عبد الواحد جعفر
30-07-2011, 08:44 AM
بسم الله الرحمن الرحيم
أخبار الآحاد وحجيتها في العقيدة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام المرسلين، سيدنا وحبيبنا محمد عليه أفضل الصلاة والتسليم، وبعد:
الإسلام عقيدة وشريعة، فالعقيدة ما طلب التصديق بها تصديقاً جازماً؛ كالإيمان بالله وأسمائه وصفاته، والإيمان باليوم الآخر، والإيمان بالملائكة والأنبياء والمرسلين والكتب التي أنزلها عليهم. أما الشريعة، فهي الأحكام الشرعية التي جاءت تعالج مشاكل الإنسان، من عبادات ومعاملات وعقوبات وأخلاق وغير ذلك. والعقائد هي أساس الإسلام، وعنها تنبثق المعالجات، وتبنى عليها أفكار الحياة؛ لذلك كان لا بد أن يكون هذا الأساس يقينياً، ولا بد أن يكون دليل العقيدة قطعياً، ومعنى أنه قطعي؛ أي أنه ثبت قطعاً أنه وحي من عند الله، وأن دلالة لفظه لا تحتمل إلا معنى واحداً، كقوله تعالى {قل هو الله أحد} فلفظ الله أحد لفظ قطعي دال على الوحدانية. وحرم الإسلام أخذ العقيدة بالظن قال تعالى {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً }النساء157 وقوله تعالى {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ }الأنعام148، وواضح في الآيتين وغيرها من الآيات أن الله ينعى على الذين يبنون عقيدتهم على الظن، فكان ذلك نهياً عاماً عن اتباع الظن في العقائد، لأن موضوع الآيات هو العقائد وليس الأحكام، فكان اتباع الظن في العقائد محرماً، وهو وسيلة إلى التحريف والتفرق وضياع الدين واختلاف المسلمين في عقيدتهم.
وهذا ما حصل عندما حرفت الكتب وضل الأتباع واندثرت رسالة المرسلين الذين سبقوا محمداً عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه.
أما الأحكام الشرعية فإن الله تعبدنا بالظن، بل إن غالب النصوص الشرعية التي عالجت مشاكل الإنسان قائمة على الظن، سواء ما كان ظني الثبوت، كما هو في أخبار الآحاد، أو ظني الدلالة، كما في كثير من آيات القرآن الكريم، والشرع جعل هذه النصوص أدلة على الأحكام، وطلب من المسلمين العمل بهذه الأحكام.
ومن هنا كان الاستدلال بالظني على العقيدة لا يجوز، وهو حرامٌ، وكان مبنى الأحكام الشرعية في غالبها على الظن، وفي ذلك رحمة للمسلمين في تعدد الاجتهادات.
ولما كان هذا الموضوع من المواضيع المهمة التي بها يستقيم فهم العقيدة، وفهم الإسلام، كان هذا البحث المختصر الذي جمعه أحد الباحثين ذاكراً فيه نصوصاً لبعض العلماء من أصحاب المذاهب الأربعة حول عدم جواز الاعتماد على أحاديث الآحاد في مسائل الاعتقاد:
1- قال الإمام الزبيدي في إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين ( 2 / 105- 106): (كل لفظ يرد في الشرع مما يستند إلى الذات المقدسة بأن يطلق اسما أو صفة لها، وهو مخالف العقل، ويسمى المتشابه، ولا يخلو إما أن يتواتر أو ينقل آحادا، والآحاد إن كان نصا لا يحتمل التأويل قطعا بافتراء ناقله أو سهوه أو غلطه، وأن كان ظاهرا فظاهره غير مراد، وإن كان متواترا فلا يتصور أن يكون نصا لا يحتمل التأويل، بل لابد أن يكون ظاهرا) اهـ.
2- قال القرافي في تنقيح الفصول وشرحه ( ص356- 358) الفصل الخامس في خبر الواحد، وهو العدل الواحد أو العدول المفيد للظن، ثم ذكر كلاما، ثم ذكر حجة من قال إن الآحاد لا يحتج بها في العمليات كقوله سبحانه (أن الظن لا يغني من الحق شيئا) (يونس:36) وقوله: (إن يتبعون إلا الظن) (النجم: 28)، قالوا: ( وذلك يقتضي تحريم اتباع الظن)، فأجاب عن ذلك بقوله: (وجوابها، أن ذلك مخصوص بقواعد الديانات وأصول العبادات القطعيات) اهـ.
