المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : القيـادة الشرعيّـة مـن خـلال القرآن العظيـم



أبو زكريّا
16-06-2011, 04:15 PM
إنّ من البديهي أنّ الأمّة الإسلاميّة تمرّ بحالة قلّ فيها الوعي الفكري والسياسي على مفاهيم الإسلام وكان من نتائج هذه الحالة غياب تصوّر واضح وعملي للنصوص والمعالجات الشرعيّة للواقع التي تعيشه ، ومن الطبيعي أن ينعكس هذا على حياة المسلمين.
إنّ العلاقات والأفكار وحتّى المشاعر الموجودة بين المسلمين ليست مبنيّة بالأساس على الحلال والحرام ولم يعد التقيّد بما تقول به النصوص الشرعيّة هو الضابط بل أصبح هناك خليطا متناقضا من أحكام شرعيّة وأحكام ومفاهيم آتية أساسا من الحضارة الغربيّة.
إخترنا في هذا الموضوع الحديث عن واحد من أهمّ المفاهيم الإسلاميّة : القيادة في الإسلام.
إنّ القيادة في الإسلام هي بالأساس قيادة فكريّة ، فحتّى وجود قيادات إسلاميّة في الأمّة يعني وجود قيادات هي نفسها تأتمر بالفكر الإسلامي وتنقاد به وتتقيّد بدلالاته باعتبار أنّ السيادة في الإسلام هي للشرع والقيادة في الإسلام لا يمكن أن تكون للأشخاص ولا حتى للشعوب أو للأمّة بمعزل أن تكون هذه ذاتها تستند إلى قيادة فكريّة على أساس الإسلام.
لما تُوِفّيَ الرسول صلى الله عليه وسلّم كاد الخبر أن يطير بعقول المسلمين وكأنّ الإسلام انتهى بموت رسول الله. هنا أدرك الصدّيق رضي الله عنه دقّة وخطورة الموقف ، وهو الذي تعلّم هذا الدين على يَدَيْ رسول الله صلى الله عليه وسلّم وعرف معنى الإتّباع الحقيقي الذي لا يمكن أن يكون لشخص ولو كان لرسول الله وقدره العظيم بل هو إتباع لهديِه صلّى الله عليه وسلّم. فقام مذكّرا بين النّاس أن العبادة هي لله وحده وذلك بإتباع أوامره ونواهيه ولا يمكن أن تكون بأيّ حال إتباع لشخص لذاته حتّى ولو كان رسول الله بجلال قدره لذلك انبرى من داخل الصفوف هاتفا بأعلى صوته : " من كان يعبد محمّدا فإنّ محمّدا قد مات ومن كان يعبد الله فان الله حيّ لا يموت " وقرأ عليهم الآية الكريمة : "وما محمّد إلاّ رسول قد خلت من قبله الرسل أفان مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضرّ الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين" آل عمران-145.
ما أروع هذا الموقف من الصحابي الجليل أبا بكر الصدّيق وهو يردّ النّاس إلى دينهم وأحكامه ردّا جميلا ، وهو ردٌّ ورجوع إلى شرع الله وإلى سيادته على حياة المسلمين. وهذا الموقف الصدّيقي إنّما هو تعبير عن الموقف القرآني الكريم الذي تعبّر عنه كلّ نصوصه ومنها قوله تعالى:" ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوّة ثمّ يقول للنّاس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيّين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون" آل عمران-78، فالأنبياء رغم إرسالهم بالكتب ورغم أنهم كانوا حكّاما ورغم نبوّتهم ليس لهم أن يأمروا النّاس من عند أنفسهم أي أن يكون النّاس عبادا لهم ، أي يتّبعون أشخاصهم لذواتهم ، ولكنّهم يجب أن يكونوا ربانيّين. بماذا؟ بما كانوا يعلّمون النّاس ما جاء في الكتب السماويّة وبما كانوا يدرسونهم من الأحكام الواردة فيها والمفاهيم التي تدلّ عليها. مصداقا لقوله تعالى:" لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا" النساء-171-172.
إنّ العبادة لله تمثّل إطارا سياسيّا وحضاريّا للبشريّة جمعاء المسلمين وغيرهم من البشر مصداقا لقوله تعالى:" قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سوآء بيننا وبينكم ألاّ نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتّخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فان تولّوا فقولوا اشهدوا بأنّا مسلمون" آل عمران- 62-63 فعبادة الله تمثل الإطار السياسي والثقافي والحضاري لكل البشر ، وهذا هو في الأصل القاسم المشترك بين كلّ الأديان ولكن تحريف معنى العبادة أخرج اليهود والنصارى من هذا الإطار الجامع فلم يبق في هذا الإطار سوى المسلمون وحدهم ، ولكنّهم مع الأسف ومع تأثّرهم بالغرب في أنماط حياتهم ونماذج وطراز عيشهم ، خرجوا هم كذلك ظرفيّا من هذا الإطار لأنّهم تركوا الحكم بما أنزل الله وحكموا بالقوانين الوضعيّة وتركوا العيش بمقياس الحلال والحرام واتبعوا الأحكام الماديّة النفعيّة ، وليس ذلك فحسب بل نجد حتى الذين يدعون الالتزام بالإسلام بدل أن يكون تقليدهم للمجتهدين والمفتيين تقليدا شرعيّا ، أصبحوا يتبعون شخص المجتهد أو المفتي أو أمير الجماعة أو رئيس الحزب دون فهم أو وعي بل يعلنون في وقاحة انصياعهم لأوامر أشباه العلماء والمشايخ حتى ولو تعارضت مع ما تأمر به النصوص الشرعيّة وهذا ولا شكّ منتهى الشرك ، إذ كيف يكون المرء عبدا للخالق وهو يتّبع المخلوق ، وإتّباع المخلوق حرام ولو كان متبعا لشرع الله فكيف يكون حلالا وهو يخالف ما تقول به الأحكام الشرعيّة ؟ وكما أوردت سابقا أن عبادة الله وحده تمثّل الإطار الفكري والسياسي والثقافي لكلّ البشر وهذا ما كان يشدّد عليه الأنبياء والرسل ويوصون به: " وأوصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتنّ إلا وانتم مسلمون. أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك واله ءابائك إبراهيم وإسماعيل إلها واحدا ونحن له مسلمون "البقرة-131-132 وهذا ما يمثّل المقياس الذي نقيس به هدى الأقوام الآخرين:" فان آمنوا بمثل ما آمنتم فقد اهتدوا..."البقرة-136
والإتباع إمّا أن يكون إتباع لشرع الله أو إتباع للأهواء ولا يوجد أمر آخر وهذا ما تؤكّد عليه هذه الآية الكريمة :" ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم انّك إذا لمن الظالمين" البقرة-144.
