أبو زكريّا
16-06-2011, 04:15 PM
إنّ من البديهي أنّ الأمّة الإسلاميّة تمرّ بحالة قلّ فيها الوعي الفكري والسياسي على مفاهيم الإسلام وكان من نتائج هذه الحالة غياب تصوّر واضح وعملي للنصوص والمعالجات الشرعيّة للواقع التي تعيشه ، ومن الطبيعي أن ينعكس هذا على حياة المسلمين.
إنّ العلاقات والأفكار وحتّى المشاعر الموجودة بين المسلمين ليست مبنيّة بالأساس على الحلال والحرام ولم يعد التقيّد بما تقول به النصوص الشرعيّة هو الضابط بل أصبح هناك خليطا متناقضا من أحكام شرعيّة وأحكام ومفاهيم آتية أساسا من الحضارة الغربيّة.
إخترنا في هذا الموضوع الحديث عن واحد من أهمّ المفاهيم الإسلاميّة : القيادة في الإسلام.
إنّ القيادة في الإسلام هي بالأساس قيادة فكريّة ، فحتّى وجود قيادات إسلاميّة في الأمّة يعني وجود قيادات هي نفسها تأتمر بالفكر الإسلامي وتنقاد به وتتقيّد بدلالاته باعتبار أنّ السيادة في الإسلام هي للشرع والقيادة في الإسلام لا يمكن أن تكون للأشخاص ولا حتى للشعوب أو للأمّة بمعزل أن تكون هذه ذاتها تستند إلى قيادة فكريّة على أساس الإسلام.
لما تُوِفّيَ الرسول صلى الله عليه وسلّم كاد الخبر أن يطير بعقول المسلمين وكأنّ الإسلام انتهى بموت رسول الله. هنا أدرك الصدّيق رضي الله عنه دقّة وخطورة الموقف ، وهو الذي تعلّم هذا الدين على يَدَيْ رسول الله صلى الله عليه وسلّم وعرف معنى الإتّباع الحقيقي الذي لا يمكن أن يكون لشخص ولو كان لرسول الله وقدره العظيم بل هو إتباع لهديِه صلّى الله عليه وسلّم. فقام مذكّرا بين النّاس أن العبادة هي لله وحده وذلك بإتباع أوامره ونواهيه ولا يمكن أن تكون بأيّ حال إتباع لشخص لذاته حتّى ولو كان رسول الله بجلال قدره لذلك انبرى من داخل الصفوف هاتفا بأعلى صوته : " من كان يعبد محمّدا فإنّ محمّدا قد مات ومن كان يعبد الله فان الله حيّ لا يموت " وقرأ عليهم الآية الكريمة : "وما محمّد إلاّ رسول قد خلت من قبله الرسل أفان مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضرّ الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين" آل عمران-145.
ما أروع هذا الموقف من الصحابي الجليل أبا بكر الصدّيق وهو يردّ النّاس إلى دينهم وأحكامه ردّا جميلا ، وهو ردٌّ ورجوع إلى شرع الله وإلى سيادته على حياة المسلمين. وهذا الموقف الصدّيقي إنّما هو تعبير عن الموقف القرآني الكريم الذي تعبّر عنه كلّ نصوصه ومنها قوله تعالى:" ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوّة ثمّ يقول للنّاس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيّين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون" آل عمران-78، فالأنبياء رغم إرسالهم بالكتب ورغم أنهم كانوا حكّاما ورغم نبوّتهم ليس لهم أن يأمروا النّاس من عند أنفسهم أي أن يكون النّاس عبادا لهم ، أي يتّبعون أشخاصهم لذواتهم ، ولكنّهم يجب أن يكونوا ربانيّين. بماذا؟ بما كانوا يعلّمون النّاس ما جاء في الكتب السماويّة وبما كانوا يدرسونهم من الأحكام الواردة فيها والمفاهيم التي تدلّ عليها. مصداقا لقوله تعالى:" لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا" النساء-171-172.