3- قال الإمام أبو منصور عبدالقادر البغدادي في كتابه أصول الدين ( ص12):
(وأخبار الآحاد متى صح إسنادها وكانت متونها غير مستحيله في العقل، كانت موجبة العمل بها دون العلم).
4- قال الإسنوي: ( وأما السنة فالآحاد منها لا يفيد إلا الظن) وقال في موضع آخر: ( أن رواية الآحاد إن أفادت فإنما تفيد الظن، والشارع إنما أجاز الظن في المسائل العملية وهي الفروع، دون العلمية كقواعد أصول الدين) اهـ.
5- قال ابن عبد البر في التمهيد ( 1/7):
( اختلف أصحابنا وغيرهم في خبر الواحد هل يوجب العلم والعمل جميعا أم يوجب العمل دون العلم؟ والذي عليه أكثر أهل العلم منهم أنه يوجب العمل دون العلم، وهو قول الشافعي وجمهور أهل الفقه والنظر، ولا يوجب العلم عندهم إلا ما شهد به على الله وقطع العذر بمجيئه قطعا ولا خلاف فيه، وقال قوم كثير من أهل الأثر وبعض أهل النظر: إنه يوجب العلم الظاهر والعمل جميعا، منهم الحسين الكرابيسي وغيره، وذكر ابن خويز منداد أن هذا القول يخرج على مذهب مالك. قال أبو عمر: الذي نقول به إنه يوجب العمل دون العلم كشهادة الشاهدين والأربعة سواء، وعلى ذلك أكثر أهل الفقه والأثر) وذكر ذلك أيضا في عدة مواضع فانظر مثلا ( 9 / 285)، حيث قال هناك: ( لأن أخبار الآحاد لا يقطع على عينها وإنما توجب العمل فقط) اهـ.
6- وقال البيهقي في كتاب الأسماء والصفات ( ص357) بعد كلام:
( ولهذا الوجه من الاحتمال ترك أهل النظر من أصحابنا الاحتجاج بأخبار الآحاد في صفات الله تعالى إذا لم يكن لما انفرد منها أصل في الكتاب أو الإجماع، واشتغلوا بتأويله)..
7- قال الإمام النووي في شرح صحيح مسلم ( 1/ 131):
( وأما خبر الواحد فهو ما لم يوجد فيه شروط المتواتر سواء كان الراوي له واحدا أو أكثر واختلف في حكمه، والذي عليه جماهير المسلمين من الصحابة والتابعين فمن بعدهم من المحدثين والفقهاء وأصحاب الأصول، أن خبر الواحد الثقة حجة من حجج الشرع يلزم العمل بها ويفيد الظن ولا يفيد الشرع يلزم العمل بها ويفيد الظن ولا يفيد العلم...) إلى أن قال: ( وذهبت طائفة من أهل الحديث إلى أنه يوجب العلم، وقال بعضهم يوجب العلم الظاهر دون الباطن، وذهب بعض المحدثين إلى أن الآحاد التي في صحيح البخاري أو صحيح مسلم تفيد العلم دون غيرها من الآحاد، وقد قدمنا هذا القول وإبطاله في الفصول، وهذه الأقاويل كلها سوى قول الجمهور باطلة). إلى أن قال: ( وأما من قال يوجب العلم فهو مكابر للحس، وكيف يحصل العلم واحتمال الغلط والوهم والكذب وغير ذلك متطرف إليه؟)والله أعلم.
وقال في المجموع شرح المهذب ( 4/342): ( ومتى خالف خبر الآحاد نص القرآن أو إجماعا وجب ترك ظاهره). وانظر مقدمة صحيح مسلم.
8- قال الباجي في الإشارة ( 234):
( وأما خبر الآحاد فما قصر عن التواتر وذلك لا يقع به العلم وإنما يغلب على ظن السامع له صحته لثقة المخبر به لأن المخبر وإن كان ثقة يجوز عليه الغلط والسهو كالشاهد وقال محمد بن خويز منداد: يقع العلم بخبر الواحد والأول عليه جميع الفقهاء). وقال في تحقيق المذهب ( ص 236- 239) بعد كلام
(... إلا أنه حديث آحاد لا يوجب العلم...) إلى أن قال: ( وعلى كل حال فهو مروي من طريق الآحاد الذي لا يقع العلم بما تضمنه ولو لم يعترض عليه مما ذكرنا بوجه لم يقع لنا العلم به) اهـ.