إنّ حضارة تأسّست على أساس العلم الشرعي وعلى أساس الانقياد الفكري لهي جديرة أن تكون حضارة جامعة للإنسانيّة ، ذلك أنّها كانت الوحيدة التي تؤسّس لبشرية الدولة ولبشرية الحكّام ، فالسيادة تكون حقيقة للشرع فلا قداسة ولا عصمة لأشخاص ولا شيء يعلو الحقّ والشرع.
الذي نراه اليوم أنّ واقع الحكّام والزعامات والقادة ولو كانوا قادة للعمل الإسلامي أنّ السيادة فيها لأفراد وليست حتى للجماعة أو للشعوب أو لفكر أو لقانون داخلي أو لميثاق للعمل ، وهذا خطير جدّا لأن الفوقيّة والعلو والسيادة لا يمكن أن تكون إلا من جهة أعلى إلى ما تحتها وهي جهة تقع على مستوى أدنى من ناحية القيمة والاعتبار وهذا ما يتميزّ به كلام الخالق - الجهة العالية - عن كلام المخلوق- وهي الجهة المتدنيّة.
وفي الأنظمة الوضعية وبالخصوص الأنظمة الديمقراطية نسف لهذه السيادة أصلا باعتبار تساوي كلّ البشر وعدم تميزّ ناس عن ناس تميزّا يجعلهم صالحين أن يحلّلوا أو يحرّموا أو يشرّعوا ويتّبعهم الباقي في ذلك. ولذلك في ظلّ هذه الأنظمة لا يمكن أن تكون هناك إلا قيادة شخصيّة ولا يوجد سوى انقياد لأفراد ، وهذا ما جعل كلّ البشر يعيشون شقاءا دائما لا ينقطع أو يبطل إلا بالرجوع لسيادة واقعيّة حقيقيّة : هي سيادة الشرع. وهذا ما يميّز الحضارة الإسلاميّة عن كل الحضارات الأخرى بمن فيها الحضارة الغربيّة التي تعتبر أحطّ وأدنى من الكثير من الحضارات التي عرَِفها التاريخ.
من الأكيد أنّه يمكن لحضارة تحقّق إنسانية الإنسان أن تنشأ على أساس -سيادة الشرع- الذي يمثّل الأساس الصحيح وأن تكون أرقى حضارة تخلّص البشر من قداسة وعصمة الأشخاص وتحرّرهم من سيادة باطلة وتمهّد لإيجاد مجتمعات راقية مكونّة من عبادا لله يدينون به ربوبيّةً وعبوديّة.
إنّ الأمر بسيط ، مادمنا مخلوقين والمخلوق لا يعدو أن يكون عبدا فمن الأجدر أن نعبد الذي خلقنا ولا أن نعبد المخلوق الذي لا يعدو أن يكون شبيها لنا ولا يتمتّع بشيء أرقى ممّا عندنا يؤهّله ليكون معبود ، وهذا ما عبّر عنه جعفر الطيّار رضي الله عنه للنجاشي حين قال له أنّ الإسلام إنّما جاء ليخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة ربّ العباد ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام. ذلك أن كلّ الأديان الأخرى وكل الحضارات حوّلت مفهوم السيادة ومفهوم العبوديّة تحويلا رجعيّا وحتى الملاحدة كانوا رجعيّين بتقديس ماركس ولينين وفرويد وستالين بوضعهم موضع الإله وبتقديس كلامهم وهم بشر ليجعلوه ليس فوق كلام البشر بل فوق كلام ربّ البشر وهم أدعياء التقدميّة والتنويريّة ، في حين أنّ الفارق بين كلام الخالق وكلام المخلوق كالفارق بين الخالق والمخلوق.
إنّ القرآن الكريم يردّ عليهم بكلام بديهي معجز: " قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحقّ قل الله يهدي للحق أفمن يهدي إلى الحقّ أحقّ أن يتّبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون " يونس- 35 ويقول:" له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه وما دعاء الكافرين إلا في ضلال " الرعد-15 ويقول :" والله يقضي بالحقّ والذين من دونه لا يقضون بشيء إن الله هو السميع البصير" غافر-20 ويقول : " قل هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده قل الله يبدأ الخلق ثم يعيده فأنّى تؤفكون " يونس-34 ويقول :" مثل الذين اتّخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإنّ أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون"العنكبوت-41 ويقول :" إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون" العنكبوت-15 ويقول: "قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أم أراد بكم رحمة ولا يجدون من دون الله وليّا ولا نصيرا" الأحزاب-17 ويقول : "قل أغير الله اتخذ وليّا فاطر السماوات والأرض وهو يطعم ولا يُطعم قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم ولا تكونن من المشركين"الأنعام-15 ويقول :"قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا "المائدة-78 ويقول: "إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين.ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها قل أدعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون" الأعراف-193-194

أبو زكريّا
16-06-2011, 04:16 PM
رأينا كيف أنّ القيادة في الإسلام هي في جوهرها قيادة بالشّرع : أحكاما للفرد وللمجتمع والدولة ، وهي تعبير عن الأفكار والمفاهيم التي جاء بها الإسلام لتطبّق في معترك الحياة ، فتكون القيادة بهذا الشّكل لا تعدو أن تكون حقيقة إلاّ قيادة بالأحكام الشّرعيّة التي جاء بها الوحي لتضبط سلوك الفرد ، والمجتمع ، والدّولة.
