khilafa
21-08-2011, 04:06 PM
مذكرات دبلوماسيّ
إريك رولو
شباط/فبراير 2011
إريك رولو، الذي عيِّن في تموز/يوليو العام 1985 سفيراً لفرنسا في تونس، تولّى منصبه في الوقت الذي كانت فيه باريس تعبّر عن مخاوفها فيما يخصّ خلافة مؤسّس الجمهوريّة التونسية الحبيب بورقيبة، التي اعتبرتها في حينها "داهمة".
كانت مهمّتي تشبه في بعض وجوهها، وإلى حدٍّ بعيد، عملية تحقيقٍ استقصائيّة في بلدٍ كان في خضمّ التخبّط. فالرئيس بورقيبه، الذي أتيحت لي فرصة الاجتماع به عدّة مرات، لم يبدُ متمتّعاً بكلّ قواه. ففي خلال محادثاتنا أوقع وزير خارجيته، السيّد الباجي قائد السبسي في مواقفٍ حرجة، إذ كان يتفوّه بكلامٍ غير دبلوماسيّ وحتى غير متماسك، ما اضطرّ هذا الأخير إلى الاعتذار لاحقاً. ولدى قيام رئيس هيئة الأركان في الجيش الفرنسي، الجنرال موريس شميت، بزيارة مجاملة له، وقف بورقيبة، وقبل أن يصافحه، أنشد قصيدة مطوّلة لفيكتور هوغو؛ ثم أتبع ذلك بمونولوغ ناسياً أن يأتي على ذكر موضوع مهمّة ضيفه، مع أنّها كانت تتعلّق بالأمن القوميّ.
فهو، إذ كان يعمل بوعي لعدّة ساعات في اليوم، لم يكن يمسك بزمام الحكم في الدولة التي كان رئيسها. ولا حتّى حكومته، برئاسة محمد المزالي، التي انقسمت بين عدّة معسكرات متناحرة. فالوزير الأوّل كان يخصّص القسم الأكبر من وقته لكي يحسّن صورته المميّزة، طبعاً بهدف خلافة بورقيبة في الحكم، وهو ما كان يولّد غيظاً في القصر الرئاسي في قرطاج. فابنة شقيق بورقيبه، التي كان لها عليه تأثيرٌ بالغ، لم تكن تخفي إعجابها البالغ وتعاطفها مع الجنرال زين العابدين بن عليّ. ومع ذلك لم يتصوّر أحد في حينه أنّها ستفتح له جسر عبورٍ إلى الحكم، مساهمةً بذلك في إسقاط عمّها.
في العامين 1985 و1986، شكّل الجنرال بن علي، وزير الدولة ومن ثمّ وزير الداخلية، لغزاً بالنسبة إلى الفرنسيين. فهو رفض، وبذرائعٍ مختلفة، أن يستقبل شخصيّات فرنسية تزور البلاد، وخصوصاً الوزيرين إديت كريسون وبيار بيريغوفوا، وبشكلٍ مفاجئ أكثر رئيس جهاز مكافحة التجسّس، المدير العام للأمن الخارجي (DGSE) الجنرال رينيه إنمبو. وقد بلغت الأمور ذروتها عندما أبلغني الملحق العسكري في السفارة، الكولونيل إيفان دو لينيار (الجنرال لاحقاً) أن بن علي يقاطعه منذ عدّة أسابيع، بينما هو يستقبل باستمرار رئيس قسم المخابرات المركزية الأميركية (CIA) في تونس. هذا علماً أنّهما زميلان سابقان في كلّية سان سير العسكريّة، وكانا يتكّلمان من دون مجاملات، وقد دأبا على مناقشة المسائل ذات الاهتمام المشترك.
وإيفان دو لينيار، الديغولي اليساري، الذي يحمل الأوسمة لأنجازاته الحربية في مكافحة المنظمة السريّة المسلّحة OAS (المناوئة لديغول) في الجزائر، والذي كان يتكلّم العربية بطلاقة، كان مشهوداً له باستقامته وبتعلّقه بالبلد الذي ولد فيه. وبالطبع تمّ نقل هذه المعلومات إلى باريس عبر برقيةٍ صُنِّفت سرّية ووجهت إلى عددٍ محدودٍ من كبار المسؤولين في الكي دورسيه (وزارة الخارجية) والإليزيه (القصر الجمهوري).
