مشاهدة النسخة كاملة : كتاب بيان الفرق بين الصدر و القلب و الفؤاد و اللب لحكيم الترمذي
muslem
11-09-2011, 06:58 AM
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بيان الفرق بين الصدر و القلب و الفؤاد و اللب الحكيم الترمذي
كتاب جميل جدا متى بدأت بقرائته سوف تستمر لنهايته انظر
http://www.4shared.com/dir/Z4mnJ4Gi/__online.html
انتظر تعليقاتكم
muslem
14-09-2011, 07:41 AM
بسم الله الرحمن الرحيم
رب يسر وأعن
قال أبو عبد الله محمد بن علي التِّرْمِذِي: أما بعد، فإن بعض أهل العلم والفقه سألني عن بيان الفَرْق بين الصدر والقلب والفؤاد واللب، وما وراءها من الشَّغاف ومواضع العلوم، وأحب أن أشرح له بتوفيق الله تعالى إذ هو مُيسّر كل عسير وبه أستعين.
الفصل الأول
اعلم، زادك الله فقهاً في الدين، أن اسم القلب اسم جامع يقتضي مقامات الباطن كلها، وفي الباطن مواضع منها ما هي من خارج القلب ومنها ما هي من داخل القلب فأشبه اسم القلب اسم العين، إذ العين اسم يجمع ما بين الشفريتين من البياض والسواد والحدقة والنور الذي في الحدقة. وكل واحد من هذه الأشياء له حكم على حدة ومعنى غير معنى صاحبه، إلا أن بعضها معاونة لبعض، ومنافع بعضها متصلة ببعض، وكل ما هو خارج فهو أساس الذي يليه من الداخل، وقوام النور بقوامهن. وكذلك اسم الدار اسم جامع لما يحفظ بحيطانها من الباب والدهليز وصحنها في بيوتها وما فيها من المخدع والخزانة، وكل مكان وموضع فيها له حكم غير حكم صاحبه. وكذلك اسم الحرم اسم جامع للحرم من حوالي مكة والبلد والمسجد والبيت العتيق، وفي كل موضع مناسك غير ما يكون في الموضع الآخر. وكذلك اسم القنديل اسم جامع للزجاجة، وفي القنديل موضع الماء غير موضع الفتيلة، وموضع الفتيلة غير موضع الماء، والفتيلة هي التي يكون فيها النور، وفي موضع الفتيلة دهن ليس فيه ماء، وصلاحه بصلاح هذه الأشياء كلها، إذا نقص منها واحد فسد ما سواه. وكذلك اسم اللوز اسم جامع للقشر الخارج الذي فوق القشر الصلب، والقشر الثاني الذي هو مثل العظم والمخ، واللب الذي فيه، والدهن الذي في داخل اللب.
فاعلم، زادك الله فقهاً في الدين، أن لهذا الدين أعلاماً ومنازل، ولأهله فيه مراتب، وأهل العلم فيه مراتب، وأهل العلم فيه على درجات. قال الله تعالى: {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} (الزخرف، 32)، وقال: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} (يوسف، 76).وكل علم هو أرفع فموضعه في القلب هو أكن وأخص وأحرز وأخفى وأستر، ولكن ذكر اسم القلب ينوب عن ذكر سائر المقامات عند عامة الناس.
ولكن الصدر في القلب هو في المقام من القلب بمنزلة بياض العين في العين، ومثل صحن الدار في الدار، ومثل الذي يحوط بمكة، ومثل موضع الماء في القنديل، ومثل القشر الأعلى من اللوز الذي يخرج اللوز منه إذا يبس في الشجر. فهذا الصدر موضع دخول الوسواس والآفات، كما يعيب بياض العين آفة العين آفة البثور وهيجان العرق وسائر علل الرمد، وكما يوضع في صحن الدار من الحطب والقماشات، ويدخل فيها كل أحد من الأجانب أحياناً، وكما يدخل السباع والبهائم في ساحة الحرم، وكما يقع فوق الماء في القنديل الفراش وغيره، وإن كان فوق الماء دهن فأسفل موضعه الماء، وكما تدل القمل والبعوض والذباب في قشر اللوز الذي هو أعلى إذا انشق حتى صارت الهوامّ الصغار يدخلن فيه.
والذي يدخل في الصدر قلما يشعر به في حينه، وهو موضع دخول الغل والشهوات والمنى والحاجات، وإنه يضيق أحياناً وينشرح أحياناً، وهو موضع ولاية النفس الأمّارة بالسوء ولها فيه مدخل وتتكلف أشياء وتتكبر وتظهر القدرة من نفسها. وهو موضع نور الإسلام، وهو موضع حفظ العلم المسموع الذي يُتعلم من علم الأحكام والأخبار وكل ما يعبّر عنه بلسان العبارة، ويكون أول سبب الوصول إليه التعلم والسمع. وإنما سمّي صدراً لأنه صدر القلب، وأول مقامة كصدر النهار الذي هو أوله، أو كصحن الدار الذي هو أول موضع منها. ويصدر منه وساوس الحوائج، وفِكَر الأشغال تصدر منه إلى القلب أيضاً إذا استقرت وطالت المدة.
وأما القلب فهو المقام الثاني فيه، وهو داخل الصدر، كسواد العين الذي هو داخل العين، وهو البياض، وكبلد مكة الذي هو داخل الحرم، وكموضع الفتيلة من القنديل، وكالبيت داخل الدار، وكاللوز داخل القشر الأعلى. وهو معدن نور الإيمان ونور الخشوع والتقوى والمحبة والرضا واليقين والخوف والرجاء والصبر والقناعة. وهو معدن أصول العلم لأنه مثل عين الماء والصدر مثل الخوض، من العين إليه الماء، كالصدر يخرج من القلب إليه العلم، أو يدخل من طريق السمع إليه. والقلب يهيج منه اليقين والعلم والنية، حتى يخرج إلى الصدر. فالقلب هو الأصل والصدر هو الفرع، وإنما يتأكد بالأصل الفرع. كما قال رسول الله ﷺ: " إنما الأعمال بالنيات"[2]، ففسر رسول الله ﷺ أن العمل الذي تعمله النفس إنما يرتفع مقداره بنية القلب، وتضاعف الحسنة على قدر النية. والعمل للنفس، ومنتهى ولايتها إلى الصدر بنية القلب وولايته. وليس القلب في يد النفس رحمة من الله تعالى، لأن القلب هو الملك والنفس هي المملكة، كما قال رسول الله ﷺ: "واليدان جنحان والرجلان بريد والعينان مسلحة، والأذنان قمع، والكبد رحمة، والطحال ضحك والكليتان مكر، والرئة نفس، فإذا صلح الملك صلحت جنوده، وإذا فسد الملك فسد جنوده"[3]، فبين رسول الله ﷺ أن القلب ملك، فالصدر للقلب كالميدان للفارس. وبيّن عليه السلام أن صلاح الجوارح بصلاح القلب وفسادها بفساد القلب، فالقلب بمنزلة السراج وصلاح السراج بالنور، وذلك النور نور التقى واليقين، لأنه إذا خلا عن هذا النور كان القلب بمنزلة مسرجة طفئ نور سراجها وكل عمل جاء من النفس من غير قلب فإنه ليس بمعتبر في حكم الآخرة، وليس بمؤاخذ صاحبه إن كان معصية ولا مثاب إن كان طاعة. كما قال الله تعالى: { يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} (البقرة، 225).
ومَثَل الفؤاد في القلب، وهو المقام الثالث، كمَثل الحدقة في سواد العين، وكمثل المسجد الحرام في داخل مكة، وكمثل المخدع والخزانة في البيت، وكمثل الفتيلة في موضعها وسط القنديل وكمثل اللب في داخل اللوز. وهذا الفؤاد موضع المعرفة وموضع الخواطر وموضع الرؤية، وكلما يستفيد الرجل يستفيد فؤاده أولاً، ثم القلب. والفؤاد في وسط القلب كما أن القلب في وسط الصدر، مثل اللؤلؤة في الصدف.
ومَثَل اللب في الفؤاد كمثل نور البصر في العين، وكمثل السراج في فتيلة القنديل، وكمثل الدهن المكنون في داخل لب اللوز. وكل واحد من هذه الأشياء الخارجية وقاية وستر للذي يليه من الدخل، وكل واحد منهن يشاكل الباقيات الأُخر، فهي أشكال متعاونات قريبة بعضها من بعض، موافقات غير مخالفات، لأنها أنوار الدين والدين واحد وإن كان مراتب أهله تختلف وتتنوع. وهذا اللب موضع نور التوحيد ونور التفريد، وهو النور الأتمّ والسلطان الأعظم.
وبعد هذا مقامات لطيفة وأمكنة شريفة ولطائف ظريفة، والأصل لهن جميعهن نور التوحيد، فالتوحيد سِرّ والمعرفة بِرّ، والإيمان محافظة السر ومشاهدة البر، والإسلام الشكر على البر وتسليم القلب للسر، لأن التوحيد سر بهداية الله تعالى للعبد ودلالته إياه عليه، ولم يكن العبد يدركه بعقله لولا تأييد الله تعالى وهدايته له. والمعرفة بِرٌّ من الله تعالى له إذ فتح له باب الآلاء والنعماء مبتدئاً من غير استحقاق من العبد لذلك، ومَنَّ عليه بالهدى حتى آمن بأن هذا كله من الله تعالى، مَنَّهُ عليه نعمةً ومنَّةً، لا يقدر على شكره إلا بتوفيق الله، وذلك أيضاً نعمة جديدة مِنْه عليه، فهو يشاهد بر الله ويحافظ سره، إذ هو الموفق، لأنه لا يدرك كيفية ربوبيته، فعلم أنه واحد، ويجتلب التشبيه والتعطيل والتكييف والتجنيف، فهذا هو الإيمان الذي هو يشاهد البر ويحافظ السر. وإن الإسلام هو استعمال النفس في بر الله بطاعته بالشكر والاستقامة وتسليم الربوبية إليه والإعراض عن إدراك السر والإقبال إلى العبودية والدوام على ما يقر به إليه، لأن الإسلام إنما يقام بالنفس والنفس هي عمياء عن إدراك الحق ومشاهدته، ولم يكلف النفس إدراك الحقائق، ألا ترى أن البعد أُمر بالإيمان بالقلب، ولم يكلف بإدراك ما آمن من جهة الكيفية، إنما عليه الاتباع والفرار من الابتداع، ويكفي من النفس التسليم فحسب.
والمقامات المسكوت عنها التي وراء هذه المقامات المذكور بعضها إنما ببصرها عبد موفَّق بفهم المقامات الموصوفة بهذه الأمثال المعروفة، يعينه الله تعالى ويؤيده ليفهمها ، وتكون هذه المقامات التي وراء هذه المذكورات كزيادة صفو الماء إذ لبث في الآنية، فبهذه الأمثال يدرك طريق السر المسكوت عنه.
muslem
14-09-2011, 07:49 AM
الفصل الثاني
وإن المؤمن قد ابتلى بالنفس وأمانيها، وأعطيت النفس ولاية وتكلف بالدخول في الصدر. والنفس معدنها في الجوف وموضع القرب وموضع القرب وهيجانها من الدم وقوة النجاسة، فيمتلئ الجوف من ظلمة دخانها وحرارة نارها، ثم تدخل في الصدر بوسوستها وأباطيل أمانيها ابتلاء من الله إياه حتى يستعين العبد بصدق افتقاره ودوام تضرعه لمولاه، فيجيبه الله تعالى ويصرف عنه شرها. وكذلك الشيطان، يدخل بوسوسته في صدر العبد، وهو آخذ ولاية حد النفس، لأن النفس الأمّارة بالسوء شكل الشيطان، وهما شيطانان، قال الله تعالى: {شَيَاطِينَ ٱلْإِنسِ وَٱلْجِنِّ} (الأنعام، 112). وإن الله جل وعلا رحم عبده المؤمن حيث لم يجعل قلبه في يد نفسه، وإنما هو برحمته يتولاه، ويبتليه بدخول الشيطان ووسوسته في صدره ليعلمه قليلاً من حقارة قدرة ويريه تمام فقره وتصديق ذلك قوله عز وجل: {وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ} (آل عمران، 154) يعني، والله أعلم، بوساوس الشيطان والنفس، {وَلِيُمَحِّصَ مَا فِى قُلُوبِكُمْ} (آل عمران، 154) وهو طهارة القلب بنور الإيمان، وقال جل وعز: {ٱلَّذِى يُوَسْوِسُ فِى صُدُورِ ٱلنَّاسِ} (الناس، 5).
اعلم أن انشراح الصدر والضيق إنما يضاف إليه ولا يضاف إلى القلب. قال الله تعالى: {فَلَا يَكُن فِى صَدْرِكَ حَرَجٌۭ مِّنْهُ} (الأعراف، 2)، وقال: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌۢ بَعْضَ مَا يُوحَىٰٓ إِلَيْكَ وَضَآئِقٌۢ بِهِۦ صَدْرُكَ} (هود، 12)، وقال: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ} (الحجر، 97)، وأخبر عن كليمه موسى عليه السلام أنه قال: {رَبِّ إِنِّىٓ أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ {١٢} وَيَضِيقُ صَدْرِى} (الشعراء، 12-13)، فأضاف الله الضيق إلى الصدر. وضيق صدر النبي عليه السلام وصدر الكليم لا يكون من جهة الوسواس الذي يكون لعامة المسلمين، لأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام عصمهم ربهم من وسواس الشيطان ومنازعات النفوس، ولكن كانت تضيق صدورهم إذا سمعوا الكفار يذكرون لله شريكاً أو يكذبونهم إذا ذكروا وحدانية الله تعالى. ولا غاية لضيق الصدر إذا ضاق، وصدر كل واحد يضيق على قدر جهله وغضبه، وكذلك لا غاية لسعته إذا انشرح بهدي الله تعالى، فإذا ضاق عن الحق اتسع للباطل، وإذا ضاق عن الباطل اتسع للحق. ألا ترى إلى ما ذكر الله تعالى على نبيه ﷺ: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} (الشرح، 1)، فمنّ الله بشرح صدره بأنوار حق الإسلام حتى ضاق صدره عن وسع الباطل. وصدر المؤمن بضيق أحياناً من كثرة الوسواس والغم والشغل وتتابع الحوائج وبلوغ الحوادث وإصابة المصائب، ويضيق أيضاً إذا سمع باطلاً، فلا يحمل قلبه ذلك لأن الله تعالى وسع صدره بنور الإسلام: {فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍۢ مِّن رَّبِّهِۦ } (الزمر: 22).
