، عمي القلب ، وقال : مفتاح الدنيا الشبع ، ومفتاح الآخرة الجوع ، وأصل كل خير في الدنيا والآخرة الخوف من الله عز وجل ، وإن الله ليعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب ، وإن الجوع عنده في خزائن مدخرة ، فلا يعطي إلا من أحب خاصة ، ولأن أدع من عشائي لقمة أحب إلي من أن آكلها ثم أقوم من أول الليل إلى آخره . وقال الحسن بن يحيى الخشني : من أراد أن تغزر دموعه ويرق قلبه فليأكل وليشرب في نصف بطنه ، وقال أحمد بن أبي الحواري : فحدثت بهذا أبا سليمان فقال : إنما جاء الحديث : " ثلث طعام وثلث شراب " وأرى هؤلاء قد حاسبوا أنفسهم ، فربحوا سدسا . وقال محمد بن النضر الحارثي : الجوع يبعث على البر كما تبعث البطنة على الأشر . وعن الشافعي ، قال : ما شبعت منذ ست عشرة سنة إلا شبعة اطرحتها ، لأن الشبع يثقل البدن ، ويزيل الفطنة ، ويجلب النوم ، ويضعف صاحبه عن العبادة . وقد ندب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى التقلل من الأكل في حديث المقدام ، وقال : حسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه . وفي " الصحيحين " عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : المؤمن يأكل في معى واحد ، والكافر يأكل في سبعة أمعاء والمراد أن المؤمن [ ص: 475 ] يأكل بأدب الشرع ، فيأكل في معى واحد والكافر يأكل بمقتضى الشهوة والشره والنهم ، فيأكل في سبعة أمعاء . وندب - صلى الله عليه وسلم - مع التقلل من الأكل والاكتفاء ببعض الطعام إلى الإيثار بالباقي منه ، فقال : طعام الواحد يكفي الاثنين ، وطعام الاثنين يكفي الثلاثة ، وطعام الثلاثة يكفي الأربعة فأحسن ما أكل المؤمن في ثلث بطنه ، وشرب في ثلث ، وترك للنفس ثلثا ، كما ذكره النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث المقدام ، فإن كثرة الشرب تجلب النوم ، وتفسد الطعام . قال سفيان : كل ما شئت ولا تشرب ، فإذا لم تشرب ، لم يجئك النوم . وقال بعض السلف : كان شباب يتعبدون في بني إسرائيل ، فإذا كان عند فطرهم ، قام عليهم قائم فقال : لا تأكلوا كثيرا ، فتشربوا كثيرا ، فتناموا كثيرا ، فتخسروا كثيرا . وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه يجوعون كثيرا ، ويتقللون من أكل الشهوات ، وإن كان ذلك لعدم وجود الطعام ، إلا أن الله لا يختار لرسوله إلا أكمل الأحوال وأفضلها . ولهذا كان ابن عمر يتشبه بهم في ذلك - مع قدرته على الطعام - وكذلك كان أبوه من قبله . [ ص: 476 ] ففي " الصحيحين " عن عائشة ، قالت : ما شبع آل محمد - صلى الله عليه وسلم - منذ قدم المدينة من خبز بر ثلاث ليال تباعا حتى قبض . ولمسلم : قالت : ما شبع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من خبز شعير يومين متتابعين حتى قبض . وخرج البخاري عن أبي هريرة قال : ما شبع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من طعام ثلاثة أيام حتى قبض . وعنه قال : خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الدنيا ولم يشبع من خبز الشعير . وفي " صحيح مسلم " عن عمر أنه خطب ، فذكر ما أصاب الناس من الدنيا ، فقال : لقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يظل اليوم يلتوي ما يجد دقلا يملأ به بطنه . وخرج الترمذي ، وابن ماجه من حديث أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال : لقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد ، ولقد أخفت في الله وما يخاف أحد ، ولقد أتت علي ثلاث من بين يوم وليلة وما لي طعام إلا ما واراه إبط بلال