وقال في إحكام الفصول ( ص241- 242) عند ذكره لشروط المتواتر: ( فصل إذا ثبت ذلك فلا بد أن يزيد هذا العدد على الأربعة خلافا لأحمد وابن خويز منداد وغيرهم8ا في قولهم: إن خبر الواحد يقع به العلم والدليل على ذلك: علمنا أن الواحد والاثنين يخبروننا عما شاهدوه واضطروا إليه فلا يقع لنا العلم بصدقهم ولذلك لا يقع للحاكم العلم بخبر المتداعيين ولا بد أن أحدهما صادق ول كان العلم يقع بخبر الواحد لوجب أن يضطروا إلى صدق الصادق منهما وكذب الكاذب وكذلك لايقع لنا العلم بشهادة الشهود على الزنا وإن كانوا مضطرين إلى ما أخبروا به ولو وقع العلم بخبرهم لوجب أن يعلم صدقهم من كذبهم ويضطروا إلى ذلك ولما لم يعلم ذلك ولم يقع العلم بخبرهم كانت الزيادة على هذا العدد شرطا فيما يقع العلم بخبرهم... إلخ).
وقال في ( ص234): ( وذهب النظام إلى أنه يقع العلم بخبر الواحد إذا قارنته قرائن إن عري عنها لا يقع به، والدليل على بطلان قوله: أنا نجد أنفسنا غير عالمة بما أخبرنا عنه الواحد والاثنان وإن اقترنت به القرائن التي ادعاها ومما يدل على ذلك: أن الحاكم يرى المدعي باكي لاطما ويدعي على خصمه الظلم ولا يقع له بدعواه العلم) ا.هـ. المراد منه، وله كلام في ذلك في غير ما موضع لا نطيل الكلام بذكره.
9- قال إمام الحرمين في البرهان ( 1/606):
( ذهبت الحشوية من الحنابلة وكتبه الحديث إلى أنخبر الواحد العدل يوجب العلم، وهذا خزي ى لا يخفى مدركه على ذي لب، فنقول لهؤلاء: أتجوزون أن يزل العدل الذي وصفتموه ويخطيء؟ فإن قالوا: لا ؛ كان بهتا وهتكا وخرقا لحجاب الهيبة، ولا حاجة إلى مزيد البيان فيه.
والقول القريب فيه أنه قد زل من الرواة الأثبات جمع لا يعدون كثرة، ولو لم يكن الغلط متصورا لما رجع زاو عن روايته، والأمر بخلاف ما تخيلوه، فإذا تبين إمكان الخطأ فالقطع بالصدق مع ذلك محال، ثم هذا في العدل في علم الله تعالى، ونحن لا نقطع بعدالة واحد بل يجوز أن يضمر خلاف ما يظهر، ولا متعلق لهم إلا ظنهم أن خبر الواحد يوجب العمل، وقد تكلمنا عليه بما فيه مقنع).
وقال في الورقات ( 184): ( والآحاد وهو مقابل المتواتر، وهو الذي يوجب العمل ولا يوجب العلم، لاحتمال الخطأ فيه) اهـ. مع زيادة من شرح المحلي عليه، وقد نص على ذلك في عدة مواضع من التلخيص.
10- قال الإمام الغزالي في المستصفى ( 1/145):
( اعلم أنا نريد بخبر الواحد في هذا المقام ما لا ينتهي من الأخبار إلى حد التواتر المفيد للعلم، فما نقله جماعة من خمسة أو سته مثلا فهو خبر الواحد). إلى أن قال: ( وإذا عرفت هذا، فنقول خبر الواحد لا يفيد العلم وهو معلوم بالضرورة، فإنا لا نصدق بكل ما نسمع، ولو صدقنا وقدرنا تعارض خبرين، فكيف نصدق بالضدين، وما حكي عن المحدثين من أنت ذلك يوجب العلم، فلعلهم أرادوا أنه يفيد العلم بوجوب العمل إذ يسمى الظن علما، لهذا قال بعضهم: يورث العلم الظاهر والعلم ليس له ظاهر وباطن وإنما هو الظن) اهـ.