وأما صدر الكافر والمنافق فإنه امتلأ من ظلمات الكفر والشرك والشك، واتسع لها، فلم يبق فيه مكان لنور الإسلام، وضاق عن وسع نور الحق فيه. قال الله عز وجل: {وَلَـٰكِن مَّن شَرَحَ بِٱلْكُفْرِ صَدْرًۭا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌۭ مِّنَ ٱللَّهِ } (النحل، 106)، وقال: { فَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يَهْدِيَهُۥ يَشْرَحْ صَدْرَهُۥ لِلْإِسْلَـٰمِ ۖ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُۥ يَجْعَلْ صَدْرَهُۥ ضَيِّقًا حَرَجًۭا} (الأنعام، 125)، فبيَّن الله تعالى أن الصدر إذا امتلأ من ظلمات الكفر ضاق عن وسع أضدادها من الأنوار.
وصدر المؤمن مكان نور الإسلام فيه. والإسلام اسم جامع لدين الله تعالى، ويضيفه للعبد أيضاً لقوله عليه السلام: "الإسلام إقرار باللسان وعمل بالأركان مع تصديقه بالإيمان ومشاهدته بعض صنائع الرحمن"[4]، كما أن العين والحرم والدار والقنديل واللوز أسماء جامعة والإسلام اسم عام يشتمل على الإيمان والقول باللسان والعمل بالأركان. ولكن الإسلام له ظاهر وباطن، فظاهره ربما حمله المنافق وشرك أهل الإسلام فيه ظاهراً وهو في الباطن كافر، قال الله تعالى: {قَالَتِ ٱلْأَعْرَابُ ءَامَنَّا ۖ قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا۟ وَلَـٰكِن قُولُوٓا۟ أَسْلَمْنَا وَلَمَّا} (الحجرات، 14)، فبيَّن الله تعالى أنهم لم يؤمنوا بعد إلا أنهم أسلموا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم. وأما باطن الإسلام فهو الانقياد لرب الأنام وتسليم النفس والقلب لما يجري عليه من الأحكام، قال الله تعال: {بَلَىٰ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُۥ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌۭ} (البقرة، 112)، فهذا هو المسلم حقاً الذي يشاكل نور إسلامه نور الإيمان ونور الإحسان، فتعاونت وتواصلت وتشاكلت. قال الله تعالى في قصة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام: {إِنَّآ أَنزَلْنَا ٱلتَّوْرَىٰةَ فِيهَا هُدًۭى وَنُورٌۭ ۚ يَحْكُمُ بِهَا ٱلنَّبِيُّونَ ٱلَّذِينَ أَسْلَمُوا۟ } (المائدة، 44)، وفي قصة إبراهيم: {فَلَمَّآ أَسْلَمَا وَتَلَّهُۥ لِلْجَبِينِ} (الصافات، 103). فهؤلاء خاصة الله طالبهم الله بالاستقامة على حقيقة الإسلام، وهو أنهم تبرّئوا من حولهم وقوتهم، فأسلموا ظاهرهم وباطنهم لله. والدليل على أن الإسلام والإيمان وإن كانا مختلفي الاسمين فهما شكلان في المعنى، قول الله تعالى: {وَقَالَ مُوسَىٰ يَـٰقَوْمِ إِن كُنتُمْ ءَامَنتُم بِٱللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوٓا۟ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ} (يونس، 84)، وقوله تعالى: {وَإِذَا يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ قَالُوٓا۟ ءَامَنَّا بِهِۦٓ إِنَّهُ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّنَآ إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِۦ مُسْلِمِينَ} (القصص، 53)، وقوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ} (الذاريات،35) الآية. والإيمان على تعارف العامة وعلى وجه الشريعة هو التصديق بالحق وقبوله بالقلب والإقرار باللسان أنه حق، والإسلام هو الانقياد للحق بالنفس والقلب والإقبال إليه والاستقامة عليه والاجتناب عما يخالفه.
والصدر أيضاً موضع الغل والجناية، لأن النفس ذات غل وجناية ولها ولاية في الصدر بالدخول، وهو من جهة الابتلاء، وقد ذكر فيما تقدم. قال الله تعالى في صفة أهل الجنة: {وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّۢ } (الأعراف، 43) حتى يدخلوا الجنة بلا غل. وقلب المؤمن محفوظ من الغل لأنه موضع الإيمان، إلا أن الله تعالى أمر عباده أن يدعوه ويسألوه أن لا يجعل في قلوبهم غلاً. قال الله تعالى: {وَلَا تَجْعَلْ فِى قُلُوبِنَا غِلًّۭا لِّلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ } (الحشر، 10). وأحب أن يدعوه ويخافوه ليطهّر قلوبهم، ولم يضمن لم حفظ صدورهم من الوسواس ليعرفوا منة الله عليهم. ويحفظ قلوبهم ليستغيثوا إليه من وساوس الصدور ليزدادوا عزاً وشرفاً بالله إذا طهّر قلوبهم ومحصها، ويزداد ذلاً في أنفسهم. قال الله تعالى: {وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍۢ مُّؤْمِنِينَ {١٤} وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ ۗ} (التوبة، 14-15)، فبيّن الله أن الشفاء يكون للصدور التي هي موضع الغل، وقال أيضا: {قَدْ جَآءَتْكُم مَّوْعِظَةٌۭ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَآءٌۭ لِّمَا فِى ٱلصُّدُورِ} (يونس، 57) فقلب المؤمن سليم وصدره سليم، وقلب الكافر والمنافق ميت وسقيم، وصدره فيه ظلم عظيم، قال الله تعالى: {ٱلَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌۭ} (المدثر، 31)، وقال {إِنَّ ٱلشِّركَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌۭ} (لقمان، 13)، وقال: {إِن فِى صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌۭ} (غافر، 53) واعلم أن كل علم لا يوصل إليه إلا بالتعلم والتحفظ والاجتهاد والتكلف من جهة السمع والخبر قرآناً كان أو حديثاً أو غيره. فإن موضعه الصدر ويجوز عليه حكم النسيان، قال الله تعالى: {بَلْ هُوَ ءَايَـٰتٌۢ بَيِّنَـٰتٌۭ فِى صُدُورِ ٱلَّذِينَ أُوتُوا۟ ٱلْعِلْمَ ۚ} (العنكبوت، 49). وهو العلم الذي تتهيأ عبارته وقراءته وروايته وبيانه، ويمكن في صاحبه النسيان، لأن النفس هي التي تحمله وتحفظه، وهي مطبوعة على النسيان، فربما ينساه بعد التحفظ وبعد جهد كثير. والصدر في هذا المعنى كظهر القلب، يقال فلان يقرأ عن ظهر قلبه. ومع هذا ربما غلط وسها وشك في محفوظة. والصدر أيضاً من القلب كالصدفة من اللؤلؤة، ربما دخل في الصدفة شيء غير اللؤلؤة مثال الماء وما يشبهه، ثم يخرج منها، وليس في اللؤلؤة موضع غير تدخل فيها شيء اللهم إلا أن يرفع فحينئذٍ يصير موضعه خالياً يسع في مكانها شيء آخر.
muslem
14-09-2011, 07:51 AM
الفصل الثالث
والعمى والبصر يضاف إلى القلب ولا يضاف إلى الصدر، قال الله تعالى:{فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى ٱلْأَبْصَـٰرُ وَلَـٰكِن تَعْمَى ٱلْقُلُوبُ ٱلَّتِى فِى ٱلصُّدُورِ}(الحج، 46)، هذا هو الطريق الظاهر. وأما من جهة مجاز اللغة وتعارف الناس ربما يعبر بلفظة الصدر عن القلب، قال الله تعالى: {قُلْ إِن تُخْفُوا۟ مَا فِى صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ ٱللَّهُ ۗ} (آل عمران، 29)، وقال: {وَمَا تُخْفِى صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ ۚ} (آل عمران، 118)، وقال: {وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} (القصص، 69). وعنى بذلك القلب، ولكن عنى بها كلها قلوب الكفار ، لأن صدورهم وقلوبهم صادّة موصدة لخلوها عن نور الهدى.
وهذا النوع من العلم لا يستقر في الصدر ولا يتمكن فيه إلا بعد التكرار وجهد الاعتبار والمواظبة عليه، لأنه مثل الطريق وخاصة لما دخل فيه من الخارج مثل المسموع. فأما ما خرج إليه من داخل القلب من لطائف الحكمة وشواهد المنة فاستقراره في الصدر متمكن، وإنما لا يثبت في الصدر هذه الأحوالُ لأنه موضوع وردود الأشغال والحوائج لأنه كالفناء للبيت الذي في الدار، وقد يدخل في الدار من الخدم والحشم والجيران والأجانب وغيرهم في أوقات ولا يدخل في البيت الذي يدخل فيه صاحبه إلا ذو رحم أو محرم أو قريب أو صديق. وقد يُعبّر من جهة مجاز اللغة أيضاً بالنفس عن القلب، قال الله تعالى في قصة عيسى عليه السلام: {تَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِى } (المائدة، 116) يعني تعلم ما في قلبي، وقال: {وَٱعْلَمُوٓا۟ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِىٓ أَنفُسِكُمْ فَٱحْذَرُوهُ ۚ} (البقرة، 235) يريد به القلب وقال رسول الله ﷺ: "إن الله عز وجل تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها"[5]، فبان لك أن المراد من الحديث وساوس الصدور التي لا تستقر. فأما ما استقر في القلب فإنه يُسأَل عنه ويُحاسب، قال الله تعالى:{إِنَّ ٱلسَّمْعَ وَٱلْبَصَرَ وَٱلْفُؤَادَ كُلُّ أُو۟لَـٰٓئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْـُٔولًۭا} (الإسراء، 36).
وكل علم تحمله نفسه ويعيه الصدر فإن النفس تزداد به تكبرا وترفعا، وتأبى قبول الحق، وكلما ازدادت علما وازدادت حقداً على الإخوان وتمادياً على الباطل والطغيان، قال الرسولﷺ: " إن لهذا العلم طغياناً كطغيان المال"[6] واعلم أن العلم إذا قل نفعه اشترى به صاحبه الثمن القليل وأعرض عن طاعة الله. وهذا العلم إنما تعلمه لإقامة الشريعة وتأديب النفس وإصلاحها ومنعها عن الجهل ومعرفة حدود أحكام الدين وقوام ظاهر الدين.
وإنما تكثر منفعته وتزداد وتعظم إذا كشف الله له علم الباطن،علم القلب، وهو العلم النافع. ألا ترى إلى ما قال رسول الله ﷺ: "العلم علمان: علم باللسان فذلك حجة الله على خلقه وعلم بالقلب فذلك العلم النافع"[7]. وتعوَّذ رسول الله ﷺ فقال: "اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع"[8].
وقال أيضاًﷺ: "نعوذ بالله من منافق عليم اللسان جهول القلب"[9]. فهذا كله دليل على أن المسموع الذي يحمله إنما هو حجة الله على النفس وهو يشتري به الدنيا ويستغني به عن الدين الذي هو أنفع له ، ولا يعمل به حتى يكشف الله له من العلم النافع ، ورُوى عنه عليه السلام أنه قال: "من عمل بما يعلم أورثه الله علم ما لم يعلم"[10].
ثم اعلم أن القلب لا غاية لغور بحاره ولا عدد لكثرة أنهاره ومثل الحكماء في البحار كالغوّاصين ، ومثلهم في الأنهار كمثل السقّائين والصيّادين ، فكل يستخرج ويجد منها على قدر ما يرزقه الله منها. فمنهم من يُكشف له من جواهر معرفة عيوب الدنيا وسرعة انقلابها وكثرة غرورها وقلة ثباتها وتعجيل زوالها، ويُكشف له من معرفة مكايد الشيطان وأصناف وساوسه. ومنهم من يُكشف له من طريق معرفة مراتب أهل التقوى ودرجات أهل العلم ومكارم الأخلاق وحسن معاملة الخلق عند مساويهم واحتمال الأذى والسخاوة بالدنيا والإيثار على نفسه كائناً من كان وخوف النار ومحاربة الشيطان ومجاهدة النفس ومخالفة هواها ومتابعة الرسول وأصحابه والتمسك بالسنة. ومنهم من يُكشف له من طريق التحدث بنعم الله وذكر آلائه ودفع بلائه وكثرة عطائه وجميل ستره وطول حلمه وعظيم عفوه وسعة رحمته وما أشبهها من هذا النوع ومنهم من يكشف له من طريق مشاهدة ما سبق له من الله في أزليته وقدمه من ذكره إياه ومن حسن نظره إليه واجتبائه واختياره واصطفائه ولطائفه السابقة. ومنهم من يكشف له طريق مشاهدة الحقائق من أفعال الربوبية فيشاهد آثار قدرته في الأشياء كلها وجميل صنعه وما أشبه هذا الجنس. ومنهم من يكشف له من طريق مشاهدة عظمة الله وجلاله وكبريائه وعظم قدرته وحقارة قدر خلقه في جنب عظمته ورؤية فقر الخلق وضرهم وفاقتهم وحاجتهم إليه وقوته وغنائه عنهم وسعة خزائنه وكفايته وحسن عنايته في أمورهم. ومنهم من يكشف له من جهة رؤية التوفيق وحلاوة المعرفة والمحبة ورؤية عصمته إياه من الضلالة والكفر والأهواء. ومنهم من يكشف له من طريق مشاهدة فردانيته ووحدانيته فقط، حتى لا يرى في سره معه غيره، فيتلاشى قدر من دونه في سره حين يشاهد الله جل جلاله فيرى قدمه وكماله وبقاءه ويرى حدوث الخلق وفنائهم.