كما رأينا أنّ ذلك الذي يعبّر عن المفهوم الصّحيح للعبادة وهو يمثّل الإطار الشّرعي لمفهوم العبادة والمضمون الفكري للحضارة الإسلامية ، وكما سبق أن وضّحنا ، تمثّل العبادة لله وحده الأساس لحضارة إنسانيّة دعا الإسلام قبل غيره لإيجاده لأجل أن تعيش الإنسانيّة وتنعم وتهنأ بعيش كريم وآمن.
وأودّ في هذا الملحق أن أبيّن العناصر الضّابطة لهذا الإطار الشّرعي ومضمونه.
إنّ القيادة لا يمكن أن تكون بأيّ حال قيادة مرتهنة بأوامر شخص قد يكفر أو يفسق أو يفجر أو يفسد ، أو ينظّر لبلوغ غايات شخصيّة أو طبقيّة أو حزبيّة أو مذهبيّة... فالقيادة يجب أن تكون من أعلى إلى تحت بين أطراف غير متساوية ، فكانت السّيادة للشّرع هي التي تمثّل على الوجه الصّحيح هذا الأمر ، إذ أنّ الطّرف الأعلى لا يعدو أن يكون الخالق ، واجب الوجود ، أمّا الطّرف الأدنى ، فهو ممثّل في المخلوق الذي يقرّ بالعبوديّة لهذا الخالق العظيم ، ويكفيه شرفا وتكريما أن أصبح باختياره عبدا ، لا يخضع ولا يذلّ ولا يستسلم إلاّ له ، وكلّ عمل يأتيه يتقيّد فيه بما صدر عنه من أوامر أو ينتهي عن كلّ ما نهى عنه ، إذ لا يكفي أن نقرّ له بكونه هو الخالق ، خلق كلّ شيء من عدم ، بل لا خضوع ولا استسلام ولا تسليم إلاّ لما يأمر به أو ينهى عنه ، وهو يختصّ بهذا دون جميع الخلق ولو كانوا أنبياء ومرسلين وهذا مصداقا لقوله تعالى: "وجعلناهم أئمّة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات واقام الصّلاة وإيتاء الزّكاة وكانوا لنا عابدين"الأنبياء-72 ، فهديهم للنّاس كان بأمر الله وكانوا هم أنفسهم يفعلون الخيرات ، وكانوا بتقيّدهم بأحكام الله عابدين أي كانت تلك عبادتهم وذلك واقعها.
ولم يقتصر أمر الرّسل على خضوعهم هم أيضا لشرعتهم بل تجاوزوه إلى حتميّة الإيمان بكلّ ما ورد في كتبهم ، إذ لا يكفي التّسليم بالأحكام بل وجب الإيمان بصحّتها و بكونها حقّ لا ينبغي أن يتسرّب له الشّكّ يقول سبحانه وتعالى: "وجعلنا منهم أئمّة يهدون بأمرنا لمّا صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون" السجدة-24
إنّ واقع الرّسل صلوات الله وسلامه عليهم لا يعدو أن يكون مثل ما تعبّر عنه الآية الكريمة : " قل لا أقول لكم عندي خزآئن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إنّي ملك إن اتّبع إلاّ ما يوحى
إليّ" الأنعام-50
فالأنبياء لا يعدون أن يكونوا متّبعين لشرع الله مثلهم مثل كلّ الخلق وهم ليسوا مبتدعين لشرع من بنات أفكارهم ، فالحلال والحرام لا يمكن أن يترك للبشر أن يبتدعوه ولو كانوا أنبياء مصداقا لقوله تعالى: "ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إنّ الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع قليل ولهم عذاب أليم" النّحل-117
وإذا كان الرّسل ، وهذا واقعهم ، لم يأتوا بشيء من عندهم ، فكيف بمن هم دونهم ، ينادون بديمقراطيّة أو بليبراليّة أو باشتراكيّة أو بشرعة الأمم المتّحدة أو بالقانون المدني أو الدّولي أو غيره وكأنّ ذلك من صميم شرع الله؟ وينادون بسيادة أنظمة وقوانين وضعيّة وكأنّها وحي؟
لقد وعدنا الله كما وعد الذين من قبلنا بالاستخلاف ولكنّ هذا الاستخلاف كان مشروطا بشروط عبّرت عنها الآية الكريمة بقوله تعالى:"وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصّالحات ليستخلفنّهم
في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكّننّ لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدّلنّهم من بعد
خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا"النور-53 فالوعد بالاستخلاف هو وعد لأناس وليس لكلّ النّاس ، هؤلاء النّاس هم من الذين آمنوا ولم يقتصر أمرهم على الإيمان "وبالحقّ أنزلناه
وبالحقّ نزل"الإسراء-105 بل تجاوزوا ذلك إلى التّقيّد بالأحكام التي جاء بها الأنبياء والرّسل
وعبّرت عنها الآية بالصّالحات ، والتّمكين الذي وعدوا به ليس تمكينهم هم كأشخاص ، بل تمكين للدّين الذي ارتضاه مولانا لنا ، وشرط ذلك أن يعبدوه وحده بدون إشراك به أيّة جهة أخرى ، وكلّ هذا ليس له سوى معنى واحد : أنّ لا دخل للعقول ولا للأهواء في تحديد الأحكام التي جاءت بها الأديان ، فهي كلّها ممّا جاء به الوحي أي كلّها أوامر ونواه شرعيّة لا علاقة لها بأهواء وأحكام البشر وهذا ما تعبّر عنه هذه الآية الكريمة :"وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم ءآنت قلت للنّاس
اتّخذوني وأمّي الهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحقّ إن كنت
قلته فقد علمته ، تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك انّك أنت علاّم الغيوب. ما قلت لهم إلاّ ما
أمرتني به أن أعبدوا ربّي وربّكم وكنت عليهم شهيدا فلمّا توفّيتني كنت أنت الرّقيب عليهم وأنت على كلّ شيء شهيد" المائدة-118-119 ، هذا النّصّ واضح في إبراز قدسيّة النّصّ الشّرعي
وفوقيّته التي لا ينبغي أن يرقى إليها أدنى شكّ ، وهو ما تعبّر عنه هذه الآية الكريمة :"اتّبعوا ما أنزل إليكم من ربّكم ولا تتّبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذّكّرون" الأعراف-2 فالأتّباع هو لما نزل من أحكام في الكتاب وعبّرت عنه هذه الآية بالولاية :"وهو وليّهم بما كانوا يعملون" الأنعام-128.