11- قال أبو إسحاق الشيرازي في التبصرة ( ص298):
( أخبار الآحاد لا توجب العلم. وقال بعض أهل الظاهر: توجب العلم. إلى أن قال: لنا هو أنه لو كان خبر الواحد يوجب العلم، لأوجب خبر كل واحد، ولو كان كذلك لوجب أن يقع العلم بخبر من يعي النبوة من غير معجزة، ومن يدعي ولا على غيره.
ولما لم يقل هذا أحد دل على أنه ليس فيه ما يوجب العلم، ولأنه لو كان خبر الواحد يوجب العلم لما اعتبر فيه صفات المخبر من العدالة والإسلام والبلوغ وغيرها، كما لم يعتبر في أخبار التواتر، ولأنه لو كان يوجب العلم لوجب أن يقع التبري بين العلماء فيما فيه خبر واحد، كما يقع بينهم التبري فيما فيه خبر المتواتر، ولأنه لو كان يوجب العلم لوجب إذا عارضه خبر متواتر أن يتعارضا، ولما ثبت أنه يقدم عليه المتواتر دل على أنه غير موجب للعلم، وأيضا هو يجوز السهو والخطأ والكذب على واحد فيما نقاه، فلا يجوز أن يقع العلم بخبره). اهـ
وقال في اللمع ( ص72): ( والثاني يوجب العمل ولا يوجب العلم، وذلك مثل الأخبار المروية في السنن والصحاح وما أشبهها)، ثم حكى الخلاف في ذلك ثم ذكر الدليل على نحو ما ذكر في التبصرة.
12- قال الخطيب البغدادي في الكافة في علم الرواية ( ص432) باب: ذكر ما يقبل فيه خبر الواحد وما لا يقبل فيه:
( خبر الواحد لايقبل في شيء من أبواب الدين المأخوذ على المكلفين العلم بها والقطع عليها ؛ والعلة في ذلك أنه إذا لم يعلم أن الخبر قول رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كان أبعد من العلم بمضمونه، فأما ماعدا ذلك من الأحكام التي لم يوجب علينا العلم بأن النبي (صلى الله عليه وسلم) قررها وأخبر عن الله عز وجل بها، فإن خبر الواحد فيها مقبول والعمل به واجب) اهـ.
أخبار الآحاد وحجيتها في العقيدة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام المرسلين، سيدنا وحبيبنا محمد عليه أفضل الصلاة والتسليم، وبعد:
الإسلام عقيدة وشريعة، فالعقيدة ما طلب التصديق بها تصديقاً جازماً؛ كالإيمان بالله وأسمائه وصفاته، والإيمان باليوم الآخر، والإيمان بالملائكة والأنبياء والمرسلين والكتب التي أنزلها عليهم. أما الشريعة، فهي الأحكام الشرعية التي جاءت تعالج مشاكل الإنسان، من عبادات ومعاملات وعقوبات وأخلاق وغير ذلك. والعقائد هي أساس الإسلام، وعنها تنبثق المعالجات، وتبنى عليها أفكار الحياة؛ لذلك كان لا بد أن يكون هذا الأساس يقينياً، ولا بد أن يكون دليل العقيدة قطعياً، ومعنى أنه قطعي؛ أي أنه ثبت قطعاً أنه وحي من عند الله، وأن دلالة لفظه لا تحتمل إلا معنى واحداً، كقوله تعالى {قل هو الله أحد} فلفظ الله أحد لفظ قطعي دال على الوحدانية. وحرم الإسلام أخذ العقيدة بالظن قال تعالى {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً }النساء157 وقوله تعالى {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ }الأنعام148، وواضح في الآيتين وغيرها من الآيات أن الله ينعى على الذين يبنون عقيدتهم على الظن، فكان ذلك نهياً عاماً عن اتباع الظن في العقائد، لأن موضوع الآيات هو العقائد وليس الأحكام، فكان اتباع الظن في العقائد محرماً، وهو وسيلة إلى التحريف والتفرق وضياع الدين واختلاف المسلمين في عقيدتهم.
وهذا ما حصل عندما حرفت الكتب وضل الأتباع واندثرت رسالة المرسلين الذين سبقوا محمداً عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه.