وجميع هذه الوجوه ليس لبحارها غاية ولا لجواهرها نهاية وقد قال جل جلاله: {يُؤْتِى ٱلْحِكْمَةَ مَن يَشَآءُ ۚ وَمَن يُؤْتَ ٱلْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِىَ خَيْرًۭا كَثِيرًۭا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّآ أُو۟لُوا۟ ٱلْأَلْبَـٰبِ } (البقرة، 269) وهذه الوجوه كلها، ما يجري منها على لسان الحكيم، كمثل البحر يموج منه الزبد[11] فينبذه البحر فينتفع به الإنسان، فكذلك الحكيم ما يجري من الحكمة على اللسان ويعبَّر للخلق على لسان البيان كزبد يهيج من بحر القلب، وزبد البحر ينتفع به من كان به رمد العين، فكذلك ينتفع من في قلبه مرض حب الدنيا ورمدت عينا قلبه بقول الحكيم، ويشفي الله تعالى صدره مما فيه من الأمراض من حب الشهوات ومثله من الآفات.
فهذا طريق باطن العلم وظاهره، ولا يستغني أحدهما عن الآخر، لأن أحد العلمين بيان الشريعة وهو حجة الله تعالى على خلقه والآخر بيان الحقيقة التي وصفتُ بعضَها فعمارة القلب والنفس بهما جميعاً وصلاح ظاهر الدين وقوامه بعلم الشريعة وصلاح باطنه وقوامه بالعلم الآخر وهو علم الحقيقة، والدليل على ذلك أن صلاح الدين بصحة التقوى وقد قال رسول الله ﷺ:"التقوى هاهنا"[12] وأشار بيده إلى قلبه. فمن اتقى بالعلم الظاهر وأنكر العلم الباطن فهو منافق ومن اتقى بالعلم الباطن ولم يتعلم العلم الظاهر ليقيم به الشريعة وأنكرها فهو زنديق، وليس علمه في الباطن علماً في الحقيقة، إنما هو وساوس يوحي بها الشيطان إليه. قال الله تعالى: {وَإِنَّ ٱلشَّيَـٰطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىٰٓ أَوْلِيَآئِهِمْ} (الأنعام، 121). وأما من كان مسلماً مؤمناً صالحاً عارفاً، فآمن بكتاب الله وسنة رسوله وتمسك بالشريعة وعمل بها واقتدى برسول الله ﷺ واتبعه واتبع الأئمة من أصحابه وشاهد بقلبه منن الله تعالى على سبيل الافتقار والافتخار به ورؤية الاضطرار من نفسه وترك الاختيار وصحبة الملك الغفار. وقد وفّقني الله بمننه حتى بالغتُ في الشرح والبيان بين الصدر والقلب.
muslem
14-09-2011, 08:02 AM
الفصل الرابع
والقلب هو معدن نور الإيمان، قال الله تعالى: {أُو۟لَـٰٓئِكَ كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ ٱلْإِيمَـٰنَ } (المجادلة، 22)، وقال: {وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ ٱلْإِيمَـٰنَ وَزَيَّنَهُۥ فِى قُلُوبِكُمْ} (الحجرات، 7)، وقال: {وَقَلْبُهُۥ مُطْمَئِنٌّۢ بِٱلْإِيمَـٰنِ}(النحل، 106). والقلب هو معدن التقوى والسكينة والوجل الإخبات واللين والطمأنينة والخشوع والتمحيص والطهارة.قال الله تعالى:{وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ ٱلتَّقْوَىٰ وَكَانُوٓا۟ أَحَقَّ بِهَا} (الفتح، 26) وأشار بالإلزام إلى قلوبهم، وقال:{ هُوَ ٱلَّذِىٓ أَنزَلَ ٱلسَّكِينَةَ فِى قُلُوبِ ٱلْمُؤْمِنِينَ} (الفتح، 4) وقال:{فَعَلِمَ مَا فِى قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ ٱلسَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ} (الفتح، 18)، وقال في قصة الخليل عليه السلام: {وَلَـٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى ۖ} (البقرة، 260(، وقال: {وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا}(المائدة، 113)، وقال: {أُو۟لَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ ٱمْتَحَنَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَىٰ ۚ} (الحجرات، 3)، وأشار رسول الله ﷺ بالتقوى إلى قلبه، وقال عز وجل: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ٱللَّهُ مِنَ ٱلْمُتَّقِينَ} (المائدة، 27). وأصل التقوى في القلب، وهي: التقوى من الشك والشرك والكفر والنفاق والرئاء. وقال في الطهارة: { ذَٰلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ} (الأحزاب، 53)، وقال: {أُو۟لَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ لَمْ يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ ۚ} (المائدة، 41)، وقال:{ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِى قُلُوبِكُمْ ۗ} (آل عمران، 154)، وقال في الوجل: {وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} (المؤمنون، 60)، وقال: {وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} (الأنفال، 2)، وقال في الإخبات: {فَتُخْبِتَ لَهُۥ قُلُوبُهُمْ ۗ } (الحج، 54)، وقال في اللين: {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ ۚ} (الزمر، 23)، وقال في عدم الفقه: {لَهُمْ قُلُوبٌۭ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا} (الأعراف، 179)، وقال في الخشوع: {۞ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءَامَنُوٓا۟ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ ٱللَّهِ} (الحديد، 16). ورأى رسول الله ﷺ رجلاً يصلي وهو يعبث بلحيته فقال: "لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه"[13]، وقال أهل التفسير إن معنى الخشوع الخوف الدائم في القلب.
اعلم، رحمك الله، أنه ليس من خلق الله شيء أطيب من قلب طاب بنور التوحيد والمعرفة والإيمان ولا أطهر ولا أنظف ولا أتقى ولا أصفى ولا أوسع إذا طهّره الله من الأنجاس وتولى إحياءه بنور الحق وحفظه وحرسه وزاد فيه من الفوائد، وهو قلب المؤمن، وليس لأنواره غاية وليس شيء أخبث منه ولا أنتن ولا أنجس إذا خذل الله صاحبه، ولم يتول حفظه ووكله إلى الشيطان، وهو قلب المنافق والكافر، لأنه معدن الشرك والشك والنفاق والريب والمرض. قال الله تعالى: {إِنَّمَا ٱلْمُشْرِكُونَ نَجَسٌۭ} (التوبة، 28)، وقال في المنافقين: {إِنَّهُمْ رِجْسٌۭ ۖ} (التوبة، 95)، وقال في معنى الريب: {وَٱرْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ} (التوبة، 45)، وقال في معنى الإنكار: {قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌۭ} (النحل، 22)، وقال في معنى المرض: {فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌۭ} (الحج، 53). وأصل جميع الذنوب قساوة القلب، قال الحكيم[14]: "إن القلب إذا قسى لا يبالي إذا أساء". والقلب إذا استنار بنور الله ونور الإيمان تولى الله حفظه، وملأه محبة وخشية، وأقفل عليه قفل القدرة، ووضع مفتاح المشيئة في خزينة غيبه، ولا يطلع عليه أحد إلاّ في وقت سكرة الموت، فحينئذ يظهر له ما في غيبه. وإن القلب إذا امتلأ من ظلمات الكفر والشك والنفاق، قيّض الله لصاحبه شيطاناً، فتولى حفظه وأقفل عليه قفل الخذلان، والله يعلم عاقبته، وما يؤول إليه أمره، لا يظهر ذلك لأحد إلى إن يغرغر، وذلك سر الله لا يطلع عليه غيره. فكم من كافر بعيد وُفّق بالإيمان فيموت سعيداً، وكم من مؤمن قريب يخذله ربه فيموت شقياً.
واعلم، رحمك الله، أن قدرة الله نافذة، وأنه لم يطلع على مراده مشيئته في خلقه وخواتم أعماله إلاّ طائفة من الأنبياء، وذلك علامته لصحة نبوتهم. وأخبر رسول الله ﷺ عن عشرة من أصحابه أنهم من أهل الجنة كرامةً من الله وفضلاً منه عليه.
واعلم أن مدار تأكد وجوب الثواب والعقاب بالقلب، وفعله بالنفس تبعة، قال الله تعالى: { وَلَـٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ۗ} (البقرة، 225) وإنما هذا في أحكام الآخرة. وأما حكم الدنيا، فالنفس بالنفس تؤاخذ في أفعالها، وأما فيما بين العبد وبين ربه فإن الحكم بما في القلب. قال الله تعالى في شأن عمار بن ياسر[15]: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُۥ مُطْمَئِنٌّۢ بِٱلْإِيمَـٰنِ} (النحل، 106}، فبين الله عذره أنه لم يضره ذلك لا طمأنينة قلبه على صدق الإيمان. ويثاب العبد لعمله بالأركان إذا صحت نية قلبه على ذلك بنور الإيمان، قال رسول الله ﷺ: "يثاب الناس على قدر نياتهم"[16]،"وإنما الأعمال بالنيات"[17]، و"لا عمل لمن لا نية له"[18].
فالصدر موضع يصدر إليه علم العبارة، والقلب معدن العلم، والذي تحت علم العبارة، وهو علم الحكمة والإشارة. وعلم العبارة حجة الله على الخلق، يقول الله لهم: ما عملتم فيما علمتم؟ وعلم الإشارة محجة العبد إلى الله بهداية الله تعالى له، إنه منّ عليه بكشف قلبه بمشاهدة غيبه ورؤية ما وراء حجبه، كأنّه يرى ذلك كله بعينه، حتى لو كشف له الغطاء لما زاد في نفسه، فالقلب موضع علم الإشارة. ومعنى علم العبارة أن يعبّر باللسان، ومعنى علم الإشارة أن يشير بقلبه إلى ربوبيته ووحدانيته وعظمته وجلاله وقدرته وجميع صفاته وحقائق صنعته وفعله.
ومعدن نور الإيمان ونور القرآن معدن واحد، وهو القلب، وكلا النورين شكلان، قال الله تعالى: {مَا كُنتَ تَدْرِى مَا ٱلْكِتَـٰبُ وَلَا ٱلْإِيمَـٰنُ وَلَـٰكِن جَعَلْنَـٰهُ نُورًۭا} (الشورى، 52) فجمع بين النورين بالهاء كناية الواحد. ومعنى الإشارة أنه مُذ أشار إلى ربه بالربوبية لم يكفر به ولم يشكر غيره ولا يرجو أحداً سواه. واعلم أن نور القلب على سبيل الكل لا يتجزأ ولا يتبعض لأنه أصل يجيء كله إذا جاء ويذهب كله إذا ذهب. وكذلك ظلمة الكفر، لأنها أصل كل مصيبة إلا أن تذهب، وربما يضعف ويتهيأ ويتبعض سلطانها مثل السراج إذ هو سراج واحد إن زاد ولاية نوره أو نقصت. وأما نور الصدر وظلمته فإنه يزيد وينقص، لأن هذا فرع وهو بالنفس يقام ، وعُيّن به الإسلام. ومنه يدخل النقصان في هذه الوجه من الدين، وربما يزيد فيه، والدليل على ذلك ما قال رسول الله ﷺ في شأن النساء فقال "ناقصات عقل ودين"[19] وإنما المراد منه فرع الدين في أيام الحيض والنفاس. فبان لك أن أنوار الصدور على وجوه، والعمل بها على المواقيت والمقادير. فمن أراد علماً منه ازداد في صدره نوره على مقدار ذلك، وينقص أيضاً نوره بترك استعماله، لأن حامل هذا النوع من العلم هي النفس، فكما أنها تزيد وتنقص فكذلك أفعالها وصفاتها تزيد وتنقص.
وأما أنوار القلب فإنها في الأصل كاملة، ومَثَلُها كَمَثَل الشمس التي هي كاملة، ولكن الهواء إذا كان فيه علة مثل الغيم والضباب وشدّة الحرّ وشدة البرد حجبت هذه الأشياء نورَها، فانتقصت ولاية شعاعها، وقل سلطان حرها، فإذا ارتفعت تلك العلل نفذت ولاية نورها، وبلغت شعاعها واشتد سلطانها، ولم تكن في ذاتها ناقصة ولكن منافعها قد انقطعت للعلل التي وصفتُها. فكذلك نور الإيمان ونور المعرفة ونور التوحيد إذا أخذتها ظلمات الغفلة وغيوم النسيان وحجب العصيان وامتلأ الصدر من غبار الشهوات وضباب أضرار النفس واليأس من روح الله، وانتقصت ولاية هذه الأنوار عن النفس وبقيت بذاتها وتحت هذه الحجب ووراء هذه الأستار، فإذا ارتفعت هذه العلل من الصدر بمنة الله وتوفيقه وصحت توبة العبد إلى الله تعالى، كُشف الغطاء وخُرقت الحجب وظهرت منافعها على النفس وانتشرت ولايتها. فمن تفكر بتوفيق الله في هذه النكتة واستمسك بالسنة، أزال الله تعالى كثيراً من الشبهات من قلبه، وقلع عن صدره عروق ريبه، وهداه الله تعالى إلى مشاهدة حقائق غيبه. وهذا شيء واضح لمن يسَّر الله عليه سبيل الفقه والفهم.
وأما نور الأحكام وهو نور الإسلام في الصدر فإنه يزداد بصحة المعاملة وصدق المجاهدة، وينقص نوره بالإعراض عن إقامة شرائعه وترك استعماله، فَمَثَله كَمَثَل القمر، فإنه يزيد وينقص.
الإسلام اسم جامع لأصل الدين وفروعه، وقد أكمل الله هذا الدين بفروعه وأحكامه في نيف وعشرين سنة، إلا أنه نسخ من أحكامه بعضها فبدل بعضها.