إنّ العبادة لله تمثّل إطارا سياسيّا وحضاريّا للبشريّة جمعاء المسلمين وغيرهم من البشر مصداقا لقوله تعالى:" قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سوآء بيننا وبينكم ألاّ نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتّخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فان تولّوا فقولوا اشهدوا بأنّا مسلمون" آل عمران- 62-63 فعبادة الله تمثل الإطار السياسي والثقافي والحضاري لكل البشر ، وهذا هو في الأصل القاسم المشترك بين كلّ الأديان ولكن تحريف معنى العبادة أخرج اليهود والنصارى من هذا الإطار الجامع فلم يبق في هذا الإطار سوى المسلمون وحدهم ، ولكنّهم مع الأسف ومع تأثّرهم بالغرب في أنماط حياتهم ونماذج وطراز عيشهم ، خرجوا هم كذلك ظرفيّا من هذا الإطار لأنّهم تركوا الحكم بما أنزل الله وحكموا بالقوانين الوضعيّة وتركوا العيش بمقياس الحلال والحرام واتبعوا الأحكام الماديّة النفعيّة ، وليس ذلك فحسب بل نجد حتى الذين يدعون الالتزام بالإسلام بدل أن يكون تقليدهم للمجتهدين والمفتيين تقليدا شرعيّا ، أصبحوا يتبعون شخص المجتهد أو المفتي أو أمير الجماعة أو رئيس الحزب دون فهم أو وعي بل يعلنون في وقاحة انصياعهم لأوامر أشباه العلماء والمشايخ حتى ولو تعارضت مع ما تأمر به النصوص الشرعيّة وهذا ولا شكّ منتهى الشرك ، إذ كيف يكون المرء عبدا للخالق وهو يتّبع المخلوق ، وإتّباع المخلوق حرام ولو كان متبعا لشرع الله فكيف يكون حلالا وهو يخالف ما تقول به الأحكام الشرعيّة ؟ وكما أوردت سابقا أن عبادة الله وحده تمثّل الإطار الفكري والسياسي والثقافي لكلّ البشر وهذا ما كان يشدّد عليه الأنبياء والرسل ويوصون به: " وأوصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتنّ إلا وانتم مسلمون. أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك واله ءابائك إبراهيم وإسماعيل إلها واحدا ونحن له مسلمون "البقرة-131-132 وهذا ما يمثّل المقياس الذي نقيس به هدى الأقوام الآخرين:" فان آمنوا بمثل ما آمنتم فقد اهتدوا..."البقرة-136
والإتباع إمّا أن يكون إتباع لشرع الله أو إتباع للأهواء ولا يوجد أمر آخر وهذا ما تؤكّد عليه هذه الآية الكريمة :" ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم انّك إذا لمن الظالمين" البقرة-144.
إنّ حضارة تأسّست على أساس العلم الشرعي وعلى أساس الانقياد الفكري لهي جديرة أن تكون حضارة جامعة للإنسانيّة ، ذلك أنّها كانت الوحيدة التي تؤسّس لبشرية الدولة ولبشرية الحكّام ، فالسيادة تكون حقيقة للشرع فلا قداسة ولا عصمة لأشخاص ولا شيء يعلو الحقّ والشرع.
الذي نراه اليوم أنّ واقع الحكّام والزعامات والقادة ولو كانوا قادة للعمل الإسلامي أنّ السيادة فيها لأفراد وليست حتى للجماعة أو للشعوب أو لفكر أو لقانون داخلي أو لميثاق للعمل ، وهذا خطير جدّا لأن الفوقيّة والعلو والسيادة لا يمكن أن تكون إلا من جهة أعلى إلى ما تحتها وهي جهة تقع على مستوى أدنى من ناحية القيمة والاعتبار وهذا ما يتميزّ به كلام الخالق - الجهة العالية - عن كلام المخلوق- وهي الجهة المتدنيّة.
وفي الأنظمة الوضعية وبالخصوص الأنظمة الديمقراطية نسف لهذه السيادة أصلا باعتبار تساوي كلّ البشر وعدم تميزّ ناس عن ناس تميزّا يجعلهم صالحين أن يحلّلوا أو يحرّموا أو يشرّعوا ويتّبعهم الباقي في ذلك. ولذلك في ظلّ هذه الأنظمة لا يمكن أن تكون هناك إلا قيادة شخصيّة ولا يوجد سوى انقياد لأفراد ، وهذا ما جعل كلّ البشر يعيشون شقاءا دائما لا ينقطع أو يبطل إلا بالرجوع لسيادة واقعيّة حقيقيّة : هي سيادة الشرع. وهذا ما يميّز الحضارة الإسلاميّة عن كل الحضارات الأخرى بمن فيها الحضارة الغربيّة التي تعتبر أحطّ وأدنى من الكثير من الحضارات التي عرَِفها التاريخ.
من الأكيد أنّه يمكن لحضارة تحقّق إنسانية الإنسان أن تنشأ على أساس -سيادة الشرع- الذي يمثّل الأساس الصحيح وأن تكون أرقى حضارة تخلّص البشر من قداسة وعصمة الأشخاص وتحرّرهم من سيادة باطلة وتمهّد لإيجاد مجتمعات راقية مكونّة من عبادا لله يدينون به ربوبيّةً وعبوديّة.