أما الأحكام الشرعية فإن الله تعبدنا بالظن، بل إن غالب النصوص الشرعية التي عالجت مشاكل الإنسان قائمة على الظن، سواء ما كان ظني الثبوت، كما هو في أخبار الآحاد، أو ظني الدلالة، كما في كثير من آيات القرآن الكريم، والشرع جعل هذه النصوص أدلة على الأحكام، وطلب من المسلمين العمل بهذه الأحكام.
ومن هنا كان الاستدلال بالظني على العقيدة لا يجوز، وهو حرامٌ، وكان مبنى الأحكام الشرعية في غالبها على الظن، وفي ذلك رحمة للمسلمين في تعدد الاجتهادات.
ولما كان هذا الموضوع من المواضيع المهمة التي بها يستقيم فهم العقيدة، وفهم الإسلام، كان هذا البحث المختصر الذي جمعه أحد الباحثين ذاكراً فيه نصوصاً لبعض العلماء من أصحاب المذاهب الأربعة حول عدم جواز الاعتماد على أحاديث الآحاد في مسائل الاعتقاد:
1- قال الإمام الزبيدي في إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين ( 2 / 105- 106): (كل لفظ يرد في الشرع مما يستند إلى الذات المقدسة بأن يطلق اسما أو صفة لها، وهو مخالف العقل، ويسمى المتشابه، ولا يخلو إما أن يتواتر أو ينقل آحادا، والآحاد إن كان نصا لا يحتمل التأويل قطعا بافتراء ناقله أو سهوه أو غلطه، وأن كان ظاهرا فظاهره غير مراد، وإن كان متواترا فلا يتصور أن يكون نصا لا يحتمل التأويل، بل لابد أن يكون ظاهرا) اهـ.
2- قال القرافي في تنقيح الفصول وشرحه ( ص356- 358) الفصل الخامس في خبر الواحد، وهو العدل الواحد أو العدول المفيد للظن، ثم ذكر كلاما، ثم ذكر حجة من قال إن الآحاد لا يحتج بها في العمليات كقوله سبحانه (أن الظن لا يغني من الحق شيئا) (يونس:36) وقوله: (إن يتبعون إلا الظن) (النجم: 28)، قالوا: ( وذلك يقتضي تحريم اتباع الظن)، فأجاب عن ذلك بقوله: (وجوابها، أن ذلك مخصوص بقواعد الديانات وأصول العبادات القطعيات) اهـ.
3- قال الإمام أبو منصور عبدالقادر البغدادي في كتابه أصول الدين ( ص12):
(وأخبار الآحاد متى صح إسنادها وكانت متونها غير مستحيله في العقل، كانت موجبة العمل بها دون العلم).
4- قال الإسنوي: ( وأما السنة فالآحاد منها لا يفيد إلا الظن) وقال في موضع آخر: ( أن رواية الآحاد إن أفادت فإنما تفيد الظن، والشارع إنما أجاز الظن في المسائل العملية وهي الفروع، دون العلمية كقواعد أصول الدين) اهـ.
5- قال ابن عبد البر في التمهيد ( 1/7):
( اختلف أصحابنا وغيرهم في خبر الواحد هل يوجب العلم والعمل جميعا أم يوجب العمل دون العلم؟ والذي عليه أكثر أهل العلم منهم أنه يوجب العمل دون العلم، وهو قول الشافعي وجمهور أهل الفقه والنظر، ولا يوجب العلم عندهم إلا ما شهد به على الله وقطع العذر بمجيئه قطعا ولا خلاف فيه، وقال قوم كثير من أهل الأثر وبعض أهل النظر: إنه يوجب العلم الظاهر والعمل جميعا، منهم الحسين الكرابيسي وغيره، وذكر ابن خويز منداد أن هذا القول يخرج على مذهب مالك. قال أبو عمر: الذي نقول به إنه يوجب العمل دون العلم كشهادة الشاهدين والأربعة سواء، وعلى ذلك أكثر أهل الفقه والأثر) وذكر ذلك أيضا في عدة مواضع فانظر مثلا ( 9 / 285)، حيث قال هناك: ( لأن أخبار الآحاد لا يقطع على عينها وإنما توجب العمل فقط) اهـ.
6- وقال البيهقي في كتاب الأسماء والصفات ( ص357) بعد كلام:
( ولهذا الوجه من الاحتمال ترك أهل النظر من أصحابنا الاحتجاج بأخبار الآحاد في صفات الله تعالى إذا لم يكن لما انفرد منها أصل في الكتاب أو الإجماع، واشتغلوا بتأويله)..