والإّتباع ، ليس هو فقط إتّباع عامّ ، بل هو اتّباع تفصيلي ، بل أنّ الأمر مسلّط على الكلّ مصداقا لقوله تعالى :"ثمّ جعلناك على شريعة من الأمر فاتّبعها ولا تتّبع أهواء الذين لا يعلمون" الجاثية-17 ولقوله تعالى :"فالذين آمنوا به وعزّروه ونصروه واتّبعوا النّور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون" الأعراف-157 ، والأمر مسلّط كذلك على الجزء أو البعض مصداقا لقوله تعالى :"لولا أرسلت إلينا رسولا فنتّبع آياتك ونكون من المؤمنين" القصص-47 ، ثمّ إنّ الأنبياء والرّسل ، ليس من صلاحيّاتهم أن يأتوا بشرع من عندهم ، بل بعد أن ينزل الوحي ، ليس لهم أن يبدّلوا أو يغيّروا من تلقاء أنفسهم مصداقا لقوله تعالى:"وإذا تتلى عليهم آياتنا بيّنات قال الذين لا يرجون لقاءنا آتنا بقرآن غير هذا أو بدّله قل ما يكون لي أن أبدّله من تلقاء نفسي إن اتّبع إلا ّما يوحى إليّ إنيّ أخاف إن عصيت ربّي عذاب يوم عظيم" يونس-15 ، هذه الآية نزلت في رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الذي تعرّض لفتنة الذين راودوه على تغيير آيات الله وتبديل أحكامها ، فلم يتمالك أن قال لهم أنّ الأمر ليس بيده : ليس له أن يبدّل أو يغيّر ، فالشّرع ليس من ابتداعه حتّى يغيّر فيه أو يبدّل ، بل هو وحي من الله ، ليس له ولا لغيره سلطة على تبديله أو تغييره ، بل هو كما نحن لا نعدو أن نكون متّبعين لما جاء به الوحي ، حتّى أنّ كل من تحدثه نفسه أن يبدل أو يغير ويعصي الله بذلك فانه بذلك لن ينجو من العذاب ولو كان رسولا،فكيف بمن يتجرأ على ذلك ويقبل بغير شرع الله فانه يكون عاصيا لمولاه ويستحق بذلك العذاب الشديد.
أمر أخير وهو أن شرع الله هو الصراط المستقيم وهو السبيل الشرعي الواجب الإتباع ولو تعدّدت الأحكام الشرعيّة ، وتبقى كلّ السبل الأخرى سبلا للشيطان ينبغي رفضها ونبذها مصداقا لقوله تعالى:"ولا تتّبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله" الأنعام-153 وهذا ما تبرزه هذه الآيات:"ولن ترضى عنك اليهود والنصارى حتى تتّبع ملتهم" البقرة-120 ولقوله تعالى:" يا أيّها الذين آمنوا لا تتّخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمين" التوبة-24 وهاتان الآيتان قاطعة الدلالة في كون الكفّار لن يرضوا عنّا حتى نتّبع ملّتهم حتى إذا فعلنا ما يريدون منّا دخلنا في ملّتهم وصرنا مثلهم ، كذلك أنّ الحقّ يكون فوق الروابط كل الروابط فلا تبقى سوى رابطة واحدة هي رابطة المبدأ التي تنمحي أمامها كل الروابط المنحطّة ، فلا يجب الركون إلى الكفّار ولا يجب أن نجاري الأحباب في غيّهم وفي أهوائهم. والسلام

ابوعبدالرحمن حمزة
19-06-2011, 09:26 AM
الفاضل ابو زكريا
بارك الله بك موضوع رائع في الفكرة والاسلوب جهد مشكور
هناك ملاحظتان
اولا : مقولة ( أنّ الإسلام إنّما جاء ليخرج العباد من عبادة العباد ...الخ ) هي لربعي بن عامر رضي الله عنه للقائد الفارسي رستم .
ثانيا : في اخر البحث قولك ( أن شرع الله هو الصراط المستقيم وهو السبيل الشرعي الواجب الإتباع ولو تعدّدت الأحكام الشرعيّة) اظن انك تقصد ولو تعددت الافهام للحكم الشرعي .

أبو زكريّا
20-06-2011, 07:26 PM
بارك الله فيك على ملاحظاتك القيّمة،
بالنسبة للملاحظة الثانية ، هو بالضبط ما عبَّرتَ عنه يا أخي الفاضل ، تعدّد الأحكام بمعنى تعدّد الاجتهادات الصحيحة في المسألة الواحدة
جزاك الله

أبو زكريّا
26-06-2011, 09:40 PM
إنّ القيادة في الإسلام كما سبق أن وضّحنا ذلك ليست قيادة شخصيّة حتّى ينزع القائد إلى الأمر والنّهي والى اتّخاذ المواقف والأفكار وإصدار القرارات كما يحلو له دون ضابط أو قيد،وعلى الآخرين طاعته والالتزام بما يرتئيه أو يسطّره أو يخطّط له بلا قيود ولا شروط.لأنّ الأمر بهذه الصّيغة يصبح إتّباعا للهوى وليس إتّباعا لشرع الله كما هو المفروض أن يحصل منّا،وكما بيّنّا ذلك أنّه حتّى الأنبياء،على جلال قدرهم ليس لهم ذلك وهم معصومون من الكبائر والصّغائر،
فكيف بمن هم دونهم من البشر،لأنّ العبادة في الإسلام هي لله وحده فتحصر به دون جميع خلقه،
فالأمر والنّهي من مقتضيات العبوديّة له،والباقي ليس لهم سوى الأمر بما أمر به الله والنّهي عمّا نهى عنه،حتّى إذا ما خالفوا هذا أي تصوّروا أنّ من صلاحيّاتهم الأمر والنّهي وأنّ الآخرين ليس لهم سوى الطّاعة والانقياد فإنّهم يصبحون بذلك العمل أربابا من دون الله،وهذا ليس حراما فقط بل إشراك بالله وهو كبيرة.ذلك أنّ الطّبيعة البشريّة متمثّلة في كلّ الجنس البشري،وهي ليست طبيعة فيها كمال وعدم احتياج ولا محدوديّة،إذ البشر محدود في كلّ شيء،ودليل احتياجه ظاهر فيه،ومظاهر النّقص وعدم الكمال متمثّلة فيه كجنس.فلا يمكن عقلا،بناءا على هذه الطّبيعة أن يكون صالحا للأمر والنّهي وللتّشريع،اللّهمّ إلاّ إذا تخلّى عن طبيعته البشريّة ،وهذا محال،إذ ليس له سوى خيار واحد أن يكون عبدا طائعا لهذا الخالق العظيم،تابعا لشرعه،مستجيبا لأوامره،
خاضعا ومستسلما له،خضوعا واستسلاما عقليّا وقلبيّا،فالعبد لا يمكن أن يتحوّل إلى سيّد آمر، ناه.
