muslem
15-08-2011, 08:17 AM
إنّ الحديث عن مظاهر العولمة وتجليّاتها لا يكون في غياب الحديث عن ظروف تكوينها وعوامل انتشارها ومن دون ربطها بالواقع الرأسمالي والإيديولوجية الليبرالية والفكر الحداثي
وما أفرزته هذه الروافد من آثار وتداعيات كان لها السبق في إنتاج العولمة بالمفهوم المعاصر وفي سياق العصر وما تميز به من تحوّلات وتحديات، ومن غير الممكن حصر تداعيات العولمة على الحياة الثقافية كما يفعل البعض، فهي كوكبة وكونية ذات تركيبة عامة تشمل الحياة برمتها وتمس جميع ميادينها، ويظهر تأثيرها في المجالات الفكرية والثقافية والعلمية والتكنولوجية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها، لأنّ أصل تكوينها يعود إلى ما تمّ إفرازه من انفجار علمي وتقدم تكنولوجي وتطور اقتصادي وتحول سياسي و تغيّر اجتماعي، وتجلّى ذلك في بلدان الغرب الأوربي وفي الولايات المتحدة الأمريكية، البلدان التي احتكرت منتجات التقدم العلمي والتكنولوجي وشرعت في تعميم إيديولوجيتها وثقافتها ونموذجها الاقتصادي والسياسي والاجتماعي على شعوب العالم الأخرى خاصة تلك التي تختلف معها إيديولوجيا، وتفرض القيود على كل المحاولات التي تستهدف التنمية الاقتصادية والخروج من التخلف خارج النموذج الليبرالي الحداثي الغربي، فاتجه النموذج الحداثي الليبرالي نحو العالمية لتوفر عواملها الموضوعية الاقتصادية والعلمية والتكنولوجية والعوامل الذاتية السياسية والإيديولوجية والتي تعبر عن الخصوصية الفكرية والثقافية الغربية في مقابل خصوصيات شتى عرفها ويعرفها العالم.
* إنّ السياق التاريخي الذي نشأت فيه العولمة وتكوّنت يكشف عن تجلياتها، وهي تجليات ارتبطت أساسا بالفكر والثقافة وبالسياسة والاقتصاد وبالحياة الاجتماعية عامة، وإن كان الاقتصاد وتطوّره كانت له الأولوية في جرّ العالم صوب العولمة وجعلها تشمل ما هو ثقافي وسياسي واجتماعي وعسكري وغيره، بالنسبة للمظهر الفكري والفلسفي والثقافي عموما ويتمثل في الحرص على تعميم الفكر الفلسفي الليبرالي الرأسمالي الذي يقوم على مبادئ الحداثة والتحديث كما يفهمها الغرب، وهو فكر مناهض لكل أنماط الفكر في العالم، هذه المفاهيم والمقولات التي ارتبطت بالنهضة الأوربية وبالإصلاح الديني والسياسي والتربوي والاجتماعي عامة وبالانفجار العلمي والتكنولوجي وبالثورة الصناعية، وهي المفاهيم التي قامت عليها العقلانية والفكر النظري في الحضارة الحديثة والمعاصرة، وتمثلت في إصلاح العقل وفي العقلانية ذاتها وفي الروح النقدية وإخضاع كل ما هو قائم وتراثي من فكري وثقافي وعلمي وفلسفي لمعيار النقد والغربلة، والتمسك بالروح العلمية وبمقوماتها في مواجهة الأفكار غير العلمية، وإقصاء الفكر الفلسفي الكلاسيكي الذي تميز بطابعه الميتافيزيقي والغيبي أحيانا وبطابعه المثالي المجرد في أحيان أخرى، وإبعاد كل ما هو لا علمي من ديني وسحري وغيره، والتمسك بالتوجه العلماني الذي يُقصي كل مقدس أخلاقي أو ديني أو إنساني، ويفصل بين الدنيوي وغير الدنيوي ولا يهتم إلاّ بما هو دنيوي، ومن المفاهيم الأساسية في الفكر الغربي الحرية في الحياة الفردية وفي الحياة الاقتصادية، والحرية والتعددية في الحياة السياسية، وصار مفهوم الحرية شعار الحياة في العالم الغربي فكريا وسياسيا واقتصاديا واجتماعيا، وممارستها بالصورة الغربية علامة التحضر ومواكبة العصر.