إنّ الأمر بسيط ، مادمنا مخلوقين والمخلوق لا يعدو أن يكون عبدا فمن الأجدر أن نعبد الذي خلقنا ولا أن نعبد المخلوق الذي لا يعدو أن يكون شبيها لنا ولا يتمتّع بشيء أرقى ممّا عندنا يؤهّله ليكون معبود ، وهذا ما عبّر عنه جعفر الطيّار رضي الله عنه للنجاشي حين قال له أنّ الإسلام إنّما جاء ليخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة ربّ العباد ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام. ذلك أن كلّ الأديان الأخرى وكل الحضارات حوّلت مفهوم السيادة ومفهوم العبوديّة تحويلا رجعيّا وحتى الملاحدة كانوا رجعيّين بتقديس ماركس ولينين وفرويد وستالين بوضعهم موضع الإله وبتقديس كلامهم وهم بشر ليجعلوه ليس فوق كلام البشر بل فوق كلام ربّ البشر وهم أدعياء التقدميّة والتنويريّة ، في حين أنّ الفارق بين كلام الخالق وكلام المخلوق كالفارق بين الخالق والمخلوق.
إنّ القرآن الكريم يردّ عليهم بكلام بديهي معجز: " قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحقّ قل الله يهدي للحق أفمن يهدي إلى الحقّ أحقّ أن يتّبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون " يونس- 35 ويقول:" له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه وما دعاء الكافرين إلا في ضلال " الرعد-15 ويقول :" والله يقضي بالحقّ والذين من دونه لا يقضون بشيء إن الله هو السميع البصير" غافر-20 ويقول : " قل هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده قل الله يبدأ الخلق ثم يعيده فأنّى تؤفكون " يونس-34 ويقول :" مثل الذين اتّخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإنّ أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون"العنكبوت-41 ويقول :" إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون" العنكبوت-15 ويقول: "قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أم أراد بكم رحمة ولا يجدون من دون الله وليّا ولا نصيرا" الأحزاب-17 ويقول : "قل أغير الله اتخذ وليّا فاطر السماوات والأرض وهو يطعم ولا يُطعم قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم ولا تكونن من المشركين"الأنعام-15 ويقول :"قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا "المائدة-78 ويقول: "إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين.ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها قل أدعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون" الأعراف-193-194
إنّ العلاقات والأفكار وحتّى المشاعر الموجودة بين المسلمين ليست مبنيّة بالأساس على الحلال والحرام ولم يعد التقيّد بما تقول به النصوص الشرعيّة هو الضابط بل أصبح هناك خليطا متناقضا من أحكام شرعيّة وأحكام ومفاهيم آتية أساسا من الحضارة الغربيّة.
إخترنا في هذا الموضوع الحديث عن واحد من أهمّ المفاهيم الإسلاميّة : القيادة في الإسلام.
إنّ القيادة في الإسلام هي بالأساس قيادة فكريّة ، فحتّى وجود قيادات إسلاميّة في الأمّة يعني وجود قيادات هي نفسها تأتمر بالفكر الإسلامي وتنقاد به وتتقيّد بدلالاته باعتبار أنّ السيادة في الإسلام هي للشرع والقيادة في الإسلام لا يمكن أن تكون للأشخاص ولا حتى للشعوب أو للأمّة بمعزل أن تكون هذه ذاتها تستند إلى قيادة فكريّة على أساس الإسلام.
لما تُوِفّيَ الرسول صلى الله عليه وسلّم كاد الخبر أن يطير بعقول المسلمين وكأنّ الإسلام انتهى بموت رسول الله. هنا أدرك الصدّيق رضي الله عنه دقّة وخطورة الموقف ، وهو الذي تعلّم هذا الدين على يَدَيْ رسول الله صلى الله عليه وسلّم وعرف معنى الإتّباع الحقيقي الذي لا يمكن أن يكون لشخص ولو كان لرسول الله وقدره العظيم بل هو إتباع لهديِه صلّى الله عليه وسلّم. فقام مذكّرا بين النّاس أن العبادة هي لله وحده وذلك بإتباع أوامره ونواهيه ولا يمكن أن تكون بأيّ حال إتباع لشخص لذاته حتّى ولو كان رسول الله بجلال قدره لذلك انبرى من داخل الصفوف هاتفا بأعلى صوته : " من كان يعبد محمّدا فإنّ محمّدا قد مات ومن كان يعبد الله فان الله حيّ لا يموت " وقرأ عليهم الآية الكريمة : "وما محمّد إلاّ رسول قد خلت من قبله الرسل أفان مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضرّ الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين" آل عمران-145.