والرّسول صلّى الله عليه وسلّم خيّره الله فاختار أن يكون عبدا رسولا،وهو نعم العبد ونعم الرّسول.فكيف بمن يرون في أنفسهم السّيادة والرّيادة وكونهم فوق البشر وأعلى منهم وأفهم،فإذا
بهم يحسّون أنّ من حقّهم أن يقودوا الآخرين،ومن واجب الآخرين أن يطيعونهم ويتّبعونهم في كلّ
حال،ويكونون بذلك قد انتقلوا من وضع العبد المطيع لربّه إلى وضع السّيّد الذي يعبد،والانتقال بهذا الشّكل ممّا اعتاد البشر على حدوثه ووقوعه،حتّى أنّنا لو بحثنا عن القيادة التي تأتمر بشرع الله وتتمثّل فيهم مواصفات القيادة الشّرعيّة لما وجدناها على أرض الواقع،وبما أنّ كلّ عمليّة تغيير وكلّ تحوّل حضاري لا بدّ أن تتحمّله قيادة وتضطلع بأعبائه،إذ يبدأ العمل في الأوّل نخبويّا
ويظلّ يتوسّع ليصبح جماهيريّا وشعبيّا،هنا يصبح الخطر،إذا كانت تلك القيادة ليست في مستوى ما يشترط في القيادة لأجل أن تظلّ قيادة شرعيّة ومنضبطة بالأحكام الشّرعيّة،تتحوّل حينئذ القيادة
من انقياد بالشّرع ومن انضباط به،إلى انقياد للهوى وبالهوى،وهذا ما يجعل ذلك التّغيير وذلك التّحوّل تحوّلا رجعيّا،يعود بالإنسان القهقرى،أي إلى عبادة العباد عوضا عن عبادة ربّ العباد ونعود للمربّع الأوّل،ونظلّ نصحّح ونصوّب،ويحتاج التّغيير إلى تغيير صحيح،والتّحوّل الحضاري إلى تحوّل حضاري آخر يرجع العباد إلى دائرة عبادة الخالق:الإطار الطبيعي للمخلوق
والقرآن الكريم أطنب في وصف هذا الأمر:*وما محمّد إلاّ رسول قد خلت من قبله الرّسل أفان مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضرّ الله شيئا*آل عمران145 :*ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنّبوّة ثمّ يقول للنّاس كونوا عبادا لي من دون الله*آل عمران 78 :*لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقرّبون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا*النساء171 :*اتّخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلاّ ليعبدوا إلها واحدا لا اله إلاّ هو سبحانه عمّا يشركون*التوبة
31 .إذا الإطار الذي يجب على القيادة أن تظلّ على الدّوام فيه وتحافظ عليه،هو إطار العبوديّة لله
وبشريّة قيادتهم للنّاس:حتّى يظلّ الخالق ليس ربّا فحسب بل معبودا يفرد بالعبادة،ويظلّ البشر ولو كانوا قادة من البشر،يصدق عليهم ما يصدق على ساري البشر،من إمكانيّة أن يفجروا أو يفسقوا أو يغيّروا أو يبدّلوا،وتظلّ قيادتهم للنّاس مرهونة بانقيادهم هم لشرع الله،وبمدى انضباطهم بالوحي.أمّا المواصفات أو الشّروط التّفصيليّة،فهي الانضباط بالأحكام الشّرعيّة والتّقيّد الرّاقي الذي فيه إحسان،إذ يكون القادة أعبد النّاس وأتقاهم وأخلصهم، أبرّهم وأصبرهم،وأثبتهم على الحقّ،ولا يخشون في الله لومة لائم.لأنّه إذا كان واقعنا فاسدا ونحن نثور عليه لتغييره،حتّى إذا كنّا من جنسه،أي متأثّرين به في ممارساتنا وفي سلوكنا وفي أفهامنا وأذواقنا ووجهة نظرنا،كيف يتأتّى لنا أن نغيّره وهو مغروس فينا ونحن جزء منه؟ لهذا كان لازما لمن يريد تغيير مجتمعه أن يخرج عن تأثيره لأجل أن تكون له القدرة على تغييره إلى الوضع الشّرعي الأفضل،وهذا مشروط بكون الذي يريد أن يغيّر أن يكون من جنس المبدأ الذي ينادي بتطبيقه فكرا وسلوكا،وهذا
ما عبّر عنه القرآن:*من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدّلوا تبديلا*الأحزاب23 وهذه الآية لا تنطبق فقط على صحابة الرّسول بل على من سار سيرتهم ونهج نهجهم إلى يوم القيامة مصداقا لقوله تعالى:*والسّابقون الأوّلون من المهاجرين والأنصار والذين اتّبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعدّ لهم جنّات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم*التوبة101 ،وهذا أوّل شرط يستنبط من القرآن وهو شرط المبدئيّة:أن يكون الذين يتصدّرون العمل للإسلام رجالا لا كسائر الرّجال بل أناس تربّوا على المبدأ الإسلامي الخالد،فكانوا مبدئيّين ومبدئيّتهم لا تتبدّل ولا تتغيّر بل ثابتة وواضحة لا غبار عليها،وتمسّكهم بها ليس فيه مصانعة أو مداهنة أو مداراة.- القرآن لا يتحدّث عن قيادة من الذّكور بل مدلول الآية يشمل الجنسين-لأنّ الخطاب خطابا عامّا ليس فيه تخصيص.