* صارت العولمة في الفكر الغربي من الضروريات والبديهيات المطلوبة فهي كما يقول جيرار ليكلراك: "إنّ العولمة أمر يختلف عن الأمر البسيط والمحض. العولمة كتابة عن ولادة كرة أرضية واحدة هي من الآن وصاعدا ملك الناس أجمعين:إنّها ليست ملكية أيّة حضارة كبرى ولا سيطرة لأي منها عليها، لكرة أرضية لا مركز عليها أما التغريب وخلافا لذلك فيعني انقسام العالم إلى مركز مسيطر وإلى طرف خاضع للسيطرة، إنّه اسم آخر للإمبريالية والاستعمار" . وارتبط تعميم الحداثة ونقلها خارج الغرب الأوربي وخارج الولايات المتحدة الأمريكية بجملة من المبادئ منها نقل التكنولوجيا وتسويقها لمختلف شعوب العالم، واعتماد أسلوب الحوار من خلال حوار الأديان والثقافات والحرص على حماية حقوق الإنسان والمحافظة على البيئة والحد من التسلح النووي وغيره، فالعقلانية التي قام عليها الفكر الليبرالي الحداثي والمبادئ التي تمثلّتها القوى الكبرى أخذت طابع العولمة وصفة الكونية من خلال حرص القوى المهيمنة على نشر ثقافة العولمة الفكرية والفلسفية والتي تمُثل في جوهرها النموذج الثقافي الفكري والفلسفي الغربي الأمريكي بجميع خصوصياته، النموذج الذي ارتضاه الغرب لنفسه وفرضه على غيره - من خلال عولمة المناهج التربوية - عن طريق العولمة التي تجلّت فيه تربويا وثقافيا وفكريا وفلسفيا.
* كان للوضع الثقافي في جو العولمة أثره البارز على ثقافات الشعوب في الأطراف، التي تعرّضت وحدتُها للتصدع والتشقق، وطرحت لديها إشكالية العولمة والخصوصية الثقافية، وإشكالية العولمة والوحدة الثقافية والفكرية والدينية، وإشكالية العولمة وتاريخ الثقافة وماضيها وحاضرها ومستقبلها، مما يعني أنّ العولمة نابعة من الشعور بالعظمة وصادرة عن إرادة الهيمنة، يقول محمد عابد الجابري:"العولمة globalisation إرادة الهيمنة، وبالتالي قمع وإقصاء للخصوصي. أما العالمية: Universalite-universalisme، فهي طموح إلى الارتفاع بالخصوصية إلى مستوى عالمي:العولمة احتواء للعالم، والعالمية تفتح على ما هو كوني عالمي. نشدان العالمية في المجال الثقافي، كما في غيره من المجالات، طموح مشروع، ورغبة في الأخذ والعطاء، في التعارف والحوار والتلاقح. إنّها طريق الأنا للتعامل مع الآخر بوصفه أنا ثانية طريقها إلى جعل الإيثار يحل محل الأثرة، أما العولمة فهي طموح بل إرادة لاختراق الآخر وسلبه خصوصيته، وبالتالي نفيه من العالم، العالمية إغناء للهوية الثقافية، أما العولمة فهي اختراق لها وتمييع. والاختراق الثقافي الذي تمارسه العولمة يريد إلغاء الصراع الإيديولوجي والحلول محله..الصراع الإيديولوجي صراع حول تأويل الحاضر وتفسير الماضي والتشريع للمستقبل، أما الاختراق الثقافي فيستهدف الأداة التي يتم بها ذلك التأويل والتفسير والتشريع: يستهدف العقل والنفس ووسيلتهما في التعامل مع العالم:الإدراك."