وأما الإيمان والمعرفة والتوحيد فلا يجوز النسخ فيها ولا تبديل شيء منها. وكفى العاقل الموفق إذا تفكر فيها أن يعرف الفرق بين ما حملته النفس وبين ما حمله القلب. ولكن المؤمن هو من الله في مزيد من البر في كل لحظة وساعة، فتعلو مراتبه من جهة مشاهدة لطائف الله تعالى، ويكشف له من حجب الغيب من ساعة إلى ساعة ما لم يكن كشف له قبل ذلك. وكذلك العبد تضعف أحواله أحياناً، وتشغل مراتب قلبه من جهة الغفلة والأصول على حالها. ومَثَلها أيضاً كمثل السراج يكون في شيء فيُرخَى عليه الستور، فهو على حاله من الداخل لكنْ ضياؤه ومنفعته حُجِبَت وولايتُه عن الانتشار انقطعت. ومَثَلها أيضاً كمثل المرآة تُلفّ في ثوب، فهي في الأصل كما كانت إلاّ أن منفعة الظاهر قد انقطعت، فافهم، رحمك الله، أن الكتاب المنزل، كما كان جبريل عليه السلام تولى إنزاله بعلم الله تعالى، فمعدنه قلب النبي ﷺ. قال الله تعالى:{ قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّۭا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُۥ نَزَّلَهُۥ عَلَىٰ قَلْبِكَ بِإِذْنِ ٱللَّهِ } (البقرة، 97)، وقال: {نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلْأَمِينُ {١٩٣} عَلَىٰ قَلْبِكَ} (الشعراء، 193-194).
muslem
14-09-2011, 08:10 AM
الفصل الخامس
واعلم أن الفؤاد، وإن كان موضع الرؤية فإنما يرى الفؤاد ويعلم القلب. وإذا اجتمع العلم والرؤية صار الغيب عند صاحبه عياناً، ويستيقن العبد بالعلم والمشاهدة وحقيقة رؤية الإيمان :{فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِۦ ۖ} (الأنعام، 104) والمنة لله عليه بالهداية والتوفيق بتصديقه، {وَمَنْ عَمِىَ فَعَلَيْهَا ۚ} (الأنعام، 104) والحجة لله عليه بتكذيبه. وقال الله تعالى في علم اليقين وعين اليقين: {كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ ٱلْيَقِينِ {٥} لَتَرَوُنَّ ٱلْجَحِيمَ {٦} ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ ٱلْيَقِينِ {٧}} (التكاثر، 5-7). وأخبر الله نبيه موسى عليه السلام أن قومه اتخذوا العجل فاشتدّ غضبه ورجع إلى قومه غضبان أسفاً لمَِا أيقن بإخبار الله تعالى عنهم، وحمل الألواح، فلما عاينهم يعبدون العجل ألقى الألواح، وأخذ برأس أخيه يجرّه إليه. فكذلك قال رسول الله ﷺ: "رحم الله أخي موسى ليس الخبر كالمعاينة"[20]. إن موسى أخبره ربه قال: {قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنۢ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ ٱلسَّامِرِىُّ} (طه، 85) فلما عاينهم ازداد غضباً وحدة.
فالقلب أيضاً تضاف إليه الرؤية، ولكن إنما يرى بالنور الذي فيه، يدل على ذلك ما أجاب أبو جعفر محمد بن علي[21] رضي الله عنه للأعرابي حين سأله فقال: "رأيت ربك؟" فقال: "ما كنت أعبد شيئاً لم أره" فقال: " كيف رأيته؟" قال: "إنه لم تره الأبصار بمشاهدة العيان ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان"، فأشار إلى الرؤية بالقلب ولكن بحقيقة نور الإيمان[22]. والقلب والفؤاد يُعبّر عنهما بلفظة البصر لأنهما موضعان للبصر، قال الله تعالى: { يُقَلِّبُ ٱللَّهُ ٱلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ ۚ إِنَّ فِى ذَٰلِكَ لَعِبْرَةًۭ لِّأُو۟لِى ٱلْأَبْصَـٰرِ {٤٤}} (النور، 44)، وقال: {فَٱعْتَبِرُوا۟ يَـٰٓأُو۟لِى ٱلْأَبْصَـٰرِ {2}} (الحشر، 2) فأهل الأبصار لهم الاعتبار، بأن يروا في الأشياء لطائف صنع الله تعالى، وإنما هم أهل القلوب.
وأهل المشاهدة بنور الإيمان على مراتب، فمنهم من يكشف له من عظائم الغفلة بمجاهدته الصحيحة ورؤية الآخرة بعيان عيني قلبه كأنه ينظر إليها، كما قال حارثة "أصبحت مؤمناً حقاً"[23]. قال رسول الله ﷺ: "إن لكل حق حقيقة فما حقيقة إيمانك؟" الحديث. فهذا كشف الله له بعزف نفسه عن الدنيا، والآخرة، وعاينها بنور قلبه، وإنه لم ينطق عن مقام مشاهدة الله ومشاهدة صفاته ومنّته وبره وعظمته، وما أشبهها، إنما ينطق عن مجاهدته التي أورثته مشاهدة العرش والجنة وأهلها والنار وأهلها. فبان لك أن الرؤية والمشاهدة من جهة العبد يزداد سلطانها وأنوارها من الله تعالى.
وفرق آخر بين القلب والصدر أن نور الصدر له نهاية ونور القلب لا نهاية له ولا غاية له ولا انقطاع وإن مات العبد، وإنما العبد إذا مات على الإيمان كان نوره معه لا يفارقه في القبر ولا في القيامة، ويبقى معه دائماً، قال الله تعالى: {يُثَبِّتُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ بِٱلْقَوْلِ ٱلثَّابِتِ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَفِى ٱلْءَاخِرَةِ ۖ} (إبراهيم، 27).
وأما أحكام شرائع الإسلام وما كان بناؤه على سبيل التكليف فإنها تنتهي غايتها بالموت، وكفى به دليلاً لمن يقول بكمال الإيمان وأنه لا يزيد ولا ينقص. وهو حجة على من يقول بزيادته ونقصانه ويشبه بسائر الأعمال، ويقول بأن الأعمال كلها إيمان، ويقول إن الأيمان باللسان، أو يقول في الحقيقة إنه فعل العبد، أو يفرق بين حقيقة معنى الإيمان ومعنى الإسلام. وليس بمصيب منا من يشتغل بما لم يُكلَّف، والسكوت للجاهل سلامة والنطق للعالم من الله إكرام. ألا ترى أن سؤال العبد في القبر إنما يكون عن الأصول ولا يكون عن الفروع، ويقال له: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ ولا يقال: ما عملك؟ ولا: كيف صليت؟ ويُسأل يوم القيامة عن الإيمان أولاً ثم عن الأعمال على الولاء، فيثاب بالأعمال على قدر قوة الأصول وهي النيات.
إنما يُسمَّى القلب قلباً لسرعة تقلبه. قال عليه الصلاة والسلام : "إنما مَثَل القلب كمَثَل ريشة في الفلاة من الأرض"[24] الحديث. فأخبره عليه الصلاة والسلام طرفًا من قدرة الله وشيئًا من لطفه لعبده الضعيف بتثبيت قلبه على الإيمان وإرسائه على الحق بسرعة تقلبه كيلا يرتفع عن الهدى بحول الله وقوته. فالعاقل من لا يضيف فعل القلب إلى نفسه إلاّ على مقدار ما يليق بالعبودية، ويسكت عما لا يعنيه، فإن له من وراء ذلك اشتغالاً عن الفصول بما لا يعنيه. ومن انهدم بناء توحيده وأساس إيمانه وأرض معرفته، فمن غيره يبنيه؟
وقد وصفتُ أن الإسلام جمع العلم والعمل؛ والدليل عليه ما أجاب رسول الله ﷺ حين سأله جبريل: "ما الإسلام؟"[25] الحديث. فاتفقا على أن الإسلام علم وعمل. وأجاب سؤاله عن الإيمان فاتفقا في ذلك جميعاً أنه علم ومستقره القلوب. وأما خاصّة أهل الإيمان فإنهم يستفيدون من أحاديث رسول الله ﷺ فوائد لطيفة لا تهتدى العامة إليها، لأنهم محجوبون بنفوسهم عن لطائف الحق برؤيتهم أعمالهم. وقد أمر الله أن يخاطَب الناس على قدر عقولهم، وقال: {وَقُل لَّهُمْ فِىٓ أَنفُسِهِمْ قَوْلًۢا بَلِيغًۭا {٦٣}} (النساء، 63). وأما جوابه عن الإحسان فإنه قُيّد بمشاهدة الله عز وجل فقط، فإما أن يشاهد العبدُ بقلبه ربَّه جل جلاله، وإما أن يشاهد بقلبه أنه يراه جل جلاله، وفي هذا الخبر فوائد كثيرة دون ما عقلته العامة، إلاّ أن هذا ليس موضع بيانها.
فبيّن رسول الله ﷺ أن مقامات المؤمنين على قدر مراتبهم إذ قيد الإحسان بالرؤية. ومعدن الرؤية هو الفؤاد، قال الله عز وجل: {مَا كَذَبَ ٱلْفُؤَادُ مَا رَأَىٰٓ {١١}} (النجم، 11). والفؤاد مشتقّ من الفائدة لأنه يرى من الله عز وجل فوائد حبه، فيستفيد الفؤاد بالرؤية ويتلذذ القلب بالعلم، وإنه ما لم ير الفؤاد لم ينتفع القلب بالعلم. ألا ترى أن الأعمى لا ينفعه علمه شيئاً في وقت الشهادة إذا احتاج إلى أدائها لأنه محجوب عن الرؤية، فعلمه في الحقيقة علم لكنه لم يتأكد سلطانه يخرج القاضي شهادته بالعمى وإن كان عدلاً. وفيه إشارة لمن فقّهه الله في الدين، قال الله تعالى: {وَتَكُونُوا۟ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ ۚ} (الحج، 78)، فكيف يشهد من علم شيئاً ولم يره. وقد ذكر الله في قصة يوسف وإخوته عليهم السلام أنهم قالوا: {وَمَا شَهِدْنَآ إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَـٰفِظِينَ} (يوسف، 81) ولم يكونوا رأوا الصُّوَاع[26] في رحل أخيهم، وأنه من وَضْع صاحب يوسف بأمره ولم يكن سَرِقة. وإن الله جل وعلا أكرمنا بالقرآن وهو بحره الأعظم، ملأه من جوهر اللطائف، وجعله من خزائن الطرائف، فطوبى لمن أكرمه الله ببعض ما فيه من الحكمة والبيان والسر والإعلان. وقال بعض العارفين: إنما سُمّي الفؤاد فؤاداً لأن فيه ألف واد. فإذا كان فؤادا لعارف فأوديته جارية من الأنوار من إحسان الله تعالى وبره ولطفه.
واسم الفؤاد أدقّ معنى من اسم القلب، ومعناهما قريب كقرب معنى الاسمين الرحمن الرحيم. فحافظ القلب هو الرحمن، لأن القلب معدن الإيمان، والمؤمن توكل بصحة إيمانه على الرحمن، قال الله تعالى: {قُلْ هُوَ ٱلرَّحْمَـٰنُ ءَامَنَّا بِهِۦ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا ۖ}. وحافظ الفؤاد هو الرحيم، قال الله تعالى: {وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىْءٍۢ ۚ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} (الأعراف، 156). وقال كذلك: {كَذَٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِۦ فُؤَادَكَ ۖ} (الفرقان، 32)
ووصف الله تبارك وتعالى ربطه قلب العبد، فقال في قصة أصحاب الكهف: {وَرَبَطْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا۟} (الكهف، 14)، فقال في قصة أم موسى: {لَوْلَآ أَن رَّبَطْنَا عَلَىٰ قَلْبِهَا} (القصص، 10). وقال أهل التفسير: ربط القلب بنور التوحيد وذلك أن القلب يعلم والعالم يحتاج إلى ربط التأييد حتى يطمئن بذكر الله عز وجل. وأما الفؤاد فإنه يرى ويعاين فيقع له الفراغة ولا يحتاج إلى الربط بل يحتاج إلى معونة المدد بالهداية. قال الله تعالى: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَىٰ فَـٰرِغًا ۖ إِن كَادَتْ لَتُبْدِى بِهِۦ } (القصص، 10)، فوصف الفؤاد بالفراغة وفضّله على القلب إذ كان القلب يحتاج إلى الربط والفؤاد يرى ويعاين والقلب يعلم، و"ليس الخبر كالمعاينة".
muslem
14-09-2011, 08:17 AM
الفصل السادس
واللب هو الجبل الأعظم والمقام الأسلم، كالقطب لا يزول ولا يتحرك، وبه قوام الدين، والأنوار كلها راجعة إليه حافّة حوله، ولا تتم هذه الأنوار ولا ينفذ سلطانها إلا بثبوته، ولا توجد إلا بوجوده.
وهو معدن نور التوحيد ونور مشاهدة التفريد، وبه يصحّ من العبد حقيقة التجريد وضياء التمجيد وإن هذا اللب نور مقرون[27] وزرع مغروس وعقل مطبوع، ليس كالمركّبات في النفس التي هي داخلة فيها، إنما هو نور مبسوط كالأشياء الأصلية. وهذا اللب الذي هو العقل مغروس في أرض التوحيد، ترابها نور التفريد، سُقي من ماء اللطف من بحر التمجيد حتى امتلأ عروقه من أنوار اليقين وتولى الله غرسه وباشر ذلك بقدرته من غير واسطة. فغرسه في جنة الرضى، ثم عصمه[28] بسور الصون وأرساه في أزليته وأبديته وأوليته حتى لا تكاد تقترب منه بهيمة النفس بشهواتها أو بجهلها أو سباع مفاوز الضلالة أو شيء من الذوات التي هي طبائع النفس مثل كبرها وحمقها وآفاتها. والرب جل جلاله صاحب هذا البستان ووليه الذي هو أزْيَن من جميع الجنان، لأنه بستان الإيمان تولى الله غرسه وسقيه وتربيته حتى أثمر الشجر نور الإيمان بتوفيق الرحمن ولطائف ثمرات الإحسان. قال الله تعالى: {وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ ٱلْإِيمَـٰنَ وَزَيَّنَهُۥ فِى قُلُوبِكُمْ} (الحجرات، 7).
فهذا تفسير اسم اللب: فإنه لام وباء فابتدأ بلام مثل لام اللطف والباء مشدّدة واحدة في الكتابة لكنها من الحروف المضاعف، فهي في الحقيقة اثنان: باء البر في البداية وباء البقاء بالبركة عليه. وهذا النور لا يوجد لسبب من الأسباب إلاّ بفضل مفتّح الأبواب. فأصل ما رزق الله تعالى العبد من أصول الدين هو فضل الله بلا علة، ثم جعل فروعه بعلة العبودية. وبمجاهدة العبد مقرونة بمعونة الربوبية وهداية الألوهية ولا يوفق بلطف التدبير وحسن التقدير حتى يكون أول شيء فضله في الأزل فيتيسر على العبد أعمال الخير.