7- قال الإمام النووي في شرح صحيح مسلم ( 1/ 131):
( وأما خبر الواحد فهو ما لم يوجد فيه شروط المتواتر سواء كان الراوي له واحدا أو أكثر واختلف في حكمه، والذي عليه جماهير المسلمين من الصحابة والتابعين فمن بعدهم من المحدثين والفقهاء وأصحاب الأصول، أن خبر الواحد الثقة حجة من حجج الشرع يلزم العمل بها ويفيد الظن ولا يفيد الشرع يلزم العمل بها ويفيد الظن ولا يفيد العلم...) إلى أن قال: ( وذهبت طائفة من أهل الحديث إلى أنه يوجب العلم، وقال بعضهم يوجب العلم الظاهر دون الباطن، وذهب بعض المحدثين إلى أن الآحاد التي في صحيح البخاري أو صحيح مسلم تفيد العلم دون غيرها من الآحاد، وقد قدمنا هذا القول وإبطاله في الفصول، وهذه الأقاويل كلها سوى قول الجمهور باطلة). إلى أن قال: ( وأما من قال يوجب العلم فهو مكابر للحس، وكيف يحصل العلم واحتمال الغلط والوهم والكذب وغير ذلك متطرف إليه؟)والله أعلم.
وقال في المجموع شرح المهذب ( 4/342): ( ومتى خالف خبر الآحاد نص القرآن أو إجماعا وجب ترك ظاهره). وانظر مقدمة صحيح مسلم.
8- قال الباجي في الإشارة ( 234):
( وأما خبر الآحاد فما قصر عن التواتر وذلك لا يقع به العلم وإنما يغلب على ظن السامع له صحته لثقة المخبر به لأن المخبر وإن كان ثقة يجوز عليه الغلط والسهو كالشاهد وقال محمد بن خويز منداد: يقع العلم بخبر الواحد والأول عليه جميع الفقهاء). وقال في تحقيق المذهب ( ص 236- 239) بعد كلام
(... إلا أنه حديث آحاد لا يوجب العلم...) إلى أن قال: ( وعلى كل حال فهو مروي من طريق الآحاد الذي لا يقع العلم بما تضمنه ولو لم يعترض عليه مما ذكرنا بوجه لم يقع لنا العلم به) اهـ.
وقال في إحكام الفصول ( ص241- 242) عند ذكره لشروط المتواتر: ( فصل إذا ثبت ذلك فلا بد أن يزيد هذا العدد على الأربعة خلافا لأحمد وابن خويز منداد وغيرهم8ا في قولهم: إن خبر الواحد يقع به العلم والدليل على ذلك: علمنا أن الواحد والاثنين يخبروننا عما شاهدوه واضطروا إليه فلا يقع لنا العلم بصدقهم ولذلك لا يقع للحاكم العلم بخبر المتداعيين ولا بد أن أحدهما صادق ول كان العلم يقع بخبر الواحد لوجب أن يضطروا إلى صدق الصادق منهما وكذب الكاذب وكذلك لايقع لنا العلم بشهادة الشهود على الزنا وإن كانوا مضطرين إلى ما أخبروا به ولو وقع العلم بخبرهم لوجب أن يعلم صدقهم من كذبهم ويضطروا إلى ذلك ولما لم يعلم ذلك ولم يقع العلم بخبرهم كانت الزيادة على هذا العدد شرطا فيما يقع العلم بخبرهم... إلخ).
وقال في ( ص234): ( وذهب النظام إلى أنه يقع العلم بخبر الواحد إذا قارنته قرائن إن عري عنها لا يقع به، والدليل على بطلان قوله: أنا نجد أنفسنا غير عالمة بما أخبرنا عنه الواحد والاثنان وإن اقترنت به القرائن التي ادعاها ومما يدل على ذلك: أن الحاكم يرى المدعي باكي لاطما ويدعي على خصمه الظلم ولا يقع له بدعواه العلم) ا.هـ. المراد منه، وله كلام في ذلك في غير ما موضع لا نطيل الكلام بذكره.