* وكان لإشكالية الخصوصية الثقافية والعولمة وقعها الكبير على الثقافة والفكر والمعتقدات الدينية في العالم أجمع وفي العالم العربي والإسلامي الحديث والمعاصر بصفة خاصة، خاصة وهو العالم الأكثر استهدافا من قبل العولمة لأسباب تاريخية وعقدية وجيوسياسية وإستراتيجية، وإذا كان المركز والعولمة قد حرصا على تفتيت العالم العربي والإسلامي سياسيا هدرا للطاقة وضربا للوحدة وقضاء على التكتل والتجمع إلى سني وغير سني، إلى بربري وغير بربري، إلى عربي ومسلم إلى غيرها من الثنائيات والثلاثيات وأكبر منها تكريسا للصراعات الطائفية والمذهبية والنزاعات العرقية والجهوية وغيرها، فإنّهما حرصا على ذلك من قبل ومن خلال المدخل والمقدمة إلى ذلك، أي الانطلاق من تفتيت العرب والمسلمين ثقافيا وعقائديا وتراثيا وتاريخيا، لأنّ الشعوب العربية والإسلامية مازال التراث فيها حيّا، يحركها في وجه عواصف العولمة ورياح ثقافتها التي تستهدف إقلاع ثقافات الشعوب من الجذور، وإعادة تشكيلها وفق ما تتطلبه ثقافة العولمة وسائر مصالح المركز، والصراعات السياسية في بلدان العالم العربي والإسلامي بين أنظمة الحكم والمعارضة بمختلف انتماءاتها هي في منطلقاتها وفي جوهرها صراعات ثقافية وفكرية وإيديولوجية تحرص العولمة على خلقها وإذكاءها لإيجاد التفرقة والقضاء على الوحدة الثقافية والفكرية والعقدية، والمركز يعي جيدا دور الوحدة الثقافية في تجميع القوة والنهوض بالتنمية والتطور والازدهار، هو الوضع الذي عرفته الدولة الإسلامية في أيام عزها الديني والثقافي والحضاري عموما، وكان للوحدة الدينية وللرابطة الثقافية الأثر الأقوى في تحقيق تلك القوّة والعزة، لهذا كان من حرص العولمة أن تجعل من الثقافة والفكر في العالم العربي والإسلامي الحديث والمعاصر تيارات فكرية متصارعة، واتجاهات داخل التيارات متباينة، ومدارس فلسفية مختلفة تستمد شرعيتها من الموروث والوافد، التيار الإسلامي والتيار الليبرالي والتيار الاشتراكي والشيوعي، وكل تيار من هذه التيارات منقسم على نفسه، فالتيار الإسلامي فيه الاتجاه السلفي الأصولي المحافظ والاتجاه السلفي المعتدل والاتجاه السلفي الجهادي التكفيري وغيره بل نجد كل اتجاه هو الآخر منقسم على نفسه في مواقف تحددها أراء الأفراد والفئات، أما التيار الليبرالي القومي نجد فيه الاتجاه الليبرالي التغريبي والليبرالية التوفيقية وهكذا مع التيارات القومية الاشتراكية والتيارات الشيوعية، وصار كل تيار يقدح في الآخر ويطعن في مبادئه وأفكاره، هذا يكفر ذاك وهذا يخوّن الآخر.
* انتقل الصراع الفكري والديني والثقافي إلى الحياة السياسية والاجتماعية، ثم تحول إلى عمل مسلح واقتتال بين الإخوة الأشقاء في الوطن وفي الثقافة وفي التاريخ وفي المصير المشترك، هو الأمر الوضع الذي عاشته ولا تزال تعيشه الكثير من شعوب العالم العربي والإسلامي، في لبنان وفي الجزائر وفي السودان وفي الصومال وفي غيرها، ومن جانب آخر نجد حقد الشعوب على العولمة والمركز بسبب محاولات تشويه ثقافاتها وطمسها ومحو وحدتها أدّى إلى تنامي وتطور العنف الفكري لديها ضد العولمة والمركز، وانتهى عند البعض إلى العمل المسلح ضد مصالح الغرب الأوربي ومصالح الولايات المتحدة الأمريكية، وضد مصالح كل من يتجه في اتجاه العولمة والمركز، فالهدف الأساسي من العولمة الثقافية تسخير كل وسائل الإعلام والاتصال والنظم المعلوماتية ومؤسسات العلم والفكر والثقافة وكل النشاطات الفكرية والثقافية والعلمية من مؤتمرات