واعلم أن اللب لا يكون إلاّ لأهل الإيمان، الذين هم من خاصة عباد الرحمن، الذين أقبلوا إلى طاعة المولى واعرضوا عن النفس الدنيا، فألبسهم لباس التقوى، وصرف عنهم أنواع البلاء، فسمّاهم الله أولي الألباب، وخصّهم بالخطاب، وعاتبهم بأنواع العتاب، ومدحهم في كثير من الكتاب، فقال الله تعالى: {فَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ يَـٰٓأُو۟لِى ٱلْأَلْبَـٰبِ} (المائدة، 100)، وقال: {وَٱتَّقُونِ يَـٰٓأُو۟لِى ٱلْأَلْبَـٰبِ} (البقرة، 197)، وقال: {أُو۟لَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُ ۖ فَبِهُدَىٰهُمُ ٱقْتَدِهْ ۗ} (الأنعام، 90)، وقال: {وَمَن يُؤْتَ ٱلْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِىَ خَيْرًۭا كَثِيرًۭا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّآ أُو۟لُوا۟ ٱلْأَلْبَـٰبِ} (البقرة، 269)، وقال: {وَلِيَعْلَمُوٓا۟ أَنَّمَا هُوَ إِلَـٰهٌۭ وَٰحِدٌۭ وَلِيَذَّكَّرَ أُو۟لُوا۟ ٱلْأَلْبَـٰبِ} (إبراهيم، 52)، وقال: {لِّيَدَّبَّرُوٓا۟ ءَايَـٰتِهِۦ وَلِيَتَذَكَّرَ أُو۟لُوا۟ ٱلْأَلْبَـٰبِ} (ص، 29). فمدح الله تعالى أولى الألباب وبيّن مراتبهم وسرائرهم مع ربهم وفضائلهم في فقههم وفهمهم وحلمهم حتى أعجز أمثالنا عن إدراك أحوالهم لأنه خصهم بنور اللب ما لم يفعل ذلك بغيرهم.
وأما عند عامة أهل الأدب ومن لهم معرفة بشيء من اللغة فإن اللب هو العقل. ولكن بينهما فرق كما بين نور الشمس ونور السراج فكلاهما نور، وهذا شيء ظاهر لكن لا تكاد ترى عاقلين يستوي سلطان علقهما ونورهما بل يتفاضل أحدهما على الآخر بزيادة خصّ هذا العقلُ بها ما لم يبن ذلك في الآخر. فما ظنك بمن خصّه الله تعالى بمعرفته وأكرمه بلطائف برّه وأفاض عليه من بحار خيره ما لم يفض منها على غيره.
والعقل في الاسم الواحد، وسلطانه ناقص وزائد وهو متبوع متفرع، يقوي بقوة أركانه ويزداد بزيادة سلطانه. وأول مقام العقل هو عقل الفطرة، وهو الذي يخرج به الصبي والرجل من صفة الجنون، فيعقل ما يقال له لأنه يُنهى ويؤمر، ويميز بعقله بين الخير والشر، ويعرف به الكرامة من الهوان، والربح من الخسران، والأباعد من الجيران، والقرابة من الأجانب. ومنه عقل الحجة وهو الذي به يستحق العبد من الله تعالى الخطاب، فإذا بلغ الحلم يتأكد نور العقل الذي وُصف بنور التأييد، فيؤيد عقله، فيصل لخطاب الله تعالى. ومنه عقل التجربة، وهو أنفع الثلاثة وأفضلها، لأنه يصير حكيماً بالتجارب، يعرف ما لم يكن بدليل ما قد كان. وهو ما قاله رسول الله ﷺ: "لا حكيم إلا ذو تجربة ولا حليم إلا ذو عثرة"[29] ومنه عقل موروث، وصفته أن يكون الرجل كبيراً عاقلاً حكيماً عليماً حليماً وقوراً، قد ابتلى بولد سفيه أو تلميذ سفيه لا ينتفع من صحبته فيموت هذا العاقل فيورث اللهُ تبارك وتعالى ببركة عقلَه ونوره وضياءه ونفعه ووقاره وسكينته وسمته لهذا السفيه، فيتغير حاله في الوقت فيصير وقوراً عاقلاً على سبيل سلفه هذا إنما يعاينه الإنسان بوفاة الكبير العاقل، وتَغيُّر الحال في السفيه الجاهل. وليس يورث غير عقله، ولكن يدركه بركة دعائه ونور علمه، ويتفضل الله تبارك وتعالى بإتمام ذلك بمنه وكرمه.
وهذه الوجوه منافعها على المِقدار ويصلح الإنسان بهذه الوجوه من العقل لصحبة الناس وينتفعون به. ولعل هذه الوجوه تجمع فيمن لا يؤمن بالله واليوم الآخر مثل الفلاسفة وحكماء الهند والروم غيرهم، لأن هذه الأنواع من العقل إنما هي لتأييد النفوس ومعاملة أهل الدنيا على سبيل المراءاة وأما النافع منها تمام النفع فهو العقل الموزون المطبوع بنور هداية الله تعالى. وهو اللب الذي وصفتُه حديثاً ويُسمَّى عقلا.
والعقل يعبَّر به عن العلم على وجه المجاز في سعة اللغة، ولكنْ أولو الألباب هم العلماء بالله، وليس كل عاقل عالما بالله وأما كل عالم بالله فهو عاقل، قال الله تعالى: {وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلَّا ٱلْعَـٰلِمُونَ } (العنكبوت 43).
والعقل له أسماء أخر، يُسمّى حلماً، ونُهى، وحِجْراً، وحِجى، قال الله تعالى: {إِنَّ فِى ذَٰلِكَ لَءَايَـٰتٍۢ لِّأُو۟لِى ٱلنُّهَىٰ} (طه، 54، 128)، وقال : {هَلْ فِى ذَٰلِكَ قَسَمٌۭ لِّذِى حِجْرٍ } (الفجر، 5). وقال رسـول الله ﷺ: "لِيَلِني منكم أولو الأحلام والنهــى ثم الذين يـلونهم"[30]. وقــد قيل إن العقل يعقل النفـس عن متابعـة الهـوى كــما يمنع العـقال الدابة من مرتعها ومرعــاهـا. والعــقل اسـم متبدل، وهو اسم عام، ولا يستعمل تصريف هذه الأسماء إلا منه، يقال عقل، يعقل عقلاً فهو عاقل وذلك معقول عنه.
وقال الله تعالى: {إِنَّ فِى ذَٰلِكَ لَءَايَـٰتٍۢ لِّقَوْمٍۢ يَعْقِلُونَ} (الروم، 24). وهو أن يعقل عن الله أمره ونهيه ومواعظه ووعده ووعيده ويفهم مراده في الأشياء على قدر ما يوفّقه ويكشف له من تعظيم أمره واجتناب مناهيه. وهذه كلهــا لا توجد إلا بلطف الله وحســن نظره إليه، فيفضِّله على غيره باللب الموصوف والنور المعروف. وهو فقيه في أصول الدين وفروعه، وليس كل من يكون فقيـــهاً في الفروع فقيــهاً في الأصول، لأن الفقه في علم الأحكام كثير وهو فقيه بالتفقه وحامل الفقه والعلم، والفــقه اسم للعلم يعــبّر بهــذه اللــفظة عنــه، يقال فلان يتفقه ويتعلم. وأما الفقه في حقيقته فهو فقه الــقـلب، كما قال رسول الله ﷺ: "رب حامل فقه لا فقه لــه ورب حامل إلى من هو أفْقه منه"[31]. وقال الحــكيم: "ليس بفقيه من لـم يعدّ البلاء نعمــة والرضــاء مصيبة"[32]، وقال الحسن[33]: "إنما الفقيه الزاهد في الدنيا الراغب في الآخرة البصيــر بذنبه والمواظب على طاعة ربــــه"[34]، وقد بيّــنتُ في صدر الكتاب أن فقه المتعلم موضعه في باطــن الصدر، ويزداد نوره بالتعلم والاستعمال، ويتفرّع لـه أنوار الفقه والفهم، فيستنبط بنور فقهـه مسائل، ويقيس ما لم يعلم بما يشبهـهـا ويشاكلهــا ويقرب من معناهــا.
وأما الفقه في الدين فهو النور الذي يقذف الله تعالى به في قـــلب عبده المؤمن، مثل الســراج، يبصــر به، ولا يكون ذلــك للكافــر والمنافق. قال الله تعالى: {وَلَـٰكِنَّ ٱلْمُنَـٰفِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (المنافقون، 7). وأما الفقيه الذي نوّر الله قلبه بنور البــصر فالذي أشار إليـــه رسول اللهﷺ: "إذا أراد الله بعبد خيراً فقهــه في الدين وبصّره عيوب نفسه وبصّره بداء الدنيا ودوائــها"[35]. فمن جمع الله تعالى فيه كلا الفقهيــن، فهــو الكبريــت الأحمــر[36] والعالــم الأكبــر واللبيب الأوفــــر.
فأما استنباط الفقيه في الأحكام فهو استنباط المسائل على موافقة السنة وإقامة الشـــريـعة، وأما استنباط الفقيه في باطن العلــم فهــو استنباط الخواطر علــى موافقــة الحقيقــة ومشــاهدة الربوبيـة. وإنما تتبين زيادة الفصل بينهما في استنباط معنى في الباطن والظــاهر لآية قد أنزلــها الله تعالــى، يوجِبُ ظاهرُهـا حكماً، ويكون تحت ظاهرها، من العبارة التي في باطنها، إشارةٌ وعلمٌ. فيستنبط ما يوافق حجة الله تعالى، ويستنبط الحكيم ما يوافق مراد الله تعالى ويستنبط الحكيم ما يوافق مراد الله تعالى ويهدي إلى محجته بما تبين من لطائف الإشارات موافقاً للتوحيد ومخبراً عن مراد يوافقه الحميد.
muslem
14-09-2011, 08:26 AM
الفصل السابع
والأنوار التي وصفتُهــا في صدر الكتاب مثل نور الإسلام ونور الإيمان ونور المعرفة ونور التوحيد، وإن كانت أسماؤهـا مختلفة، فهي أشكال غير أضداد، ويتولد من كل نور منها فوائد على حدة ما لا يتولد من الآخر على قدر مراتبها. فنور الإسلام يتولد منه خوف ورجاء، ونور التوحيد يتولد منه خوف ورجاء، ونور الإيمان يتولد منه خوف ورجاء، ونور المعرفة يتولد منه خوف ورجاء، وكذلــك سائر الأحوال التي تهيج من القلب وتتولد من أنوار الباطن مثل الشكر والصبر والمحبــة والحيــاء والصدق والوفاء وغيرها، ولكن أشْرحُ بتوفيق الله تعالى هذا الفصل الواحـــد.
فاعلــم انه يتولد من نور الإسلام خوف الخاتــمة ورجــاء حسن العاقبة، قال الله تعالى: {فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } (البقرة، 132). وقال في قصة يوسف عليه السلام: {تَوَفَّنِى مُسْلِمًۭا وَأَلْحِقْنِى بِٱلصَّـٰلِحِينَ} (يوسف، 101). ويتولد من نور الإيمان خوف طوارق الســوء، وكذلــك يتولــد منه خوف طوارق الخيــر في كــل وقت، ونور المعرفة يتولد منه خوف الســابقة،[37] ورجاء السابــقة، ونور التوحيـــد يتولد منه خوف الحقائــق، ورجاء الحقــائـق، وهذا النوع يرجع جوفه إلى مشاهدة الربوبيــة، وهو أن يخــاف الله تعالى ولا يخاف سواه، ويرجوه ولا يرجو ســواه. وسائــر الأحوال التي ذكرتُ، شرحـُـها على هذا السـبـيــل الذي وصـفـتُ لـك.
ومَثَل هذه النوار كمَثَل الجبــال، فالإسلام جبل وأرضه الصــدر، والإيمان جبل وموضعه القـلب، والمعرفة جبل ومعدنه الفؤاد، والتوحيد جبل ومستقره اللب. وعلى رأس كل جبل طائر فطائر جبل الصدر النفس الأمّارة بالســوء، وطائر جبل القلب النفس المُلْهَــمة، وطائر جبل الفؤاد النفس اللوّامة، وطائر جبل اللب النفس المطمئــنة، فالنفس الأمّارة يكون طيرانها في أودية الشرك والشــك والنفاق وما يشبهها، ولكن رحم الله أولــياءه فحفظهم عن شرّها، قال الله تعالى: {إِنَّ ٱلنَّفْسَ لَأَمَّارَةٌۢ بِٱلسُّوٓءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّىٓ ۚ} (يوسف، 53). والنفس الملهمة يكون طيرانها في أودية التقوى أحياناً وفي أودية الفجور أحياناً. قال الله تعالى: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَىٰهَا} (الشمس، 8).وطائر جبل المعرفة هي النفس اللوّامة، ويكون طيرانها في أودية الترفع والعز والنظر في كرامات الله والافتخار والفرح بنعم الله أحياناً، وفي أدوية الافتقار والتواضع والازدراء بنفسها ورؤية الذل والمسكنة والفقه أحياناً، ومع ذلك تكون لوّامة لصاحبها في أحوالها، قال الله تعالى: {وَلَآ أُقْسِمُ بِٱلنَّفْسِ ٱللَّوَّامَةِ} (القيامة، 2). وطائر جبل اللب النفس المطمئنة، ويكون طيرانها في أودية الرضاء والحياء والقرار على التوحيد ووجود حلاوة ذكر الله تعالى، وهي شكل الروح طيّبها الله عن خبث المنازعة، قال الله تعالى: {يَـٰٓأَيَّتُهَا ٱلنَّفْسُ ٱلْمُطْمَئِنَّةُ {٢٧} ٱرْجِعِىٓ إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةًۭ مَّرْضِيَّةًۭ {٢٨}} (الفجر، 27-28)، وقال: { فَرَوْحٌۭ وَرَيْحَانٌۭ وَجَنَّتُ نَعِيمٍۢ {٨٩}} (الواقعة، 89).