ما أروع هذا الموقف من الصحابي الجليل أبا بكر الصدّيق وهو يردّ النّاس إلى دينهم وأحكامه ردّا جميلا ، وهو ردٌّ ورجوع إلى شرع الله وإلى سيادته على حياة المسلمين. وهذا الموقف الصدّيقي إنّما هو تعبير عن الموقف القرآني الكريم الذي تعبّر عنه كلّ نصوصه ومنها قوله تعالى:" ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوّة ثمّ يقول للنّاس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيّين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون" آل عمران-78، فالأنبياء رغم إرسالهم بالكتب ورغم أنهم كانوا حكّاما ورغم نبوّتهم ليس لهم أن يأمروا النّاس من عند أنفسهم أي أن يكون النّاس عبادا لهم ، أي يتّبعون أشخاصهم لذواتهم ، ولكنّهم يجب أن يكونوا ربانيّين. بماذا؟ بما كانوا يعلّمون النّاس ما جاء في الكتب السماويّة وبما كانوا يدرسونهم من الأحكام الواردة فيها والمفاهيم التي تدلّ عليها. مصداقا لقوله تعالى:" لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا" النساء-171-172.
إنّ العبادة لله تمثّل إطارا سياسيّا وحضاريّا للبشريّة جمعاء المسلمين وغيرهم من البشر مصداقا لقوله تعالى:" قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سوآء بيننا وبينكم ألاّ نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتّخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فان تولّوا فقولوا اشهدوا بأنّا مسلمون" آل عمران- 62-63 فعبادة الله تمثل الإطار السياسي والثقافي والحضاري لكل البشر ، وهذا هو في الأصل القاسم المشترك بين كلّ الأديان ولكن تحريف معنى العبادة أخرج اليهود والنصارى من هذا الإطار الجامع فلم يبق في هذا الإطار سوى المسلمون وحدهم ، ولكنّهم مع الأسف ومع تأثّرهم بالغرب في أنماط حياتهم ونماذج وطراز عيشهم ، خرجوا هم كذلك ظرفيّا من هذا الإطار لأنّهم تركوا الحكم بما أنزل الله وحكموا بالقوانين الوضعيّة وتركوا العيش بمقياس الحلال والحرام واتبعوا الأحكام الماديّة النفعيّة ، وليس ذلك فحسب بل نجد حتى الذين يدعون الالتزام بالإسلام بدل أن يكون تقليدهم للمجتهدين والمفتيين تقليدا شرعيّا ، أصبحوا يتبعون شخص المجتهد أو المفتي أو أمير الجماعة أو رئيس الحزب دون فهم أو وعي بل يعلنون في وقاحة انصياعهم لأوامر أشباه العلماء والمشايخ حتى ولو تعارضت مع ما تأمر به النصوص الشرعيّة وهذا ولا شكّ منتهى الشرك ، إذ كيف يكون المرء عبدا للخالق وهو يتّبع المخلوق ، وإتّباع المخلوق حرام ولو كان متبعا لشرع الله فكيف يكون حلالا وهو يخالف ما تقول به الأحكام الشرعيّة ؟ وكما أوردت سابقا أن عبادة الله وحده تمثّل الإطار الفكري والسياسي والثقافي لكلّ البشر وهذا ما كان يشدّد عليه الأنبياء والرسل ويوصون به: " وأوصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتنّ إلا وانتم مسلمون. أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك واله ءابائك إبراهيم وإسماعيل إلها واحدا ونحن له مسلمون "البقرة-131-132 وهذا ما يمثّل المقياس الذي نقيس به هدى الأقوام الآخرين:" فان آمنوا بمثل ما آمنتم فقد اهتدوا..."البقرة-136
والإتباع إمّا أن يكون إتباع لشرع الله أو إتباع للأهواء ولا يوجد أمر آخر وهذا ما تؤكّد عليه هذه الآية الكريمة :" ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم انّك إذا لمن الظالمين" البقرة-144.
إنّ حضارة تأسّست على أساس العلم الشرعي وعلى أساس الانقياد الفكري لهي جديرة أن تكون حضارة جامعة للإنسانيّة ، ذلك أنّها كانت الوحيدة التي تؤسّس لبشرية الدولة ولبشرية الحكّام ، فالسيادة تكون حقيقة للشرع فلا قداسة ولا عصمة لأشخاص ولا شيء يعلو الحقّ والشرع.