وندوات وملتقيات وغيرها للوصول إلى ثقافة تتخطى الحدود السياسية والجغرافية مهما كانت صلابتها وتخترق حدود الدولة الوطنية والقومية ولا تعترف بالخصوصية الثقافية والتاريخية والدينية لأيّة جماعة بشرية وتبحث عن مواطن التقاطع التاريخي والتشابه الثقافي والتماثل الفكري بين شعوب المعمورة بهدف توحيد القيّم الفردية والاجتماعية التاريخية والجغرافية قيم الاستهلاك المادي والثقافي ولتصب في وحدة عالمية وكوكبة واحدة تحت سيطرة الأمركة المتصهينة بالدرجة الأولى والغرب الأوربي المتقدم بالدرجة الثانية أما بقية بلدان العالم فتعيش التبعية والاستغلال بمختلف أشكاله. ففي الأطروحة السابعة من أطروحاته حول العولمة يقول محمد عابد الجابري: "ومع التطبيع مع الهيمنة والاستسلام لعملية الاستتباع الحضاري يأتي فقدان الشعور بالانتماء لوطن أو أمة أو دولة، وبالتالي إفراغ الهوية الثقافية من كل محتوى، إنّ العولمة عالم من دون دولة، من دون أمة، من دون وطن.إنّه عالم المؤسسات والشبكات العالمية، عالم الفاعلين وهم المسيرون، والمفعول فيهم وهم المستهلكون للسلع والصور والمعلومات والحركات والسكنات التي تفرض عليهم. أما وطنهم فهو الفضاء المعلوماتي الذي تصنعه شبكات الاتصال، الفضاء الذي يحتوي-يسيطر ويوجه- الاقتصاد والسياسة والثقافة. العولمة نظام يقفز على الدولة والأمة والوطن: نظام يريد رفع الحواجز والحدود أمام الشبكات والمؤسسات والشركات المتعددة الجنسية، وبالتالي إذابة الدول الوطنية وجعل دورها يقتصر على القيام بدور الدركي لشبكات الهيمنة العالمية. والعولمة تقوم على الخوصصة، أي على نزع ملكية الوطن والأمة والدولة ونقلها إلى الخواص في الداخل والخارج. وهكذا تتحول الدولة إلى جهاز لا يملك ولا يراقب ولا يوجه. وإضعاف سلطة الدولة والتخفيف من حضورها لفائدة العولمة يؤديان حتما إلى استيقاظ وإيقاظ أطر للانتماء سابقة على الأمة والدولة، أعني القبيلة والطائفة والجهة والتعصب المذهبي...الخ، والدفع بها جميعا إلى التقاتل والتناحر والإفتاء المتبادل: إلى تمزيق الهوية الثقافية الوطنية القومية...إلى الحرب الأهلية".
وما أفرزته هذه الروافد من آثار وتداعيات كان لها السبق في إنتاج العولمة بالمفهوم المعاصر وفي سياق العصر وما تميز به من تحوّلات وتحديات، ومن غير الممكن حصر تداعيات العولمة على الحياة الثقافية كما يفعل البعض، فهي كوكبة وكونية ذات تركيبة عامة تشمل الحياة برمتها وتمس جميع ميادينها، ويظهر تأثيرها في المجالات الفكرية والثقافية والعلمية والتكنولوجية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها، لأنّ أصل تكوينها يعود إلى ما تمّ إفرازه من انفجار علمي وتقدم تكنولوجي وتطور اقتصادي وتحول سياسي و تغيّر اجتماعي، وتجلّى ذلك في بلدان الغرب الأوربي وفي الولايات المتحدة الأمريكية، البلدان التي احتكرت منتجات التقدم العلمي والتكنولوجي وشرعت في تعميم إيديولوجيتها وثقافتها ونموذجها الاقتصادي والسياسي والاجتماعي على شعوب العالم الأخرى خاصة تلك التي تختلف معها إيديولوجيا، وتفرض القيود على كل المحاولات التي تستهدف التنمية الاقتصادية والخروج من التخلف خارج النموذج الليبرالي الحداثي الغربي، فاتجه النموذج الحداثي الليبرالي نحو العالمية لتوفر عواملها الموضوعية الاقتصادية والعلمية والتكنولوجية والعوامل الذاتية السياسية والإيديولوجية والتي تعبر عن الخصوصية الفكرية والثقافية الغربية في مقابل خصوصيات شتى عرفها ويعرفها العالم.