والقرآن يتحدّث عن الانقياد الإيماني من طرف هؤلاء،أي الانقياد الذي يقوده الإيمان وتوجّهه مفاهيم العقيدة :*إنّ الذين آمنوا وعملوا الصّالحات يهديهم ربّهم بإيمانهم تجري من تحتهم الأنهار في جنّات النّعيم*يونس 9 ،فيكون الفكر الذي ينادون به ممّا انبثق عن مفاهيم العقيدة،ويكون السّلوك الذي يمارسونه ممّا دلّت عليه الأحكام الشّرعيّة التي بدورها بنيت على مفاهيم الإيمان وهم يتولّون أيضا قيادة النّاس بما يقتضيه الإيمان،فيكون الجميع قادة وأفرادا يلفّهم جوّ من الإيمان.فالأحكام الشّرعيّة،قبل أن تكون أحكاما فرعيّة وخصوصيّة،فهي قد دلّت عليها مفاهيم العقيدة وفيها أيضا جانبا من الاعتقاد،والخطر يكمن في فصل الجانب العملي عن الجانب النّظري
وهذا يتضمّن مفاهيم العقيدة والجانب الاعتقادي في كلّ حكم،وهذا من أكبر الأخطار،فمثلا حكم إتباع اليهود والنّصارى هو حرام ولكنّ فصل هذا الحكم عن الإيمان به أظهر الأمر وكأنّه جرم صغير أو ذنب يمكن معالجته،في حين أنّ الأمر ليس كذلك فهو خطير وآثاره مدمّرة لأنّنا ببساطة فصلنا الحكم الشّرعي عن الجانب الإعتقادي المتعلّق به،فأصبح الملوك والرّؤساء وقادة الأحزاب
يتولّون ويتّبعون اليهود والنّصارى وكأنّ الأمر عادي وليس فيه أيّ خطأ أو انحراف،يقول عز وجل:*ولن ترضى عنك اليهود والنّصارى حتّى تتّبع ملّتهم*البقرة120 فرضاهم عنّا مشروط بتركنا لديننا،وهذا من المقاييس التي يمكن أن نقيس بها الرّجال والأحزاب والدّول:إذا رأينا أنظمة
أو أحزاب أو دول أو أشخاص يكنّ لهم اليهود والنّصارى المديح ويعطونهم شهادات حسن سلوك
فكونوا على يقين من كونهم من المرضيّين عنهم غربيّا ولكنّهم من المغضوب عليهم شرعيّا لأنّهم
لن يرضوا عن أحد إلاّ إذا صار منهم،حتّى إذا صار منهم فانّه يخرج من ملّتنا بدليل تقرير القرآن.وكذلك الحال مع هذه الأحكام:*يا أيّها الذين آمنوا لا تتّخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبّوا الكفر على الإيمان ومن يتولّهم منكم فأولئك هم الظّالمون.قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحبّ إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربّصوا حتّى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين*التوبة23-24 فهاتان الآيتان لم تنه فقط عن اتّخاذ الآباء والإخوة أولياء،إن استحبّوا
الكفر على ما يقول به الإيمان والشّرع بل تعدّى إلى من هذا الأمر،إذ حدّد لنا سلّما للأعمال وترتيبا تفضيليّا لها:فالأعمال التي تحقّق لنا رضا الله ورسوله،يجب أن تكون على أعلى ترتيب في السّلم،والآية تخصّ الجهاد في سبيل الله لجعل كلمة الله هي العليا،يكون في أعلى السّلّم،ولتأت بعدها مشاغل الحياة من حبّ الأهل والعشيرة ومن عمل تجاري ومن بناء للمساكن...هذا المقياس أو السّلّم التّرتيبي هو ليس فقط للعمل به بل للاعتقاد فيه أيضا،لذلك إذا أردنا أن تكون هناك تجانس ما بين الفكر والسّلوك وجب علينا أن نؤمن بالحكم قبل أن نقوم بالعمل وصدق الصّحابي
الذي قال :*كان الرّسول يعلّمنا الإيمان قبل أن يعلّمنا القرآن*وهذا الأمر من الخطورة بمكان بحيث لو أنّنا سلخنا هذا الجانب عن ذلك،وهو الأمر الواقع،فإنّنا نبتعد عن الإسلام إيمانا وعملا،فكرا وممارسة.ألا ترون مثلا أنّ المسلمين لم يعيشوا ضمن دولة تحكمهم بالإسلام منذ سقوط الخلافة،وهي فترة تناهز السبعين سنة،بعد أن عاشوا في ظل الإسلام قرونا طويلة من الزمن- لست هنا في مجال تقييم الدول التي تعاقبت علينا- ومع ذلك غاب الجانب الاعتقادي في
الأنظمة الإسلامية،وهذا الجانب ألاعتقادي هو الذي يحول الآن دون رجوعها،رغم أنّ مفاهيم هذه الأنظمة موجودة في الكتب القديمة والحديثة ورغم تولّي بعض الأحزاب عمليّة استنباط الأحكام الشّرعيّة المتعلّقة بها من تبنّي دستور لهذه الدولة وقواعد للحكم وأركانه ومن شروط الخليفة والمعاونين والولاّة...ومع ذلك لم توجد ولن توجد إذا غاب هذا الجانب ألاعتقادي منها أي إذا لم يرى النّاس أنّهم لا يمكن أن يكونوا مسلمين بدون وجود إسلام ،وأنّ الإسلام لا يمكن أن يكون موجودا حقيقة إذا لم تكن له دولة تطبّقه وتسهر على أن تكون منفّذة له،وتسود الأحكام الجميع حكاما كانوا أم محكومين.وهذا ما أردت أن أبرزه من خلال هذه الحلقة،لأجل أن تبقى الصورة واضحة في الأذهان ولأجل أن يلتزم الجميع بما هو مطلوب منه أن يلتزم به.هذا العمل أقدّمه لوجه الله تعالى،لا أريد منه سوى نوال رضوانه.وللموضوع بقيّة.