واسم النفس يشمل هذه المعاني كما ذكرنا في معنى اسم القلب[38] ، وهو مثل قول الله تعالى: {وَسْـَٔلِ ٱلْقَرْيَةَ} (يوسف، 82)، والمعنى: أهل القرية، وقال: {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ ءَامَنَتْ} (يونس، 98) يريد بذلك أهل القرية. فكذلك القلب مضغة لحم والمراد ما فيها. وكذلك النفس، والمراد ما في داخل الجسد من النار والنور. والنفس اسم الجنس، وجوهر بعضها أطْيَب من بعض، وبعضها أخبث من بعض، وأشدّ ظلماً وأكثر فجوراً، وهي النفس الأمّارة، والنفس طابت بنور ظاهر الإسلام من خبث ظاهر النفس، وهي تزداد طيباً بصدق المجاهدة وإذا قاربها توفيق الله تعالى. قال رسول الله ﷺ في دعائه "نعوذ بالله من شرور أنفسنا"[39] فتعوّذ رسول الله ﷺ مع ما خصّه الله تعالى بأنواع من الكرامات وطهارة في النفس والنية. قال: " كان لي شيطان إلا أن الله تعالى أعانني عليه فأسلم"[40].
والنفس جوهرها ريح مثل الدخان، ظلمانية سيئة المعاملة، وروحها في الأصل نورانية وتزداد صلاحاً بتوفيق الله تعالى مع حسن المعاملة وصحة التضرع، ولا تزداد صلاحاً إلاّ بمخالفة العبد هواها والإعراض عنها وقهرها بالجوع والشدائد.والنفس اللوّامة هي أقرب إلى الحق لكنها مخادعة مداهنة لا يعرفها إلا العارفون من الأكياس. والنفس المطمئنة هي التي طهّرها الله من خبث الظلمات فصارت نورانية، فشاكلت الروح، تمشي في طاعة الله منقادة من غير إباء منها فصارت مطيعة بطاعة الله، وهي نفس الصدِّيق الذي ملأ الله سرّه وعلانيته.
إنما شبهتُ هذه الأنوار بالجبال لأن نور الإسلام في صدر المسلم آكد وأحكم من أن يزيله أحد، ما دام الله تعالى يحفظه، حتى لا يتهيأ لأحد أن يزيل نور الإسلام من صدره وربما لم يستقم المسلم على الطاعة، وهو مع ذلك متمسك بالعروة الوثقى ولكنه لا ينجو من وسوسة النفس. وجبل نور الإيمان أرسى وأعظم وأرسخ وأثبت من نور الإسلام، لأن للنفس ولاية وتكلفاً في حفظ الإسلام واستعمال شرائعه، وليس لها تكلف في حفظ القلب. ومثبتِّه نور الرب جل جلاله، قال الله تعالى:{يُثَبِّتُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ بِٱلْقَوْلِ ٱلثَّابِتِ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَفِى ٱلْءَاخِرَةِ ۖ} (إبراهيم، 27). وقال رسول الله ﷺ في مدح هذه الأمة: "الإيمان في قلوبهم كالجبال الرواسي[41]". وهو موضع علم النفع، ونور المعرفة أوسع وضياؤها أرفع لأنه معدن الرؤية، والرؤية آكد من الخبر لأن ((الخبر ليس كالمعاينة)). ونور التوحيد هو أعظم الجبال، ومَثَلُه في الجبال كمثل جبل قاف[42] عند سائر الجبال.
فجبل نور الإسلام ينتهي حدوده إلى مجاهدة النفس وإصلاح أعمالها، وأهل الإسلام هم في درجات متفاضلون. وجبل الإيمان ينتهي حدوده إلى التوكل والتفويض والمشاهدة التي هي أجلّ مما ير النفس، والاعتبار بما قد رأى والنظر بنوره إلى ما غاب عن الأعين. وأهل الإيمان في أصل الإيمان متساوون، وفي مشاهداتهم وما يتولد في أنواره من ثمرات الإيمان وفروعه متفاضلون . وجبل نور المعرفة ينتهي حدوده إلى إحاطة العلم بالبقاء والفناء والعجز والقدرة ، وتنتهي إلى مشاهدة برّ الله تعالى ولطائفه. فبهذا النور يُعرَف الفاني والزائل وحقارته ودناءته ويُعرَف الباقي وقدرته ورفعته، ويُعرَف عجز الخلائق وضعفهم. والعارف في هذا المثل كأنه جبل الله ، استقرت معرفته برؤية عظمته وكبريائه وقدرته، ويمسكه ربه، فلا يزول بإصابة حادثة ولا ينتقل بإصابة محنة، لأن الله تعالى يمسكه بقدرته وبرحمته.
ومعنى العين من ((عرف)) كأنه عَلِمَ وعرف عزة الله وعظمته وعلوه وعلمه، فذلّت نفسه عند رؤية عزته، وتصاغرت عند رؤية عظمته، وتصاغرت عند رؤية علوه. ومعنى الراء من ((عرف)): رأى ربوبية الله تعالى ورأفته ورحمته ورزقه، فوثق به، وآمن به، واعتمد على رأفته، ورجا من رحمته، ورضي بالله ربّاً ومدبراً. ومعنى الفاء: فقه في الدين لله تعالى، وفهم مراده، وفارق كان فان، وفرّ من كل فتنة إلى الفتاح العليم، وفاق نور قلبه الباقي على كل شيء فان. ووجه آخر: معنى العين عرى قلبه عن النظر إلى غير ربه، فألبسه تعالى لباس التقوى حتى عاود القلب ملازمة باب مولاه. ومعنى الراء: رأى قلبه كل شيء كما خلقه الله تعالى. ومعنى الفاء: فرأى الفاني كأنه قد فني حتى انفرد للفرد الذي هو مولاه. ووجه آخر: معنى العين أنه عزت نفسه بالإيمان، والراء: راحت روحه بارتياح ذكر الرحمن، والفاء: فتح الله تعالى قلبه بالفقه في علوم القرآن.
ووجه آخر: عفت نفسه، ورق قلبه، وفاقت روحه، ووجه آخر: عبد أعانة ربه، فرأى بعونه ما غاب عن عينيه، وكشف له عن معاني الأشياء، ففارق النفس والخلق بقلبه، فقام بربه لا بقوة نفسه، مكشوف به سره، مشغول بربّه، قد آثر على ما دونه، فإنه عرف أنه أكبر وأجلّ وأعظم وأكرم وأعلى وأعلم وأغنى وألطف. فغرق نور فؤاده في مشاهدة عظمته، وهو في بحر فؤاد الله تعالـــى، لا ينتهي مدد رها ولا يبلغ غورَه أحد. فهذا أقلّ علامة من علامات العارف، لأن العارف لا يدركه في أحواله ريح عاصف، ولا يتصل به برق خاطف، ولا يخبر عنه وصف واصف. ويطوف حول سره من الله تعالـــى في كل وقت من برّ الله تعالـــى ولطائفه ورحمته وكرامته وعظمته وفوائده ونعمه، لا ينقطع عنه أدنى طرفة عين من الله أنواع اللطائف. فهو عارف لله، وعند الله نفسُه، وغير عارف بما ينكر من نفسه من أخلاقها السيئة ومن عيوبها، وله في أقواله وأفعاله حكمة. وهذا كله إنما يتبين له من بحر فضله.
ويثبِّته على هذه المرتبة العظيمة جبل نور التوحيد الذي هو الجبل الرابع، وهو على مستقر اللب، وهو الجبل الذي لا غاية لعلوه ولا نهاية لعظمته، وهو معدن جميع الخيرات والبحر الذي يخرج منه كل خير ويرجع إليه كل خير، ولا يتهيأ لأحد من الخلق وصف نوره بلسان العبارة إلاّ على مقدار ما يوفَّق وييسَّر.
muslem
14-09-2011, 08:36 AM
الفصل الثامن
واعلم، أيّدَك الله، أن هذا عبد أخذه نور التوحيد، فأحاط به حتى أغرقه في بحره. فصار نور التوحيد على وجه المثل كالشمس، فهي أطول في الصيف وأشدّ حراً، طلعت عليه حتى بلغت موضعها من الزوال وهو أعلى موضع في أيام الصيف ترتفع الشمس إليه. وليس في السماء غيم ولا علة حاجزة لنورها ولا سبب مانع لحرها وضيائها من مظلة. وليس بينها وبين هذا العبد شيء، حتى أحاطت برأسه، فأحرقته الشمس بحرّها، وغيّرت حاله مألوفاً وطبقاً، ولا يرى لشخصه ظلاً من ارتفاعها وعلوّ مكانها إلا عند قدميه، ولا تستقر قدماه على الأرض من شدة الحر إلا على الضرورة. فكيف يكون هذا الموحِّد الذي أقامه الله تعالـــى مقام التوحيد بحوله وقوته؟ وهو مقام من يحسّ به أسد فيقتله ويأكله وقد استيقن بهلاكه ليس له معتمد ولا كافّ ولا مستغاث، فما أقرب حال صاحب هذا المثل من حال الموحِّد، فهذا إنسان حيّ عند الناس وهو عند نفسه ميت بقربه من ربه لأنه بقي في ظلمات حد الإدراك لا يدرك كيفية التوحيد.... نور التوحيد وأحاطت به سراً وعلانية، وقد ضل هذا العبد طريق التكلف، فليس له تكلف في الأمور، وقد قام بترك الاختيار وصارت عبوديته أسيرة في قبضة عزة الرب جل جلاله، وهو يخاف من الشرك الخفي في سرّه في لحظة، وهو ينظر في قلبه من ربه إلى خلقه كيلا يتلفت إلى غيره من خلقه أو إلى نفسه أو إلى حركته أو إلى حد التعطيل، حتى يرى عجزه عن إدراك ربوبيته، أو إلى حد التشبيه حتى يرى نفسه غريقاً في بحر التوحيد، وهو بحر عظيم عميق لا يُرَى شطُّه، ولا منتهى لغوره، وهو ريان عطشان، جوعان شبعان، عريان مكتس، بصير أعمى، عالم جاهل، عاقل أحمق، وحليم أخرق، وغني فقير، وقادر عاجز، وصحيح مريض، وحي ميت، وباق فان، وبعيد متدانٍ، وقوي متوانٍ، ومشته بلا أمان. فهذه صفة العالم الربّاني والعارف الروحاني والسابق النوراني، ليس كالجاهل الظلماني، ولا علمه نفساني. ولو زدتُ فوق هذا الشرح في حال الموحِّد أخافُ أن يكون فتنةً على من عافاه الله تعالـــى من هذا البلاء وغرق في ظلمات المعاصي والشهوات وحبّ الدنيا عن مشاهدة لطائف المولى، فإن هذه الأشياء معافية عن الشرك والشك، وحبط دون المولى.
وهو في أشدّ البلاء، كما وصفتُ لك شيئاً منه. قال رسول الله ﷺ: ((أشد الناس في الدنيا بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل))[43].وقال رسول الله ﷺ: ((لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً ولحثيتم التراب على رؤوسكم))[44]. وأخبر عليه السلام: "من يشاهد الله تعالى وكبرياءَه في أشدّ البلاء". وقال عليه السلام: "إذا رأيتم أهل البلاء فاسألوا الله العافية"[45]. فتفكّر، رحمك الله، في حال من وقع عليه هذا البلاء، ونزع عنه لباس العافية فكيف يكون عيشه. أما بلغك ما كان رسول الله ﷺ فيه في كل حال وفي كل وقت؟ إذا شرع في صلاته سمع له أزيز كأزيز المرجل وكان يتغير لون وجهه إذا هاجت ريح وظهرت حادثه. ولكن الغفلة فينا حجتنا عن مشاهدة ما شاهد أهل المعرفة وملأت خواطر قلوبنا عن مثل هذه الحالات .
وقد ذمّ الله تعالى أقواماً فقال: {يَعْلَمُونَ ظَـٰهِرًۭا مِّنَ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ ٱلْءَاخِرَةِ هُمْ غَـٰفِلُونَ} (الروم، 7). وهذا العبد الذي غرق في نور التوحيد واشتدّ بلاؤه، فهو في عيش رغد، طابت حياته مع ربّه. قال الله تعالى: {فَلَنُحْيِيَنَّهُۥ حَيَوٰةًۭ طَيِّبَةًۭ ۖ} (النحل، 97). فهذا العبد قد نسي الحلاوات كلها عند حلاوة ذكره وطاعته ومعرفته ومحبته. وقد قال رسول الله ﷺ: "ذاق طعم الإيمان من رضى بالله رباً"[46] إلى آخره. وقال عليه السلام: " ثلاث من كُنَّ فيه وجد حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ، ورجل كره أن يعود إلى الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يُلقَى في النار، ورجل أَحبَّ عبداً لم يحبّه إلاّ لله"[47]. وليس هذا موضع شرحها. فهذا عبد سقاه الله من بحر الهدى شراباً، ووجد حلاوته فهو كالمجنون عند الناس، وقد زيّنه الله تعالى بأحسن اللباس، وعصمه من شرّ الوسواس وفضّله على كثير من الناس، ولا تُدرَك أحوال هذا الموحِّد بالنظر والقياس، وخصّه الله تعالى بقوة من عنده في جميع أحواله بما لا يُدرَك ذلك بالعقول والحواسّ. قال الله تعالى: {ٱللَّهُ وَلِىُّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟} (البقرة، 257)، وقال: {ذَٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ مَوْلَى ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ وَأَنَّ ٱلْكَـٰفِرِينَ لَا مَوْلَىٰ لَهُمْ {١١}} (محمد، 11)، وقال: { وَهُوَ يَتَوَلَّى ٱلصَّـٰلِحِينَ} (الأعراف، 196) .
فما ظنك، رحمك الله، بمن كان الله وليه وناصره ومعينه ومؤيّده هل تدرك حقيقة أحواله بحاسّة العقل؟ أما رأيت إنكار الضالّين كرامات الأولياء ومعراج النبي ﷺ إذ نظروا إليها من أهوائهم وسموها عقولاً، وزعموا عقولهم لا تقبل هذه الأشياء، ولا يصح مثل هذا من طريق المعقول فكل ما لا تقبل عقولهم فذلك باطل. فيا أخي كيف تُدرِك بآلة مخلوقة محدثة مركَّبة ربوبيةَ خالقٍ قدير رب عالم يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد؟ ومتى يُدرِك شيءٌ يزيد وينقص ويتقاصر ويتفاضل ربوبيةَ ربٍ لا يزيد ولا ينقص ولا يتغير حاله؟ بل العقل حجة الله تعالى على العبد وهو آلة مركَّبة لإقامة العبودية لا لإدراك الربوبية .