* إنّ السياق التاريخي الذي نشأت فيه العولمة وتكوّنت يكشف عن تجلياتها، وهي تجليات ارتبطت أساسا بالفكر والثقافة وبالسياسة والاقتصاد وبالحياة الاجتماعية عامة، وإن كان الاقتصاد وتطوّره كانت له الأولوية في جرّ العالم صوب العولمة وجعلها تشمل ما هو ثقافي وسياسي واجتماعي وعسكري وغيره، بالنسبة للمظهر الفكري والفلسفي والثقافي عموما ويتمثل في الحرص على تعميم الفكر الفلسفي الليبرالي الرأسمالي الذي يقوم على مبادئ الحداثة والتحديث كما يفهمها الغرب، وهو فكر مناهض لكل أنماط الفكر في العالم، هذه المفاهيم والمقولات التي ارتبطت بالنهضة الأوربية وبالإصلاح الديني والسياسي والتربوي والاجتماعي عامة وبالانفجار العلمي والتكنولوجي وبالثورة الصناعية، وهي المفاهيم التي قامت عليها العقلانية والفكر النظري في الحضارة الحديثة والمعاصرة، وتمثلت في إصلاح العقل وفي العقلانية ذاتها وفي الروح النقدية وإخضاع كل ما هو قائم وتراثي من فكري وثقافي وعلمي وفلسفي لمعيار النقد والغربلة، والتمسك بالروح العلمية وبمقوماتها في مواجهة الأفكار غير العلمية، وإقصاء الفكر الفلسفي الكلاسيكي الذي تميز بطابعه الميتافيزيقي والغيبي أحيانا وبطابعه المثالي المجرد في أحيان أخرى، وإبعاد كل ما هو لا علمي من ديني وسحري وغيره، والتمسك بالتوجه العلماني الذي يُقصي كل مقدس أخلاقي أو ديني أو إنساني، ويفصل بين الدنيوي وغير الدنيوي ولا يهتم إلاّ بما هو دنيوي، ومن المفاهيم الأساسية في الفكر الغربي الحرية في الحياة الفردية وفي الحياة الاقتصادية، والحرية والتعددية في الحياة السياسية، وصار مفهوم الحرية شعار الحياة في العالم الغربي فكريا وسياسيا واقتصاديا واجتماعيا، وممارستها بالصورة الغربية علامة التحضر ومواكبة العصر.
* صارت العولمة في الفكر الغربي من الضروريات والبديهيات المطلوبة فهي كما يقول جيرار ليكلراك: "إنّ العولمة أمر يختلف عن الأمر البسيط والمحض. العولمة كتابة عن ولادة كرة أرضية واحدة هي من الآن وصاعدا ملك الناس أجمعين:إنّها ليست ملكية أيّة حضارة كبرى ولا سيطرة لأي منها عليها، لكرة أرضية لا مركز عليها أما التغريب وخلافا لذلك فيعني انقسام العالم إلى مركز مسيطر وإلى طرف خاضع للسيطرة، إنّه اسم آخر للإمبريالية والاستعمار" . وارتبط تعميم الحداثة ونقلها خارج الغرب الأوربي وخارج الولايات المتحدة الأمريكية بجملة من المبادئ منها نقل التكنولوجيا وتسويقها لمختلف شعوب العالم، واعتماد أسلوب الحوار من خلال حوار الأديان والثقافات والحرص على حماية حقوق الإنسان والمحافظة على البيئة والحد من التسلح النووي وغيره، فالعقلانية التي قام عليها الفكر الليبرالي الحداثي والمبادئ التي تمثلّتها القوى الكبرى أخذت طابع العولمة وصفة الكونية من خلال حرص القوى المهيمنة على نشر ثقافة العولمة الفكرية والفلسفية والتي تمُثل في جوهرها النموذج الثقافي الفكري والفلسفي الغربي الأمريكي بجميع خصوصياته، النموذج الذي ارتضاه الغرب لنفسه وفرضه على غيره - من خلال عولمة المناهج التربوية - عن طريق العولمة التي تجلّت فيه تربويا وثقافيا وفكريا وفلسفيا.