أبو زكريّا
26-06-2011, 09:41 PM
لقد رأينا من خلال ما سبق أنّ القيادة تكون بالمبدأ وبما يقول به المبدأ، أي ما يعبّر عنه اليوم بالمبدئيّة، وكيف أنّ هذا المبدأ يتولّى إيجاد جوّ إيماني يلفّ كلّ من بداخل تلك الجماعة الذين يهديهم ربّهم بإيمانهم وتكون مفاهيم العقيدة هي التي تتولّى قيادتهم وتوجيههم وتوجيه سلوكهم وصهرهم جماعيّا في بوتَقَة عمل جماعي فريد من نوعه تنعدم فيه الشّخصانيّة وإتّباع الهوى وتضمحلّ الأشكال الفاسدة للقيادة وخاصّة ما بات يعرف حاليّا بالشّكل الهرمي، وهو شكل تنظيمي، طبقي، سهل القضاء عليه بما يعبّر عنه هذا المثل الشّعبي *قصّ الرّأس تنشف العروق* إذ يكفي لضرب أيّ تنظيم هرمي أن تضرب قيادته فيشلّ عمل تلك الجماعة أو يقضى عليه نهائيّا جرّاء ضربة قويّة توجّه للقيادة، وهذه كانت من النّقاط البارزة التي كانت سببًا في ضرب أيّ عمل جماعي، لأنّ التّنظيم كان تنظيما فرديًّا بالأساس، يقوم على أفراد يتحمّلون كأفراد أعباء العمل الجماعي، وخاصّة أعباء العمل السّياسي وأعباء أعمال الدّعوة وأعباء ما يلزم من أبحاث فكريّة وسياسيّة وكلّ ما يلزم من أبحاث ومن أعمال، لو وزّعت عبر تقييم صحيح للقدرات الفرديّة ولإبداعاتهم لتوزّعت الأعمال والمسؤوليّات توزيعًا يقضي على كلّ منحى شخصاني في العمل ويقضي على كلّ بادرة لإتّباع الهوى ويفشلها في الحين ويوجد تواصلا بين ما يسمّى القمّة والقاعدة يقضي على أيّ منحى لتكريس طبقيّة فكريّة أو عمليّة من شأنها أن تكون خطرًا على العمل ونتائجه لاحقا. عذرا لإخوتي هذه الحلقة سوف لن استشهد فيها بآية أو بحديث ولكنّني سأقوم إن شاء الله بعمليّة استقراء لهذه النّصوص الشّرعيّة.
برأيي أنّ مسألة هرميّة التّنظيم يقضى عليها بمسألتين :
- الأولى تتمثّل في وجود برنامج تكويني تأطيري تأهيلي داخل أيّ جماعة تريد أن تعمل وأن تحقّق الأهداف الشّرعيّة من خلال عمل دلّت عليه النّصوص الشّرعيّة، لأنّ الموضوع الذي أحكي عنه هو موضوع جماعة مؤمنة، يقودها في عملها وفي كلّ أمر ما يتأتّى استنباطه من أحكام شرعيّة تقيّد ذلك العمل، لأنّنا نحكي عن عمل للإسلام، أي لإيجاد الإسلام على أرض الواقع لذلك يكون ليس أيّ عمل، بل عمل لأجل الإسلام ولأجل تطبيق أحكام أنظمة الإسلام في المجتمع. ولهذا لن يدخل في هذا ما يسمّى بالعمل الوطني باعتبار أنّ الوطن نفسه مخلوق ولا يمكن أن يكون خالقا نرجع إليه في أعمالنا ويكون هو مصدرا لما نتلبّس به من أعمال، ذلك أنّ مسألة السّيادة للشّرع والانقياد بالفكر تنفي ما يسمّى بالوطنيّة، لأنّها ليست بمبدأ فهي مأخوذة من فكر غربي دخيل علينا، وهي شعار بدون مضمون أو محتوى، وفي الحقيقة لا تعني شيئا على الإطلاق. ألا ترون مثلا أنّ الأنظمة المسمّاة بالوطنيّة لا علاقة لها بهذا الشّعار وهي عدوّة لشعبها وهو أساس الوطن، وتتعاون مع الأعداء ضدّ أبناء وطنهم، هل هذه هي الوطنيّة التي يبشّرون بها ؟ من هذا المنظور لا يوجد نظاما وطنيّا على الاطلاق، خاصّة إذا ارتبط الأمر بتطبيق نظام ديمقراطي في الحكم وتطبيق النّظام اللّيبرالي في الاقتصاد، يمهّدان لوجود فقر دائم وفوارق طبقيّة رهيبة واتّساع دائم لدائرة الفقر وانتشار قانوني للفساد، وهيمنة حقيقيّة لأصحاب رؤوس الأموال وخاصّة البرجوازيّة العالميّة الممثّلة في الشّركات المتعدّدة الجنسيّات ومحتكري البورصات والأسواق المحلّيّة والعالميّة. لذلك لا علاقة لهذا الموضوع بقيادة تسمّى وطنيّة، وإنّما بقيادة تأتمر بشرع الله أي بقيادة شرعيّة وهو الأمر الذي أؤكّد عليه من خلال هذه المواضيع.