هكذا أتت المفارقة لتزيد الغموض: فقد استقبلني السيد بن علي بطيبة خاطر ورأساً لرأس. وقد تناولت مفاوضاتنا بشكلٍ أساسيّ عملية بيع أنظمة اتّصال من الأكثر تطوّراً، مخصّصة للحرس الوطنيّ. وقد قدّمت فرنسا اعتمادات سخيّة لتمويل عمليّات الشراء هذه. إلاّ أنّ رئيس الوزراء مزالي كان يعترض على الدوام على أعمال شراءٍ من شأنها كما كان يقول لي، أن تثقل أكثر على الموازنة الوطنية. وبحسب معلوماتنا كانت هذه ذريعة، فرئيس الحكومة كان يرتاب من الطموحات السياسيّة لوزير داخليته.
والحقيقة أن مسيرة هذا الأخير العمليّة لم يكن فيها ما يوحي بالثقة لأعضاء الحكومة المدنيّين. فهو كان معروفاً على أنّه "السوبر الشرطي" العديم الشفقة الذي قمع بشكلٍ دمويّ اضطرابات الجوع في العام 1984، إضافةً إلى سائر مظاهرات الاحتجاج العمّالية والطلابيّة. ومن المعروف أنّه، كخرّيج إحدى كبريات مدارس الاستخبارات في الولايات المتحدة، الحذر إلى درجة الوسواس، كان يملك ملفّات عن كلّ شيء وكلّ الناس.
وفي خلال أحد لقاءاتنا، عدّد خارج السياق العوامل الثلاثة التي قد تزعزع النظام وهي: حالة الاستياء الاجتماعي، والتوتّرات مع ليبيا القذّافي، "والتهديد الإسلامي"، وهو الأخطر في نظره. وقد شدّد على أنّ حركة السيّد رشيد الغنّوشي لها وجودها في كلّ الأوساط، وضمناً في أوساط الضباط الشباب. وبحركة مسرحيّة كبس على زرّ جهازٍ سرعان ما أطلق لائحةً طويلة من الأسماء التي وصفها بالمشبوهة، وهي موضوعة تحت المراقبة الدائمة. فبن علي، المهندس في فرع المعلوماتيّة، والمشغوف بالتكنولوجيا، لم ينِ يستخدم ولأهدافٍ بوليسيّة، هذا العلم الخاص بمعالجة المعلومات.
وتابع قائلاً إنّ السيد الغنوشي قد أعطى بالطبع ضمانات رسمية للحكومة بأنّه لن يلجأ إلى العنف. وقد استنتج من ذلك أن التحدّي الذي سيواجهه هو من النوع السياسي، أي بطريقةٍ أخرى أكثر جدّية، إذ لم يكن يحسّ بأنّه قادر بشكلٍ دائم على احتواء "التوسّع المتسارع" للحركة الإسلامية. ولم يكن لي أن أشاطره الرأي، ذاك أن المعلومات التي كانت متوفّرة للسفارة وبحسب آراء الأخصائيين في باريس قد تقاطعت كلّها لتشير إلى أنّ صعود الحركة الإسلامية، الواقع فعلاً، لم يكن يشكّل خطراً فعلياً. على كلٍّ وبعد سنتين من وصول خليفة بورقيبه إلى الحكم، جاءت الانتخابات التشريعية في العام 1989، الحرّة نسبياً، لتعطي المتعاطفين مع الحزب الإسلامي فقط 14 في المئة من الأصوات. لكنّ هذا لم يمنع بن علي من حلّ الحزب، واعتقال الآلاف من محازبيه، الذين قضى كثيرون منهم تحت التعذيب. وبعدها لم يعد يكفّ عن التلويح بفزّاعة الإسلاميين، وهو ما فتح له باب الدعم من القوى الغربية، إضافةً إلى العديد من الدول العربية التي طبّقت الخطة نفسها لإسكات كلّ المعارضات، بما فيها العلمانيّة.
ولم يكن السيّد الغنوشي كما روّجت له الدعاية التونسية. فبعد أن التقيته قبل منفاه إلى لندن وبعده في العام 1990، اكتشفت أنّ "الشيخ" - وهو اللقب الذي مُنح له بموجب شهادة دكتوراه في العلوم الدينية من السوربون - كان مؤمناً ورِعاً، معتنقاً إسلاماً تحرّرياً، كفيلاً بتأمين العدالة والرفاه للمواطنين. لكنّه كأستاذ فلسفة كان يصوغ آراءه بشفافية مطبوعة بالمنطق، لدرجة جعلت بن علي يصفه في مجالسه الخاصة "بالخطر". وقد تميّز عن سائر القادة الإسلاميين في العالم العربي بحداثة أفكاره وباعتناقه فكرة المجتمع التعدّدي، ما جعله أكثر تهديداً للنظام الاستبدادي القائم من القادة الذين دعوا إلى اعتماد العنف.