* كان للوضع الثقافي في جو العولمة أثره البارز على ثقافات الشعوب في الأطراف، التي تعرّضت وحدتُها للتصدع والتشقق، وطرحت لديها إشكالية العولمة والخصوصية الثقافية، وإشكالية العولمة والوحدة الثقافية والفكرية والدينية، وإشكالية العولمة وتاريخ الثقافة وماضيها وحاضرها ومستقبلها، مما يعني أنّ العولمة نابعة من الشعور بالعظمة وصادرة عن إرادة الهيمنة، يقول محمد عابد الجابري:"العولمة globalisation إرادة الهيمنة، وبالتالي قمع وإقصاء للخصوصي. أما العالمية: Universalite-universalisme، فهي طموح إلى الارتفاع بالخصوصية إلى مستوى عالمي:العولمة احتواء للعالم، والعالمية تفتح على ما هو كوني عالمي. نشدان العالمية في المجال الثقافي، كما في غيره من المجالات، طموح مشروع، ورغبة في الأخذ والعطاء، في التعارف والحوار والتلاقح. إنّها طريق الأنا للتعامل مع الآخر بوصفه أنا ثانية طريقها إلى جعل الإيثار يحل محل الأثرة، أما العولمة فهي طموح بل إرادة لاختراق الآخر وسلبه خصوصيته، وبالتالي نفيه من العالم، العالمية إغناء للهوية الثقافية، أما العولمة فهي اختراق لها وتمييع. والاختراق الثقافي الذي تمارسه العولمة يريد إلغاء الصراع الإيديولوجي والحلول محله..الصراع الإيديولوجي صراع حول تأويل الحاضر وتفسير الماضي والتشريع للمستقبل، أما الاختراق الثقافي فيستهدف الأداة التي يتم بها ذلك التأويل والتفسير والتشريع: يستهدف العقل والنفس ووسيلتهما في التعامل مع العالم:الإدراك."
* وكان لإشكالية الخصوصية الثقافية والعولمة وقعها الكبير على الثقافة والفكر والمعتقدات الدينية في العالم أجمع وفي العالم العربي والإسلامي الحديث والمعاصر بصفة خاصة، خاصة وهو العالم الأكثر استهدافا من قبل العولمة لأسباب تاريخية وعقدية وجيوسياسية وإستراتيجية، وإذا كان المركز والعولمة قد حرصا على تفتيت العالم العربي والإسلامي سياسيا هدرا للطاقة وضربا للوحدة وقضاء على التكتل والتجمع إلى سني وغير سني، إلى بربري وغير بربري، إلى عربي ومسلم إلى غيرها من الثنائيات والثلاثيات وأكبر منها تكريسا للصراعات الطائفية والمذهبية والنزاعات العرقية والجهوية وغيرها، فإنّهما حرصا على ذلك من قبل ومن خلال المدخل والمقدمة إلى ذلك، أي الانطلاق من تفتيت العرب والمسلمين ثقافيا وعقائديا وتراثيا وتاريخيا، لأنّ الشعوب العربية والإسلامية مازال التراث فيها حيّا، يحركها في وجه عواصف العولمة ورياح ثقافتها التي تستهدف إقلاع ثقافات الشعوب من الجذور، وإعادة تشكيلها وفق ما تتطلبه ثقافة العولمة وسائر مصالح المركز، والصراعات السياسية في بلدان العالم العربي والإسلامي بين أنظمة الحكم والمعارضة بمختلف انتماءاتها هي في منطلقاتها وفي جوهرها صراعات ثقافية وفكرية وإيديولوجية تحرص العولمة على خلقها وإذكاءها لإيجاد التفرقة والقضاء على الوحدة الثقافية والفكرية والعقدية، والمركز يعي جيدا دور الوحدة الثقافية في تجميع القوة والنهوض بالتنمية والتطور والازدهار، هو الوضع الذي عرفته الدولة الإسلامية في أيام عزها الديني والثقافي والحضاري عموما، وكان للوحدة الدينية وللرابطة الثقافية الأثر الأقوى في تحقيق تلك القوّة والعزة، لهذا كان من حرص العولمة أن تجعل من الثقافة والفكر في العالم العربي والإسلامي الحديث والمعاصر تيارات فكرية متصارعة، واتجاهات داخل التيارات متباينة، ومدارس فلسفية مختلفة تستمد شرعيتها من الموروث والوافد، التيار الإسلامي والتيار الليبرالي والتيار الاشتراكي والشيوعي، وكل تيار من هذه التيارات منقسم على نفسه، فالتيار الإسلامي فيه الاتجاه السلفي الأصولي المحافظ والاتجاه السلفي المعتدل والاتجاه السلفي الجهادي التكفيري وغيره بل نجد كل اتجاه هو الآخر منقسم على نفسه في مواقف تحددها أراء الأفراد والفئات، أما التيار الليبرالي القومي نجد فيه الاتجاه الليبرالي التغريبي والليبرالية التوفيقية وهكذا مع التيارات القومية الاشتراكية والتيارات الشيوعية، وصار كل تيار يقدح في الآخر ويطعن في مبادئه وأفكاره، هذا يكفر ذاك وهذا يخوّن الآخر.