ومن عجز عن إدراك أشياء في نفسه مخلوقة فيه ولم يدرك حقيقتها علماً إلا بالظن والخيال مثل النوم وأحوال القلب وطبائع النفس والروح ولا يعرف حقيقة النفس أيش هي، ولا يعرف حقيقة العقل الذي يدّعي أنه يعرف به كل شيء، فكيف يكون له سبيل الإدراك إلى ما هو أعلى منه؟ بل الصواب التسليم للحكم والاستسلام للرب والرجوع إلى الحق. وهذا الموحِّد الذي وصفه الله تعالى بقوله {إِنَّ فِى ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُۥ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى ٱلسَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌۭ {٣٧}} (ق، 37)، فهذا صاحب القلب في الحقيقة لأن حافظ قلبه ربه عز وجل ولأن من وكّله الله إلى حفظ قلبه زاغ قلبه، ومن حفظ قلبه ربه فقد وقع من الشغل في فراغة. والناس يعظمون هذا الإنسان، لأنه رفيع المقدار وقد وضع هو نفسه، وأزراها، وصارت نفسه لنور قلبه كالمرآة لعينه ينظر بنور قلبه فيعرفها فيصل بمعرفتها إلى معرفة ربّه جل وعلا. قال الله تعالى: {وَفِىٓ أَنفُسِكُمْ ۚ أَفَلَا تُبْصِرُونَ {٢١}} (الذاريات، 21)، وقال عليه السلام: "من عرف نفسه عرف ربه".
وهذا إنما يكون للمبتدئ في أوائل أمره وسلوك طريقه، وأما إذا اتصل بنور الحق، وقوي بقوة الحق، تلاشى عند سلطان عظمته قدرُ مَن دونه من خلقه، ويظل عند ظهور حقه مقدار جميع خلقه وقد وصف الله مثلاً من نور قلب المؤمن على سبيل المثال فقال تعالى: {مَثَلُ نُورِهِۦ كَمِشْكَوٰةٍۢ فِيهَا مِصْبَاحٌ ۖ} إلى قوله: {بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌۭ} (النور، 35). فمن تفكر بتوفيق الله تعالى بإدراك شيء من معنى بيان هذه الآية فإن من أول الكتاب إلى آخره ما يدلّه على شرح معنى هذه الآية، والله اعلم. وقال بعد هذا: {وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ ٱللَّهُ لَهُۥ نُورًۭا فَمَا لَهُۥ مِن نُّورٍ} (النور، 40).
وأسماء مقامات السرّ مثل الصدر والقلب وهي عبارة باللسان، وإنما حقيقتها إشارات إلى الأنوار وقد وضعها الله من خزائن نوره. ألا ترى ما قال رسول الله ﷺ: "فراسة المؤمن لا تخطئ"، "والمؤمن ينظر بنور الله تعالى[48]"، وقال: "ليُفْتِك قلبك"[49]، وقال: "زاجر الله في قلب كل مؤمن وواعظه في قلب كل مؤمن"[50].
واعلم يا أخي أن قوام الخلق كلهم بالله تعالى، فما ظنك فيمن تولاه الله تعالى خصوصاً واكتنفه بكنفه وجعله من خاصته وأهل ولايته. ومن لم يمت لا يرى القيامة إلا أن يموت، كما قال رسول الله ﷺ: "من مات فقد قامت قيامته"[51]. ومن مات وخرجت روح نفسه وانتقل بروحه من الدنيا إلى الآخرة، عاين الآخرة وما فيها. فكذلك من مات بمعناه وحيي بمولاه وعلم أنه لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً، فقد كشف له غطاء غفلته، وقامت قيامته، وصار حياً بمولاه، لأنه اكتنفه وتولاه وأيد قلبه وأحياه، فشاهد بنور الحق ما لم يشاهد غيرُه، وقال الله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُوا۟ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمْوَٰتًۢا ۚ بَلْ أَحْيَآءٌ} (آل عمران، 169)، وقال: {وَلَا تَقُولُوا۟ لِمَن يُقْتَلُ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمْوَٰتٌۢ ۚ بَلْ أَحْيَآءٌۭ } (البقرة، 154). ومن قتله الكافر في سبيل الله جعله الله تعالى حياً بكرامته شهيداً، فما ظنك فيمن قتله نور المحبة ونار خوف الهجران ونار مخالفة الهوى ونور موافقة الحق ونار الاشتياق، وقتل نفسه بسيف التوحيد فصار حيّاً لله عز وجل.
والحياة التي يفهما العامة على وجوه:
منها حياة النفس بالروح، وهي حياة الدواب والبهائم، ومنها حياة القلب من ظلمة الكفر بنور الإيمان، ومنها حياة النفس بالعلم فإنّ العالم حيّ والجاهل ميت، ومنها حياة العبد بنور الطاعة من ظلمة المعصية، ومنها حياة التائب بنور التوبة من ظلمة الأضرار وبنور توفيق الله من ظلمة رؤية المجاهدة، ومنها حياة العبد برؤية منّة الله تعالى عليه وحسن نظره إليه من ظلمة النظر إلى العمل، ثم منها ما لا يَحتمِل ذكرَها قلوبُ العامة.
قال الله تعالى: {قُلِ ٱلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّى} (الإسراء، 85)، وقال: {وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍۢ مِّنْهُ ۖ} (المجادلة، 22)، وقال: {يُلْقِى ٱلرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِۦ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِۦ} (غافر، 15)، وقال: {وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحًۭا مِّنْ أَمْرِنَا ۚ} (الشورى، 52). فكل حيّ ممكن خلق الله تعالى إنما سمي حياً بالروح، والروح عبارة عن النور الذي به أحيا الله الخلق، وهو كما ذكر الله تعالى، أن الروح من أمره، وقوام الروح بالله، والنفس قائمة بالروح. فمن فهّمه الله تعالى هذا المقدار فهم ما وراء ذلك، بتأييد الله وتوطيد الله وتوفيقه، من حياة القلب بروح الحكمة وروح الصدق وروح المحبة وروح الولاية وروح الشهادة وروح الرسالة وروح الكلام وروح الخلة. فحياة الصدر بروح الإسلام، وحياة القلب بروح الإيمان، وحياة الفؤاد بروح المعرفة والمشاهدة، وحياة اللب بروح التوحيد والانفصال عن القوة والحول والاتصال بالحق.
muslem
14-09-2011, 08:45 AM
ومثل صاحب هذا الطريق في ابتداء أمره كمثل رجل احتوته ظلمات الليل وأحاطت به في بيت مظلم، فأُعطي سراجاً فاستضاء بنور ذلك السراج، ثم فُتِحَت كوة بيته وبابه فوقع نور القمر، فاستأنس به واستبشر حتى خرج إلى الصحراء فاستغنى بنور القمر وضيائه عن ضوء السراج، فبينما هو فرح كذلك إذ أسفر الصبح، فغلب نور النهار وسلطانه نور القمر، فاستبشر، فإذا هو طلعت الشمس وجعل نورها وضياؤها يزداد إلى أن تبلغ أعلى درجاتها.
فمثل البيت المظلم هي النفس الجاهلة بظلمتها، ونور السراج فيها نور العقل، ثم يزيد هذا العقل، كطلوع القمر، بأنوار الشريعة وعلم السنة. ثم يزيد بنور صفوة المعرفة، وهي كطلوع الصبح، ثم يزيد برؤيته منن الله تعالى وما سبق له من الله من الحسنى في الوقت ظاهراً وباطناً ولطائف صنعه وحكمه. ثم يزيد بنور التوحيد وهو طلوع الشمس، ثم يرتفع ويزداد ضوؤها ونورها وسلطانها ومنافعها برؤية حقائق آثار قدرته ولطائف ربوبيته. وإذا اكتملت أنواره واجتمعت خاف العبد من زوالها، وخشي من انتقالها، ولم يأمن تغيير حالها. فصاحب هذا المقام يخاف من فراق هذا النور وزوال هذا السرور أشد مما يخاف هذا المستأنس بنور الشمس من زوالها وغروبها. وقد قال القائل:
طلعت شمس نوره في القلوب وأضاءت فما لها من غروب
يتباهون بالحبيب فكل آخذ من حبيبه بنصيب[52]
ومَثَل نظر العبد إلى أعماله وأفعاله وأحواله كمَثَل رجل أسرج سراجاً كما وصفنا، ثم اتصلت له هذه الأنوار التي وصفتُها، فهل ينظر إلى السراج بعدما ظهرت له هذه الأنوار؟ لا ، بل يشكر لمن وفّقه للأعمال. وكذلك الموحِّد رأى سره معاينةً بحقائق الإيمان ومشاهدةً بنور هداية الرحمن آثار عظمة الله وقدرته وجلاله وكبريائه وفردانيته ، فلم يلتفت إلى عمله ولم يعتمد عليه واعتمد على الله، وغرق في أنوار مشاهدة منّته ولطائف رحمته وشواهد رأفته، فتبرأ من النظر إلى حركات نفسه. وأزرى بنفسه لما رأى من سوء أخلاقها وقبح مرادها .
ومثل آخر أن الكواكب إنما يكون سلطانها في ليلة ظلماء، فإذا طلع القمر وكانت ليلة البدر غلب نوره نورَ الكواكب، وخفي أكثر النجوم، فإذا أسفر الصبح وطلعت الشمس انطمست آثار الكواكب الباقية، وذهب نور القمر. فما ظنك في عمل النفس عند ظهور الربوية بالتوفيق والمعونة والهداية وهل يعتمد الموحِّد في عمل مادام يرى لطائف ربوبيته وسعة رحمته، إذ العبد قائم بربه غير مستغن عنه ظاهراً وباطناً لدينه ودنياه طرفة عين ولا أدنى من ذلك. فلما كانت الهداية وأنوار الولاية ولطائف حسن الرعاية جملت وشملت وكثرت لم يبق النظر إلى حركات النفس وأعمالها على سبيل ما يرى في كل لحظة وطرفة من لطائف الرب جل وعلا.
وأبيِّن لك شيئاً من صفة هذه القلوب التي يتولاها ربها. اعلم، رحمك الله، أن قلوب أولياء الله خزائن الحكمة، ومواضع الرحمة، ومعادن المشاهدة وكنوز المعرفة، وبيوت الكرامة، ومواضع نظر الله جل جلاله إليها برحمته، ومزرعة رأفته، وأواني عمله، وأخبية حكمته، وأوعية توحيده، ومواضع فوائده، ومساكن عوائده، وأكنة أنوار من نوره. ينظر إليها برحمته في كل لحظة فيزيد أنوارها ويصلح أسرارها وقد زينّها الله بنور الإيمان، وأسَّسها بالتوكل على الرحمن، وحشاها من لطائف الامتنان، وبنى حيطانها من فوائد الإحسان، وطيب أرضها بنور الحق والهدى حتى طابت تربتها من خبث الشرك والشك والنفاق وسائر الفواحش. فهذه الأرض أرض المعرفة سقاها الله من بحر الرضى حتى نبتت فيها من أنوار النفس، وأيَّدها بحسن معالجة أصحاب البساتين، وهم السادات من المتقين، وأخرج أكمامها بريح متابعة سيد المرسلين، وربَّاها بالرياح الربَّانية : ريح الرحمة وريح الرأفة وريح الظفر وما يشاكلها من رياح الربوبية، وأنضج أثمارها بحر شمس المعرفة، وزادها بمضي ليل الافتقار ونهار الافتخار، وأحسن لون فواكهها بصبغة الله، وهي بيان أحكام الشريعة واستمساك العبد بالعروة الوثقى، وطيَّب طعمها بالتمسك بسنة نبيه ﷺ. ثم وضع سرير المحبة على أرض الحق المطيّب ترابها بنور اللبّ المؤيد بنور التوفيق المغذى بغذاء التصديق المؤسس بأسلس التحقيق المشدّد بركنه الوثيق، وبسط على هذا السرير الفرش الوثير من الحول والقوة، وألقى عليها من نمارق التضرع والاستكانة، وجعل متكأه الاستقامة، واعتماده على الله أن يثبته على الحق ولزوم الجماعة، ثم أجلس على هذا السرير عبدَه ووليه مسروراً ومؤيداً ومنصوراً وقد ألبسه لباس التقوى، ونزع عنه ثياب التكلف والدعوى، وخلع عليه كرامته من خزائن فضله، وشدّ أزره بمنّته وتوفيقه، وتوّجه بتاج ولايته، وغسله بماء بره ورعايته، وزاده طهارة من بحر هدايته، وأطعمه من حلاوة ذكره ومحبته، وسقاه شراباً طهوراً بكأس التوحيد من بحر التفريد ممزوجاً بحلاوة وصلته حتى صار قائما بالله غائباً سره عمن سواه، قد ذلت نفسه عند ظهور عزته، وتلاشت عن التكلف عند رؤية نصرته، فقامت نفسه في خدمته كالعبد المحجور أو كالمضطر المقهور أو كالأسير المأسور، ثم نظر إليه ربُّه نظرة رحمته، فنثر عليه من خزائن الربوبية نثار كرامات الخصوصية، حتى قام مقام حقيقة العبودية، فأغناه الله تعالى بذلك، ثم قرَّبه وناداه وأكرمه وسمَّاه ولطف به ودعاه، فأتاه حين سمع دعاءه، فأيَّده الله تعالى وقوّاه واكتنفه وآواه حتى أجابه ولبّاه وفي السر ناداه، وفي كل وقت ناجاه، وصرخ إلى مولاه لا يعرف له ربا سواه، فأعطاه سؤله ومناه، واصطفاه لخدمته وهداه، ولمحبته ارتضاه، ولمعرفته اجتباه، وأجرى بين يديه أنهاراً من الصدق والصفاء، والتحقيق والحياء، والمحبة والرضاء، والخوف والرجاء، والصبر والوفاء، والشكر والقضاء، والبقاء واللقاء، والافتخار والافتقار، والتعظيم وترك الاختيار، والنظر في الأقدار ومشاهدة العزيز الجبار. يزيده الله كل وقت من اللطائف ما عجز الواصفون عن وصفه. وهو في قرب من مولاه مستوحش من دنياه، اشتغل بالله عن النظر في عقباه، فهو في أرغد عيش مع مولاه، يخاف زوال هذا الحال، ويخشى حادثة توجب الانتقال عن مقام مشاهدة الكبرياء والجلال، وهو في هذه الحالة كالأنيس المستوحش، وكالمستقر المستوفز، وكالمطمئن المضطرب، قد غرق في بحر لا يرى شطّه وهو بحر التوحيد، ولا يتمنى النجاة من هذا الغرق. يتلذذ هذا الموحِّد كما يتلذذ المتلذذون من حلاوات الدنيا، ويألم من ألم فراقه بما لا يألم أهل الأوجاع والأمراض والشدائد، والمضربون بالسياط والمخرَّمون بالحديد، فعافاه الله من ألم الفراق وجمع له كل عافية، وجعله من عنده وآمنه فسبحان من آلى على خاصة أوليائه والمقربين من أصفيائه بالآلاء العظيمة، وأنعم عليهم بالنعماء الجسيمة، وعصمهم من الأهواء السقيمة، ومنَّ عليهم بالقلوب السليمة، وسلك بهم سبيل المحجّة المستقيمة، فله الحمد على دفع البلاء وبذل العطاء وزيادة النعماء وكرامة الهدى ورفع الردى والتوفيق بالاقتداء بنبيه المصطفى وملة خليله المجتبى وسنة رسول الله ﷺ المرتضى خاتم الأنبياء والرسل إلى أوضح السبل، ختم الله به النبوة وبدر بمتابعته إلى إقامة المروة وإحياء الفتوة، وقطع به الحجة وأرسله للعالمين رحمةً، ودفع به كل نقمة وأتم به النعمة إذ هو رسوله المصطفى صلى الله عليه وعلى آله أهل الصدق والصفاء وعلى أصحابه أهل المحبة والوفاء وعلى أزواجه أهل العفة والتقى وسلّم، ولا ملجأ ولا منجى منه، وهو ولي كل مؤمن ونعم المولى هو، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم.