وفي لقاءٍ طويل لي مع الشيخ الغنوشي في حزيران/يونيو العام 1996 في العاصمة البريطانية (إذ إنّ فرنسا رفضت أن تمنحه اللجوء السياسيّ)، أوضح لي أن اعتماد العنف "غير مفيد"، وهذا ما تبيّن في أماكنٍ أخرى. وبالتالي أقصى عن حزبه الكوادر الذين كانوا يدعون إلى القيام باعتداءاتٍ من شأنها أن تضعف نظام بن علي. وقد تماهى مع بعض الحركات التي اختارت الانخراط، وبنجاح، في الحياة السياسية وفي البرلمانات، وحتّى في بعض الحكومات في العالم العربيّ. توجّهه هذا يذكّر بتوجّهات "الإسلاميين الديموقراطيين" الأتراك، الذين في ظلّ احترامهم للنظام العلماني الذي أرساه أتاتورك، قد نجحوا في استلام السلطة بالطرق البرلمانيّة. وقد أدان السيّد الغنوشي على الدوام كلّ الأعمال الإرهابية التي ارتكبتها سائر الحركات التي تدّعي الإسلام. وهذا ما جعلني أرى من الطبيعي أن أعامله، خلال ممارستي مهامّي الدبلوماسيّة في تونس، كغيره من المعارضين التونسيين، وأضيف اسمه على لائحة المدعوّين إلى استقبالات السفارة، والتي شارك فيها بشغفٍ واضح. وكان هذا الإجراء غير المسبوق قد صدم أكثر من شخص.
لم يكن هذا الاختلاف، الناتج عن عدم الامتثال، السبب الوحيد لتردّي علاقاتي تدريجيّاً مع وزير الداخليّة آنذاك (بن علي). فقط يوم مغادرتي تونس نهائيّاً، وفي الزيارة الوداعية التي قمت بها له، سألني، وبغضبٍ صارخ، لماذا اعتبرته عميلاً للمخابرات المركزية الأميركية يتأكّله طموحٌ جامح؟ ثمّ تلا عليّ، استشهاداً على أقواله، حرفياً تقريباً، مضمون البرقيات السرّية التي وجّهتها إلى الكي دورسيه... ما يعني أنّ السفارة لم تفلت من حلقات شبكته التجسّسية.
http://www.mondiploar.com/article.php3?id_article=3358
إريك رولو
شباط/فبراير 2011
إريك رولو، الذي عيِّن في تموز/يوليو العام 1985 سفيراً لفرنسا في تونس، تولّى منصبه في الوقت الذي كانت فيه باريس تعبّر عن مخاوفها فيما يخصّ خلافة مؤسّس الجمهوريّة التونسية الحبيب بورقيبة، التي اعتبرتها في حينها "داهمة".
كانت مهمّتي تشبه في بعض وجوهها، وإلى حدٍّ بعيد، عملية تحقيقٍ استقصائيّة في بلدٍ كان في خضمّ التخبّط. فالرئيس بورقيبه، الذي أتيحت لي فرصة الاجتماع به عدّة مرات، لم يبدُ متمتّعاً بكلّ قواه. ففي خلال محادثاتنا أوقع وزير خارجيته، السيّد الباجي قائد السبسي في مواقفٍ حرجة، إذ كان يتفوّه بكلامٍ غير دبلوماسيّ وحتى غير متماسك، ما اضطرّ هذا الأخير إلى الاعتذار لاحقاً. ولدى قيام رئيس هيئة الأركان في الجيش الفرنسي، الجنرال موريس شميت، بزيارة مجاملة له، وقف بورقيبة، وقبل أن يصافحه، أنشد قصيدة مطوّلة لفيكتور هوغو؛ ثم أتبع ذلك بمونولوغ ناسياً أن يأتي على ذكر موضوع مهمّة ضيفه، مع أنّها كانت تتعلّق بالأمن القوميّ.
فهو، إذ كان يعمل بوعي لعدّة ساعات في اليوم، لم يكن يمسك بزمام الحكم في الدولة التي كان رئيسها. ولا حتّى حكومته، برئاسة محمد المزالي، التي انقسمت بين عدّة معسكرات متناحرة. فالوزير الأوّل كان يخصّص القسم الأكبر من وقته لكي يحسّن صورته المميّزة، طبعاً بهدف خلافة بورقيبة في الحكم، وهو ما كان يولّد غيظاً في القصر الرئاسي في قرطاج. فابنة شقيق بورقيبه، التي كان لها عليه تأثيرٌ بالغ، لم تكن تخفي إعجابها البالغ وتعاطفها مع الجنرال زين العابدين بن عليّ. ومع ذلك لم يتصوّر أحد في حينه أنّها ستفتح له جسر عبورٍ إلى الحكم، مساهمةً بذلك في إسقاط عمّها.