* انتقل الصراع الفكري والديني والثقافي إلى الحياة السياسية والاجتماعية، ثم تحول إلى عمل مسلح واقتتال بين الإخوة الأشقاء في الوطن وفي الثقافة وفي التاريخ وفي المصير المشترك، هو الأمر الوضع الذي عاشته ولا تزال تعيشه الكثير من شعوب العالم العربي والإسلامي، في لبنان وفي الجزائر وفي السودان وفي الصومال وفي غيرها، ومن جانب آخر نجد حقد الشعوب على العولمة والمركز بسبب محاولات تشويه ثقافاتها وطمسها ومحو وحدتها أدّى إلى تنامي وتطور العنف الفكري لديها ضد العولمة والمركز، وانتهى عند البعض إلى العمل المسلح ضد مصالح الغرب الأوربي ومصالح الولايات المتحدة الأمريكية، وضد مصالح كل من يتجه في اتجاه العولمة والمركز، فالهدف الأساسي من العولمة الثقافية تسخير كل وسائل الإعلام والاتصال والنظم المعلوماتية ومؤسسات العلم والفكر والثقافة وكل النشاطات الفكرية والثقافية والعلمية من مؤتمرات وندوات وملتقيات وغيرها للوصول إلى ثقافة تتخطى الحدود السياسية والجغرافية مهما كانت صلابتها وتخترق حدود الدولة الوطنية والقومية ولا تعترف بالخصوصية الثقافية والتاريخية والدينية لأيّة جماعة بشرية وتبحث عن مواطن التقاطع التاريخي والتشابه الثقافي والتماثل الفكري بين شعوب المعمورة بهدف توحيد القيّم الفردية والاجتماعية التاريخية والجغرافية قيم الاستهلاك المادي والثقافي ولتصب في وحدة عالمية وكوكبة واحدة تحت سيطرة الأمركة المتصهينة بالدرجة الأولى والغرب الأوربي المتقدم بالدرجة الثانية أما بقية بلدان العالم فتعيش التبعية والاستغلال بمختلف أشكاله. ففي الأطروحة السابعة من أطروحاته حول العولمة يقول محمد عابد الجابري: "ومع التطبيع مع الهيمنة والاستسلام لعملية الاستتباع الحضاري يأتي فقدان الشعور بالانتماء لوطن أو أمة أو دولة، وبالتالي إفراغ الهوية الثقافية من كل محتوى، إنّ العولمة عالم من دون دولة، من دون أمة، من دون وطن.إنّه عالم المؤسسات والشبكات العالمية، عالم الفاعلين وهم المسيرون، والمفعول فيهم وهم المستهلكون للسلع والصور والمعلومات والحركات والسكنات التي تفرض عليهم. أما وطنهم فهو الفضاء المعلوماتي الذي تصنعه شبكات الاتصال، الفضاء الذي يحتوي-يسيطر ويوجه- الاقتصاد والسياسة والثقافة. العولمة نظام يقفز على الدولة والأمة والوطن: نظام يريد رفع الحواجز والحدود أمام الشبكات والمؤسسات والشركات المتعددة الجنسية، وبالتالي إذابة الدول الوطنية وجعل دورها يقتصر على القيام بدور الدركي لشبكات الهيمنة العالمية. والعولمة تقوم على الخوصصة، أي على نزع ملكية الوطن والأمة والدولة ونقلها إلى الخواص في الداخل والخارج. وهكذا تتحول الدولة إلى جهاز لا يملك ولا يراقب ولا يوجه. وإضعاف سلطة الدولة والتخفيف من حضورها لفائدة العولمة يؤديان حتما إلى استيقاظ وإيقاظ أطر للانتماء سابقة على الأمة والدولة، أعني القبيلة والطائفة والجهة والتعصب المذهبي...الخ، والدفع بها جميعا إلى التقاتل والتناحر والإفتاء المتبادل: إلى تمزيق الهوية الثقافية الوطنية القومية...إلى الحرب الأهلية".