muslem
14-09-2011, 08:52 AM
] البخاري، رقم (1) (1/3)، ومسلم، رقم (1907)، وأبو داود، رقم (2201)، الترمذي، السنن، رقم (1647)، ابن ماجة، رقم (2427).
[3] الطبراني، مسند الشاميين، رقم (738)، المتقي الهندي، كنز العمال، ج 1، (رقم 1206-1207)، أبو نعيم الأصبهاني، حلية الأولياء، ترجمة كعب الأحبار، ج 6، ص 47.
[4]ابن ماجة، رقم (210).
[5] تتمة الحديث: "...ما لم تعمل به أو تتكلم"، البخاري، كتاب الطلاق، رقم (5269)، مسلم، كتاب الإيمان، رقم (127)، أبو داود، كتاب الطلاق، رقم (2209)، الترمذي، السنن، كتاب الطلاق، رقم (1183)، ابن ماجه، السنن، كتاب الطلاق، رقم (2044).
[6] هذا القول منسوب لابن المبارك، حلية الأولياء، ج 4، ص 55. ويذكر الخطيب البغدادي في كتاب اقتضاء العلم العمل، رقم (26)، ج 1، ص 30: عن أبي بكر الرازي قال يوسف بن الحسين: في الدنيا طغيانان طغيان العلم وطغيان المال، والذي ينجيك من طغيان العلم العبادة، والذي ينجيك من طغيان المال الزهد فيه.
[7] الدارمي، السنن، باب التوبيخ...، رقم (361)، ج 1، ص 114.
[8]مسلم، باب التعوذ من شر ما عمل ومن شر ما لم يعمل، رقم (2722)، ج 4، ص 2088 والنسائي، رقم (7869)، ج 4، ص 445.
[9] ابن حبان، الصحيح، رقم (80)، ج 1، ص 281، والطبراني، المعجم الكبير، رقم (593)، ج 18، ص 237 حيث يختلف متن الحديث: أخوف ما أخاف عليكم جدال المنافق عليم اللسان.
[10] السخاوي، فتح المغيث، ج 1، ص 267.
[11] أي زبد البحر الذي هو رغوة بيضاء توجد على شاطئ البحر.
[12] نص الحديث: إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا، ولا تجسسوا، ولا تنافسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخواناً كما أمركم، المسلمُ أخو المسلم: لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره، التقوى ها هنا، التقوى هاهنا، (ويشير إلى صدره) بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم: كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وعرضه، وماله: إن الله لا ينظر إلى أجسادكم، ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم. مسلم، كتاب البر، باب تحريم ظلم المسلم، رقم (2564)، البخاري، كتاب الأدب، باب ما ينهى عن التحاسد والتدابر
[13]ابن أبي شيبة، المصنف، رقم (6787)، ج 2، ص 86.
[14] لعله لقمان الحكيم الذي يذكر في القران الكريم.
[15] صحابي تلقى هو وأسرته التعذيب على أيدي المشركين وأجبر على مدح هبل تحت التعذيب وهو من أهل الصفّة.
[16]روى مثله الطبراني، المعجم الكبير، رقم (594)، ج 6، ص 228.
[17]سبق تخريجه.
[18]البيهقي، السنن الكبرى، باب النية في اليمين. رقم (179)، ج 1، ص 41.
[19] البخاري، باب ترك الحائض الصوم، رقم (304)، مسلم، باب بيان نقصان الإيمان بنقص الطاعات، رقم (79، 80).
[20]أحمد بن حنبل، مسند، رقم (1842)، ج 1، ص 215: ليس الخبر كالمعاينة إن الله أخبر موسى بما صنع قومه في العجل فلم يلق الألواح فلما عاين ما صنعوا ألقى الألواح فانكسرت.
[21] هو أبو جعفر محمد الباقر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب. الإمام الخامس عند الشيعة الاثنا عشرية.
[22] هذا القول منسوب لعلي بن أبي طالب: السراج، كتاب اللمع، تحقيق نكلسون (ليدن: بريل، 1914)، ص 350.
[23]الطبراني، المعجم الكبير، رقم (3367)، ج 3، ص 266: عن الحارث بن مالك الأنصاري أنه مر برسول الله صلى الله عليه و سلم فقال له : كيف أصبحت يا حارث؟ قال: أصبحت مؤمنا حقا فقال: انظر ما تقول؟ فإن لكل شيء حقيقة فما حقيقة إيمانك؟ فقال: قد عزفت نفسي عن الدنيا وأسهرت لذلك ليلي وأطمأن نهاري وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزا وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها وكأني أنظر إلى أهل النار يتضاغون فيها فقال: يا حارث عرفت فالزم ثلاثا. تختلف الروايات عند أهل التصوف القدماء مثل السراج، كتاب اللمع، ص 12-13، السلمي، كتاب الأربعين في التصوف، حيدرأباد، 1950، ص 5-6، الترمذي، كتاب الرياضة وأدب النفس، القاهرة، 1947، ص 69، 127، الهجويري، كشف المحجوب، لنينغراد، 1926، ص 38-39.
[24] البزاز، المسند، رقم (3037)، ج 8، ص 49.
[25] عن أبي هريرة رضي الله عنه قال كان النبي صلى الله عليه وسلم بارزا يوما للناس، فأتاه جبريل فقال : ما الإيمان؟ قال : أن تؤمن بالله وملائكته وبلقائه ورسله وتؤمن بالبعث . قال: ما الإسلام؟ قال : الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به، وتقيم الصلاة، وتؤدي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان. قال: ما الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك. قال: متى الساعة؟ قال: ما المسؤول عنها بأعلم من السائل، وسأخبرك عن أشراطها: إذا ولدت الأمة ربها، وإذا تطاول رعاة الإبل البهم في البنيان، في خمس لا يعلمهن إلا الله. ثم تلا النبي صلى الله عليه وسلم: { إِنَّ ٱللَّهَ عِندَهُۥ عِلْمُ ٱلسَّاعَةِ } الآية، ثم أدبر، فقال: ردوه: فلم يروا شيئا، فقال: هذا جبريل، جاء يعلم الناس دينهم. البخاري، صحيح، كتاب تفسير القرآن، رقم (50)، ج 1، ص 27، رقم (4499)، ج 4، ص 1793؛ مسلم، صحيح، كتاب الإيمان، رقم (9، 10)، ج 1، ص 39-40.
[26]إناء يشرب فيه.
[27] لعله موزون.
[28] المقصود هنا البحر.
[29] الترمذي، السنن، كتاب البر والصلة، رقم (2033)، ج 2، ص 295.
[30] الترمذي، السنن، كتاب الصلاة، رقم (211)، ما جاء ليليني منكم أولو الأحلام والنهى.
[31] أبو يعلى، المسند، رقم (7413)، ج 13، ص 408.
[32] الطبراني، المعجم الكبير، رقم (10949)، الديلمي، الفردوس، رقم (5241)، ج 3، ص 407: حدثنا محمد بن علي الصائغ المكي ثنا عبد العزيز بن يحيى المديني ثنا عبد الله بن وهب عن سليمان بن عيسى عن سفيان الثوري عن ليث عن طاوس عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: ليس بؤمن مستكمل الإيمان من لم يعد البلاء نعمة والرخاء مصيبة: [قالوا: كيف يا رسول الله؟] قال: لأن البلاء لا يتبعه إلا الرخاء وكذلك الرخاء لا تتبعه إلا المصيبة وليس بمؤمن مستكمل الإيمان من لم يكن في غم ما لم يكن في صلاة قالوا: ولم يا رسول الله؟ قال: لأن المصلي يناجي ربه وإذا كان في غير صلاة إنما يناجي ابن آدم.
[33] الحسن بن علي بن أبي طالب.
[34] ابن أبي شيبة، المصنف، رقم (35188)، ج 7، ص 186، الدارمي، السنن، رقم (294)، ج 1، ص 101.
[35] ابن أبي شيبة، المصنف، رقم (31048-31049)، ج 6، ص 240، البزاز، المسند، رقم (1700)، ج 5، ص 117، المتقي الهندي، كنز العمال، ج 5، رقم (4072، 4098).
[36] هو مسحوق أحمر لحجر أسطوري يسمى بحجر الفلاسفة. المقصود هنا إذا حصل العبد على هذه المرتبة كأنه حصل على الكبريت الأحمر.
[37] أي العناية الأزلية.
[38] يشير المؤلف هنا إلى تقسيم "القلب" إلى أربع مقامات: الصدر والقلب والفؤاد واللب.
[39] البيهقي، السنن الكبرى، رقم (5594)، ج 3، ص 215، أبو يعلى، المسند، رقم (5257)، ج 9، ص 168.
[40] مسلم، صحيح، كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب تحريش الشيطان، رقم (2814)، ج 4، ص 2167، الترمذي، السنن، رقم (1172)، ج 3، ص 475.
[41] الذهبي، ميزان الاعتدال، رقم (5529-5584)، ج 5، ص 53.
[42] جبل عالي يحيط بالأرض الدنيا. ياقوت الحموي، معجم البلدان، ج 4، ص 298.
[43] الحاكم، المستدرك، كتاب الإيمان، رقم (120)، ج 1، ص 99، الترمذي، السنن، رقم (2398)، ج 4، ص 601.
[44] عن أنس رضي الله عنه قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة ما سمعت مثلها قط فقال:" لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيراً "، فغطى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوههم ولهم خنين، وفي رواية: بلَغَ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصحابه شيء فخطب فقال: "عرضت عليَّ الجنة والنار فلم أر كاليوم من الخير والشر ولو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيراً " فما أتى على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أشد منه غطوا رؤوسهم ولهم خنين". البخاري، صحيح، رقم (4345)، ج 4، ص 1689، والرواية الثانية لمسلم، صحيح، رقم (2359).
[45] الخطيب البغدادي، تأريخ بغداد، رقم (6646)، ج 12، ص 161.
[46]وتكملته: وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا. مسلم، صحيح، باب الدليل على أن من رضي بالله رباً، رقم (34)، ج 1، ص 62، الترمذي، السنن، رقم (2623)، ج 5، ص 14.
[47]البخاري، صحيح، باب حلاوة الإيمان، رقم (16)، ج 1، ص، 14، النسائي، السنن الكبرى، حلاوة الإيمان، رقم (11719)، ج 6، ص 527.
[48] اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله. الترمذي، السنن، رقم (3127)، ج 5، ص 298.
[49] "حدثنا إبراهيم بن الحجاج السامي، حدثنا حماد بن سلمة ، عن أبي عبد السلام، عن أيوب بن عبد الله بن مكرز ، عن وابصة بن معبد الأسدي قال: (أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أريد أن لا أدع شيئاً من البر والإثم إلا سألته. فأتيته في عصابة من الناس يستفتونه، فجعلت أتخطاهم، فقالوا: إليك يا وابصة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقلت دعوني أدنو من رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه أحب الناس إلي أدونو منه. قال: دعوا وابصة، ادن يا وابصة، استفت قلبك واستفت نفسك، واستفت قلبك، واستفت نفسك. البر ما اطمأنت إليه النفس وأطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك، ثلاثاً.)". أبو يعلى الموصلي، مسند أبي يعلى، رقم (1586).
[50]لم نجد مصدراً لهذا الحديث.
[51]الديلمي، الفردوس بمأثور الخطاب، رقم (1117)، ج 1، ص 285.
[52]تشبه هذه الأبيات أبيات للحسين بن منصور الحلاج:
طَلَعَت شَمسُ مَن أُحِبُّ بَلَيلٍ فَاستَنارَت فما لَها من غُروبِ
إنَّ شَمسَ النَّهارِ تَغرُبُ باللَّي_ _لِ وَشَمسُ القُلوبِ لَيسَ تَغيبُ
مَن أَحَبَّ الحَبيب طارَ إِليهِ اِشتِياقاً إِلى لِقاءِ الحَبيبِ
vBulletin® v4.0.2, Copyright ©2000-2024, Jelsoft Enterprises Ltd.