9- قال إمام الحرمين في البرهان ( 1/606):
( ذهبت الحشوية من الحنابلة وكتبه الحديث إلى أنخبر الواحد العدل يوجب العلم، وهذا خزي ى لا يخفى مدركه على ذي لب، فنقول لهؤلاء: أتجوزون أن يزل العدل الذي وصفتموه ويخطيء؟ فإن قالوا: لا ؛ كان بهتا وهتكا وخرقا لحجاب الهيبة، ولا حاجة إلى مزيد البيان فيه.
والقول القريب فيه أنه قد زل من الرواة الأثبات جمع لا يعدون كثرة، ولو لم يكن الغلط متصورا لما رجع زاو عن روايته، والأمر بخلاف ما تخيلوه، فإذا تبين إمكان الخطأ فالقطع بالصدق مع ذلك محال، ثم هذا في العدل في علم الله تعالى، ونحن لا نقطع بعدالة واحد بل يجوز أن يضمر خلاف ما يظهر، ولا متعلق لهم إلا ظنهم أن خبر الواحد يوجب العمل، وقد تكلمنا عليه بما فيه مقنع).
وقال في الورقات ( 184): ( والآحاد وهو مقابل المتواتر، وهو الذي يوجب العمل ولا يوجب العلم، لاحتمال الخطأ فيه) اهـ. مع زيادة من شرح المحلي عليه، وقد نص على ذلك في عدة مواضع من التلخيص.
10- قال الإمام الغزالي في المستصفى ( 1/145):
( اعلم أنا نريد بخبر الواحد في هذا المقام ما لا ينتهي من الأخبار إلى حد التواتر المفيد للعلم، فما نقله جماعة من خمسة أو سته مثلا فهو خبر الواحد). إلى أن قال: ( وإذا عرفت هذا، فنقول خبر الواحد لا يفيد العلم وهو معلوم بالضرورة، فإنا لا نصدق بكل ما نسمع، ولو صدقنا وقدرنا تعارض خبرين، فكيف نصدق بالضدين، وما حكي عن المحدثين من أنت ذلك يوجب العلم، فلعلهم أرادوا أنه يفيد العلم بوجوب العمل إذ يسمى الظن علما، لهذا قال بعضهم: يورث العلم الظاهر والعلم ليس له ظاهر وباطن وإنما هو الظن) اهـ.
11- قال أبو إسحاق الشيرازي في التبصرة ( ص298):
( أخبار الآحاد لا توجب العلم. وقال بعض أهل الظاهر: توجب العلم. إلى أن قال: لنا هو أنه لو كان خبر الواحد يوجب العلم، لأوجب خبر كل واحد، ولو كان كذلك لوجب أن يقع العلم بخبر من يعي النبوة من غير معجزة، ومن يدعي ولا على غيره.
ولما لم يقل هذا أحد دل على أنه ليس فيه ما يوجب العلم، ولأنه لو كان خبر الواحد يوجب العلم لما اعتبر فيه صفات المخبر من العدالة والإسلام والبلوغ وغيرها، كما لم يعتبر في أخبار التواتر، ولأنه لو كان يوجب العلم لوجب أن يقع التبري بين العلماء فيما فيه خبر واحد، كما يقع بينهم التبري فيما فيه خبر المتواتر، ولأنه لو كان يوجب العلم لوجب إذا عارضه خبر متواتر أن يتعارضا، ولما ثبت أنه يقدم عليه المتواتر دل على أنه غير موجب للعلم، وأيضا هو يجوز السهو والخطأ والكذب على واحد فيما نقاه، فلا يجوز أن يقع العلم بخبره). اهـ
وقال في اللمع ( ص72): ( والثاني يوجب العمل ولا يوجب العلم، وذلك مثل الأخبار المروية في السنن والصحاح وما أشبهها)، ثم حكى الخلاف في ذلك ثم ذكر الدليل على نحو ما ذكر في التبصرة.
12- قال الخطيب البغدادي في الكافة في علم الرواية ( ص432) باب: ذكر ما يقبل فيه خبر الواحد وما لا يقبل فيه:
( خبر الواحد لايقبل في شيء من أبواب الدين المأخوذ على المكلفين العلم بها والقطع عليها ؛ والعلة في ذلك أنه إذا لم يعلم أن الخبر قول رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كان أبعد من العلم بمضمونه، فأما ماعدا ذلك من الأحكام التي لم يوجب علينا العلم بأن النبي (صلى الله عليه وسلم) قررها وأخبر عن الله عز وجل بها، فإن خبر الواحد فيها مقبول والعمل به واجب) اهـ.