- الثّاني، أنّ التّكوين فيه العامّ وفيه الخاصّ, أمّا التّكوين العامّ فهو مطروح للجميع للقادة وللقاعدة، والنّجاح فيه أي إذا حصل ذلك التّفاعل الايجابي وحصل تطوّرا في الأشخاص وفي نضجهم الفكري والعملي بأن ظهرت عليهم وعلى سلوكهم بوادر الخروج من تأثير الواقع عليهم وظهور مؤشّرات على نواحي الإبداع فيهم، هنا يطرح التّكوين الخاصّ الذي يصقل تلك المواهب ويهذّبها ويوجّهها ويستثمرها لفائدة العمل الجماعي. وهنا لا بدّ من التّفرقة بين وجود ثقافة تكوينيّة لأفراد وبين ما يتبنّى من أفكار للمجتمع : مثل أنظمة الإسلام وغير ذلك. فالأفكار التي تتبنّى للمجتمع ليست بالضّرورة صالحة للأفراد كأفراد، لانّ طبيعة كلّ منهما مختلفة عن الأخرى ولأنّ مكوّنات الفرد تختلف تماما عن مكوّنات المجتمع وكذلك ما يحتاجه الفرد يختلف عمّا يحتاجه المجتمع، وكذلك ما يتطلّبه المجتمع يختلف عمّا يتطلّبه الفرد. كلّ ذلك يطرح وجود موادّ مختلفة، لأنّ الذي سيعمل لتغيير المجتمع هم أفراد بمواصفات وشروط معيّنة، لذلك كان لا بدّ من برنامج تكويني خاصّ بهم ويقتدى فيه برسول الله صلّى الله عليه وسلّم الذي كان يركّز في تكوين أفراد كتلته على القرآن ومفاهيم القرآن مثلما ورد في كلّ كتب السّيرة. هذا النّمط من التّكوين يمدّ في الجسور الرّابطة بين القيادات وجماهيرها، فهو في الوقت الذي تظهر فيه قيادة تتحمّل أعباء العمل في مرحلة ما، تتكوّن فيه قاعدة شعبيّة وجماهير حزبيّة، تكون قادرة على سدّ كلّ فراغ في القيادة وامتصاص كلّ الضّربات الموجّهة للتّنظيم، وبهذين الشّرطين يكون التّنظيم لا وجود فيه لطبقيّة فكريّة أو عمليّة، وبوجود قواعد تكون في ذات الوقت مرنة وصارمة في الإجراءات والأساليب المتّبعة، هنا يحصل ارتقاء طبيعي في سلّم المسؤوليّات، ويحصل انتقال طبيعي لمشعل القيادة الذي يتحمّل أمانته من يكون مؤهّلا أكثر في هذه اللّحظة وفي هذه المرحلة بالذّات.
وأضيف شرطا آخر استقرأته من خلال سيرة الرّسول. وهي أنّ القيادة إمّا أن تكون قيادة ميدانيّة عمليّة أو لا تكون. ذلك أنّ الواقع قد دلّ على وجود قضايا ومن بينها توجد قضايا مصيريّة وهذه القضايا يكون الإجراء فيها هو تحقيقها أو الموت دون ذلك، وكتب السّيرة كشفت عن وجودها ومنها إصرار الرّسول صلّى الله عليه وسلّم على إظهار الإسلام إصرارا يصل إلى حدّ الاستعداد للموت وهو القائل:*والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أتخلّى عن هذا الأمر فلن أتخلّى عنه حتّى تنفرد هذه السّالفة أو أهلك دونه* هذا الإصرار لا بدّ أن يتجلّى بالخصوص في القيادة التي لا ينبغي أن تكون قيادة جبانة، قواعدها تستهدف بالتّعذيب وبالملاحقة وبالتّشريد والقتل... والقيادة في برجها العالي تكتفي بإصدار البيانات والتّصريحات، إنّ الرّسول القائد كان من أوّل النّاس تعرّضا لمكائد الكفّار وأكثر النّاس ملاحقة كان مع أصحابه محاصرا في شعاب مكّة وكان تعرّض لإيذاء الكفّار عند خروجه مع أصحابه في طوافهم بالكعبة عند نزول هذه الآية *فأصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين إنّا كفيناك المستهزئين* وكان أكثرهم تضحية ونصيبه من العذاب والفتنة في دينه لا يقلّ عن نصيب أشدّهم، فكان من أكثر النّاس تعرّضا واستهدافا، ألم ينته اجتماع بيت النّدوة على مخطّط جهنّمي باغتيال رسول الله... وكان رسول الله يقود عمليّا النّضال وهو موجود على السّاحة، مصير أصحابه من مصيره، ولم يكن يؤثر سلامته الشّخصيّة على سلامة أصحابه، بل بالعكس كان أصحابه إذا اشتدّ الصّراع يلجئون إليه فيصبّرهم ويواسيهم ويطيّب خاطرهم ويحمل عنهم ما ثقل.
هذه السّيرة الميدانيّة العمليّة هي الغائبة الآن، فكان أن رأينا تضحيات كبيرة وفتن وابتلاءات تتعرّض لها القواعد دون القيادات التي أعجبها أن تحافظ على سلامتها ولا يهمّها حجم المؤامرات التي تتعرّض لها الأمّة بمختلف شعوبها ولا يهمّها حجم ما يتعرّض له هذا الدّين من مكائد ومؤامرات لا يمكن أن تنتهي إلاّ إذا شمّرت القيادات عن سواعدها وبايعت هي الله بيعة الموت التي إمّا أن تنتهي بإظهار هذا الدّين أو تنتهي بموتهم على ذلك العمل وإصرارهم عليه، وأذكّرهم مقولة الرّسول عليه الصلاة والسلام *والله يا عمّ لو...* هي مقولة له ألزم نفسه بها كقائد، وهي ليست لأصحابه. وصدق من قال *أطلب الموت تكتب لك الحياة* وأنا أقول لكلّ من يتصدّر للقيادة* أطلبوا الشّهادة تكتب لكم حياة العز وسطّروا لشعوبكم درب مسيرة الكرامة والرّفعة والسموّ وترجعون لها دورها الرّائد في قيادة البشريّة نحو السلام الحقيقي الذي يحترم بالفعل كرامة البشر ويحفظ المقدسات وتوجد الأنظمة التي تصون الذات البشريّة ولا تتعدّى على حرماتهم في إطار من التّفاعل الايجابي الذي يؤسّس لحضارة كونيّة قائمة على عبادة واجب الوجود.

ابو عمر الحميري
28-06-2011, 06:07 PM
شكرا لك ايها الاخ الكريم وجزاك الله كل خير على ما ذكرت فصحيح ان القيادة تكون بالمبدأ لا بالهوى فالمسلم ينقاد طبيعيا لمبدأ الاسلام ويطيع اميره ما اطاع الله هذا اذا كان الامير حاكما اما إذا كان الامير اميرا خاصا كأمير السفر او امير الحزب فيطيعه ما دام متمسكا بالفكرة ولم ينحرف عنها وفي جميع الاحوال اريد ان اقول بأن القيادة في الاسلام فردية وليست جماعية فللامير ان يشاور ويناقش الفكرة ولكن يبقى هو صاحب الصلاحية في اتخاذ القرار فالله سبحانه وتعالى يقول ( وشاورهم في الامر فإذا عزمت فتوكل على الله ) والقيادة الجماعية فعلى الرغم من مخالفتها للاسلام فهي عمليا غير موجودة حتى في الانظمة الديمقراطية فالرأي في النهاية هو لصاحب القرار