الذي نراه اليوم أنّ واقع الحكّام والزعامات والقادة ولو كانوا قادة للعمل الإسلامي أنّ السيادة فيها لأفراد وليست حتى للجماعة أو للشعوب أو لفكر أو لقانون داخلي أو لميثاق للعمل ، وهذا خطير جدّا لأن الفوقيّة والعلو والسيادة لا يمكن أن تكون إلا من جهة أعلى إلى ما تحتها وهي جهة تقع على مستوى أدنى من ناحية القيمة والاعتبار وهذا ما يتميزّ به كلام الخالق - الجهة العالية - عن كلام المخلوق- وهي الجهة المتدنيّة.
وفي الأنظمة الوضعية وبالخصوص الأنظمة الديمقراطية نسف لهذه السيادة أصلا باعتبار تساوي كلّ البشر وعدم تميزّ ناس عن ناس تميزّا يجعلهم صالحين أن يحلّلوا أو يحرّموا أو يشرّعوا ويتّبعهم الباقي في ذلك. ولذلك في ظلّ هذه الأنظمة لا يمكن أن تكون هناك إلا قيادة شخصيّة ولا يوجد سوى انقياد لأفراد ، وهذا ما جعل كلّ البشر يعيشون شقاءا دائما لا ينقطع أو يبطل إلا بالرجوع لسيادة واقعيّة حقيقيّة : هي سيادة الشرع. وهذا ما يميّز الحضارة الإسلاميّة عن كل الحضارات الأخرى بمن فيها الحضارة الغربيّة التي تعتبر أحطّ وأدنى من الكثير من الحضارات التي عرَِفها التاريخ.
من الأكيد أنّه يمكن لحضارة تحقّق إنسانية الإنسان أن تنشأ على أساس -سيادة الشرع- الذي يمثّل الأساس الصحيح وأن تكون أرقى حضارة تخلّص البشر من قداسة وعصمة الأشخاص وتحرّرهم من سيادة باطلة وتمهّد لإيجاد مجتمعات راقية مكونّة من عبادا لله يدينون به ربوبيّةً وعبوديّة.
إنّ الأمر بسيط ، مادمنا مخلوقين والمخلوق لا يعدو أن يكون عبدا فمن الأجدر أن نعبد الذي خلقنا ولا أن نعبد المخلوق الذي لا يعدو أن يكون شبيها لنا ولا يتمتّع بشيء أرقى ممّا عندنا يؤهّله ليكون معبود ، وهذا ما عبّر عنه جعفر الطيّار رضي الله عنه للنجاشي حين قال له أنّ الإسلام إنّما جاء ليخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة ربّ العباد ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام. ذلك أن كلّ الأديان الأخرى وكل الحضارات حوّلت مفهوم السيادة ومفهوم العبوديّة تحويلا رجعيّا وحتى الملاحدة كانوا رجعيّين بتقديس ماركس ولينين وفرويد وستالين بوضعهم موضع الإله وبتقديس كلامهم وهم بشر ليجعلوه ليس فوق كلام البشر بل فوق كلام ربّ البشر وهم أدعياء التقدميّة والتنويريّة ، في حين أنّ الفارق بين كلام الخالق وكلام المخلوق كالفارق بين الخالق والمخلوق.
إنّ القرآن الكريم يردّ عليهم بكلام بديهي معجز: " قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحقّ قل الله يهدي للحق أفمن يهدي إلى الحقّ أحقّ أن يتّبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون " يونس- 35 ويقول:" له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه وما دعاء الكافرين إلا في ضلال " الرعد-15 ويقول :" والله يقضي بالحقّ والذين من دونه لا يقضون بشيء إن الله هو السميع البصير" غافر-20 ويقول : " قل هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده قل الله يبدأ الخلق ثم يعيده فأنّى تؤفكون " يونس-34 ويقول :" مثل الذين اتّخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإنّ أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون"العنكبوت-41 ويقول :" إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون" العنكبوت-15 ويقول: "قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أم أراد بكم رحمة ولا يجدون من دون الله وليّا ولا نصيرا" الأحزاب-17 ويقول : "قل أغير الله اتخذ وليّا فاطر السماوات والأرض وهو يطعم ولا يُطعم قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم ولا تكونن من المشركين"الأنعام-15 ويقول :"قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا "المائدة-78 ويقول: "إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين.ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها قل أدعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون" الأعراف-193-194