في العامين 1985 و1986، شكّل الجنرال بن علي، وزير الدولة ومن ثمّ وزير الداخلية، لغزاً بالنسبة إلى الفرنسيين. فهو رفض، وبذرائعٍ مختلفة، أن يستقبل شخصيّات فرنسية تزور البلاد، وخصوصاً الوزيرين إديت كريسون وبيار بيريغوفوا، وبشكلٍ مفاجئ أكثر رئيس جهاز مكافحة التجسّس، المدير العام للأمن الخارجي (DGSE) الجنرال رينيه إنمبو. وقد بلغت الأمور ذروتها عندما أبلغني الملحق العسكري في السفارة، الكولونيل إيفان دو لينيار (الجنرال لاحقاً) أن بن علي يقاطعه منذ عدّة أسابيع، بينما هو يستقبل باستمرار رئيس قسم المخابرات المركزية الأميركية (CIA) في تونس. هذا علماً أنّهما زميلان سابقان في كلّية سان سير العسكريّة، وكانا يتكّلمان من دون مجاملات، وقد دأبا على مناقشة المسائل ذات الاهتمام المشترك.
وإيفان دو لينيار، الديغولي اليساري، الذي يحمل الأوسمة لأنجازاته الحربية في مكافحة المنظمة السريّة المسلّحة OAS (المناوئة لديغول) في الجزائر، والذي كان يتكلّم العربية بطلاقة، كان مشهوداً له باستقامته وبتعلّقه بالبلد الذي ولد فيه. وبالطبع تمّ نقل هذه المعلومات إلى باريس عبر برقيةٍ صُنِّفت سرّية ووجهت إلى عددٍ محدودٍ من كبار المسؤولين في الكي دورسيه (وزارة الخارجية) والإليزيه (القصر الجمهوري).
هكذا أتت المفارقة لتزيد الغموض: فقد استقبلني السيد بن علي بطيبة خاطر ورأساً لرأس. وقد تناولت مفاوضاتنا بشكلٍ أساسيّ عملية بيع أنظمة اتّصال من الأكثر تطوّراً، مخصّصة للحرس الوطنيّ. وقد قدّمت فرنسا اعتمادات سخيّة لتمويل عمليّات الشراء هذه. إلاّ أنّ رئيس الوزراء مزالي كان يعترض على الدوام على أعمال شراءٍ من شأنها كما كان يقول لي، أن تثقل أكثر على الموازنة الوطنية. وبحسب معلوماتنا كانت هذه ذريعة، فرئيس الحكومة كان يرتاب من الطموحات السياسيّة لوزير داخليته.
والحقيقة أن مسيرة هذا الأخير العمليّة لم يكن فيها ما يوحي بالثقة لأعضاء الحكومة المدنيّين. فهو كان معروفاً على أنّه "السوبر الشرطي" العديم الشفقة الذي قمع بشكلٍ دمويّ اضطرابات الجوع في العام 1984، إضافةً إلى سائر مظاهرات الاحتجاج العمّالية والطلابيّة. ومن المعروف أنّه، كخرّيج إحدى كبريات مدارس الاستخبارات في الولايات المتحدة، الحذر إلى درجة الوسواس، كان يملك ملفّات عن كلّ شيء وكلّ الناس.
وفي خلال أحد لقاءاتنا، عدّد خارج السياق العوامل الثلاثة التي قد تزعزع النظام وهي: حالة الاستياء الاجتماعي، والتوتّرات مع ليبيا القذّافي، "والتهديد الإسلامي"، وهو الأخطر في نظره. وقد شدّد على أنّ حركة السيّد رشيد الغنّوشي لها وجودها في كلّ الأوساط، وضمناً في أوساط الضباط الشباب. وبحركة مسرحيّة كبس على زرّ جهازٍ سرعان ما أطلق لائحةً طويلة من الأسماء التي وصفها بالمشبوهة، وهي موضوعة تحت المراقبة الدائمة. فبن علي، المهندس في فرع المعلوماتيّة، والمشغوف بالتكنولوجيا، لم ينِ يستخدم ولأهدافٍ بوليسيّة، هذا العلم الخاص بمعالجة المعلومات.
وتابع قائلاً إنّ السيد الغنوشي قد أعطى بالطبع ضمانات رسمية للحكومة بأنّه لن يلجأ إلى العنف. وقد استنتج من ذلك أن التحدّي الذي سيواجهه هو من النوع السياسي، أي بطريقةٍ أخرى أكثر جدّية، إذ لم يكن يحسّ بأنّه قادر بشكلٍ دائم على احتواء "التوسّع المتسارع" للحركة الإسلامية. ولم يكن لي أن أشاطره الرأي، ذاك أن المعلومات التي كانت متوفّرة للسفارة وبحسب آراء الأخصائيين في باريس قد تقاطعت كلّها لتشير إلى أنّ صعود الحركة الإسلامية، الواقع فعلاً، لم يكن يشكّل خطراً فعلياً. على كلٍّ وبعد سنتين من وصول خليفة بورقيبه إلى الحكم، جاءت الانتخابات التشريعية في العام 1989، الحرّة نسبياً، لتعطي المتعاطفين مع الحزب الإسلامي فقط 14 في المئة من الأصوات. لكنّ هذا لم يمنع بن علي من حلّ الحزب، واعتقال الآلاف من محازبيه، الذين قضى كثيرون منهم تحت التعذيب. وبعدها لم يعد يكفّ عن التلويح بفزّاعة الإسلاميين، وهو ما فتح له باب الدعم من القوى الغربية، إضافةً إلى العديد من الدول العربية التي طبّقت الخطة نفسها لإسكات كلّ المعارضات، بما فيها العلمانيّة.
ولم يكن السيّد الغنوشي كما روّجت له الدعاية التونسية. فبعد أن التقيته قبل منفاه إلى لندن وبعده في العام 1990، اكتشفت أنّ "الشيخ" - وهو اللقب الذي مُنح له بموجب شهادة دكتوراه في العلوم الدينية من السوربون - كان مؤمناً ورِعاً، معتنقاً إسلاماً تحرّرياً، كفيلاً بتأمين العدالة والرفاه للمواطنين. لكنّه كأستاذ فلسفة كان يصوغ آراءه بشفافية مطبوعة بالمنطق، لدرجة جعلت بن علي يصفه في مجالسه الخاصة "بالخطر". وقد تميّز عن سائر القادة الإسلاميين في العالم العربي بحداثة أفكاره وباعتناقه فكرة المجتمع التعدّدي، ما جعله أكثر تهديداً للنظام الاستبدادي القائم من القادة الذين دعوا إلى اعتماد العنف.
وفي لقاءٍ طويل لي مع الشيخ الغنوشي في حزيران/يونيو العام 1996 في العاصمة البريطانية (إذ إنّ فرنسا رفضت أن تمنحه اللجوء السياسيّ)، أوضح لي أن اعتماد العنف "غير مفيد"، وهذا ما تبيّن في أماكنٍ أخرى. وبالتالي أقصى عن حزبه الكوادر الذين كانوا يدعون إلى القيام باعتداءاتٍ من شأنها أن تضعف نظام بن علي. وقد تماهى مع بعض الحركات التي اختارت الانخراط، وبنجاح، في الحياة السياسية وفي البرلمانات، وحتّى في بعض الحكومات في العالم العربيّ. توجّهه هذا يذكّر بتوجّهات "الإسلاميين الديموقراطيين" الأتراك، الذين في ظلّ احترامهم للنظام العلماني الذي أرساه أتاتورك، قد نجحوا في استلام السلطة بالطرق البرلمانيّة. وقد أدان السيّد الغنوشي على الدوام كلّ الأعمال الإرهابية التي ارتكبتها سائر الحركات التي تدّعي الإسلام. وهذا ما جعلني أرى من الطبيعي أن أعامله، خلال ممارستي مهامّي الدبلوماسيّة في تونس، كغيره من المعارضين التونسيين، وأضيف اسمه على لائحة المدعوّين إلى استقبالات السفارة، والتي شارك فيها بشغفٍ واضح. وكان هذا الإجراء غير المسبوق قد صدم أكثر من شخص.
لم يكن هذا الاختلاف، الناتج عن عدم الامتثال، السبب الوحيد لتردّي علاقاتي تدريجيّاً مع وزير الداخليّة آنذاك (بن علي). فقط يوم مغادرتي تونس نهائيّاً، وفي الزيارة الوداعية التي قمت بها له، سألني، وبغضبٍ صارخ، لماذا اعتبرته عميلاً للمخابرات المركزية الأميركية يتأكّله طموحٌ جامح؟ ثمّ تلا عليّ، استشهاداً على أقواله، حرفياً تقريباً، مضمون البرقيات السرّية التي وجّهتها إلى الكي دورسيه... ما يعني أنّ السفارة لم تفلت من حلقات شبكته التجسّسية.
http://www.mondiploar.com/article.php3?id_article=3358